الاثنين ١٩ آب (أغسطس) ٢٠٢٤
بقلم عارف محمد نجدت شهيد

قراءة في كتاب أسرار الضحك وصناعة النكتة

يمتلك الإنسان أدوات عديدة للهروب من واقعه الأليم وكبت رغباته وأفكاره وإخفائها عن الآخرين، ومع ذلك، فالكثير من البشر لا يحسنون استخدام هذه الأدوات وقد تكشف للآخرين ما يحاولون إخفائه، ولعل أبرز تلك الأدوات أحلام المرء، والدعابات التي يلقيها على الآخرين أو يتلقاها منهم.

أما الأحلام، فهي نافذة تطل على العقل الباطن، وعلى الرغم من استخدام الأحلام لرموز خاصة – تعرف باللغة الليلية - للتعبير عن هذه الاحتياجات والرغبات والأفكار المكبوتة، إلا أننا نستطيع فك طلاسمها وفهم الرسالة التي يحملها الحلم إلينا. ومع ذلك، فهي ليست مهمة سهلة، إذ تتطلب معرفة جيدة بالموروث الشعبي والأمثال والعادات والتقاليد، بالإضافة إلى معرفة جيدة بحياة الحالم وتجاربه، فالسيارة الزرقاء مثلاً قد تعني نذير شؤم لأحمد لأنه كان شاهداً على حادث سير مروع لسيارة زرقاء، وقد يستخدمها العقل الباطن لغسّان كرمز للمكافأة إذ أن والده اشترى له في طفولته سيارة زرقاء كمكافأة لتفوقه الدراسي.

حدثتني إحدى زميلاتي في العمل منذ سنوات عن حلم غريب يراودها كثيراً، وهو الذهاب إلى السوق لشراء حذاء جديد، ولكنها لا تشتري أي حذاء على الرغم من وفرة الأحذية في السوق، فهي تأتي إلى السوق وتشاهد البضاعة بحيرة شديدة ثم تعود إلى منزلها خالية اليدين.

ولأنني أعرف معلومات جيدة عن حياتها وخاصة الأحداث الهامة والأزمات التي مرت بها كوفاة زوجها فقد كانت رموز الحلم واضحة بالنسبة لي، إذ أخبرتها بأن تختار على الفور الشريك المناسب للزواج ولا تستنزف وقتها في المفاضلة بين الخيارات المتاحة أمامها. شعرت الفتاة بالدهشة، فأخبرتها بأن اختيار الشريك المناسب بعد وفاة زوجها هو ما يشغلها، إذ أنها تتحدث بهذه المسألة كل يوم، فالمرء لا يستطيع المشي دون حذاء، وكذلك المرأة لا تستطيع أن تواجه تحديات الحياة وأهوالها دون الرجل!

لقد قرأت لسنوات طويلة عن الأحلام وتفسيرها فلم أتمكن من فهم الآخرين لتحفظهم عن رواية أحلامهم. ومع ذلك، وقد منحتني هذه القراءات رؤية جيدة لبعض ما يدور في عقلي الباطن. مؤخراً، بدأت القراءة في سيكولوجيا النكتة وطرق صناعتها، إذ لاحظت أن نوع الدعابات التي يضحك لها المرء أو يلقيها على الآخرين تكشف حقائق مثيرة عن شخصيته.

بحثت في الانترنت عن ترجمة عربية صدرت مؤخراً لكتاب فرويد الشهير "سيكولوجيا النكات" فلم أجده، وذهبت إلى مكتبات الحلبوني في دمشق للبحث عن هذا الكتاب فلم أجد إلا كتب التنمية البشرية والروايات وغيرها من الكتب الرديئة التي لا تصلح إلا لتصويرها فوق طاولة أنيقة ومشاركة هذه الصورة الراقية على منصات التواصل الاجتماعي.

انصرفت عن هذا الأمر ثم بحثت في المكتبات الالكترونية فاهتديت إلى كتاب اسمه "أسرار الضحك وصناعة النكتة" وهو الكتاب الوحيد لمؤلفه "بسام دوامي"، وأقول بصدق، لو لم يكتب المؤلف سوى هذا الكتاب لكفاه! وقد حاولت التواصل مع الأستاذ بسام دوامي وبحثت عن سيرته الذاتية فلم أجد أي سبيل للوصول إليه، وكل ما استطعت معرفته أنه كاتب سوري من خلال بعض المواقف الطريفة التي حدثت معه ووضعها في كتابه.
والآن، يجب الإجابة عن مجموعة من الأسئلة قبل التعرف على طرق صناعة النكتة.

(********)

لماذا تفرد الإنسان بصفة الضحك؟ يجيب المؤلف عن هذا السؤال فلسفياً باقتباسين؛ أما الأول فهو للفيلسوف الألماني الشهير نيتشه ويقول بأن الإنسان يضحك لأنه أعمق الموجودات ألماً، وأما الثاني فهو للكاتب الفرنسي مارسيل بانول ويقول بأن الضحك فضيلة اختص بها البشر لتعزيهم عما لديهم من ذكاء وقدرة عقلية!

أما فسيولوجياً، فالضحك يوفر للرأس ما يحتاجه من الدم كما يوفر التثاؤب الأوكسجين للرئتين، وكما توفر الرعشة بعض الدفئ للجسم. وأما من الناحية العصبية، فهو وسيلة لتفريغ التوتر الناتج عن التنبيه العصبي المفاجئ، وإذا كان هذا التوتر كبيراً ولا يمكن للضحك وحده أن يتعامل معه، فستعمل الغدد الدمعية على فرز الدموع أثناء الضحك ليشعر المرء بالاسترخاء.

تعمل النكتة على خلق توتر مضاف للمتلقي فتدفعه إلى الضحك لتفريغ التوتر الموجود مع التور المضاف، بذات الطريقة التي نتجشأ بها عند شرب المياه الغازية لنطلق جميع الغازات الكامنة في جوفنا بالإضافة إلى الغازات التي امتصها الجسم من المياه الغازية.

(********)

ثمة سؤال آخر يحتاج إلى إجابة؛ ما هي دوافع الضحك عند الإنسان؟ يقدم الكتاب أربعة أنواع من الدوافع التي تدفعنا إلى الضحك؛ أولها ضحك الاستمتاع والرضا، فعندما نشاهد شخصاً عزيزاً أو نربح مبلغاً من المال سيدفعنا شعور الرضا إلى الضحك، وأما الدافع الثاني فهو الضحك الدفاعي الاستجدائي؛ كما يضحك الأطفال عندما يدغدغ آبائهم أجسادهم الصغيرة أو عندما يقذفونهم إلى الأعلى وكأنهم يطلبون من آبائهم التوقف عن ذلك، ففي مثل هذه الحالات، يصل الطفل إلى الحد الفاصل بين الخوف والمتعة، فإذا تجاوز هذا الحد فقد يدخل في نوبة بكاء.

وأما الدافع الثالث فيظهر عند ذوي المشاعر البدائية، وهو الضحك القاسي الأناني، كأن يضحك المرء عندما يعاقب المعلم زميله في المدرسة، ويرتبط هذا الدافع بغريزة البقاء عند الانسان القديم الذي كان يضحك بعد نجاته من العاصفة وكان يضحك أكثر إذا تضرر الآخرون الذين ينافسونه على الموارد! ومن أشكاله المثيرة للاشمئزاز والتي نراها كثيراً، تنمر مجموعة من الشباب على شاب من ذوي الاحتياجات الخاصة والضحك على تصرفاته وأقواله!

أما الدافع الآخير فهو الضحك التحرري لمواجهة الواقع المرير، فالإنسان في عصر التكنولوجيا يملك خيارين لا ثالث لهما في مواجهة ضغوطات الحياة، التأقلم أو الضحك! ويعتقد فرويد أن جميع دوافع الضحك عند المرء هي تحرير الأنا من ضغوطات الأنا العليا كالضغوطات العاطفية والمنطقية!

(********)

ما معنى النكتة لغة واصطلاحاً؟ تخبرنا المعاجم بأن النكتة بالمعنى اللغوي هي نقطة في شي تخالف لونه، أما في الاصطلاح العام فهي الشيء الغريب والنادر، وأما في الاصطلاح الخاص فهي الشيء المضحك.

فمثلاً، النكتة العلمية ليست مضحكة وإنما هي أمر غريب ونادر ولا يشترط أن يكون مضحكاً، كالمسألة الدينارية الشهيرة بالفقه، والتي تناقش مشكلة فتاة مات أبوها وترك ستمئة دينار ولم ترث منها إلا ديناراً واحداً، وقد تلاحظ عند قراءة بعض الكتب أن المؤلف يستخدم كلمة نكتة للفت انتباه القارئ لأمر غريب، فيقول مثلا: "والنكتة في هذه المسألة هي كذا وكذا".

كما يجب التنويه إلى الفرق بين النكتة والمفارقة، فالمفارقة هي إظهار الفرق بين أمرين، ولا تكون المفارقة مضحكة إلا إذا استخدمنا فيها باعثاً من بواعث الضحك لتقديمها. فمثلاً، إذا أخبرتك أن في حقيبتي قلم أسود وقلم أزرق فلن تضحك، ولكنك ستضحك بالتأكيد إذا أخبرتك بأن القلم الأسود قد تحول إلى قلم أبيض بعد أن وضعته في الغسالة! إذاً، فالنكتة تقدم المفارقة وتكشفها للمتلقي بطريقة مضحكة، والمفارقة هي التي تعطي النكتة مادتها.

إن النكتة -كما يصفها المؤلف- هي مسرح متجول تبنيه كلمات الرواي في خيال المستمع، وهي اختراع إنساني عظيم يمكن النظر إليه كوجبة جاهزة عند الطلب أو كبسولة يمكن تناولها عند الشعور بالتوتر.

(********)

والآن، بعد الإجابة عن هذه الأسئلة، سنتعرف على طرق صناعة النكتة – وهي حوالي عشرين باعثاً أو طريقة - لإضحاك الآخرين واكتشاف صفاتهم التي تخفيها صدورهم وتظهرها ضحكاتهم، وأول هذه البواعث يسمى "الخلل في المرونة"؛ وهي المواقف التي يتجاوز فيها المرء الحدود العليا أو الدنيا للمرونة، فمثلاً، إذا شاهدت نادلاً في يوم عمله الأول ولا يملك المرونة اللازمة لممارسة هذه المهنة، فما إن يقترب من الطاولة لتقديم فناجين القهوة حتى يوقعها في أحضان الزبون الذي يصاب بالذهول، فلن تستطيع أن تمنع نفسك من الضحك، فالحالة المعتادة هي أن يضع النادل فناجين القهوة على الطاولة ثم يتجول بين الطاولات لتلبية طلبات الزبائن، أما تعثر هذا النادل المسكين فليس إلا خللاً في المرونة لانخفاض أدائه الوظيفي عن الحد الأدنى لممارسة هذه المهنة.

أما الباعث الثاني فهو "الآلية" وتعني وجود محفز لدى المرء يدفعه إلى تكرار عبارات أو تصرفات محددة، وتستخدم كثيراً في السينما والمسرح لإضحاك الجمهور، لعلك تعرف اللازمة الكلامية لدى أبو مسرة (الفنان صالح الحايك) في مسلسل "بكرا أحلى" والتي يقولها عندما يفرغ من الحديث في أمر مهم فيختتمه قائلاً بالعامية :"شايف كيف"، واللازمة الكلامية للفنانة نورمان أسعد في مسلسل جميل وهناء والتي تقولها كلما تحفز شعور الإعجاب تجاه زوجها جميل بعد انتهاء أي شجار فتقول مباشرة: "يقبرني شو رجال!".

أما الباعث الثالث فهو "التشيؤ"، ويعني التعامل مع الإنسان على أنه شيء، لعلك تعرف قصة الرجل الذي صعد إلى الحافلة وسأل السائق عن تعرفة الركوب بالعامية فقال: "بكم الراكب؟" فأجابه السائق: "بخمسمية ليرة"، فيخرج الرجل من جيبه ورقة من فئة الألفين ليرة ويقول له: "عطيني أربعة ركاب".

ومن بواعث الضحك المستخدمة كثيراً في عالم السينما "الاطراد" والذي يشبه تدحرج كرة الثلج من قمة الجبل وتعاظمها، فمثلا، يذهب البطل إلى مطعم فاخر، ويحاول تناول طعامه بالشوكة والسكين، ولأنه لا يجيد استخدامهما، فيهوي بالشوكة على حبة الزيتون لتتدحرج من الطاولة، فينهض مسرعاً ليعيدها إلى الطبق فيصطدم بالنادل وتقع الكؤوس التي كان يحملها النادل على ثوب امرأة في الطاولة المجاورة، فيصرخ زوجها غاضباً ويحمل كرسياً ليضرب البطل فيقذفه على رجل آخر، ويتحول المطعم إلى ساحة قتال بين جميع الزبائن!

كما يشيع في السينما استخدام الباعث الخامس وهو "الدائرة المفرغة" وهو العودة إلى نقطة الصفر بعد بذل الجهود الكبيرة، فمثلاً، نلاحظ أن معظم الأفلام الكوميدية القديمة التي تتناول قصة عصابة تخطط لعملية سرقة كبيرة تنتهي بنجاح العملية ولكنهم لا ينعمون بالأموال إذ أنها قد تغرق في البحر أو تحترق! وفي هذا السياق يمكن استحضار المشهد الشهير للفنان المصري عادل إمام في مسرحية الواد سيد الشغال الذي كان يحدث المخبرين عن رجل وقع خاتمه في البحر، وذهب إلى الصيد بعد سنتين ليصطاد سمكة كبيرة، ويروي عادل إمام هذه القصة بالعامية المصرية فيتابع قائلاً: "بعد سنتين، سنتين! إيه رأيك بيفتح السمكة، ما لقاش الخاتم!".

أما الباعث السادس فهو "الاختلاط" ويعني خلق التباس بين معنيين أو كلمتين تعبران عن شيء واحد، ويحدث الضحك عندما يزول هذا الالتباس، افترض أن رجلاً سورياً يقول لصديقه المصري بالعامية: "عيط لفلان"، سيشعر المصري بالاستغراب ويقول له بالعامية المصرية: "أعيط ليه، هو فلان مات؟". فكلمة "عيط" بالسورية تستخدم للنداء وبالمصرية تعني البكاء!

ويشيع أيضاً في المسرحيات استخدام الباعث السابع فهو "تشابك السلاسل" ويعني مجموعة من السلاسل التي تحدث بشكل مستقل ثم تلتقي هذه السلاسل في نقطة محددة، ففي مسرحية الواد سيد الشغال على سبيل المثال، يأتي الفنان عادل إمام إلى الفيلا التي سيعمل فيها كخادم لعائلة ثرية، وتعتقد الفنانة رجاء الجداوي وهي زوجة صاحب الفيلا أن "سيد" هو الضيف الذي كانت تنتظره وليس الخادم الجديد فتتحدث إليه بلطف وهو يجاريها باستغراب ويقول بين الحين والآخر بالعامية المصرية: "دول طيبين أوي"!

وفي ذات المسرحية، نجد أيضاً الباعث الثامن وهو "التبادل" الذي يظهر خلل المرونة ويبعث على الضحك، فعندما طلق صهر العائلة "شريف" الذي يعمل في السلك الدبلوماسي زوجته "هدى"، اضطر عاصم أن يزوجها لخادمه "سيّد" لأيام قليلة ثم يطلقها منه لتعود إلى زوجها الأول، واضطرت العائلة حينها إلى التعامل مع سيّد على أنه الصهر، والتعامل مع شريف على أنه الخادم، وكان التبادل مضحكاً. كما يظهر التبادل أيضاً في مسرحية مدرسة المشاغبين حينما سألت المعلمة تلميذها "مرسي" (الفنان سعيد صالح) عن المنطق ليقلب عليها الطاولة ويقول بصوت مرتفع: "مش هو ده المنطق؟ يا متعلمة يا بتوع المدارس؟" فظهر التبادل الذي أظهر "مرسي" كمعلم وأظهر المعلمة كتلميذة لديه!

أما "الانسياق" فهو باعث ضحك شائع في المسرح أيضاً، ويعبر عن عدوى تصيب المتكلم أو المخاطب، فمثلاً، إذا تحدثت إلى صديقك في الحفل وهو يرقص وقلت له: "كيف حالك؟" سيجيبك وهو يرقص: "أنا بخير" وقد تشعر برغبة عارمة في الرقص إذا واصلت الحديث معه، ومن الأمثلة الطريفة عن الانسياق شخصية "أبو نجيب" في مسلسل "عيلة سبع نجوم" والتي يؤديها الفنان جرجس جبارة، ففي إحدى الحلقات، يتوجه أبو نجيب إلى بيت عائلة "أبو كرعوبة" للتحقيق معهم ليجد أنهم يقيمون حفلاً راقصاً فلا يستطيع أن يكبح نفسه ويندمج معهم في الرقص!

ومن البواعث الشهيرة للضحك باعث "النقل" ويعني الارتقاء في المواقف الوضيعة (النقل الصاعد) أو النزول في المواقف الراقية (النقل الهابط)، فمثلاً، عندما تتقاسم العصابة المسروقات، ويطلب أحدهم من زعيم العصابة أن يكون عادلاً بالقسمة وألا يأكل الحرام فهذا نقل صاعد. وفي مثال آخر للنقل الهابط، عندما يحاكم القاضي متهماً بجرم الشتم فيصيح في وجهه قائلاً: "لم شتمت المدعي أيها الحقير؟". بالإضافة إلى النوعين السابقين للنقل، يوجد نوع ثالث يعرف بالنقل الأفقي، ويظهر عندما يستخدم المرء طبيعة عمله في المواقف الأخرى، كأن ينظر طبيب الأسنان إلى وجه زوجته بتأمل فتعتقد أنه مغرم بها ثم تكتشف أنه ينظر إلى أسنانها للتحقق من حالة طبية معينة!

وكثيراً ما نستخدم في حياتنا اليومية "خلط المقامات" ويعني استخدام جملة ما في غير سياقها الأصلي، ويروي لنا المؤلف قصة طريفة حدثت بينه وبين صديقه، إذ عبر المؤلف عن إعجابه بأغنية "لو نويت" فيؤيده صديقه قائلاً: "أوافقك الرأي، إنها رائعة من روائع أم كلثوم" فيقول المؤلف بتعجب: "ولكنها لجورج وسوف وليست لأم كثلوم!" فيرد صديقه بتلقائية: "أعلم، ولكن أم كلثوم رائعة!".

(********)
وفي الحديث عن بواعث الضحك فلا يمكننا إغفال "تكرار المصادفات اللذيذة" وتعني حدوث موقف نادر لأكثر من مرة في يوم واحد، فمثلاً، قد تصادف صديقاً في الطريق لم تجتمع معه منذ سنوات، فتصافحه وتتحدثان قليلاً ثم تفترقا، وبعد ساعة، تتفاجئ بوجوده عند ركوبك الحافلة، فتصافحه مجدداً وتتحدثا، ثم تجده مرة أخرى في المساء عند دخولك إلى المطعم!

ويشيع استخدام التشبيهات الفريدة لإضحاك الآخرين، ويعرف هذا الباعث بـ"التشبيه المزدوج"، فإذا قلت لفتاة بأنها أجمل من القمر، فهذا ليس تشبيهاً مضحكاً، لأن المشبه به (القمر) من المسلمات التي يعرفها الجميع ويستخدمونها في التشبيه، وكذلك الحال إذا قلت عن أحدهم بأنه كريم كالبحر. ولكن إذا استخدمت شخصاً ما كمشبه به سيكون الأمر مضحكاً، كقولك بأن فلان أكسل من موظف!

ويعد "التداخل" من البواعث المضحكة للغاية، ويعني دخول شيء حسي أو مادي على موقف جاد فيبعث في نفوسنا الضحك، تخيل أنك تستمع إلى عازف يشدو بأعذب الألحان ويأخذك بها إلى السماء، ثم تنظر إلى العازف لتجد أنه يشعر بحكة قوية في رقبته ويحاول التخلص منها، هل ستتمالك نفسك من الضحك؟

يروي المؤلف حادثة ظريفة عن التداخل وبطلها هو الشاعر السوري الشهير عمر الفرا في إحدى الندوات، إذ كان يلقي قصيدة على الجمهور، ثم تصعد فتاة جميلة إلى المنصة وتقدم له باقة ورد. يصمت الشاعر السوري قليلاً ثم يقول للجمهور بالعامية: "إي شو كنا عم نقول" ثم يواصل إلقاء قصيدته وسط ضحكات الجمهور. لقد ضجت القاعة بالضحك لتداخل الشيء الحسي أو المادي (الفتاة الجميلة) على الشيء الروحاني (القصيدة التي كان يلقيها عمر الفرا).

أما "المبالغة" فهي من بواعث الضحك الشائعة بشرط ألا تتجاوز حداً معيناً إذ ستصبح مزعجة لدى المتلقي، فالمبالغة بالترحيب أو التبسم أو اللباقة قد تثير الضحك، وكذلك "التضاد" يبعث على الضحك، كأن تشاهد رجلاً ببنية جسدية ضعيفة يضرب مجموعة من الرجال الأشداء بعنف، أو رجلاً ذو بنية جسدية ضخمة يشعر بالذعر عندما يشاهد فأراً! ومن الأمثلة الطريفة على التضاد، أن يتقدم لابنتك عريس يفوقك عمراً، ويقول لك: "أرجو يا عمي ألا تقتل حبنا في مهده وأن تقبل بي زوجاً لابنتك!".

أما آخر بواعث الضحك فهي "الانكشاف" وينقسم إلى ثلاثة أنواع: "الانكشاف التلقائي" كأن تكشف أحدهم دون أن يشعر بذلك، افترض أنك دخلت إلى مطعم وشاهدت صديقك يجلس مع فتاة ولم يفطن إلى وجودك في المطعم، فإذا اتصلت به وسألته عن مكانه فأخبرك بأنه في العمل ستضحك، وإذا طلبت منه الالتفات ليراك ثم شاهدت علامات الاستغراب على وجهه فستنفجر ضاحكاً. أما النوع الثاني من الانكشاف فهو "الانكشاف المؤقت" ويعني الظهور الاضطراري للطبيعة الداخلية عند محاولة إخفائها، فعندما يحاول الشخص العصبي أن يكون صبوراً ولطيفاً ثم يستفزه موقف ما فينفجر غاضباً، سيضحك الجميع من حوله! وأما "الانكشاف القسري" فيستخدم لإضحاك الأطفال عادة، كأن يظهر البطل مقيداً ثم يستجمع قواه لتحطيم تلك القيود والانقضاض على الأشرار، أو عندما يُهزم الشرير في نهاية المسلسل ويركض نحو الأفق مهزوماً وقد يتعثر أثناء هروبه ويسقط سرواله فتظهر مؤخرته.

(********)

والآن، يمكننا الإجابة عن السؤال الأكثر أهمية، كيف يكشف لنا الضحك صفات الآخرين؟ يقول المؤلف: "قل لي من تضحك أقل لك من أنت". وأقتبس هذه الفقرة من الكتاب للإجابة عن هذا السؤال.
"فإذا أضحكتك الآلية أو النابضية أو التشيؤ فأنت طفل كبير.
وإذا أضحكك الاطراد أو الدائرة المفرغة فأنت صبور وواسع الأفق.
وإذا أضحكك خلل المرونة وتشابك السلاسل فأنت أناني وقاسٍ.
وإذا أضحكك التداخل فأنت لماح، دقيق الملاحظة وانتقادي.
أما إذا أضحكك الاختلاط فأنت متحرر ومغامر.
وإذا أضحكتك المفارقات الدقيقة كالنقل والانكشاف فأنت صاحب رؤية متميزة.
وإذا كنت تتفاعل مع هذه البواعث جميعاً فأنت ولا شك شاعر.
وإذا لم يضحكك شيء .. فأنت غير موجود، أنت حقاً لست هنا!" (الصفحات 52-53).

(********)

لقد تغير كل شيء في عصر التكنولوجيا، وأصبحت السرعة هي سمة هذا العصر، وهذا ما يفسر انحسار النكت القديمة التي تتسم بالسردية، فالنكتة القديمة هي قصة لها مقدمة وحبكة وخاتمة، أما النكتة السريعة التي يتم تداولها في أيامنا فلها بناء مختلف، وتتخذ عادة صيغة سؤال تطرحه على المتلقي وتدفعه إلى طرح إجابات كثيرة ثم تفاجئه بإجابة غير متوقعه فتضحكه، وإليك مثال عن النكت السريعة.

ما هي قمة الأدب؟ أن تطرق باب الثلاجة قبل أن تفتحه!
حسناً، فما هي قمة العجب؟ أن ياتيك صوت من الثلاجة يسأل عن الطارق!

ولم تعد مقالب غوار وحركات إسماعيل ياسين تضحكنا على الرغم من أنها أضحكت أسلافنا لعقود طويلة، ولا يعني ذلك أن بواعث الضحك قد تغيرت، ولكن طرق استخدامها قد تغيرت، فالنكتة الحديثة تتطلب ذكاء أكبر من المتلقي لفهمها. ولا يمكن صناعة الأعمال الكوميدية بالاعتماد على التقنيات الحديثة وخفة دم الممثل، فأبرز الممثلين السوريين الذين عملوا في الكوميديا يتسمون بشخصيات جدية، كخالد تاجا، وبسام كوسا، ومنى واصف وغيرهم الكثير. ولذلك، فإن المسؤولية الأكبر في صناعة العمل الكوميدي تقع على عاتق الكاتب!

وأختتم هذه المقالة باقتباس من الكتاب: "علينا أن نبحث عن الضحك في عمق الألم.. ونفهم الألم في عمق الضحك" (صفحة 175).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى