السبت ٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢١
بقلم رندة زريق صباغ

لروحك السّلام جمال سيّد أحمد، لروحك السّلام فضل نعيم زريق

"لكل امرئ من اسمه نصيب" .... مقولة أثبتت صحّتها كثيراِ من الأحيان في حين لم ينجح بعضهم في تحقيقها، لفقيدنا الغالي الأستاذ جمال، من اسمه أكثر من ذلك بكثير، فقد جمع بين جمال القلب والقالب، بين جمال الروح والشكل، جمع الأستاذ جمال بين العديد من الخصال التي بدت للبعض متناقضات لا تقطن في رجل واحد.... فأن تكون ورِعاِ متّزناً من جهة محبا للمرح والفرح من جهة ليس بالمفهوم ضمنا، أن ترعى أرضك تحرثها، تزرعها فتأكل من خيرها من جهة، تحب السفر والتجوال في البلاد وفي أصقاع الدنيا من جهة ليس بالسهولة بمكان، أن تكون طيبا وحازما في اّن معاً، أن تكون ليّنا وصلبا، شهما ومتواضعا، بشوشاُ وصارماُ إنّما هو الجمال بأجمل حالاته، وإن ننسى فلا ننسى الشجاعة والمبادرة كما الجرأة والوفاء، كل ذلك وأكثر مطعّم بالوطنيّة الحقّة والانتماء للأصالة.

قد تتساءلون:- لماذا تنمّقين كل هذا وأنت لست ابنة سخنين ولم تتعرّفي على الأستاذ جمال سيّد أحمد شخصيّاُ؟

أقول:- كان أبي بوصلتي ومنهل معرفتي وقدوتي، ثقتي به، باختياراته، بصداقاته، بآرائه وحتى بنقده وامتعاضه ثقة مطلقة، وما لم اعتمده يوماً بناء على نصيحته سرعان ما أثبت لي الكون عثرتي فأعود لرأي والدي السّديد وعظمته الناعمة، كان أبي (فضل نعيم زريق) من عيلبون صديق المرحوم جمال سيّد أحمد من سخنين، وطالما ذكر الأولُ اسمَ الثاني ، مزاياه ورقي أخلاقياته أمامنا وطالما حكى عنه بتحبّبٍ لابتسامة قلبه ومحيّاه، حكى لنا عن مبادرة أبي شفيق وسعيه التّطوعي لإيصال المياه لبيوت سكان قريته سخنين واقامة جمعيّة (المنى) للإشراف على الموضوع، وإنّما هذا أهم وأكبر عمل وطني يحتاجه أهلنا في السبعينات من القرن الماضي، لم يحتج أبو شفيق -وهو من تزيّن بجمال النفس والانتماء- لأي إطار أو حزب سياسي بل كانت مبادئه، ثقافته وأصالته هي البوصلة التي ترفع سقف طموحاته ومساعيه نحو الخير والعطاء.

أذكر زيارة أبي وأم شفيق لبيت أهلي في عيلبون قبل عقود -رغم أنّني لا أذكر تفاصيلها جيّدا- أتذكّر أنّ شعوراُ بالغبطة خيّم علينا جميعاُ ، أذكر ضحكات أبي وزميله في الثانوية، وأذكر تناغماُ لطيفاُ ورقيّ صفات جمع بين أمي كميليا أم فراس وبين السيّدة يسرى أم شفيق، لتبقى هذه المشهديّة محفوظة في صندوق ذكرياتي الغاليات.

هالو، ست رندة؟

نعم، أهلين

أنا أبو شفيق من سخنين جمال سيّد أحمد زميل والدك في الثانوية

ألف أهلاُ وسهلاُ أستاذي

قرأت مقالتك في ملحق الاتحاد اليوم، اتصل لأشكرك ولأهنئك على كلماتك وأسلوبك

شرف لي هذا الكلام أستاذ جمال

أريد أن أشكرك وأهنئ أمك وروح والدك على وفائك النادر، على أخلاقك العالية وعلى محبّتك العظيمة لوالدك أبي فراس صاحب الفضل على كل من عرفه.

ترقرقت عيناي بدمعتين عصيّتين أخذنني بلمح البصر لقصة أبي فراس الحمداني وقصيدته (أراك عصيّ الدّمع) التي كانت سب اختيار أبي اسم أخي ليحظى بكنية (أبو فراس).

سلمت يا عم جمال، أقدّر اتصالك واهتمامك عالياُ وغالياً.

تفضّلي زورينا بسخنين

بكل سرور، أتشرّف بزيارتكم قريباً أنا والوالدة، تحيّاتي لأم شفيق.

كانت هذه من أثمن المكالمات التي تلقّيتها في حياتي، محادثة تبادلنا فيها أطراف حديث مطعّمٍ بذكريات ماضية وأمنيات مستقبليّة على أمل تنفيذها.

لكن الرياح لا تجري دوماُ بما تشتهي السّفن، فسرعان ما باغتتنا الكورونا لتمنعَ الزيارات فتجمّدَ الأمنيات...
لكنّني- مثلكم تماماً- لم أتوقع أبداً أن تكون الكورونا اللعينة هي السبب في الغياب الأبدي للأستاذ جمال .. ذلك الشاب الجميل الذي شارف على الثمانين من العمر بكامل الصحّة، العافية والأناقة.

وهكذا مرّت الشّهور لأتلقّى مجدّداً مكالمة غالية أخرى من السّيدة يسرى أم شفيق تشكرني فيها على مقالتي الأخيرة في الاتحاد في ذكرى وفاة د. جورج قنازع زميل والدي وزوجها جمال، مكالمة طغى عليها حزن الفراق، وحنين الاشتياق، قرَأَت على مسامعي خلالها قصيدة مذهلة باللغة المحكيّة نظمتها تعبيراً عن مشاعرها جرّاء وفاة زوجها المفاجئة. أم شفيق ليست بشاعرة ولا كاتبة، لكن صدق المشاعر ولوعة القلب أخرجت منها درراً على شكل كلمات شعريّة منمّقة بالود، الوفاء والحنين تجاه شريك العمر والمشوار.

لم تنته المحادثة قبل أن تدعوني السيّدة يسرى للزيارة وبوعد مني لتلبيّة الدعوة بكل فخر وسرور. بقينا على تواصل عبر الرسائل نتبادل أطراف أحاديث لطيفة، ترسل لي معظم ما تكتبه من قصائد بحروف الشوق فاصغي اليها باهتمام وغبطة ممزوجة بالشّجن، الحقّ أقولَ لكم إنّ كتاباتها أذهلتني خاصة بعد أن علمت أنّها لم تكتب شعراً قبل وفاة شريك عمرها وأن كل ذلك تدفّق تعبيراً عمّا يخالج صدرها، فكرها وروحها.

مرّت الأيّام وكانت حادثة الساخنة حيث أنقذت ابنتي ولاء صبّاغ رجلاً من موت محقّق بتصميمها، بنواياها الصادقة، أيمانها بالله وبشعورها أنّ السيّد المسيح عليه السّلام يمنحها القوة لعمل الخير والمحبّة الخالصة لكل البشر على اختلاف مذاهبهم وانتماءاتهم. وكان أن اكتشفنا لاحقاً أن الرجل من أبناء مدينة سخنين.
ما كان من بلدية مدينتكم الموقّرة، سخنين يوم الأرض والأصالة، برئيسها د. صفوت أبو ريا، أعضاء البلدية واللجنة الشّعبيّة إلّا أن أقاموا حفل تكريم لنا ولابنتنا ولاء في قاعة البلدية، تواصلت مع أم شفيق ودعتنا لزيارتها بعد انتهاء التكريم، اصطحبنا نسيبُ العائلة د. غزال أبو ريّا لبيت أخي زوجته فتشرّفنا بزيارة بيت الأستاذ جمال سيّد أحمد الغائب الحاضر في كل زاوية من البيت والجنينة، كان أبو شفيق هنا مع زوجته، أولاده، بناته وأحفاده الذين رحّبوا بنا أجمل ترحيب، أكلنا من تينة الدار ومن عنب داليةٍ تدلّى كثريات الذهب اعتنى بها بنفسه، نهلنا من طيب أخلاقه التي فاضت من ذرّيته الصّالحة، سمعنا عن تاريخه المشرّف وعن أبوّته الحنونة، تعرّفنا على معلّم مدرسة من نوع خاص، على من أحبّ الناس والحياة حتّى يومه الأخير، فكان أن قضى بسبب ما عشقت روحه وهوى قلبه من تجوال، سفر وفرح ،لكن لم يدرك طبعاُ أنه ذاهب حيث وجب ألّا يذهب....

ودّعنا أفراد الأسرة الكريمة على أمل زيارات متبادلة قريبة.

هكذا أغلقت الدائرة بيننا، دائرة محبة واحترام بدأت في ثانويّة الناصرة البلدية عام 1955 بين فضل وجمال، ثم بين كميليا ويسرى أواخر السبعينات لتتشعب عام 1921 فتشمل أبناء وأحفاد الصّديقين اللذين توفّاهما الله خلال سنتين....

فلترقدَ يا أبي بسلام ولترتاحَ روحك حيث لا وجع ولا تنهّد، فرندتك باقية على الوعد والعهد وعلى دربك أسير قدماُ.

ألف رحمة ونور لروح فقيدكم أبو شفيق

الله يرحمه ويخلّي الموجودين

ومن خلّف ما مات.... البركة بالذرية الصالحة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى