كيف تحبني؟
كانت تربطني منذ أيامي الأولى في الحياة وحتى العام المنصرم علاقة وطيدة بأحد خبراء الاقتصاد، وكانت معظم أحاديثه عن هذا التخصص الذي قضى أكثر من نصف عمره في سبر أغواره. ولأنني مستمع جيد للآخرين وخاصة لمن أحب، فقد كنت أستمع إلى أحاديثه عن هذه المواضيع التي أجهلها باهتمام فائق.
أخبرني ذات مرة عن قانون شهير في الاقتصاد يُعرف بقانون المنفعة المتناقصة؛ والذي يشرح أسباب زهد المرء بالشيء إذا امتلكه أواعتاده، فمثلاً، قد تستمع إلى أغنية جديدة فتعجبك إلى الحد الذي يدفعك إلى الاستماع إليها مرات عديدة كل يوم. ولكن، هل ستستمر على هذا المنوال بعد شهر أو شهرين؟
قد تستمع إليها مرة واحدة يومياً قبل أن تدخل في غياهب عقلك الباطن، ثم ستتوقف عن الاستماع إليها، وقد تستمع إليها صدفة عبر مكبرات الصوت لسيارة تمر أمامك فتبتسم ثم تعود هذه الأغنية إلى قائمة الأغاني المفضلة لفترة قصيرة ثم تختفي مجدداً، ولن تستمع إليها بذات الشغف والإقبال كاليوم الأول!
يعرف الكثيرون هذه القاعدة ولكنهم لا يعرفون اسمها ولا يستطيعون صياغتها بذات الطريقة التي قدمها لي هذا الخبير، وتثير هذه القاعدة مخاوفهم في العلاقات الاجتماعية، ولم أصدف حتى اليوم، وأنا في عقدي الرابع من العمر، شخصاً يستطيع فصل هذه القاعدة عن علاقاته الاجتماعية، فالمرأة على سبيل المثال تخشى الزواج من الرجل الذي تحبه خوفاً من رياح التغيير التي يحملها هذا الزواج، ولسان حال هذه المرأة بعد الزواج: "لم انطفئت عاطفتك التي كانت متوقدة لسنوات طويلة؟ ليتنا لم نتزوج!".
والحق يقال أننا نتخذ -بطريقة لا واعية- نهجاً مشابهاً لقاعدة المنفعة المتناقصة في علاقاتنا الاجتماعية كالمثال الذي ذكرته آنفاً عن المرأة التي تزوجت رجلاً تحبه، كما أننا نخشى أن يطبق الآخرون هذه القاعدة علينا.
ولفهم الفرق الجوهري بين هذا النهج وهذه القاعدة، فكر في وجود من تحب في حياتك، قد يكون أمراً اعتيادياً كأشيائك المفضلة التي اقتنيتها بسعادة غامرة ثم نسيت موضعها. ولكن، هل سيكون غياب أحبائك أمراً اعتيادياً كغياب أشيائك المفضلة؟ هل افتقدت يوماً حاسوبك القديم وذرفت الدموع حزناً على فراقه؟ أخبرني الآن عن شعورك حين تتذكر أخاً أو صديقاً أو حبيباً غيبه الموت أو رحل عنك طوعاً! هل يستوي الشعور الأول والثاني؟
في زمن ليس ببعيد، سألتني: "هل تحبني حقاً؟ كم تحبني؟ وهل سيعيش هذا الحب عمراً طويلاً؟". قد سمعت هذه الأسئلة من جميع الراحلين لأجيبهم بما يعينهم على مواجهة الخوف من لحظة اعتياد أو فراق.
أجبتها دون تفكير: "سؤالك الثاني يجيب عن سؤالك الأول، كما أن سؤالك الثالث يجيب عن الثاني." ثم توقفت عن الكلام للحظات أنظر إلى الترقب في عينيها للحصول على إجابة عن السؤال الثالث.
"قد لا يعيش حبي لك عمراً أطول من عمري، ولكنه بالتأكيد لن يموت وأنا حيّ! أعتقد أن هناك سؤالاً رابعاً يفوق تلك الأسئلة الثلاثة في الأهمية!"
انتظرتُ أن تسألني سؤالاً آخر لو عرفت إجابته لاطمئن قلبها، والسؤال هو: "كيف تحبني؟"
طرحتُ هذا السؤال نيابة عنها ثم أجبت عنه قائلاً: "أحفظ الكثير من عبارات الغزل؛ المبتذلة والبليغة، ولا أستخدمها لوصف عاطفتي تجاه الآخر، إذ تندفع الكلمات من فمي بعفوية لتعبرعن عاطفتي حين تفيض، وقد ينعقد لساني فأعانق بقوة دون أن أتفوه بكلمة. إنني أحبكِ بذات الطريقة التي تمنيت أن يحبني أحد بها، وأستمع إلى جميع أحاديثك بذات الاهتمام الذي افتقده من الآخرين، وتتوسع حدقتا عيني عشرين ضعفاً حين أتأمل ابتسامتك، وسائر اللذات عندي دون لذة عناق يحملك من عالمنا هذا إلى عالم آخر حدوده صدري وذراعي".
أعرف المخاوف التي تراود المرء وخاصة في علاقاته الوطيدة كالخوف من الفقدان والخوف من المجتمع وغيرها من تلك المخاوف، وبغض النظر عن واقعية هذه المخاوف واستنادها على حقائق أو افتراضات، ولكنها تقض مضجع المرء وتفقده متعة التواصل في العلاقة، وإذا عظمت هذه المخاوف وحاصرته فإنها تفقده هذه العلاقة إلى الأبد! وهذا ما يعنيه المثل المصري الشهير: "الي يخاف من العفريت يطلعله"!
لست أدعي بأنني لا أخشى فقدان من أحب، ولو كنت قادراً على مواجهة المجتمع لما حبست نفسي في منزلي كما فعل أبو العلاء المعري، ولكنني أمنع هذه المخاوف من الفتك بما تبقى من علاقاتي الاجتماعية التي نجت من أهوال الحياة ونوائبها.
وكلما حمل إلي صديق أو قريب أو حبيب مخاوفه بأسئلة كهذه، أستحضر في ذاكرتي المتعبة كل السابقين الذين سألوني تلك الأسئلة، وأتذكر الجنون الذي دفع كل واحد منهم إلى اختيار نهاية تخفف عنه هذا العذاب!
يقف الموت حائراً كلما اقترب من أحدهم ووجده وحيداً ضعيفاً هزيلاً ينتظره بيأس، لقد خسر الموت جزءاً كبيراً من هيبته بفعل هذه المخاوف التي دفعت الناس إلى تحطيم علاقاتهم وبتر أذرعها، ثم جاءت الحرب لتسلبه ما تبقى من هذه الهيبة، إذ يأتي الموت وينتزع الروح من صاحبها ثم يمضي على عجل قبل أن يراه الآخرون ويسخرون منه.
أجبتها عن أسئلتها الثلاث بقلق بالغ، فأنا أعرف جيداً ما الذي يعقب الإجابة عن هذه الأسئلة! وبالفعل، لم تمض لحظات حتى طلبت اختيار نهاية تريح قلبينا، فأخبرتها بأنني لا أجيد رسم النهايات، ولا أقبل منها إلا الموت!
أعرف جيداً تلك المخاوف التي دفعتها إلى اختيار القطيعة بعد الوصال، وإنني أمتلك من المخاوف ما لو قسمتها على أهل الأرض لوسعتهم، ومع ذلك، فإن خوفي من القطيعة كان أشد على نفسي منها جميعاً!
إنني أفزع إلى الخيال فأجدك، وأغمض عيني فأراك، وأضع يدي على قلبي فأشعر بأنفاسك التي كانت تستقر فيه عندما تضعين رأسك على صدري!
سيدتي، قد حان دوري لأطرح عليك سؤالاً أخيراً؛ هل وجدتِ مستقراً أكثر أماناً؟