الخميس ١ آب (أغسطس) ٢٠٢٤
بقلم عارف محمد نجدت شهيد

ما أقسى الليلة الأولى وفجرها

يُقال أن أصدق المشاعر تتجلى في محطات السفر والمستشفيات، وأعني مشاعر الفرح التي تغمر المرء حين يستقبل محبوباً عاد من غربة أو حين يُخرجه من المشفى على عجالة قبل أن يفطن لهما الموت مجدداً، وأعني أيضاً مشاعر الحزن التي تكتسح قلب صاحبها بلا رحمة كما اكتسحت جيوش الحلفاء برلين ودمرتها عن بكرة أبيها، إنها مشاعر الحزن حين تودع مجبوباً قد حان موعد سفره أو حين تنظر إلى جسده المسجى ملياً قبل أن تغطي وجهه بقماشة بيضاء لتغيب ملامحه عن ناظرك للأبد.

وإنني في يوم رحيلك الثامن، أكتب إليك رسالتي الأولى ولا زلت واقفاً أمام القطار الذي أخذك بلا عودة، أرى وجهك البريء في وجوه جميع المسافرين؛ الوافدين والراحلين، وأعانقك في جميع لحظات العناق، وتنزفين من قلبي دماً في كل لحظات الوداع، وتهطلين من عيني دمعاً في كل لحظات اللقاء.

أراك الآن، مستندة على نافذة شرفتك وأرى خصلات شعرك الأسود مسدلة على أكتافك الناعمة، وكأن المسافات قد طويت، أرى ابتسامتك الساحرة التي تبرز وجنتيك ككرتين من الثلج ناصع البياض، وأناملك الرقيقة وهي قابضة على أطراف هذه الورقة، وأراك في حيرة أمام تلك الأسئلة التي تزاحم عقلك، فلسان حالك يقول: "ما الذي حمله على كتابة رسالته الأولى بعد انقضاء ثمانية أيام؟ وما الذي تحمله إليّ هذه الورقة المثقلة بالحنين والاشتياق؟ وهل سيواظب على مراسلتي بانتظام؟ إلى متى؟".

لا تقلقي، سأجيب عن جميع هذه الأسئلة في رسائلي القادمة، ففي جعبتي الكثير، فأحاديثي نار لا تنطفئ، نار أزلية، وكلماتي التي أتوق إلى سكبها في أذنيك نهر لا ينضب.

أقرّ بأنني قد تجهزت لمعركتي الخاسرة مع جحافل الوحدة؛ وانطلقت كمن يساق إلى الموت ولا يملك من أمره شيئاً إلى ساحة المعركة، حاملاً سيفي على يدي، وكنانتي على كتفي الأيمن، والراية البيضاء على كتفي الأيسر.

لقد أخبرتك يوماً ما أنني أرى أيامي القاتمة بعد رحيلك، وأعرف جيداً ما ينتظرني فيها، وقد سارت الأمور كما هو متوقع حتى غشيني ظلام الليلة الأولى وهبّت نسماتها الباردة، فوثبت فزعاً من سريري أطوف في أرجاء الغرفة كالمجنون، وأردد بذعر: "ماذا أصنع الآن؟ ما أقسى الليلة الأولى وفجرها!".

منذ لقائنا الأول، وأنا كبائعة الكبريت، أشعل في كل ليلة نقضيها سوية عود ثقاب واحد لأنعم بدفئه ليلة كاملة. وكنت متيقناً بأن الليلة التي سأشعل فيها جميع أعواد الثقاب ستكون ليلتنا الأخيرة! لقد حذرتك من عواقب إشعال جميع أعواد الثقاب، ولا أقول هذا معاتباً، ففي تلك الليلة وبعد أن نفدت أعواد الثقاب، لو تطلب الأمر أن أضرم النار بجسدي لفعلت! وإنما حذرتك لكيلا تكوني ومضة برق في حياتي بل فصلاً ربيعياً طويلاً فيها، وأقرّ بأنني فشلت في تحقيق ذلك، ولكنني حملتك بذراعي إلى مخيلتي التي أحمل إليها كل أحلامي عندما أفشل في تحقيقها.

وكأني أنظر إليك الآن، وأنت تجوبين مخيلتي طولاً وعرضاً، ولا تأبهين لنفاد أعواد الثقاب أو طلوع الفجر، وكأني أستنشق عبيرك الذي نثرته أقدامك عندما وطئت صحرائها الذابلة، وأسمع أصوات ضحكاتك التي هزت أرجاء تلك الأرض الخاشعة وبعثت الحياة فيها من جديد!

أما وقد انقضت الليلة الأولى وطلع فجرها، فكل الليالي سواء، ولكنها ليست كذلك في الخيال، حيث لا حدود تفصل بيننا ولا قيود تمنعني عنك ولا سدود تحجبك عني ولا أزمنة يعقب فيها ليل ونهار، وقد قال محمود درويش يوماً ما: "ولنا في الخيال حياةٌ أخرى، نغفو بها ونتلذذُ في أنغامِها".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى