الثلاثاء ٢١ تموز (يوليو) ٢٠٠٩
بقلم سامي العامري

مَطَبُّ الفضيلة

ليس عندي ما أخفيهِ
ما أنا إلاّ فضيحةٌ مُتوارثةٌ
ولن تنفع حوّاءَ أو آدم ورقةُ توتٍ
حتى ولا غابةُ توت!

كان مستغرقاً في الإصغاء لموسيقىً شرقية تراثية يتصادح فيها العود والطبلة عندما دخل شقته المُطلِّةَ على نهر دجلة الذابل الآمل! صديقُهُ القديم الذي يسكن معه منذ إسبوع بعد أن قام بزيارة لبغداد مدينتهِ لأول مرة منذ ما يقرب من ثلاثة عقودٍ قادماً من منفاه البارد، واليوم يدخل شقة صديقه راجعاً من زحام بغداد وحزن شوارعها وهو يتأفف ثم جلس قبالته وفيما كان صديقُهُ الموظف العاطل منذ شهور يسكب من زجاجة العَرَق القوي على مهلٍ في كأسه وكان الوقت مساءً، سمع صاحبَهُ النحَّاتَ يقول: حقيقة أعجبُ من لامبالاتك وقدرتك على الإحتمال فها أنت سادرٌ في نعناعياتك وتتفاوحُ كحديقة!

فردَّ الموظف بانكسارٍ: تمنيتك الآن أن تطرق أبواب قلبي فلن يستقبلك بابتسامةٍ إلاّ الجرح! ولكن ما جدوى أن أشكو؟

قال النحات: أعرف قلبك يا صديقي وأمّا أنا فقد حلمتُ الليلة الماضية حلماً مبهماً لا أدريه ولكن أدري أنه كان مخيفاً، وهذا الحلم تكرر عدة مرات خلال الليلتين السابقتين،
أتعرف أنني أفكر أحياناً فأسأل نفسي: ماذا لو أُعفِيَ الإنسانُ من متاعب البحث عن نظيرٍ له؟

لماذا كُتِبَ عليه أن يبحث ويقلق ويشقى من أجل العثور على حبيبٍ او شريك حياةٍ يحبُّهُ ويفهمه؟

وهذه القوة المذهلة التي صنعت الكون بكل عظمته وإعجازه ألمْ يكن بإمكانها أن تجعل الإنسان الفرد مكتفياً بذاته دون حاجة لأحدٍ لا سيما في الحب؟

أيْ أن يعشق نفسَهُ وانتهى!

السؤال منطقي كما ترى............

إنهما صديقان تعارفا في الغربة غير أن الموظف لم يُطِق الحياة في المنفى فعاد في أول فرصة الى بغداد ليسكن فيها مؤقتاً فأمه وزوجته وأطفاله يعيشون في مدينة أخرى وظلَّ على تواصل مع صديقهِ النحات الذي لم يعد له أهلٌ أو أخوة وأخوات في بغداد فهم إمّا مثله يقطنون المنافي أو ماتوا ولم يودعهم وقد جاء لبغداد كذلك للبقاء إسبوعين وربما لفترة أقصر أو أطول لإتمام معاملة ولمعانقة مرابع الطفولة والصبى وزيارة بعض الأماكن والمعارض مع صديقهِ

ثم ليعود من حيث أتى...

لم يُخفِ شعورَه بالخيبة من حال بغداد ودوائر مؤسساتها وساستها وقبل كل هذا طريقةِ تفكير الكثير من ناسها، وعيهمِ الحضاريِّ والثقافي، آهٍ لهذا الجيل الذي يعيش في كنفها، هكذا تأوَّه

إذْ كان يعرف أن الأجيال السابقة لم تكن هكذا أبداً وخاصة في ستينيات القرن الماضي وبداية سبعينياته... أيريدون لبغداد أن تصبح عُشّاً لا تفقِّس فيه إلاّ بيوضُ الغبار؟
أنت يا بغداد التي وهبتِني سرَّ سعادتي الأولى فإذا متُّ حزناً عليك فستحزنين عليَّ دون شكٍّ ولكنْ هؤلاء الذين لم يكترثوا لحياتي - وأكثرهم غرباء عنك - أيُعقل أن يكترثوا لمماتي!؟
لذا لن أموت بسببك!

هذا ما قاله بعد أيام من وصوله.

أعاد على صديقهِ جملته السابقة نفسها: أيْ أن يعشق نفسَهُ وانتهى!

ثم قال: إدراكي هنا في محلِّهِ، أليس صحيحاً؟

وأضاف: وقد عبَّرتُ عن ذلك في عدة أعمال نحتية وجسَّدتُها على شكل كُتلٍ وأجسام منفردة توحي تقاطيع أعضاء الجسم فيها بالحيوية والإستغناء!

هنا علَّقَ الموظف والعاشق للكتب والموسيقى والعاطل منذ شهور: فكرةٌ تُغري بالتأمل!

ولكن ماذا عن استمرار الجنس البشري؟

أجاب: أنا قلتُ لك إن القوة الخالقة والخارقة التي خلقتْ ما لا يمكن للإنسان أن يصدِّقه رغم أنه يراه ويلمسه، لن يصعب عليها حلٌّ فهي لديها ما لا ينتهي من الإمكانات والوسائل، أية وسيلة، كأنْ يتمَّ التكاثر عُذرياً أو ذاتياً كما يحصل لدى البكتيريا والحيوان وحيد الخلية!

قال له الموظف: أعتقد أن هذا هو حلمك والذي تريد أن توحي لي بأنه رؤيا كتلك التي تباغت أصحاب القدرات الروحية الكبيرة ولكن هناك يا سيدي حلقة مفقودة في سلسلة معرفتك وحكمتك،

كنْ واسعاً، كنْ حاذقاً، إنك تجهل او تتجاهل أنّ ما يجعل الحب الحقيقي عميقاً ومقدساً هو متاعب الوصول اليه.

فردَّ النحات بطريقة لا تخلو من دهشة وهو يضع كفَّهُ تحت حنكهِ:
فعلاً أنك بريءٌ حَد الكآبة!

أنا لا أريد سوى راحة البال، ولأكُنْ أكثرَ صراحةً: أريد عالماً خلواً من الحب!
قال له: وكيف توصلتَ الى هذه القناعة؟

ردَّ بشيء من التوتر: إمرأة استدرجتني بلباقة الى حُبِّها فصدَّقتُ وفتحتُ لها كل خزائني الروحية.

فقال له زميله الموظف: أتصوَّرُ أن حالك هذه كحال شاعرنا الذي يقول:

أبكي الذين أذاقوني مودَّتهم
حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا!! (1)

أجاب النحات بانفعال: كلا، ففي هذا البيت عتابٌ رقيق بل هو إلى الغَزَل أقرب أمّا أمري فهو كحالِ مَن قال:

وأنتِ بما قربتِني واصطفيتِني
خلاءٌ وقد باعتدتِني بُعْدَ مُذنِبِ
وما الحبُّ إلاّ صبوةٌ ثم دَنوةٌ
فإنْ لم يكنْ كانَ الهوى رَوغَ ثعلبِ (2)

لذا فبعد عام من أحاديث الصفاء أعقبناه بلقاءٍ مجنون احترقنا سويةً بهِ وفيهِ ثم إذا بها تهجر، تتوارى...

لقد زرعتْ في نفسي مشاعر لم أكن أعرفها من قبل، مشاعرَ قريبة من الكراهية! والآن قلْ لي هل بإمكان الحب أن ينتهي الى كره؟

أجاب الموظف برزانة: بحدود معرفتي، نعم! ولكنْ كرهٌ من نوع آخر، وهو خارج اختصاص التحليلات النفسية التي أطربت الكثيرين!

لقد آمن الكثيرون بمدرسة فرويد مثلاً ولكن ربما ليس هناك واحد منهم فكَّر مثلي بأن يُخضِعَ فرويد نفسه الى التحليل النفسي! أي أن يتصور نفسه طبيباً ومِن مرضاه عالم النفس فرويد وليس في هذا غرور أو ادعاء.

والكراهية قد تعبِّر عن نفسها مثلاً بطريقة الإفراط في ممارسة الجنس مع مَن تكره، تماماً كما يُعطّل الحبُّ العميق الرغبةَ بالممارسة الجنسية لفترةٍ طويلة مع مَن تحب.

فعقَّب زميله النحات: أرجوك، لا تتطرق الى الجنس والدونيات!

فردَّ صاحبه الموظف معاتباً أو مُعنِّفاً بعضَ الشيء بالقول: إن الممارسة الجنسية والتي تلوح غليظة بل ومَسْخَرةً،
نجد أنَّ بإمكانها أنْ تتحول الى فعل شِعريٍّ فَذٍّ تكون أنت فيه على تماسٍّ رهيفٍ مع جوهر الكون بحيث أنك عندما تصل الذروة وتصلها شريكتُك يكون الله في الرَّحِم بتعبير أحد المتصوفة،

فهنا لا يرشدك عقلك المألوف فهو يذوب أو يتلاشى في عقلٍ كوني لا تعرفه ولكنه مع ذلك يرشدك وكل ما بمقدورك أن تفعله هو الإستسلام له
وهذا الإستسلام إنما هو الوحيد الذي لا يحمل معنى الضعف أو الهزيمة.

هنا سأل النحات باهتمام: كيف؟

أجاب الموظف: لا أريد أن أتعبك ولكن هناك مقولة فلسفية:

(لا توجدُ قطيعةٌ بين العقلين الغريزي والمكتسَب، فالعقلُ المكتسَب هو نتاجٌ للغريزي، بل لا ينفكُّ عنه، وقد ينفكُّ العقل الغريزي عن العقل المُكتسَب، فيكونَ صاحبُهُ مسلوبَ الفضائل) (3)
إحتارَ النحات بماذا يجيب واكتفى بأن تنهَّدَ!

فردَّ صديقه الموظف على تنهُّدِهِ بالقول: نعم، إنها آه! وأضاف: قبل أن أنسى أريد أن أسألك: هل أنت هنا للزيارة أم لتكملة ما بدأناه هناك من جدل بيزنطي!؟

فابتسم النحات وهو يقول: هاتِ سيجارةً هات.

أعطاه الموظف واحدة ولنفسه واحدة وأشعلهما وبعد أن سحبَ نَفَساً ونفثهُ قال:

دخان سيجارتينا المتصاعد هذا ليته يتكاثف فينزل مطراً إنْ لم أقل خمراً!:

يجنحُ للخمرة نوعٌ من أنواع بني الإنسانْ
حتى يتسامى كالحيوانْ!
فوق لوائحهِ، فوقَ فضائحهِ
فوقَ الكفر وفوق الإيمانْ!

وسأل بشكل مفاجيء: بالمناسبة ما الحكمة في تحريم الخمر؟

قال: سؤالك ملغوم! ورغم ذلك أجيب: لستُ متيقناً ولكن واضحٌ أنَّهم يقولون مَن يتناولها يفقد زمام عقلهِ.

هنا علَّقَ الموظف على كلام صاحبه بتوترٍ: وأين هي عقولنا التي نخشى فقدانَها!؟
فلو كانت لنا عقول سويَّةًٌ لما وصلنا الى هذا الدرك من الضِّعة والتخلف،
ثم إن المجتمعات التي أنت تعيش في وسطها، هذه المجتمعات الغربية وغير الغربية لِمَ لمْ تفقد زمام عقولها؟

فرغم أنَّ الخمر شائعة بينهم كالماء فها هم يذهلون البَشَرَ بعلومهم وصناعاتهم وتقنياتهم وآدابهم وفنونهم.

هنا حكَّ النحات صدغَه وضحك فقال: أعتقد أنك مُحِقٌّ! فللخمر محاسنها أيضاً، فهي مثلاً أعطتْ الغرب بودلير وأعطتنا أبا نؤاس ولثغته السكرى ونوافيرَ الأندلس وطيورها التي تستحم بالنبيذ! وكان بودي أن أشاركك كأساً فأجعلَ مزاجي نميراً لولا ضرورة نهوضي مبكراً بنشاطٍ نوعاً ما ولكن قبل أن أذهب لسريري دَعني أروِ لك حكاية على وقع موسيقاك التي بدأت تحفِّز وتحثُّ الروح!

فحين كان عمري تسعة عشر عاماً كنتُ طالباً مُجِدَّاً وأثناء تحضيري لامتحانات البكلوريا جاءت الى بيتنا أم أحد زملائي وأبناء منطقتي وكان ابنها هذا عابثاً نزِقاً، جاءت أمهُ ترجوني أن أطالع مع ابنها لعلَّه ينجح فقلتُ لها بخجلٍ:
ممنون يا خالة!

وهكذا رحتُ أمضي في بيتهم ساعتين كل يوم أطالع معه وفي أحد الأيام جاءت أختُهُ المتزوجة لزيارتهم حاملةً إبنها الذي لم يكن يتجاوز عمره عدة شهور فوضعتْهُ عند دخولها في غرفة الضيوف قريباً من طاولتنا وذهبتْ الى أمها
غير أن هذا الطفل بدأ بالصراخ ولم ينقطع عنه فجاءت أمه فألقمته المَصّاصة ذات الحَلَمة الإصطناعية فهدأ قليلاً ثم عاد للصراخ ثانية فجاءت أمه مرة أخرى ثم أعطته زجاجة الرِّضاعة فصمتَ عدةَ دقائق وعاد للبكاء!

فرجعت أمه وهي تعتذر لنا قائلة: وجدتُ الحل.

مضت دقائق معدودة فعادتْ فأعطته زجاجة الرضاعة مرة أخرى ورحنا نراقب الطفل وهو يغفو بكل وداعة، وحين سألتُها كيف حصل هذا؟
أجابت: وضعتُ له مع الحليب بضع قطراتٍ من الويسكي!

فالأب – والذي كان محامياً متقاعداً – كان بيته لا يخلو من هذا المشروب.

نعم، راقبنا الطفل وهو يخدر قليلاً قليلاً ثم ينام بسلام!!
وبهذا الحل استطعنا إكمال الدرس.

عَدَّلَ الموظف من جلسته قائلاً: رائع، وهذا يعني أنك عرفتَ الفضيلة والإحسان وفعل الخير منذ الصغر.

فردَّ عليه صديقُهُ النحات بالقول: ليته كان فِعْلَ خيرٍ ففي ذلك الزمن كان كلُّ شيءٍ يسير بالمقلوب فقد نجح زميلي في الإمتحانات النهائية وبعد عدة شهور أصبح ضابطاً في الحرس الجمهوري وأصبحتُ أنا مُطارَداً ومُتخفِّياً عن عيون الأمن!!

غابَ القمرْ
فحَمَلْتُ أشيائي لاخطوَ في شِعابٍ
ما أضاءَ شِعابَها غيرُ الخَطَرْ
حتى عَبَرْ
لكنْ الى أينَ العبورْ؟
بالأمس كان السجنُ قَيئاً
جَنْبَ حجرةِ آمِرِ الماخورْ!
قُلْ للجنوبِ
أكانت الصحراءُ في حَفلٍ؟
فَإنَّ ذِئابَها رَفَلَتْ
إذِ اجتَزْتُ الرمالَ الطوطميَّةَ
في مَسارٍ كالمَجامِرْ
يا نهرَ مِلْحٍ فوقَ نَبعكَ والمَصَبِّ
قد انحنى ظمَأي قَناطِرْ
وحمِلتُ لونَ الماءْ
غَيبوبةً، إغْماءْ
وتَعَثُّراً في التيهْ
حتى إذا ما لاح دجلةُ عمْتُ فيهْ
حَذَرَ (الكِلابِ)
 
فطافَ مُبْتَعِداً قصيدٌ أقْتَنيهْ!

 [1]


[1

(1) العباس بن الأحنف.
(2) بشار بن برد
 
(3) أبو الحسن الماوردي فقيه وقاضي قضاة عاش في نهاية العصر العباسي.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى