نفحاتٌ من رحاب البيت العتيق
الوجهة: أم القرى، بكة المباركة، مكة المكرمة.
الوسيلة: الحافلة مرة، والطائرة مرة نقلت الجسد، أما الروح فراحت تمتطي مطية الإيمان، فلا تعيقها القمم ولا القيعان، ولا تتعاقب في حساب زمانها ساعات أو دقائقُ أو ثوانٍ، اجتازتها كلها وانتظرتني في سماء مكة النوراني... واقتربنا من مكة،استقبلتنا سماؤها السابعة، وأرضها الخاشعة، فنحن ضيوفها، وضيوف ربها (جلّ جلاله)، ونبيّها (ص). خفق القلب، وهمست النفس .. نحن في مكة .. مكة المكرمة، مكة الانبياء من عهد سيدنا آدم (ع) إلى عهد النبي الخاتم (ص). هنا أقاموا وهنا قاموا وصاموا، أيّ كرامة تجلّلنا وأيّ مقامة تشرّفنا
وأقبلنا على الحرم الشريف، فاستقبلتنا المآذن الفارعة والأنوار الساطعة، واقتربنا من إحدى البوابات فخلعتُ نعليّ لأنني في المكان المقدس، ولا يجوز أن يدنّس. نزلتُ بعض الأدراج، ونزلَتْ على قلبي سكينةٌ وأوهاج، برودةٌ في الأوصال والأوداج، خشوعٌ ..خشوع، أقترابٌ .. ترقُّبٌ .. ودموع .. وظهر البيت أمام الحواس بشكله البهيج، تحفّهُ على الأرض جموع الحجيج، وصار اللسان يلهج بالتلبية والتهليل والتكبير، والقلب يسبح الرب القدير.
ألله.! هذا هو البيت العتيق .. الاجساد تقودها الارواح، حوله تدور تدور، وفوق سبع السموات يقابله البيت المعمور، حوله ملائكةٌ تدور.. وتظل الاجساد والارواح والملائكة فيهما تسبح الرب الغفور.
إقتربنا .. دخلنا باحة الحرم، ذابت أرواحنا في نبض الطّواف، تناغمت أصواتنا في ترانيم الهتاف: "لبّيك الّلهم لبّيك"، "الله اكبر الله أكبر"، "ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار".
يا ألله..! امتزجت الألوان والأصوات، واتّحدت الأرواح لتطوف في سماء الإيمان وتطلق التسبيحات.. هنا، لا فوضى لا غوغاء.. إنها صورة المكان، وبرهة الزمان .. من معرض صور العبادة في السماء.
يا ألله ..! طوفان من البشر، يحتضنه المسجد الحرام دون خطر، ملايين المسلمين، ملايين المؤمنين، ملايين المحبّين لك يا رسول الله، جاؤوا من كل قطرٍ وبلد، وهجروا الأهل والولد، ليشاركوا في هذا الموسم الأسعد.. الربّ واحد، والنّبي واحد، والقِبلة واحدة، والمسجد واحد، والهدف واحد. تختلف الألوان، وتختلف الأشكال، وتختلف اللغات ، وتختلف الجنسيات ويتّحد الجميع بالإيمان بالله الواحد وبرسالة سيّد بني الإنسان.
يا الله...! الطّواف سبعٌ، والسموات سبع، وفي كل شوط يرتقي إخلاصي وإيماني درجة أعلى, وترتقي روحي سماءً تلو الاخرى،وكأني بالملائكة ترحّب بالأرواح، والله يسكب فيها ومضةً من النّور والتّقوى. وفي الطّواف مرّت لحظات.. كنت أخرج فيها من جسدي،ومن بوتقة الزمان والمكان،وأشعر بمتعةٍ لا تحاكيها أيُّ متعة،متعة التجرّد من سجن الأبدان، ومن سجن الزمان والمكان، ثم لا ألبث أن أعود لأجد نفسي في أرض التوبة والغفران.
ألله..! يا وادياً غيرَ ذي زرعٍ، فصرتَ واديَ الزّرع، ومنبت الطّوع, ومهبط الرحمات، ومَصعد الطّاعات والابتهالات.
ها هنا جرى الامتحان، وكانت الاجابة كالسهم في كبد الزمان: " إذاً لن يضيِّعَنا"، ولم يضيِّعهم ربّهم، بل أفضل الإكرام أكرمهم. وما زالت "قلوبٌ من الناس تهوي إليهم "، وما زال الرحمن يكرم ضيوفه وأهل حرمه، ومن الثمرات والخيرات يرزقهم، ومن ماء زمزم يروي ظمأهم.