الاثنين ٧ شباط (فبراير) ٢٠١١
قراءة في جماليات القص في
بقلم عبد الرحيم حمدان حمدان

والفجر الصادق موعدنا

مجموعة قصصية للدكتور محمد إبراهيم ماضي

محمد إبراهيم ماضي أستاذ جامعي، وأديب ، وداعية إسلامي، تعرفتُ إليه من خلال الكلمة الصادقة الهادفة المتمثلة في كتاباته في مجال الدعوة الإسلامية، وبرامجه الدعوية في الإذاعتين المسموعة والمرئية، بخاصة برنامجه «في رحاب الإسلام.»

واليوم تفاجئنا مجموعته القصصية الأولى التي تضم أربع قصص قصيرة بقدرتها على رسم لوحات روائية متكاملة، وهي قصص بالغة الوضوح، عميقة الدلالة، إذ تسجل رؤى مكثفة تحفل بالأدب الإيماني الصادق، وتعالج قضايا الشباب من منظور إيماني، كل ذلك عبر رصد قائم على جمالية التوتر والتعدد، وهذه قراءة من بين قراءات مختلفة في جماليات القص في «والفجر الصادق موعدنا»، لما تكتنزه هذه المجموعة القصصية من عمق رؤيوى، وإيحائية خصبة، وما تحتوي عليه عناصر التشكيل الجمالي المتنوعة مثل: عتبات النص واللغة الشعرية والتناص والمفارقة التصويرية وتيار الوعي وغيرها.
عتبات النص: وهي تسعف القارئ في استجلاء طبيعة النصوص وفك شفراتها ، ومن بين مجموعة العتبات التي توافرت عليها هذه المجموعة القصصية: العنوان والخاتمة.

عتبة العنوان: لا ريب في أن العنوان يشكل المدخل إلى عمارة النص، وإضاءة بارعة لإبهائه وممراته المتشابكة والتي ندلف منها إلى النص، والدليل لتمييز نص عن آخر، فهو يفتح أفق القارئ على كون أدبي معين، حافزاً إياه إلى متابعة الاطلاع عليه؛ بغية إشباع توقعاته الجمالية.

فعنوان المجموعة «والفجر الصادق موعدنا» يحمل دلالة موحية بالأمل الواعد، والإيمان الصادق والثقة الراسخة، بأن الفئة الصادقة هي المنصورة، وهو يحيل مباشرة إلى تناص يستدرج نصاً غائباً؛ ليحوره ويضعه فى نسق جديد يثير في ذهن المتقي تعبيراً منفتح الدلالة، ويشحنه بإيحاءات ثرة تعكس أجواء المتن الخطابي، وهو قوله تعالى: (إن موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب). ويجيء حرف «الواو» في بداية العنوان؛ ليمثل دلالة مفتاحية فسيحة تشي باستمرار الأمل وامتداد إشراقه في نفوس الفئة المؤمنة ويزيدها يقيناً وإيماناً بعدالة القضية التي يؤمنون بها وهي تطهير النفوس وتزكيتها مما علق بها من أدران الدنيا؛ ومن ثم يأتي تحرير الوطن من دنس الأعداء.

ويمكن الإشارة إلى أن عنوان هذه المجموعة هو نفسه عنوان القصة الثالثة بها، ولعل الكاتب لجأ إلى هذه الإجراء؛ احتفاء بمكانة هذا النص ونضجه، أو تقديراً لشهرته ودرجة مقروئيته.

وحين نتأمل العناوين الداخلية للمجموعة، نلحظ أنها تأخذ اتجاها واحداً إلى المقصد ذاته، إنها كلٌ مسكون بما يبعث على الأمل في فجر صادق واعد للخلاص من واقع معاصر مأزوم، وهذه العناوين: هي على التوالي: «قل لاتناله العواصف، الشيطان ليس ولدي، فلسطينية هويتها الإيمان».

عتبة الخاتمة: المتأمل في خواتيم تلك القصص يجد أنها جاءت منسجمة ومترابطة فيما بينها من جهة، ومتناسقة ومتناغمة مع الإطار العام للمجموعة الذي يريد الكاتب أن يبوح به.

التناص: ويقصد بالتناص تداخل النصوص الغائبة وتفاعلها مع النصوص الحاضرة، ويمكن القول بأن مجموعة« والفجر الصادق موعدنا» حقل مترع حتى حوافه بعلاقات التناص المختلفة، فالمتناصات تفتح فضاءات رحبة بالمعاني والدلالات المتعددة، وتغذي المحكي الروائي في أحداثه وشخصياته ووصفه وسرده وحواراته، وهي تنمو معها وتنميها.

ويحتل التناص الديني حيزاً كبيراً في هذه المجموعة ما بين: قرآن وأحاديث وشخصيات، وهي متناصات تعمق أجواء المجموعة، وتضفي عليها أجواء من القداسة والجلال. ولعل غزارة هذه المتناصات الدينية في نصوصه الروائية راجعة في مجملها إلى ثقافة الكاتب واتجاهاته الفكرية التي استمدت عناصرها من ينابيع الإسلام وموارده.

ومن التناص الديني المباشر الذي يمتاح مادة الأولية من الفضاء القرآني ما جاء في صورة السرد القصصي قوله:"وفي هذه الأجواء النورانية التي تكاد أن تنقلب في حسّ « نعمان» إلى حقيقة، نظر بعين بصيرته، فإذا هو يكاد يلحظ السحرة بعد أن خالطت بشاشة الإيمان جذوره قلوبهم، بل إنه يسمع صوتهم، وهم يصرخون فى وجه فرعون:«فاقض ما أنت قاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا».

يستدرج القاص في هذا السرد القصصي النصَ القرآني، متصلاً بالقصص القرآني الذي دار حول شخصيته «فرعون» رمز الظلم والكفر والعصيان والتمرد، وشخصية المؤمنين من السحرة رمز الخير والإيمان والصدق، وقد جاء الكاتب بالتناص القرآني؛ ليكون خاتمة لهذا الصراع؛ ليشعر القارئ بأن الصراع بين الكفر والإيمان سيحسم لا محالة لصالح الفئة المؤمنة الصادقة.

أما التناص غير المباشر الذي يُدرك عن طريق الإشارة والإلمامة، فيتمثل في قول القاص على لسان البطلة حكاية عن «زوجها الشهيد» ... ذلك أنها أحست أنه مقبل يطير بجناحه فوق روضة غناء، ومعه ملائكة بيض الوجوه، عليهم ملابس خضر من سندس وإستبرق، كيف لا؟ وهو لا ينفك يستغيث الله أن يرزقه الشهادة، مقبلاً غير مدبر، صابراً على رصاصة تأتيه في القلب، فتفجر الدم الزكي، يأتي يوم القيامة، اللون لون الدم، والريح ريح المسك.. ولقد صدق أبو عبد الله ربه، فصدقه ومن عليه بالشهادة"

هذا التعالق والتداخل بين المتناصات الدينية الغائبة من: قرآن كريم، وأحاديث شريفة، واستدعاء للشخصيات التراثية «شخصية جعفر الطيار»، والأحداث الإسلامية، وتفاعلها واشتباكها مع النص الحاضر، لتشكيل نص جديد، يوحي برؤية القاص الفكرية، وتجربته الشعورية التي تتمحور حول حقيقة البذل والتضحية والفداء في سبيل الله والوطن.

ويجئ شحن القاص لهذه المتناصات بما تحمله من إيمان صادق مندغماً في مناخ مجموعته القصصية، ويجري في نسيجها المائج بالوعد الحق الصادق.

شعرية اللغة :

لا شك أن الفنون الأدبية تتداخل فيما بينها وتتشابك، بحيث تصبح الحدود التي تفصل بين ما هو شعري، وما هو نثري واهية واهنة، فالنثر لا يبتعد كثيراً عن تخوم الشعر.

وشعرية اللغة تقوم بدور مهم في القصة إذا ما أحكم توظيفها، فهي تُدخل القارئ في عالم الحلم المتخيل، وتسهم في بناء الحدث، وإثراء السرد، ورسم الشخصية؛ بمعني أن تكون لبنة في هندسة البناء القصصي، يصعب انتزاعها منه.

وقد لجأ القاص إلى استخدام اللغة الشعرية التي تستطيع أن تبوح بما يكابده من أحاسيس ومشاعر، فيستخدم الصور البيانية التي تسبر أغوار الشخصية ومكوناتها النفسية وتجسدها. ويتجلى ذلك في رسمه لملامح الشخصية الداخلية، فيقول:" من يومها وثقتها بربها قوية كالصخور الصماء، عميقة كالمياه الزرقاء، مستمرة معها ما تعاقب عليها الليل والنهار، رغم رماح المنايا التي تتخطف من حولها القريب والبعيد، وتطبق عليها كليالي الشتاء في المحاق".

يصور الكاتب في هذه الفقرة لوحة متكاملة للبطلة، تتعاون في رسمها الظلال والألوان التي تتولد منا إيحاءات ودلالات خصبة تنبعث من المفردات التي تنبع من الجو النفسي الذي أراد الكاتب تصويره، وهذا يشي ببراعة القاص وقدرته على تحديد ملامح الشخصية وقسماتها الداخلية.

وفي مكان آخر من القصة يعمد القاص إلى استثمار اللغة الشعرية في إجراء حوار درامي متدفق؛ لدفع أحداث القصة وتعميق توترها الممزوج بالسخرية اللاذعة والتهكم المر، يقول في الحوار الذي دار بين ضابط المطار والبطلة المرأة العجوز زوجة الشهيد:
 أنا لا أريد بالطبع اسمكِ.
 يا بُني، أنا زوجة على المقدسي، هل تعرفه؟

نظر إليها باشمئزاز واحتقار ثم قال:

إنه وأمثاله سبب الهزيمة، لا داعي لمعرفته، إن ذلك لم يزدني شرفاً، وماذا بعد
إن هذه اللغة التي تحاكي لغة الحياة اليومية مبنية على ما تكتنزه المفردات من إيحاءات وما تموج به من ظلال تعبر من خلالها الألفاظ بتفجير دلالاتها المعنوية والرمزية، وقد جاء استخدام أسلوب الحوار الدرامي الممتزج بتقنية السرد القصصي؛ ليكشف عن خبايا ودلالات مستكنة في نفوس الشخصيات يريد كشفها وتأكيدها.

المفارقة التصويرية: تعد المفارقة التصويرية احدي الوسائل الفنية التي يلجأ إليها الأديب لإبراز التناقض بين طرفين متقابلين، ليوضح حدثاَ أو يرسم شخصية.

وتقوم المفارقة التصويرية فى قصص المجموعة بدور بنائي فاعل داخل المعمار الفني للقصة: كالحدث والحوار والسرد ومن المفارقة التصويرية ما جاء في هذا الجزء من قصة "الشيطان ليس ولدي" يقول القاص على لسان والدة العميل الذي باع نفسه للعدو، وقد تمت تصفيته على الأيدي المتوضئة من المجاهدين الشرفاء:

" أنا لست أمه، فالشيطان ليس ولدي، أما أولادي ـ إن سألتموني عنهم ـ فهم كل شهيد بدمه الزكي تري الأرض المباركة وكل شجين ومعتقل ينتظر الشهادة في سبيل الله".

ويستثمر القاص المفارقة التصويرية في رسم ملامح شخصياته، معتمداً على مفردات اللغة التصويرية التي تتكئ على الرمز وسيلة تعبيرية للبوح برؤية القاص وموقفه من مثل هذا النموذج البشري المنبوذ، مستغلاً أسلوب التهكم اللاذع والسخرية المرة، يقول في مكان آخر:

" أي نوع من البشر كان سيد الوادي هذا؟ إنه من بقايا العماليق، وكان دائماً معه حراس على الأقل واحد عن يمينه وآخر عن شماله، وكلب نحس أمامه.. من حقوق الأيامي و الآرامل، ومن قوت المساكين، ساهم في كل مشاريع الخير في الوادي، وفي القرى القريبة والنائية".

إن تجربة القاص محمد إبراهيم ماضي تحتاج وفي الواقع إلى دراسة أخرى، ففي هذه المجموعة إنجاز لغوي حقيقي، لا ينفصل عن إنجازها الغني الذي حاولت أن أقاربه في هذه العجالة؛ الأمر الذي يجعل هذه المجموعة القصصية واحدة من المجموعات القصصية التي تعبر عن الأدب الإيماني الملتزم.

اشترك الباحث بهذه المقالة في جلسة "صالون نون الأدبي" التي انعقدت يوم الثلاثاء الموافق 1/ فبراير سنة 2011 م بالأكاديمية الدولية بمدينة غزة تحت عنوان" صورة المرأة في أدب الدكتور محمد إبراهيم ماضي".

مجموعة قصصية للدكتور محمد إبراهيم ماضي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى