الجمعة ٦ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٤
بقلم عارف محمد نجدت شهيد

كأسي الأخير

في صخب هذا الكون، يقفان في منتصف بقعة جغرافية نائية، تنظر إليه بعين الخوف وينظر إليها بسكون لا يعرفه إلا يائس بعد كأسه الرابعة التي تذهب عنه شبح القلق!

متجاهلاً اجتياح الوحوش لعالمه البسيط، يتأمل عيناها الساذجتان اللتان تخفيان ذكاءً حاداً وتظهران في ذات الوقت حيرةً وعجزاً عن حسم حسابات فارغة، وتلهج شفتاها بسيل من الأسئلة العبثية التي لا تتطلب جهداً في تدبرها والإجابة عنها.
"أنّى لك معرفة الحد الذي يفصل بينك وبين الثمالة؟"

يجيبها بابتسامة حانية: "عندما أعجز عن عد الكؤوس التي تناولتها، أدرك أن الكأس الذي أحمله الآن هو كأسي الأخير! أتجرعها ثم أتنازل لها عن عقلي كما تنازلت للحياة عن كل شيء أحببته". يرفع الكأس إلى شفتيه ويشربه دفعة واحدة ثم يضع القدح على الطاولة بقوة ويردف بذات الابتسامة: "إنها الكأس الخامسة!".

تنظر إلى ملامح وجهه الجامدة وإلى القدح الذي وضعه للتو على الطاولة ثم تتسع حدقتا عيناها وتسأل: "وما سر صمتك الذي يشبه صمت أهل القبور؟".

ينظر إليها بهدوء ثم ينزع قميصه ويشير إلى ندبة كبيرة في الجانب الأيسر من صدره ويجيب: "ألم تشاهدي هذه الندبة من قبل؟ ألم أحدثك عنها؟" ثم يشير إلى موضع آخر في صدره ويقول: "وهذه؟ لا زلت أشعر بدفئ أناملك التي مرت هنا وخدرت هذا الألم"

ويواصل الإشارة إلى مواضع مختلفة في جسده المثخن مذكراً إياها بتلك الجراح وباللحظات التي لمست أناملها الناعمة كل موضع فيه ، ثم يصب كأساً أخرى ليشربها دفعة واحدة فتجحظ عيناه ويقول بصوت متحشرج: "إنها الكأس السادسة!".
تتحسس الفتاة بيدها المرتعشة ندبة كبيرة في الجانب الأيسر من صدره، فيمسك بيدها بقوة ويقول حانقاً: "ألم أحدثك عن ذلك الخنجر الذي استوطن هذا المكان؟ وعن الدماء التي نزفتها حين انتزعته من صدري؟ لقد نثرت بين يديك كل ما أخفيته عن العالمين، فماذا أقول بعد ذلك؟"

يقبض غاضباً على يدها الصغيرة ويعتصرها بقوة ثم يفلتها حين يسمع صوت عظامها ويشيح بوجهه نحو النافذة ليتحاشى النظر إلى الألم في وجهها. ينظر إلى الأفق ويشعل بيد مرتعشة لفافة تبغ ويقول:"قرأت مؤخراً كتاباً عن فن التفاوض، تنص القاعدة الأولى في ذلك الكتاب على دفع الخصم إلى تقديم عرضه الأول، وبذلك يصبح الخصم في موقع الدفاع لا الهجوم، حينها، لن يصمد طويلاً أمام هجماتك حتى يعلن استسلامه".

ثم ينفث الدخان ويواصل الحديث قائلاً: "أما القاعدة الثانية، فهي إعداد قائمة بالتنازلات الثانوية وتقديمها أثناء عملية التفاوض لتحقيق أعظم ربح بأقل خسارة، وإنني اليوم، ضربت بهذه القواعد عرض الحائط، وجئت إليك زاحفاً! خارجاً من ركام مدينتي المدمرة عن بكرة أبيها، متعثراً بأشلاء أحبتي، كاشفاً عن جسدي المثخن ومفصحاً عن حالي بلسان عربي مبين، ولست أبالي بتلك الحسابات التي تعبث بعقلك كما تعبث الخمر بعقلي الآن!"

ثم يستدير نحو الطاولة ويصب كأساً أخرى ليشربها ثم يردف ضاحكاً: "الكأس السابعة!".

يعود مترنحاً نحو النافذة ويضع لفافة التبع في فمه ويقول: "لسان الحال يغني عن المقال، وقد نطق كلا اللسانين يا عزيزتي! لو توقف هؤلاء الحمقى عن التكلف لما اقتتلوا! إنني إذا عطشت فلا أفكر في اختيار الكوب وفقاً للونه أو شكله، يكفي أن يكون نظيفاً! وهذا مذهبي في الحياة، وفي العلاقات أيضاً، إنني في الحد الفاصل بين التكلف والعفوية".
ثم يستدير لينظر إليها ويقول مبتسماً: "وإذا اختل توازني فإنني أميل إلى العفوية". يقترب من المذياع ويرفع صوته قليلاً ثم يدندن مع محمد منير:

"أقر أنا المذكور أعلاه.. الساكن في العنوان إياه..
إني سهرت العمر ونس ..
عشت بكل كياني حرس..
وطفت بلادك ناي وجرس..
والعاشق بينقط بهواه.."

أطلقت ضحكة ناعمة وقالت: "لا يُقبل الإقرار في حالات السكر الشديد!"

أما هو، فقد أطرق رأسه إلى الأسفل مغمضاً عينيه بنشوة وواصل الغناء متجاهلاً ما قالته:

"أقر أنا المذكور أعلاه.. أقر أنا المذكور أعلاه..
إني مشيت على شوك وحجر..
يا ما شقيت في بعاد وسفر..
إن هواك في روحي قدر..
وإن عذابي معاك دي حياة.."

رفع رأسه المثقل وقال: "أحب هذه الأغنية كثيراً، اسمها "إقرار"، إنها عفوية بكل تفاصيلها. لعلك لا تعرفين هذا الرجل، إنه محمد منير، وهو مطرب شعبي مصري، يشبهني كثيراً، فكلانا لا نملك حظاً من الوسامة كالذي نملكه من العفوية. يؤدي هذه الأغنية أمام فتاة متوسطة الجمال ترقص بعفوية أمام إقراره ولا تضع مساحيق تجميل أو ترتدي لباساً فاضحاً. يسمونه في مصر "الكينغ" ويمتلك شعبية واسعة، فالجميع يحبونه دون أن يعرفوا أسباب حبهم له، ولكنني أعرف جذورها؛ إنها العفوية!"

ثم أشاح بوجهه نحو النافذة وقال: "قد قلت لك، لو توقف هؤلاء الحمقى عن التكلف لما اقتتلوا! فالعفوية تقتل الخوف وتبعث الطمأنينة في الآخرين، هل سمعتي يوماً عن حرب أو نزاع أطرافه مطمئنة ؟ لا يوجد على هذه المعمورة من يحمل سلاحاً إلا ودافعه الأول في حمله هو الخوف!"

تحسس جيوبه بحثاً عن علبة السجائر فلم يجدها، اقتربت منه وتناولت قميصه من الأرض وسحبت منه علبة السجائر ثم وضعت واحدة في فمه وأشعلتها.

نظر إلى عينيها وقال: "لقد أدركت في أيامي الأخيرة في مدينتي المدمرة التي غادرتها بلا عودة، أن الحرب قد صنعت ركاماً آخر، إنه هنا" ويشير إلى صدره.

ثم نفث الدخان وواصل حديثه: "لقد هوت مطرقة الحرب على قناعات وآراء اعتنقتها زمناً طويلاً، كما هوت على بعض المبادئ! لقد فقدت الشعور بذاتي بفقدانها، فما المرء إلا حصيلة من الأفكار والآراء والمبادئ التي يصقلها كل يوم، وبها يعرفه الآخرون ويعرف نفسه!"

تناولت منديلاً من الطاولة وقالت وهي تمسح جبينه: "إنها الحرب! وقد فتكت بنا جميعاً!".

ثم طوت المنديل ومسحت وجنتيه ونظرت إلى عينيه مباشرة وسألت: "وأما التكلف، فلو وجدته في طريقتي لما جلست معي الآن، أليس كذلك؟ وإن وجدت تكلفاً في بعض المواقف فهو ليس إلا سداً يوقف طوفان العفوية الجارف الذي قد يحملنا إلى أماكن بعيدة!"

أمسك الزجاجة بانفعال وصب كأساً آخر ثم قال غاضباً: "أعلم ذلك، ولكن، لم استخدمتِ تشبيه الطوفان؟ أرى أنه يشبه المد والجزر، فالبحار والمحيطات تغضب حيناً وتتلاطم أمواجها، وتستكين حيناً آخر وتداعب الشاطئ! وإذا كنتِ تعتقدين بأنه طوفان، فتذكري طوفان نوح الذي أغرق الأرض ولكنه طهرها من كل رجس، وإن كان جريمة فلن تكون أعظم من جرائم أسلافنا، وإن كان خطيئة فاعلمي أنها ليست الخطيئة الأولى أو الأخيرة في هذا العالم، ولست أبالي في جميع الأحوال"
وفي تلك اللحظة، أمسك بيده الكأس وقال بثمالة: "إنها كأسي الأخير" ثم شربها وضرب بها الأرض فتناثرت قطع الزجاج، وأطلق ضحكة قوية ليظهر دموع الحزن وكأنها دموع الضحك، وقد نجح في ذلك، إذ اختلط الأمر عليها، وظلت تنظر إليه في حيرة، وهو يضحك ضحكاً شديداً، والدموع تنساب من عينيه!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى