معكوسات (جذور وأجنحة)
يعد عالم اللغة الفرنسي أميل بنفنست تصوير الواقع أهم سمة من سمات الإشارة عامة والإشارة اللغوية خاصة، الأمر الذي يجعلنا ننظر إلى إصدار شاكر لعيبي الشعري الجديد (جذور وأجنحة قصائد فوتوغرافية) على أنه سعي حازم وإصرار متحمس لتحقيق هذا المطلب العصيّ _تصوير الواقع_ أو هو محاولة مركبة لجعل هذا الواقع المصوّر مؤكداً بقوة الجمع بين الكلامي والصوري في إطار عمل شعري واحد. ولكن أي واقع مصور يستدعي كل هذا الحشد لقدرات نظامين إشاريين متجاورين غير واقع معاناة نفي طويل ترك أثره في التباس دلالي ثنائي مقابل لثنائية النظامين الإشاريين المستثمرين كما سنرى.
ولأن للشاعر انشغاله السيميائي الذي بثه في مناسبات عدة وعبر بحوث ومقالات منتشرة، نجد عمله الشعري الجديد هذا مبطناً بنيّات ينبغي استظهارها لا للبحث عن حقيقة واحدة أو معنى مقدس وإنما لتبيّن الأفق الذي تتحرك فيه معطيات هذا الكتاب الشعري الكلامي الفوتوغرافي.
يفسّر شاكر لعيبي العلاقة بين الصورة والنص عند تناوله النص المجاور للوحة الرسام ماغريت (هذا ليس غليوناً 1929) بأنه بمثابة تحفيز لإشغال المخيلة والفكر في وقت واحد، ويتم ذلك بنوع من مزحة يتحقق فيها قدر من اللعب على الكلام ومثل هذا اللعب أو الإزاحة فيه مؤدٍ وظيفة شعرية بحسب كوهين وعلى هذا الأساس يمكن فهم العلاقة التي أحكم عقدها لعيبي بين الصور والنصوص المترافقة في كتابه، أي في اتجاه توليد أنواع من التأويل والتفسيرات لا في اتجاه دور يسميه رولان بارت بـ (الإرساء) الذي يتم فيه دعم معنى واحد نهائي ضمن سياق مؤدلج ضيق.
لنتأمل في القصائد الفوتوغرافية وصولاً إلى تأويل ممكن ضمن إمكانات لقراءة محكومة بظرفها ومعطياتها وإدراكاتها.
لا بد في الوقوف على العنوان الرئيس من الربط بين صيغتي المكان المحددتين بالثبات (جذور) وبالرحيل (أجنحة) يكون لحرف العطف الواو هنا مهمة ربط وتوحيد لا مجرد الجمع والضمّ. أما العنوان الفرعي فيشارك بثنائية مقابلة هو الآخر(قصائد فوتوغرافية) تضمر الرغبة في التواطؤ وإعلان الرسم المكاني الصوري المتشاكل، وهكذا تتتالى الثنائيات لتمارس فاعليتها الدلالية المؤسس لها.
ويبدأ ذلك بالقصيدة الأولى (نتلمس العالم) وكلتا اللفظتين محمّلة بالتجذير وبالحركية، ولو أجرينا مسحاً لغوياً للألفاظ الواردة منذ السطر الأول (خرجتُ إلى العالم بخطو واثق) لتبين الإضمار المكاني المنشطر كما قلنا بل إن هذا السطر يخفي مسكوتاً عنه يسبقه، فالخروج يعطي معنى من مرحلة قبلية متمثلة ببقاء عريق في الوطن وقِدم سابق للحدث الطارئ _الخروج إلى المنفى _ ويؤكد السطر الثاني هذا بالفاعلية نفسها (بينما كان النجم يتأرجح في الكوة المطلّة عليّ من العدم) أي بتعزيز مراقبة قادمة من مجهول (متحرك متجه إلى المستقبل) لماضٍ ثابت منغلق في زمانه ومكانه _الوطن_ ثم ترد وقفة أزعم أن لها دوراً ترسيخياً فالوقفة صمت دالّ على تكريس الحال هنا، بعدها يتم إرسال مشهد ثبوتي حركي آخر:
أنتِ هناك في صدَفَة المنزلوأنا هنا في كوخ الحطّاب الذي يجمع الذهبمن فوق القش
تدرّج زمني لحقه تدرج مكاني.. وهذا ما يتتالى ليقول أن المكتوب اللغوي أدى دوره في إنشاء معنى مهيمن. لكن هل للصورة المجاورة أن تحقق الدور نفسَه وبالطريقة نفسها ؟ علينا أن لا ننسى هنا أن لا أولوية للصورة على القصيدة ولا العكس، كما أن الصورة المنتخبة خاضعة لنظام أشاري آخر، وهذا ما يؤكد أن فضاءً من معانٍ محتملة وتأويلات قابلة للصورة المرافقة ينأى عن التحديد اللغوي، ذلك أن انتماء كل نظام إلى مرجعية ممتلئة بالدلالات يمنع من قسرها على التوحد في معنى حصري. ولكن لماذا يكون المعنى حصرياً؟ ربما لأن تجاور الصورة مع القصيدة لابد من أن يكون دالاً على ما هو مشترك.
في الصورة أجساد مبوبة داخل أطر لوحات أو صناديق، أجساد حزينة مراكمَة، مكدّسة، خاملة، صامتة لتعطي شعوراً بأن لكل جسد أو أكثر من جسد محبسه، ثمة انتظار لما يحطم هذا المحبس لكن الفضاء الأسود أعلى الصورة وفي خلفيتها يعطي امتداداً خانقاً بوجود قدر عصيّ لا فكاك منه. هل قال النص ذلك؟ هل تحدد في معناه؟ أم إن لكليهما فخاخاً من احتمالات معانٍ أخرى ممكنة؟ هذا ما هو راجح بالتأكيد.
(من اكتمال المروءة) هي القصيدة الثانية [وأنا أنتخب بعض قصائد الكتاب لا كلها]، الاكتمال هو التمام والانتهاء،و الثبوت والانغلاق والتجرد عما سواه، والاكتمال هو ما لا يُدرك إذ ثمة تقصير دائم دونه (يتجلى ذلك بالموت مثلاً إذ هو اكتمال قسري لا أفق بعده، لذلك غالباً ما يتنازل الأحياء عما نالهم ممن ماتوا إذ اكتمل أفق هؤلاء دون إمكان لهم لاحق).
ولأن الاكتمال ليتحقق يفرض اشتراطاته، يحدث الشاعر نفسه فارضاً أبوةً مفقودة على بنوّةٍ مقصرة وبين الدورين تتسع الثنائية لمعنى حكيم وعميق ومزلزل بالمضي والقدوم، بالإدراك وبفساد ذلك الإدراك:
أنتَ مديةٌ تخترق حواسَّكَأنتَ فتنةٌ لنفسكأيها الفاسد
ثمة ثنائيات متضمَّنة أخرى لكنها منتمية إلى الانقسام المعلن نفسه بتواطئه منذ العنوان حتى تفصيلات المتن الداخلية. وتختتم القصيدة بتأكيد سافر : (إنني يا بنيّ أبني فيك عمارة الأرض البعيدة الطينية) ها هي الأبوة المعلاة برمزها الماضوي المتجذر في الأرض البعيدة الطينية القديمة، وهو _ بنيّ _ المفتقر الذي لا يمكن سدّ اكتماله بحكم احتياج أصيل ومديد فيه.
هل عليّ الآن أن أستحصل نتيجة موازية من الصورة الفوتوغرافية المرافقة للقصيدة؟ هل تبدو هيأة شاكر في الصورة دالة على المعنى المستحصل من المتن الكلامي؟ يبدو ليأن شاكر في الصورة يراقب شاكر في المعنى الممكن تفسير الصورة به. المراقبة تحظى بأولوية من خلال المنطق الصارم الذي ترتبت فيه موجودات الصورة وطريقة الجلوس وأشياء المعرض وآنية الأوراق الخضر في العمق، وخطوط النوافذ والهلال المستلقي، كل هذه الموجودات قد خضعت للمنطق المسبق في انضباطها لإنتاج الاكتمال، وهذا ما يقبض على الرائي ليوجه تفسيره، إن انضباطها دال على اكتمال متمنى شأن اشتراطات الاكتمال في النص اللغوي، إنه انضباط موصى به من أبوية متبناة إلى قارئ ينتمي إلى بنوة مستمرة لا تخرج عن نقصانها واحتياجها الوصول إلى المعنى.
ثنائية من ضحك وبكاء هي التي تقدمها (قراطيس العائد) وفي العنوان هذه المزحة الناتجة عن المفارقة، لذا الشاعر يقهقه في قصيدته، هذه القهقهة.. هذا الضحك المبطن بمعكوساته المطردة في أسطر القصيدة. المعكوسات تملأ الكتاب كله لا القصيدة وحدها. والضحك هنا نوع من تأبين النفس، يستخدم الشاعر إشارة موجهة في تأريخ كتابة القصيدة ومكانها: (خارج العراق _ الشهر الخامس من سنة 2003 الميلادية) خارج العراق غير محدد ببلد ما، كأن الكون انقسم إلى داخل العراق وخارجه، كما أن التاريخ يحمل بمفارقة تحرير البلاد واحتلالها، العراق قاسم للمكان وللزمان، هو الفاصل البرزخ بين الموت والولادة، العدم والوجود، الضحك والبكاء.
أما الصورة فمقسومة هي الأخرى بخط عازل طويل تنتشر بينه أشباح الشخوص الموجودة لتكون دالة على المفارقة هي الأخرى خارج المواضعات المعتادة لانوجاد الأشخاص ولترتيب أماكنهم المنطقي.
ربما تتفق دلالات الصور والشعر إلا أن التلقي إذا ما تغيرت مناخاته ومساحات تلقيه وظروفه لا بد من أن يوسع هذا الاتفاق أو يقلل من نطاقه.
في (هفوات الخطوة الأولى) يكون للصورة دور موجه لتلقي النص الكلامي فشكل الفم الأنثوي المبتسم هو شكل ورقة متطايرة من شجرة أكاسيا، يترجم هذا المعنى النص:
الأكاسيا تفوح
تحت عريش السيدات اللواتي أقمن الموائد
ولكن الترجمة ككل ترجمة ليست أمينة بالطبع.
في قصيدة (العمى.. ماذا أبقيت للباصرة؟ محاولة لتعمير ذاكرة بصرية) يعلن المقصد الشعري عن نفسه بوضوح هنا في هذه القصيدة أكثر من القصائد الأخرى إن لم يكن الكتاب كله متجه إلى هذه الغاية. ثمة تثبيت مهووس للأمكنة ورصد لأسمائها وأوصافها وأبعادها التاريخية والتراثية والجغرافية والإنسانية، ثمة تأسيس نثري بمعنى النثرية مضاف إلى التثبيت الشعري، ثمة سعي للإمساك بالبلاد بأعلامها، بمحطاتها، بمقاهيها، بجسورها، بشوارعها، بأسواقها، بقواربها، بشرائعها.. إنها مطاردة للجذور، مطاردة مستعينة بالصور وبتمائم نفسية (مثل الانتخاء بكل ما هو معروف في العراق في مدنه ونصوص أعلامه وأسمائهم وطقوس عراقية أخرى)، وبالرغم من كل هذه العدة والعتاد للتحصن بالمكان يبدو الباث عاجزاً مهدداً بفقدان ذاكرته، بأن يغزو العمى باصرته، بأن يموت شأن ماضيه بالرغم من تحركه ورحيله والآفاق الممتدة أمامه.
هذه القصيدة محمّلة برثاء مزمن وبالفقدان وهي ناعية كل ما في الوجود مادام العراق مجسداً بكلية تتماهى معها كل فردية وتنتهي فيها.
لي رأي نقدي هنا أن النثرية المتضمنة في القصيدة لها وظيفة شعرية والتناوب بين الشعري والنثري أصلاً هو نوع من الوسائل لتعزيز قدرات القصيدة على الانزياح عما يريده الدافع الدلالي. فالنثرية مستثمرة لصالح سياق القصيدة وهي غير مقتطعة عن سعيها الدلالي وانزياحها عما هو معتاد قوله في النص الشعري.. وفي هذا اجتهاد شعري وتوغل في القصد.
في النهاية تعد تجربة (جذور وأجنحة) مميزة دلالياً وشعرياً بتوسيعها نطاق القول ونطاق الصورة واشتراكهما معاً وإعطائهما كليهما الحيوية والنفاذ باتفاقية مختلفة أو باختلاف اتفاقي تشغلان الفكر والمخيلة معاً، وقد عمّقت ذلك هذه المعكوسات أو الثنائيات المتقابلة شكلياً ودلالياً.