الخميس ١٢ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٤
بقلم عارف محمد نجدت شهيد

ما أشبه الليلة بالبارحة!

في الساعة الأخيرة قبل غروب الشمس، يقف الأخوان وجهاً لوجه في الحي العتيق الذي احتوى ذكريات طفولتهم منذ ثلاثين عاماً ودفنها تحت الركام، ولم يعد الحي يضج بالحياة كما كان، إذ سلبته الحرب كل مظاهر الحياة!

تحاول الشمس في لحظاتها الأخيرة يائسة أن تصلح ما أفسدته الحرب، فتلقي بأشعتها الباهتة باستسلام على سكة القطار الصدئة، وركام منزل العائلة، وجذع الشجرة اليابس لتضفي إلى المشهد الأسود لوناً ذهبياً باهتاً.

تتسلل نسمة خريفية إلى المكان فتسقط بضع ورقات صفراء من الشجرة اليابسة، ثم تكمل مسيرها نحو ملامح وجه هاشم الجامدة، ووجه شقيقه الأصغر الغاضب؛ مصطفى.

ينظر كلاهما إلى الآخر بصمت مطبق تقطعه كلمات هاشم فيقول بابتسامة باهتة: "ما أشبه اليوم بالأمس!".

"أي أمس تقصد؟ فقد مرت علينا سنوات كثيرة بأيامها المريرة في هذا الحيّ!" ثم يشير مصطفى إلى جذع الشجرة اليابس بيده المرتجفة التي تحمل السكين ويكمل غاضباً: "ألا تذكر حين ضربني أبناء الحاج شوقي ضرباً مبرحاً تحت ظلال هذه الشجرة؟"

يلتفت هاشم إلى الشجرة وينظر إليها بتأمل ثم يجيب: "بلى، فقد ضربوني هؤلاء الأوغاد أيضاً تحت ظلال هذه الشجرة!" ثم يتحسس جذعها اليابس ويقول: "وأذكر أيضاً جلساتنا في هذا الموضع، كم لعبنا تحت ظلالها لساعات طويلة! ألا تذكر؟ أم أن ذاكرتك القوية لا تسعفك إلا في تذكر المواقف السيئة والحمقى كأبناء الحاج شوقي؟".

يضحك مصطفى بسخرية ويقول بتهكم: "الحاج شوقي! والله لو حج إلى بيت الله الحرام زحفاً كل عام حتى يلقى ربه فلن يكفر عن ذنبه في تسليط أبنائه علينا!".

وفي هذه اللحظة، تسقط ورقة صفراء من الشجرة فينحني هاشم ليلتقطها بيده ويتأملها ثم يقول مبتسماً: "وهل تعتقد أن شوقي حج إلى بيت الله ليسقط عن نفسه فريضة دينية ويستقي العبر من سيرة جدنا إبراهيم كما يفعل أي مسلم؟ لم ينجح شوقي طيلة خمسين سنة في الحصول على لقب يضيفه إلى اسمه الأعزل، حتى أن مختار الحي رفض منحه شهادة حسن السلوك، فهو يعرفه ويعرف أولاده كما نعرفهم! فالحج عند شوقي وأمثاله لا يضيف لصاحبه إلا لقب "الحاج" ليكسب بعض الوقار والاحترام فما عرفت نفسه الدنيئة يوماً شعوراً كهذا!"

"ما أشبه اليوم بالأمس!" يرددها هاشم مجدداً ثم يفتت الورقة الصفراء بأصابعه وينثرها على الأرض، ثم يرفع رأسه لينظر إلى وجه مصطفى الذي استشاط غضباً وصاح: "أجبني يا هاشم! أي أمس تقصد؟ أتقصد الأمس حين كنا طلاباً في مدرسة الحي مع أترابنا المتنمرين ومعلمينا الذين لو علمونا بالقدر الذي ضربونا فيه لكنا الآن نجوب الفضاء!"

يومئ هاشم برأسه ويقول موافقاً: "قد مضى على هذا الأمر عشرون عاماً، ولا أحمل في ذاكرتي اليوم إلا صورة الأستاذ عبد الله؛ معلم اللغة العربية الذي كان ينشد القصائد بصوته الشجي لنحفظها" ثم يغمض عينيه ويقول بابتسامة عريضة: "كأني أسمعه الآن ينشد قصيدة الشافعي الشهيرة ونحن نردد وراءه! دع الأيام تفعل ما تشاء .. وطب نفساً إذا حكم القضاء .. ولا تحزع لحادثة الليالي .. فما لحوادث الدنيا بقاء .. وكن رجلاً على الأهوال جلداً .. وشيمتك السماحة والوفاء .. وإن كثرت عيوبك في البرايا .. وسرّك أن يكون لها غطاء .. تستر بالسخاء فكل عيب .. يغطيه كما قيل السخاء .. ولا ترجو.."

يقاطعه مصطفى ضاحكاً: "يغطي السخاء عيوباً كثيرة ولكنه لا يغطي عورة المرء! ولا أنكر عليك شوقاً تحمله لرجل كالأستاذ عبد الله، لقد منحتك الحياة حظاً عظيماً لو حظيت بالقليل منه لما وقفت فوق ركام هذا الحي لأنهي ما بدأه أبانا!"
"أوافقك في الشطر الأول من كلامك، وأخالفك في شطره الآخر، فأما الحظ العظيم الذي منحتني إياه الحياة، فأقرّ به إقراراً تاماً، لقد شاءت الأقدارأن أكون شقيق رجل ذكي ومتفوق مثلك، فوالله لا أحضر مجلساً إلا وأباهي بك الحاضرين حتى نسيت الحديث عن نفسي! وأما قلة حظك في هذه الحياة فهو أمر أنكره عليك، ولو شهدت قدوم طفلي الأول لوعيت كلامي"

يواصل هاشم حديثه قائلاً: "جاءني صديقان لتهنئتي بقدوم طفلي، فقال لي الأول: "أسأل الله أن يصبح رجلاً ناجحاً مثلك"، فنظر إليه الثاني باستنكار وقال له: "ادع الله أن يصبح هذا الطفل رجلاً ناجحاً كعمه مصطفى"، فرفعت رأسي إلى السماء وسألت الله أن يستجيب دعاء صديقي الثاني، فوالله قد نطق عما في قلبي!".

صرخ مصطفى غاضبا: "توقف عن تملقي! ألا تمل الكذب؟ تحدثني متغافلاً عن الحقيقة!"

"أي حقيقة تقصد يا مصطفى؟"

يجيب مصطفى بنبرة قاسية: "أنك كنت شريكهم في الفظائع التي ارتكبوها بحقي! أنت آثم أيضاً يا هاشم!"
رفع هاشم حاجبة باستنكار وقال: "عجباً! ألم نتشارك حلو هذه الأيام ومرّها؟ فكيف أكون شريكاً لك ولهم في آن؟"
ثم اقترب من مصطفى وأمسك معصم يده بقوة وقال بانفعال: "لقد خضت في هذا الحيّ تجارب كفيلة بأن تدفعني إلى الذي تنوي فعله الآن، ولكنني وقفت فوقها كما أقف فوق هذا الركام، وتخليت عن دور الضحية فلا أرغب في محاكمة أحد على ما فعله بي. إنني لا أحمل اليوم في ذاكرتي إلا ما يستحق أن أحمله من الذكريات السعيدة والأثر الجميل للطيبين الذين مروا في حياتي!"

يحرك مصطفى يده محاولاً إفلاتها ثم يصيح غاضباً: "أفلت يدي يا هاشم! لقد غادرت هذه القرية منذ عشرة أعوام لأتخلص من هذا العذاب ولكنها لم تغادرني، فعدت إليها لأنهي الأمر!"

يمسك هاشم بيده الأخرى معصم مصطفى ثم يهزه بعنف ويصيح: "أتقتل نفسك راحة لهاً أم عقاباً لنا؟"

يصيح مصطفى بجنون: "بل أقتل نفسي لأقتلكم جميعاً، لقد استوطنتم ذاكرتي المتعبة لأكثر من ثلاثين عاماً وقد عجزت عن إجلائكم منها!"

ارتجفت يد مصطفى ثم استكانت باستسلام بين يدي هاشم، فاقترب هاشم مقبّلاً يد أخيه ثم قال بحسرة: "ما أشبه الليلة بالبارحة! نعيد قصة قابيل وهابيل، ولست أعرف من منا قابيل، ومن منا هابيل!"

هبط الظلام على المكان، وانهمرت دموع مصطفى كالسيل وصاح بجنون: "لن أبرح هذا المكان حتى أنهي هذا الأمر". ثم حرك يده بقوة ليطعن نفسه. وفي هذه اللحظة شعر هاشم بأن قواه قد خارت ولن تقدر يداه على رد يد أخيه فقال مستسلماً: "فليكن!" ثم حرك معصم أخيه بكل ما أوتي من قوة ليضع السكين في مستقرها.

شهق مصطفى حين شعر بطعنة السكين، ثم رجع خطوة إلى الخلف فجحظت عيناه من هول المشهد، إذ استقرت السكين في صدر أخيه هاشم، وحتى اللحظات الأخيرة، ظل هاشم ممسكاً بيد مصطفى ثم أفلتها ليسقط جثة هامدة!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى