السبت ٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢١
بقلم رامز محيي الدين علي

قنبلةُ الانتقامِ

حينَما تغيبُ لغةُ الحوارِ ويتبخَّرُ الوعيُ في جوٍّ مشحونٍ بالحقدِ والكراهيةِ وضيقِ ذاتِ اليدِ وانعدامِ مقوِّماتِ الحياةِ الآمنةِ الهانئةِ في ظلِّ الفوضَى وقوَّةِ السِّلاحِ، يصبحُ القتلُ والانتقامُ حكايةً مثلَ حكاياتِ ألفِ ليلةٍ وليلةٍ معَ فارقٍ كبيرٍ بينَ الحالتينِ الاجتماعيَّتينِ واختلافٍ كبيرٍ في أدوارِ الشَّخصيَّاتِ والأهدافِ الّتي تنبجِسُ من مآسي قصصِ الرُّعبِ في ظلِّ مملكةٍ تعيشُ في ظلماتِ القوقعةِ الّتي تعبثُ بأركانِها جراثيمُ الخرابِ والدَّمارِ معَ غيابِ العدالةِ الإنسانيَّةِ في عالمٍ أبلهَ يتلذَّذُ بمشاهدِ الخرابِ والدَّمارِ في بعضِ بقاعِ الأرضِ!

في مملكةِ قوقعةِ الرُّعبِ أصبحَ القتلُ شربةَ ماءٍ يتلذَّذُ فيها الجُناةُ بالضَّحايا، ولا تقرُّ لهمْ عيونٌ إلّا بمَشاهدِ القتلِ والإبادةِ والتَّعذيبِ بشتَّى وسائلِ القمعِ الوحشيَّةِ الّتي يَنْدى لها جبينُ البشريَّةِ خجلاً، ولكنْ أيُّ حياءٍ بقيَ في الإنسانيَّةِ بعدَ أنْ تحوَّلَ المجرمُون مِنها إلى وحوشٍ آدميَّةٍ لا تُقيمُ للأعرافِ السَّماويَّةِ والقوانينِ الأخلاقيَّةِ والعرفيَّةِ قيدَ أُنملةٍ من الموازينِ والمعاييرِ الّتي سنَّها الوحيُ الإلهيُّ والإلهامُ الإنسانيُّ العظيمُ بعدَ أن تجاوزَتِ البشريَّةُ عصورَ الاستعلاءِ وغطرسةِ القوَّةِ خلالَ حروبٍ همجيَّةٍ دفعَت ثمنَها ملايينَ الضَّحايا وصوراً لا يَعدُّها إحصاءٌ منَ الخرابِ والدَّمارِ.

في ظلِّ عودةِ البشريَّةِ إلى عصورِ التَّوحُّشِ، يتمنَّى المرءُ هيمنةَ الحياةِ القبليَّةِ بكلِّ ما فيها مِن مساوئَ؛ لأنَّها أرأفُ مِن هذا العصرِ في بعضِ بقاعِ الدُّنيا، إذ أصبحَ كلُّ مَن يملكُ قوَّةَ المالِ والسِّلاحِ قبيلةً داخلَ أصغرِ خلايَا المجتمعِ، وأضْحى الإنسانُ بلا هُويَّة إنسانيَّةٍ؛ لأنَّهُ غَدا وحشاً يقودُ قطيعاً منَ المُجرمينَ يتحكَّمُ بمصائرِ النَّاسِ دونَ مراعاةٍ لأيَّةِ قيمةٍ اجتماعيَّةٍ أو أخلاقيَّةٍ.

كانتِ القبائلُ ينتقِمُ بعضُها من بعضِها الآخرِ حينَ تتعرَّضُ إحداهَا للغزوِ أو النَّهبِ أو قتلِ ثلَّةٍ من أفرادِها، أمَّا اليومَ فغدَا الانتقامُ منَ الآخرينَ شِرعةً إزاءَ قضيَّةٍ تافهةٍ أو قضيَّةٍ عادلةٍ أو عدمِ وجودِ قضيَّةٍ؛ لأنَّ قوَّةَ المالِ والسِّلاحِ بأيدي شذَّاذِ البشريَّةِ، تخلقُ القضيَّةَ وتصنعُ مِن طرفةِ العينِ ألفَ قضيَّةٍ ومِن كلمةٍ تدورُ في الخاطرِ أمَّ القضايَا.

حينَما يتمُّ الفصلُ بينَ زوجينِ في محكمةٍ شرعيَّةٍ، يذهبُ كلٌّ منَ المطلَّقينِ في حالِ سبيلِهما، مهْما كانتِ الأسبابُ، ومهْما بلغَتْ من الإجحافِ في قضيَّة الطَّلاقِ، ولمْ يكنْ ذلكَ يستَدعي الانتقامَ بأيَّةِ وسيلةٍ؛ لأنَّ القانونَ والأعرافَ الاجتماعيَّة تنبذُ وتُحاكمُ مَن تُسوِّلُ له نفسُه استرجاعَ الحقِّ بقوَّةِ السِّلاحِ أو همجيَّةِ الانتِقامِ!
في المحكمةِ الشَّرعيَّةِ يتقدَّمُ المُحامي بدعْوى طلاقِ أختِه من زوجِها، بعدَ أنِ استنفذَتْ أعرافُ الزَّواجِ كلَّ معاييرِها في التَّفاهمِ واستمرارِ العلاقةِ الزَّوجيَّةِ، وبعدَ مُداولاتٍ وجلساتٍ عديدةٍ تتحرَّرُ أختُ المُحامي من قبضةِ زوجِها، ويتمُّ الفصلُ بينَهما، وينطقُ قاضي المحكمةِ بحكمِ الانفصالِ بينَ الزَّوجينِ، ويخرجُ المُحامي بصحبةِ أختِه وأخيهِ، وقد ارتسمَتْ على وجوهِهم علاماتُ الفرحِ في خلاصِ الأختِ من زوجِها المُستهتِرِ، وما هيَ إلّا خطواتٌ خارجَ مَبنى المحكمةِ، وإذْ بالصِّهرِ المُطلَّقِ يُمسِكُ بتلابيبِ المُحامي، وفي يدهِ قنبلةٌ يريدُ أنْ ينتقمَ بها منَ المُحامي وأختِه، فيندفعُ أخو المُحامي ليستلَّ القنبلةَ من يدِ الصِّهرِ المُجرمِ، لكنَّ القدرَ كانَ أسرعَ حينَما سقطَ الجميعُ على الأرضِ فانفجرَتِ القنبلةُ وأودَتْ بحياةِ الجميعِ.

إنَّها قصَّةُ مأساةِ الجهلِ وروايةُ القرنِ الحادي والعِشرينَ الّتي تؤكِّدُ على أنَّ الإنسانَ بعدَ كلِّ هذا التَّقدُّمِ، عادَ سيرتَه الأوْلى إلى وحشيَّتِه وهمجيَّتِه، فدفعَه حبُّ الانتقامِ إلى مجزرةٍ جماعيَّةٍ لم ينجُ منْها حتَّى المجرمُ ذاتُه، فكمْ من قصصِ الرُّعبِ، وكمْ من حكاياتِ الانتقامِ سينسجُها خيالُ المُجرمينَ في نسيجِ مجتمعٍ متفكِّكٍ يعيشُ في قوقعةٍ يحكمُها دجَّالٌ أعورُ لمْ يدَعْ في قوقعتِهِ رمزاً لقوَّةِ كلمةِ الحقِّ أو أيقونةً من أيقوناتِ الفكرِ، أو شِرعةً من شرائعِ المدنيَّةِ، أو ملمحاً من ملامحِ الأمنِ والاستقرارِ، أو بذرةً من بذارِ الرَّحمةِ والعدالةِ الإنسانيَّةِ!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى