الأحد ٢٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٧
بقلم هاتف بشبوش

يحيى السماوي وأزاهيرِ حديقتهِ الكلماتية (3)

ما أروع الشاعر فهو قنينة عطر، هذه الكلمة لوحدها صاغها الروائي الألماني (باتريك زوسكيند)... وعمل منها رواية بإسم (العطر) و مُثّلتْ إلى فيلم عظيم من تمثيل (داستين هوفمان) وقد حقّق الكثير من الواردات في شبّاك التّذاكر حيث تشرح لنا الرواية ما أهمية العطر و ما مدى ملاءمته لكل إمرأة وإغرائها وما يعطيه لنا كرجال من خدرٍ روحي يجعلنا هائمين في ضوع الطيوب، أمراءًا أو أحفاداً للصعاليك الذين مرّ عليهم الشّاعر يحيى في ماسيته الآتية (أحفاد عروة بن الورد):

بـسـطـاءٌ
كـثـيـابِ أبـي ذرٍّ الـغـفـاري
خـفـافٌ
كـحـصـان عـروةَ بـن الـورد
راسـخـون كـالـجـبـال
يـكـرهـون الإسـتـغـلالَ
كـراهـةَ الـشـجـرةِ لـلـفـأس
يُـحـبُّـون الـعـدالـة
حـبَّ الـعـشـبِ لـلـربـيـع

هكذا هو يحيى واحدٌ من أحفاد عروة بن الورد، وهنا الشاعر يرمز بالأحفاد إلى الشيوعيين و اليساريين و الإشتراكيين ومُحبّي العدالة والمساواة. يحيى يحبّ الناس جميعا فما بالنا بالأصدقاء، حيث كرّس في ديوانه هذا وحده أكثر من خمسِ نصوصٍ مهداة إلى الأصدقاء ومن ضمنها نصّ مُهدى إلى صديقه هاتف بشبوش صاحب المقال هذا لنقرأ جزءاً منه:

نصّ ثلاثة حروف (ب..ر..ح)

إلى صديقي الشاعر هاتف بشبوش / استكمالاً لحديثٍ غير عابر

أعـطـانـا الله
حـرفَ "ب" واسـعـاً
كـسـفـيـنةِ نـوح..
أعـطـتـنـا الـرحـمـةُ
حـرفَ "ر" رشـيـقـاً
كـهـلالِ الـعـيـد..
وأعـطـتـنـا الـحـريـةُ
حـرفَ "ح" حـمـيـمـاً
كـجـنـاح حـمـامـة..
الـسـاسـةُ الـتـجّـارُ اسـتـولـوا عـلـيـهـا
فـكـتـبـوهـا "ربـح”..
الـظـلامـيـون اخـتـطـفـوهـا
فـكـتـبـوهـا "حـرب”..
أنـا
كـتـبـتـهـا "حِـبـر”..
وحـبـيـبـتـي
كـتـبـتـهـا "بـحـر”
لـذا
آمـنـتُ بـحـبـيـبـتـي
وكـفـرتُ بـالـسـاسـةِ الـتـجّـار والـظـلامـيـيـن

الراء من تفصل بين الحب و الحرب.. فالحرب ضحايا وموت.. والحب حياة وخصب..الحب هالة وطمأنينة ونومٍ على فراش وثير.. والحرب نكوص وانكسار و إنذار ونوم على الرمال والملاءات القذرة.

نص يتحدث عن السّاسة السرّاق و الذين يدعون الدين والمتاجرة به والكذب على البسطاء من عامة الناس (المنحطون هم بحاجه مستمرة إلى الكذب.. لأنه في ذلك سر بقائهم..نيتشه).

هؤلاء من يدعون انهم حماة الدين وناشروه شهدوا مع بصمتهم وعارهم من انهم أعظم عصابة للسرقة أنجبها العراق والعالم الإسلامي والغربي، يدعون التقوى بينما الثائر الراحل فيديل كاسترو البعيد عن الدين والتدين أسس كوبا الحديثة وامّم كل الامتيازات الإقطاعية ومن ضمنها مقاطعة ابيه، أهدى له صدام حسين سيارتين مرسيدس في موديلهما الأخير بعد مؤتمر هافانا لعدم الانحياز ولم يستخدمهما وبيعت في المزاد العلني و أضيفت للمالية العامة.

قبل أربعمائةِ عام كتب الفرنسى الكبير موليير مسرحية اسمها تارتوف، رسم فيها شخصية رجل دين فاسد يسمى (تارتوف)، يسعى إلى إشباع شهواته الإنسانية الرخيصة وهو يتظاهر بالتقوى وقد ثارت الكنيسة الكاثوليكية آنذاك بشدة ضد موليير ومنعت المسرحية من العرض خمسة أعوام كاملة وبرغم المنع فقد تحولت مسرحية تارتوف إلى واحدة من كلاسيكيات المسرح حتى صارت كلمة تارتوف فى اللغتين الإنجليزية والفرنسية تستعمل للإشارة إلى رجل الدين المنافق. فمتى يجتهد الشعب العراقي ويعلن صرخته فيأتينا برمز لسرقة قوتنا ومالنا من قبل رجال الدين هؤلاء الذين إتخذوا الرموز المتوفاة منذ قرون كشماعة يعلقون عليها كل فتاواهم والذين اتخذهم الشاعر يحيى من انهم سبب تلاحم الوطن بكل أطيافه وأنا أرى عكس ذلك.... لنر بخصوص هذا في جداريته (تماثيل وجداريات):

ولـلـعـراق:

جـِداريـةً
من صـلـواتِ مـوسى الـكـاظم
وتـسـابـيـحِ
عـبـد الـقـادر الكـيـلاني!

لا أدري لماذا أجدُ نفسي لستُ متفقاً مع هذا القول ويبقى مجرد رأي قابل للنقض، و أنا أنطلق من أنّ العراق في حرب وقتال وضغينة وحقد من جراء هكذا رموز منذ أكثر من قرون واليوم وعلى مستوى عالم عربي و ما نراه من حرب طائفية قتلت الكثيرين و ما يزال الحبل على الجرار. ولكنّي أعتقد من أنّ الشاعر يحيى أراد من خلال النصّ أن يزرع بذور التلاحم بين الأطراف المتحاربة و المتضاغنة. وحتّى هذه لا تنفع لأن كلا الطرفين جاهلٌ يدّعي الأفضلية فهم حتّى اليوم في قتال مرير كما الصومال المستمرّ في القتل بلا هوادة منذ أكثر من ثلاثين عاماً ولنفس السّبب. فالشاعر يحيى ينطلق من كونه الشاعر الرّهيف الذي لا شأن له فيما يتّخذه ساسة الصدفة اليوم لهذه الرموز الدينية كوسيلة لتمشية مآربهم في قتل وتجهيل الناس ودفنهم في مقابر جماعية. لنتمعن الروح الخفيفة للشاعر يحيى في (ريشة):

أنْ أكـونَ ريـشـةً
فـي جـنـاحِ عـصـفـور
يـلـقـطُ قـمـحَ الـمـحـبـةِ
خـيـرٌ لـيْ
مـن أنْ أكـون
جـنـاحـاً عـلـى سَـعـةِ الأفـق
لـنـسـرٍ لا يـتـوانـى
عـن
نـهـش الـجـثـث

في النهاية أستطيع القول من انّ هذه هي حقيقية الشاعر يحيى السماوي أعلاه بين عصفوريتها الرقيقة واحتقارها للنسرية الوحشية. تلك الحقيقة التي رَسمت لنا من خلال الديوان أنّ الإنسان محكوم بجبرية الكاتب الفرنسي الوجودي (البيركامو) وهي مثلثة الجنس والجوع والوضع الاجتماعي (ماركس و فرويد و بافلوف).

الشاعر يحيى في ديوانه هذا كتب عن الرغبة (الجنسانية) التي ولدتني.... ولدت الفلسفة المتمثلة بماركس و آدم سميث، ولدت الفنّ المتمثلة في بتهوفن و موتسارت، ولدت الغناء المتمثل بمادونا أو فرقة البيتلز وجون لينون أو عبد الحليم حافظ و داخل حسن وكاظم الساهر.. الرغبة هي الديمومة في الحياة وعدم الانقراض.. الرغبة هي الابتعاد عن الذات قليلا للذهاب إلى الإتحاد بين نصفي المعادلة الجنسية ثمّ الرّجوع إلى الذّات مرّة أخرى وهكذا دواليك حتى تستمرّ الحياة بلا توقّف. الرغبة هي التي مات دونها مجنون ليلى ثمّ ليلاه في حبّهما العذري القاتل. الرغبة هي (النساء اللواتي يتقاسمن رغباتنا، يضاعفن عذاباتنا، ويزدن مصروفاتنا ثلاثة أضعاف...أوسكار وايلد).

الشاعر في ديوانه هذا كتب عن الجوع وعن الرجال الأبطال الذين دافعوا عن الفقراء و أوّلهم أبو ذر الغفاري ثمّ أعطانا درسا في الاجتماعيات من أنّنا علينا أن لا نتألّم حين يدقّ القدر بابنا بل أن نتحلّى بالهدوء الرواقي قدر مستطاعنا حتّى لو جرفتنا عواطفنا.

يحيى السماوي استطاع من خلال ديوانه النثري هذا أن ينتج نصوصا بمستويات عالية وهو بهذا قد وصل إلى ذروة الحداثة مع اجتياز بعض التابوات. كما و أنّه استطاع أن يحقّق ما قاله (فريدريك شليغل)......في أنّه بإمكان الشاعر أن يجعل من كلّ قصيدة جنساً أدبياً مستقلاً بذاته................و هذا ما وجدته في القابلية المذهلة لدى صديقي الشاعر الكبير يحيى السماوي في تحقيق هذا الغرض و بمهارة و فنية فائقتين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى