الأربعاء ٢٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢١
بقلم رامز محيي الدين علي

لصُّ أسلاكِ الكهرباءِ

لم يبقَ في البيتِ كِسرةُ خبزٍ واحدةٌ.. أطفالُ الأسرةِ يلعبونَ حولَ المنزلِ، وفي لعِبِهم غُصَّةُ الفقرِ ولسْعةُ قهرِ الحِرمانِ.. الأمُّ تبحثُ بينَ أوراقَ الدَّوالي عنْ عُنقودِ عنبٍ يُسكِتُ آلامَ الجوعِ في معدتِها، وربَّما تشرئِبُّ بضعُ قطراتِ حليبٍ إلى ثديِها لعلَّها تُبلِّلُ ظمأَ رضيعِها الّذي يثْغُو ثُغاء الخرافِ الجائعةِ في الهجيرِ..

أمّا الأبُ فلم تبقَ أمامَه فرصةٌ لإنقاذِ حياةِ أسرتِه إلّا فكرةٌ واحدةٌ هبطَتْ إلى خيالِه المُفْعمِ بالمآسِي والحروبِ، لكنَّها فكرةٌ لا تخطرُ على بالِ إنسانٍ في وطنِه إلّا حينَما يمُوتُ الوطنُ والإنسانُ في ذاتِ الإنسانِ!!

حلَّ المساءُ وعمَّ الظَّلامُ.. الكلابُ تنبحُ، والذِّئابُ تَعْوي، والطَّبيعةُ تئِنُّ منَ البؤسِ والدَّمارِ الّذي حلَّ بها منْ مُجرمِي الحربِ، لم تعُدِ الطَّبيعةُ طبيعةً، ولم تعُدِ الأشجارُ أشجاراً، ولم يبقَ في السَّماءِ نورٌ يُوحي بالأملِ، ولم تعُدِ المنازلُ تَحْكي حكاياتِ المحبَّةِ، بل صارَ كلُّ منزلٍ وطناً صغيراً تَسكنُه الأشباحُ وتهبُّ من أعطافِه رياحُ الحقدِ والكراهيةِ والضَّغينةِ والاستئثارِ، وتشتُّتِ الإنسانِ ما بينَ وحشيةٍ طاغيةٍ وشعورٍ بقرفِ الحياةِ وسوداويَّةِ وجوهِها صباحَ مساءَ..

اختنقتْ أنفاسُ النَّاسِ بدخانِ الحروبِ، وامتلأَتْ أفئدتُهم بالألغامِ، وصارَ كلُّ شلْوٍ منْ أجسادِهم لُغماً يجبُ أن يُفجِّرَ بشاعةَ الحياةِ أنهاراً من الحروبِ والدِّماءِ، لم يعُدِ الإنسانُ ينتَمي إلى ذاتِه أوعقيدتِه أو تاريخِه أو إنسانيَّتِه أو عشيرتِه أو أسرتِه أو بيتِه أو وطنِه.. وإنَّما صارَ الانتماءُ إلى رغيفِ خبزٍ، ولو كانَ يحملُ في ذرَّاتِ طحينِه سمومَ العروبةِ اللَّعناءِ، أو بُرادةً من معادنِ الهمجيَّة الغربيَّةِ الّتي تقدِّمُ أكياسَ الدَّمارِ في علبِ هدايَا المساعداتِ الإنسانيَّةِ، وأيَّةُ إنسانيَّةٍ تحملُها بيارقُ التَّآمرِ الّتي زعزعَتْ أركانَ بلادٍ ودمَّرتْها بمبانيْها وقاطِنيها وكلِّ مقوِّماتِ حضارتِها، وهجَّرتْ تلكَ الشُّعوبَ، وأبقَتْ على مُجرمي الحروبِ أسوداً للحِمى، وأيُّ حِمى في الكونِ أثمنُ من حِمىً كهنوتيٍّ همجيٍّ صنعَتْه أسطورةُ داودَ ولحقَتْ بها كلُّ لعناتِ التَّاريخِ بالبشريَّةِ الّتي غدَت ألعوبةً وأحجارَ شطرنجٍ تُحرِّكُها أفهامُ ملوكِ الجِنِّ كيفَما تشاءُ وأنَّى تريدُ، وليسَ الطُّغاةُ ومصَّاصُو الدِّماءِ سِوى دونكيشوتاتٍ تُحاربُ طواحينَ الهواءِ، وتصبُّ جامَ غضبِها على شعوبِها تارةً بقوَّةِ السِّلاحِ، وتارةً أخْرى بسطْوةِ رغيفِ الخبزِ وحبَّةِ الدَّواءِ!!

لم يبقَ أمامَ ربِّ الأسرةِ إلّا فكرةٌ واحدةٌ هبطَتْ إلى ساحةِ خيالِه من واقعٍ أصبحَ أبعدَ منَ الخيالِ، فكرةٌ جهنَّميَّةٌ لا تخطرُ على بالِ شيطانٍ رغمَ طبيعتِه النَّاريَّةِ، لكنَّ الحاجةَ أمُّ الاختراعِ، رغيفُ الخبزِ صنعَ أكبرَ شياطينِ الأرضِ، ورغيفُ الخبزِ قتلَ ثلاثةَ أرباعِ البشريَّةِ، ورغيفُ الخبزِ غيَّرَ خارطةَ الكرةِ الأرضيَّةِ آلافَ المرَّاتِ، وسيُغيِّرُ وجهَ كواكبِ المجموعةِ الشَّمسيَّةِ، رغيفُ الخبزِ أنزلَ دياناتٍ ومُعتقداتٍ، وأزالَ آلافَ المعتقداتِ، رغيفُ الخبزِ لعنَ الشَّرفَ الإنسانيَّ، ومزَّقَ كلَّ خرائطِ أخلاقِه الإنسانيَّةِ.. فماذا بقيَ من الإنسانيَّةِ غيرُ رغيفِ الخبزِ الّذي باتَ يُفكِّرُ فيه ربُّ الأسرةِ في بلادٍ تحكمُها الوحوشُ وتحوِّلُها إلى قوقعةٍ منَ الرُّعبِ ومقبرةٍ للأمواتِ الّتي مازالتْ تئِنُّ وتئِنُّ دونَ أن يسمعَ أنينَها مخلوقٌ بشريٌّ!

لم يبقَ أمامَ ذلكَ الأبِ إلّا فكرةٌ واحدةٌ هبطَتْ إلى الخيالِ، وباتتْ تدفعُ صاحبَها إلى الشَّجاعةِ والإقدامِ، ولو كانتْ تُناقضُ كلَّ المبادئِ الأخلاقيَّةِ والإنسانيَّةِ.. إنَّها فكرةٌ رائعةٌ وحلالٌ في زمنٍ لم يعُدْ للحلالِ والحرامِ مقياسٌ أو معيارٌ أخلاقيٌّ سليمٌ..

حلَّ المساءُ.. لا كهرباءَ ولا ماءَ.. النَّاسُ تنامُ مساءً معَ الدَّجاجِ.. وتستيقِظُ صباحاً معَ الدِّيكةِ.. حملَ الأبُ قطَّاعةَ أسلاكٍ وصعِدَ أحدَ الأعمدةِ؛ ليقطعَ أسلاكَ الكهرباءِ، لعلَّه يبيعُها فيشْتري بثمنِها ما يسدُّ رمقَ جوعِ أسرتِه، كانتْ هِمَّتُه عاليةً، وفرحتُه لا تُوصَفُ، عمَلٌ سهلٌ لا يُكلِّفُ جهداً ولا تعباً ولا ذلَّ السُّؤالِ، تسلَّقَ العمودَ ونفسُهُ مطمئِنَّةٌ إلى انقطاعِ الكهرباءِ الّتي باتَ سكّانُ القُرى والمدنِ يَنسَونَ اسمَها، فكيفَ الحالُ بأنوارِها..

وما هيَ إلّا هُنيهةٌ حتّى أصبَحتِ الأسلاكُ تحتَ قبضةِ الأبِ اللِّصِّ الشَّريفِ، بدأتْ قبضةُ اليدِ تتلاعَبُ بالأسلاكِ، والأخْرى تضغطُ على قطَّاعةِ الأسلاكِ، وقلبُ الأبِ يتراقصُ طرباً، لعلَّ الفرجَ قريبٌ.. نعَمْ لقدْ فُرجَتْ.. وفُرجَتْ بشكلٍ لن يتوقَّعَهُ أحدٌ، ولا حتّى أسلاكُ الكهرباءِ.. لقدْ فُرجَتْ، فجاءَ التَّيَّارُ الكهربائيُّ بشكلٍ مُفاجئٍ، لم ينقطِعِ السِّلكُ، تجمَّدَ الرَّجلُ على العمودِ بعدَ رعشاتِ الفرجِ، وماتَتْ أمْنياتُ رغيفِ الخبزِ على أسلاكِ الكهرباءِ في وطنٍ لم يبقَ فيهِ حلمٌ إلّا في سرقةِ أسلاكِ الكهرباءِ، في وطنٍ لم يعدْ فيه حلمٌ إلّا في القتلِ منْ أجلِ إلهٍ واحدٍ سمَّاهُ كارلْ ماركسْ رغيفَ الخبزِ، وأنا أسمِّيهِ لعنةَ الإنسانِ والتَّاريخِ والسَّماءِ!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى