الأربعاء ١٢ تموز (يوليو) ٢٠٢٣
بقلم رامز محيي الدين علي

مهمازُ البقاءِ في قلمِ نعيمة

نهَمُ الإنسانِ إلى الغذاءِ والماء (1)

قدّمتُ فيما سبق مقالاتٍ عديدةً حول إيمانِ المفكّر والأديبِ الكبير ميخائيل نعيمة بالله عزَّ وجلّ، وبالإنسانِ على امتدادِ العالم، وبالشَّرقِ الّذي هو مصدرُ الإلهامِ وأرضُ رسالاتِ الإيمان. فقد استطاع هذا المفكّرُ والكاتب والشّاعر العبقريُّ أن يتقدَّم كبارَ المفكّرين والكتّابِ والشّعراء العالميّين شرقاً وغرباً في ميدان فلسفةِ الإيمان وعمقِ فهم الحضارةِ والإنسان، من أمثال تولستوي الرّوسيّ وفيكتور هوغو الفرنسيّ اللّذين قدّمتُ لهما مقارنةً فكريّة وحياتيّة تتناول نظرتَهما إلى الشّرق وإيمانَهما برسالاتِ الشّرق، ولا سيما برسالةِ خاتمِ الرّسل عليه الصّلاةُ والسّلام، وقد نشرتُ تلك المقارباتِ والمقارناتِ في موقع ديوانِ العرب الإلكترونيّ وفي مجموعتي الثّالثة (شموع الفكر) الصّادرةِ عن الدّار المصريّةِ السّودانيّة الإماراتيّة للنّشر والتّوزيعِ في القاهرة عام 2021م.

وفي هذه المقالةِ سأتناولُ جانباً آخرَ من إيمان نعيمةَ بالله والإنسانِ من خلال عمرِ الإنسان الّذي يبتدئُ بالجوعِ والعطش إلى الطّعامِ والشّراب، وينتهي بالجوعِ والعطش إلى المعرفةِ الّتي ليس بعدَها جوعٌ أو عطش، ولا ينتهي عمرُ الإنسانِ عند حافّةِ القبر، وإنّما ثمّةَ خلودٌ أبديٌّ في عالمِ الآخرة، وما عمرُ الإنسانِ على الأرض إلّا لمحةٌ من البصر بين الآزالِ والآباد، لكنّ هذه الفسحةَ من العمر بين المهدِ واللّحد قد حَشرَت فيها الحياةُ كلّاً من الزّمانِ والمكان، ولوّنَتها بجميعِ المشاعرِ والأفكار: من غبطةٍ لا تُوصَف وألمِ لا يُطاق، ومعرفةٍ صامتة وجهلٍ صاخب.. تدور دون توقّفٍ في حركةٍ لا تعرفُ السّكونَ، وكأنّها دولابٌ محورُ دورانِه قدرةُ الله، ومحرّكُه التَّوءمانِ: الجوعُ والعطشُ، وهذا ما عبّر عنه نعيمةُ في قوله: "بين المهدِ واللّحد فسحةٌ من الزّمان ندعُوها العمرَ. وهي لو قيسَت بمدى الآزالِ والآباد لبدَت لمحةً لا غير. ولكنْ يا لها من لمحةٍ حَشَرت فيها الحياةُ كلَّ الزّمان وكلَّ المكان، ولوّنتها بجميع ألوانِ المشاعر والأفكار.." .

يُولَد الإنسانُ طفلاً وفيه جوعٌ صارخ إلى ثديِ أمِّه، ثمَّ يشبُّ ويشيخُ فيموتُ، وفيه جوعٌ أخرسُ إلى ثديِ البقاء، فمبتداهُ جوعٌ، ومنتهاهُ جوع، وبين البدايةِ والنّهاية ثمّةَ جوعٌ ينتهي إلى جوعٍ، وعطشٌ يُفْضي إلى عطشٍ، وكأنّ في كلِّ لحظةٍ من حياتِنا مهاميزُ تدفعُنا إلى حيثُ ندري ولا ندري، فلا نستريحُ إلّا لنتعبَ، ولا نشبعُ إلّا لنجوعَ، ولا نرتَوي إلّا لنعطشَ، كما في قولِه: "يُولد الطّفلُ وبه جوعٌ صارخ إلى ثدي أمّه. ثمّ يشبُّ ويشيبُ ويموتُ وبه جوعٌ أخرسُ إلى ثديِ البقاء. فالجوعُ هو الفاتحةُ، والجوعُ هو الخاتمة..".

ولكي يوضّحَ نعيمةُ أنواعَ جوعِ الإنسان وعطشِه، فإنّه يشرح طبيعةَ النّفسِ البشريّة القائمةَ على ثلاثةِ محرّكاتٍ، هي: العقلُ الّذي تتوالدُ فيه الأفكارُ من الأفكار بغيرِ انقطاع، والقلبُ الّذي تتناسلُ فيه الشَّهواتِ وتتدافعُ تدافعَ قطراتِ الماء في الجدولِ الجاري، والدّم الّذي تتسابقُ كريّاتُه الحمراءُ في العروقِ تسابقَ النّحلِ في خليَّتِه إلى العمل، وبالتّالي فإنّ حاجاتِ الإنسان الأساسيّةَ -كما يرى نعيمةُ- ثلاثةٌ: جوعُ الفكرِ، وعطشُ القلبِ، وحركةُ الدَّم الّذي يقوم بسدِّ حاجاتِ الفكر والقلبِ والجسد: "هكذا تتوالدُ الأفكارُ من الأفكار بغيرِ انقطاع؛ وبغير انقطاعٍ تتدافعُ تدافعَ قطراتِ الماء في الجدولِ الجاري. وهكذا تتناسلُ الشَّهواتِ من الشَّهواتِ وتتزاحمُ في القلب تزاحمَ الشَّرارِ من النّار. وهكذا تتسابقُ كريّاتُ الدّم في العروق تسابقَ النّحلِ في خليَّته إلى العمل. فالفكرُ في جوعٍ دائم، والقلبُ في عطشٍ أبديّ، والدَّم في دأبٍ مستمرّ لسدِّ حاجات الفكرِ والقلبِ والجسد".

فها هو يقسِّمُ الجوعَ والعطش عند الإنسانِ إلى نوعين: الأوّلُ جوعٌ وعطشٌ من أجل البقاءِ، فالجوعُ إلى الغذاء، والعطشُ إلى الماء هما أدنى مراتبِ حاجاتِ الإنسان في سعيِه وحركتِه. والثّاني أجلُّ وأرفعُ، وهو جوعٌ إلى المعرفةِ الّتي لا جوعَ بعدها، وعطشٌ إلى الحرّيّة الّتي ينتهي عندَها كلُّ عطش. وبين هاتين المرتبتينِ من الجوعِ والعطش ضروبٌ لا تُحْصى من الجوع والعطش: "هو الجوعُ وتوأمُه العطشُ يدفعان بنا أبداً إلى السّعي والحركة. ولكنّهما أصنافٌ ومراتبُ. أدناها الجوعُ إلى الخبزِ والعطشِ إلى الماء، وأسماها الجوعُ إلى المعرفةِ الّتي لا جوعَ بعدها، والعطشُ إلى الحرّيّة الّتي ينتهي عندَها كلُّ عطش. وبين هاتينِ المرتبتين ضروبٌ من الجوع والعطشِ لا تقع تحتَ حصرٍ، كالجوعِ إلى اللّذَّات الجسديّةِ بأنواعِها، وكالعطشِ إلى الجاهِ والسُّؤددِ والجمالِ والمعرفة والسَّعادةِ وسواها".

ويرى نعيمةُ أنّ النّوعَ الأوّل من الجوعِ الّذي لا يشبعُ والعطشِ الّذي لا يرتوي هو ما أوحى إلى المتشائمينَ من المفكّرين بالتَّشاؤم؛ لأنّ الحياةَ بدَت لهم حلْقةً مفرَغةً من السّعي الّذي لا ينتهي إلى هدفٍ ثابت، والتَّعبِ الّذي لا يُفضي إلى راحةٍ، كالمعريِّ في بيتِه الشّعريّ المشهور:

تعَــــبٌ كلُّها الحياةُ فـمَــــــا أَعْـــــــــ
جبُ إلّا من راغبٍ في ازديادِ

ويعلّلُ نعيمةُ سببَ تشاؤمِ هؤلاء بأنّهم جعلُوا للحياة بدايةً ونهاية، فهي تبتدئُ بالجوع، وتنتهي بالجوعِ، فقالُوا: "وأيُّ خيرٍ في حياةٍ أوّلُها جوعٌ وآخرُها جوع؟". وهذا القولُ لا مردَّ عليه إلّا في حالتينِ:

الأولى، إذا انعتقَ الخيالُ من رِبْقةِ البداياتِ والنّهايات فأبصرَ في الولادةِ والموت مرحلتينِ من مراحل عمرٍ طولُه طولُ الزّمانِ.
والثّانية، إذا أفلتَ الفكرُ من قيودِ اللّحمِ والدَّم فأدرك قصدَ الحياة من جعلِها الجوعَ مهمازاً يهمزُ الأحياءَ على الدَّأْبِ والتَّفتيش والتَّعلُّقِ بالبقاء.

وهنا يتجلّى عمقُ إيمانِ نعيمةَ في عدالةِ القدرةِ الإلهيّة الّتي ما أوجدَت الجوعَ والعطش إلّا وأبدعَت ما يسدُّ الجوعَ والعطش، ولو أنّ الحياةَ خلَت ممّا يسدُّ حاجةَ الكائناتِ من الغذاءِ والماء، لكان حقيقاً بها أن تُنعَت بأشدِّ أوصافِ الظُّلم والقسوةِ والاستبداد، ولكانَ الكُفرُ بها أولى من الإيمانِ بها: "لو أنّ القدرةَ المبدعةَ أوجدَت الجوعَ والعطش من غيرِ أن توجِدَ لهما الغذاءَ والرّيّ لحقَّ لنا أن ننعتَها بأشنعِ نعوتِ الظّلمِ والقسوة والاستبداد.. وإذ ذاكَ فالكفرُ بالحياة أولى من الإيمانِ بها، ولكنَّ الحكمةَ الأزليَّة أعدلُ من أن تظلمَ، وأحنُّ من أن تقسُوَ، وأنبلُ من أن تستبدَّ. ".

فها هي الحكمةُ الإلهيّة ما جعلَت حيّاً من الأحياءِ يجوعُ أو يعطش إلّا وخلقَت له ما يسدُّ به جوعَه ويُطفئُ عطشَه. فالأرضُ والسّماء بما فيهما من خيراتٍ مثقلةٌ بأصنافِ الغذاء والرّيّ لكلِّ ما في السّماءِ وعلى الأرض، فالكائناتُ بكلِّ أنواعِها وأصنافِها، بكلِّ منظورِها ومستُورها، تعيشُ ويتغذّى بعضُها على بعضِها الآخر: "فكأنّها خزّاناتٌ يملأُ بعضُها بعضاً بغير انقطاعٍ، فلا هي تفيضُ يوماً ولا هي تفرغُ لحظةً. إذ ليس في مُستطاعِ أيِّ مخلوقٍ أن يأخذَ مادّيّاتِ الكون أو معنويّاتِه إلّا على قدْرِ ما يُعطي، سواءٌ في ذلك الجمادُ والنّبات، والحيوانُ والإنسان. ونحن لو كانت لنا مقاييسُ دقيقةٌ إلى أقصى درجاتِ الدّقّةِ لأدركْنا أيَّ عدلٍ لا يُوصفُ هو عدلُ السَّماء والأرض."

وتبلغُ فلسفةُ الإيمان ذروتَها في فكر نعيمةَ حينما يطرحُ الأسئلةَ الكُبرى حول مصيرِ الإنسان، وهذه الأسئلةُ ومثيلاتُها لا يمكنُ أن تكونَ إلّا نتاجَ فكرٍ عظيم أدركَ حقيقةَ عمر الإنسانِ، وفهِمَ مغزى الوجودِ بأسبابِه وعِللِه وغاياتِه، فالحياةُ ما أوجدَت الجوعَ والعطشَ إلّا وملأتْ جوفَها بكلِّ ما يسدُّ الجوعَ والعطش، وطالما أنَّ الحياةَ تبدأُ بالجوع وتنتهي بالجوعِ عند حافّةِ القبر، فلا بدَّ لهذا الجوعِ من غذاءٍ ولهذا العطشِ من ماءٍ لتحقيقِ الشَّبعِ والارتواء، ولن يتأتّى ذلكَ إلا بإشباع جوعِنا وإرواءِ عطشِنا إلى البقاءِ وإلى السَّلامِ والعدلِ والجمالِ والطّمأنينة وإلى المعرفةِ الكاملة، وها هي أسئلةُ المفكّرِ والفيلسوفِ تفيضُ فيضانَ النّباتاتِ والأشجار من بذارِها تحتَ التُّراب لتَحيا حياةً جديدة على سطحِ الأرض، وعندَما تشيخُ تعودُ مرّةً أخرى إلى مأواها تحتَ الثّرى، وهكذا هي دورةُ حياةِ الكائناتِ غير الحيّة، فما بالُكم بالكائناتِ الحيّة العاقلة، أفليس جديرٌ بها أن تعودَ إلى دار الخلودِ والبقاءِ الأبديّ؟:

* "ومَن ذا يستطيعُ الجزمَ بأنَّ حافّةَ القبر هي الحدُّ الفاصلُ بين البقاءِ والفناء، وأنَّ الموتَ هو نهايةُ الحياة؟ بل مَن ذا يستطيعُ القولَ بأنَّ القدرةَ الّتي أوجدَتْنا قد سلَّطَت علينا الجوعَ والعطشَ لتجعلَنا عبيداً أذلّاءَ لهما، ولتلهوَ بآلامِنا وأحزانِنا لا لتُسلِّطَنا في النّهايةِ عليهما ولتمحوَ آلامَنا وأحزانَنا؟".

* مَن منّا لم يقُلْ يوماً في سرِّه أو في علانيّتِه: "ليتَنا نغلبُ الموتَ. وليتَنا نحيا حياةً كلُّها سلامٌ، وكلُّها عدلٌ، وكلُّها جمالٌ وطمأنينةٌ، وليتَنا نعرفُ كلَّ ما نجهلُ"؟

ويرى نعيمةُ أنّ الإجابةَ عن هذهِ التّساؤلات الّتي يطرحُها بقوّة هي الدّليلُ على جوعِنا إلى البقاءِ وإلى السَّلامِ والعدل والجمالِ والطمأنينة وإلى المعرفةِ الكاملة، وهي البرهانُ على أنّ الغذاءَ موفورٌ لدَينا. وما علَينا إلّا أن نفتِّشَ عنه بكلِّ قِوانا، وأنّ الوصولَ إليه لا يتمُّ لنا في خلال عمرٍ واحد، وهذا: "كفيلٌ بأنَّ العمرَ ليس الحياةَ، بل مرحلةٌ من مراحلِ الحياة، وأنّ التّفتيشَ لن ينتهيَ إلّا بالوصولِ إلى المعرفة - معرفةِ الله. ومعرفةُ اللهِ هي الخبزُ والشّرابُ اللّذان يَفْنى فيهما كلُّ جوعٍ وعطش. وهي التّربةُ الّتي لا تنبتُ فيها بذورُ الحزنِ ولا تتأصَّلُ جذورُ الألم".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى