الأحد ٢٣ حزيران (يونيو) ٢٠١٩
بقلم رامز محيي الدين علي

ينابيعُ الحياةِ

(هذه المقالة التي فازت بالمركز الأول في مسابقة فرسان الكلم التي تنظمها وزارة التربية في دولة الإمارات العربية المتحدة لعام 2018-2019)

الثقافةُ ينابيعُ تتفجَّرُ من رحمِ الفكرِ، كلَّما روَيْنا رياضَه بغَمامِ القراءةِ والبحثِ والتَّأمُّلِ مدجَّجينَ بأسلحةِ العزيمةِ والإصرار،ِ وسيوفُ عقاربِ السَّاعةِ تُطاردُنا لنيلِ أوسمةِ التَّحدِّي وتيجانَ الحضارةِ بينَ أممِ الأرضِ.

الأمَّة الَّتي تَبنِي حضارتَها على دعائمِ الفكرِ، يخلِّدُها التَّاريخُ، أمَّا الأمَّةُ الَّتي تَشيدُ حضارتَها على زخارفِ المادَّةِ وطفرةِ الذَّهبِ والألماسِ، فسرعانَ ما تئِدُها حركةُ التَّاريخِ في قبورِ النِّسيانِ!

ويجبُ ألا ننسَى أن قوَّةَ الإنسانِ البدنيَّةَ تخضعُ لقانونِ التَّبدُّلِ والضَّعفِ والتحوُّل، كلَّما تراكمَتْ عليها سنون العمرِ، فتنتَهيْ بها النَّضارةُ إلى ذُبولٍ، والشَّبابُ إلى شيخوخةٍ والصِّحَّةُ إلى سَقمٍ، وثورةُ الهيَجانِ إلى رمادٍ تذروهُ رياحُ الأيَّامِ.

أمَّا قوَّةُ المخلوقِ البشريِّ الرُّوحيَّةُ والفكريَّةُ، فهي طاقةٌ متجدِّدةٌ، لا يعتريْها داءٌ، ولا يُطفِئُ شموعَها المتَّقدةَ شيخوخَةٌ، و لا تُبدِّد قِواهَا المتربِّعةَ جبالاً شامخةً في حنايا الفكرِ والنَّفسِ أعاصيرُ الَّليالي الحالكاتِ مهمَا عصفَتْ بزفيرِهَا، ومهمَا زمجرَتْ بهديرِهَا، فقوَّة البدنِ إلى شيخوخةٍ، وقوَّةُ الرُّوحِ والفكرِ لا تَشيْخُ، كمَا عبَّر عن ذلك مفكِّرُنا العربيُّ نجيبٌ الكيلانيّ:

"القوَّةُ الحقيقيَّةُ هي قوَّةُ الرُّوحِ والقلبِ والفكرِ، وهيَ لا تشيخُ أبداً".

الأمَّةُ التي لا تَجترُّ ماضِيَها اجترارَ المواشِي للطَّعامِ، لا تخشَى على أضراسِها من التسوُّسِ والتصدُّعِ والانكِسار..

الأمَّة ُالتي يتبوَّأُ فيها علماؤُها مقاعِدَهم بين النُّجومِ، قادرةٌ على خوضِ غِمارِ معاركِها على سطحِ الكواكِب..

الأمَّةُ التي تحرصُ على إيصالِ نورِ العلمِ إلى عيونِ أبنائِها، تتحدَّى كلَّ البراقعِ والسُّدولِ، ولا تهابُ البتَّةَ غياهبَ الظُّلُمات..

الأمَّةُ التي يرى قادتُها أفكارَ أبنائِها شُعَلاً متأجِّجةً لتجديدِ الحياةِ، لا يمكنُ أنْ تنالَ من عزيمتِها وساوسُ شياطينِ الإنسِ ولا الجِنِّ..

الأمَّةُ التي تُعنَى بغذاءِ عقولِ أبنائِهَا عنايتَها بغذاءِ أبدانِهم، لا يمكنُ أنْ تُصابَ بهيستيريا الجنونِ، ولا هَلْوسةِ المَنُون..

الأمَّةُ التي تُقدِّم مجلَّداتِ الثَّقافةِ والفكرِ لأبنائِهَا، تبنِي صُروحَ حضارتِها لبِنةً لبِنةً، وتُناطِحُ السُّحُبَ وتُسابقُ الشُّهُبَ..

عندَما يحرصُ قادةُ الأممِ على خلودِهم، يَبنونَ قصوراً للثَّقافةِ تُضاهِي قصورَهم..
عندَما يقودُ الأممَ رجالٌ يتسلَّحُون بالعلمِ والفكرِ والفضيلةِ، فأكبِرْ بتلكَ الأممِ، وهلِّلْ لعظمتِها وشُموخِ صُروحِها..

الأمَّةُ التي تَحتفِي بالقراءةِ، وتفتحُ لهَا ميادينَ المنافسةِ والسِّباقِ والتَّحدِّي الحقيقيِّ، وتمنحُ أبطالَها أوسمةَ المجدِ والشَّرفِ، فإنَّها تبنِي جيوشاً من القادةِ في شتَّى ميادينِ الصِّراعِ والتحدِّي والبقاءِ..

في إحدى مدارسِ الفتياتِ في دبي (مدرسة العذبة) رأيْتُ أمَّةً تقرأُ، وأبصرْتُ نحلاتٍ تجنِي رحيقَ الأفكارِ؛ لتصنعَ شَهداً من عصارةِ الفكرِ والثَّقافةِ..

شاهدْتُ مع كلِّ نحلةٍ أزهاراً من كلِّ بستانٍ.. رأيتُ حافلةً تحملُ سِلالَ الأزهارِ من الشَّارقةِ؛ لتجنيَ رحيقَها نحلاتٌ من دبي..

فأكبِرْ بأمَّةٍ تقرأُ و بمدارِسَ تغرسُ فسائِلَ الفكرِ في صحراءِ الحياةِ!

وفي الختامِ أقولُ لكلِّ مَنْ يضيءُ التَّاريخَ بكتابِ علمٍ حقيقيٍّ غيرِ مُبَرقَعِ ببراقعِ التَّطبيلِ والتَّزميرِ والتَّمجيدِ والتَّكبيرِ لتجَّارٍ يَشترُون عصارةَ العقولِ، كما يبتاعُون المَواشِي في حقولِهم.. وأقولُ لكلِّ عالِم وهبَ نورَ عينَيهِ البشرِيَّةَ من أجلِ نهضةِ الإنسانيَّةِ ورُقيِّها وسعادتِها: أنتُم نورُ الحياةِ وبلسمُ الجراحِ وخمرةُ الرُّوحِ التي تستَمِدُّ منْها الأممُ طاقاتِهَا وأسبابَ بقائِها واستمرارِهَا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى