إبراهيم طوقان شاعر فلسطين الأول (1905- 1941)
– تغنى بالأرض، وهاجم من يبيعها، وحيا الثوار والشهداء .
– توفي في سن الشباب وهو لم يتجاوز السادسة والثلاثين من عمره .
وُلدَ الشاعرُ إبراهيمُ عبد الفتاح طوقان في قضاءِ نابلس بفلسطين المحتلة سنة 1905 م في بيت عرف بالعلم والأدب، وقد قال فيه احد الكتاب من أهل نابلس: "عذب النغمات، ساحر الرنات، تقسم بين هوى دفين، ووطن حزين" .
تلقى إبراهيم تعليمه الابتدائي في بلدته ، ثم انتقل إلى مدرسة المطران (سانت جورج) في القدس، حيث تفتحت عيناه على كنوز الأدب العربي ، وبدأ يحاول قرض الشعر. وفي سنة 1923 انتقل إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، ونشر ، آنذاك أول قصائده ، وكانت فترة الدراسة أخصب مراحل العطاء. نشر سنة 1924 قصيدة "ملائكة الرحمة" التي لفتت إليه الأنظار، ثم توالى نتاجه الشعري الوطني والإنساني الجيد، ولق به الصحف بشاعر الجامعة.
عمل مدرسا في مدرسة النجاح الوطنية بنابلس ، وبقي فيها عاما واحدا شهدت فلسطين خلالها ثورة 1929 ، فكان إبراهيم طوقان ينظم الشعر الوطني صرخات حافزة ونارا مشتعلة. ومن أشهر قصائده آنئذ "الثلاثاء الحمراء" التي ألقاها في احتفال مدرسة النجاح السنوي، ولم يكن قد مضى أكثر من عشرة أيام على إعدام الشهداء فؤاد حجازي ومحمد جمجوم وعطا الزير يوم الثلاثاء 17/6/1930.
تخرج من الجامعة سنة 1929. وبرع في الأدبين العربي والانكليزي، و أثناء دراسته في الجامعة كان نشيطاً في قسم المحاضرات الأدبية وقد ساعد الدكتور لويس نيكل البوهيمي في نشر كتاب "الزهرة" لمحمد بن داود الظاهري الأصفهاني.
عَمِلَ إبراهيم مابين العامين (1931 – 1933 ) مدرساً للغة العربية في الجامعة الأمريكية ، ثم عاد بعدها إلى أرض الوطن ، ليعمل مدرسا في المدرسة الرشيدية في القدس. ولكن المرض الذي أصيب به في معدته منذ أن كان طالبا في مدرسة المطران، اشتد عليه، فأجريت له عملية ناجحة ترك التدريس بعدها وعاد إلى نابلس ليعمل سنتين في دائرة البلدية، نظم خلالها القصائد الوطنية التي صور فيها وضع فلسطين آنذاك تصويرا صادقا.
وعندما تأسست إذاعة القدس سنة 1936، تسلم القسم العربي في إذاعة القدس وعُين مُديراً للبرامجِ العربية . وقد تصدى فترة عمله في الإذاعة لفئة متآمرة ، كانت تسعى سعيا حيثيا لتشيط اللهجة العامية، وجعلها الغالبة على الأحاديث المذاعة ، واستطاع أن يهزمها. ولكن الصهاينة وحلفاءهم ، اضمروا له الشر، فاتهموا البرنامج العربي الذي يشرف عليه بأنه مسخر للتحريض. وعندما كتب قصة "عقد اللؤلؤ" أو " جزاء الأمانة" التي اقتبسها من كتاب "الاعتبار" لأسامة بن منقذ وقدمها في أحد برامج الأطفال، ادعى أعداؤه أنها ترمي إلى تحريض العربي على المستعمر، فأقيل من عمله في أواخر سنة 1940 ، من قبل سلطات الانتداب.
إثر ذلك انتقل إلى العراق وعملَ مدرساً في مدرسة دار المعلمين ، وكان يعاني مرضا في العظام، فأنهكه السفر، عاد إلى بلده نابلس مريضا، ثم حمل إلى المستشفى الفرنسي بالقدس حيث توفي في مساء يوم الجمعة 2 أيار(مايو) عام 1941م . وهو في سن الشباب لم يتجاوز السادسة والثلاثين من عمره.
يتسم شعر إبراهيم بالجزالة والقوة في غير تعقيد، ويتراوح بين المحافظة والتجديد في الصور والمعاني والأوزان الشعرية. ولعله الأول بين شعراء العربية، في ابتكار الأناشيد القومية، وما تزال أناشيده حية تتردد في الإذاعات العربية إلى اليوم، وبخاصة نشيد "موطني". وهو، إلى ذلك شاعر غزل رقيق حلو الصورة، عذب النغم، لطيف الدعابة. يقول فيه الدكتور عمر فروّخ :"لقد بلغ شعر إبراهيم ثلاث ذرى متعاقبة: ذروة الحب، وذروة الشهوة، وذروة المشكلة الوطنية".
وقد تحدث إبراهيم عن الأرض، وهاجم من يبيعها في قصيدته " إلى بائعي البلاد " :
باعوا البلادَ إلى أعدائهم طَمَعا | |
بالمال لكنّما أوطانَهم باعوا | |
قد يُعذرون لَوَ انّ الجوعَ أرغمهم | |
واللهِ ما عطشوا يوماً ولا جاعوا | |
وبُلْغَةُ العارِ عند الجوعِ تلفظها | |
نفسٌ لها عن قَبول العارِ ردَّاعُ | |
تلك البلادُ إذا قلتَ: اسمُها «وطنٌ» | |
لا يفهمون، ودون الفهمِ أطماع |
ويوم عينت الحكومة المنتدبة يهودياً بريطاني الجنسية لوظيفة النائب العام في فلسطين، فأمعن في النكاية والكيد للعرب بالقوانين التعسفية الجائرة التي كان (يطبخها) ولما ثقلت على العرب وطأته، كمن له أحد الشبان المتحمسين في مدخل دار الحكومة في القدس، وأطلق النار عليه فجرحه .
فما كان من إبراهيم إلا وأن حياه في قصيدته الشهيرة " الفدائي " :
لا تسلْ عن سلامتِهْ | |
روحُه فوق راحتِهْ | |
بدّلتْهُ همومُهُ | |
كفناً من وسادته | |
يرقبُ الساعةَ التي | |
بعدها هولُ ساعته | |
شاغلٌ فكرَ من يرا | |
هُ، بإطراق هامته | |
بين جنبيه خافقٌ | |
يتلظّى بغايته | |
من رأى فحمةَ الدجى | |
أُضرِمتْ من شرارته | |
حمّلتْه جهنّمٌ | |
طَرَفاً من رسالته |
كما كرم الشهداء ، و قدم صورا رائعة عن بطولاتهم ، في قصيدته الرائعة "الشهيد" التي قال فيها:
عبس الخطبُ فابتسمْ | |
وطغى الهولُ فاقتحمْ | |
رابطَ الجأشِ والنُّهى | |
ثابتَ القلبِ والقدم | |
لم يُبالِ الأذى ولم | |
يَثْنِه طارئُ الألم | |
نفسُه طوْعُ همّةٍ | |
وجمتْ دونها الهِمم | |
تلتقي في مزاجها | |
بالأعاصير والحُمم | |
تجمعُ الهائجَ الخِضَمْ | |
مَ إلى الراسخ الأشم | |
وَهْي من عنصر الفدا | |
ءِ، ومن جوهر الكرم | |
ومن الحقِّ جذوةٌ | |
لفحُها حرَّرَ الأُمم | |
سارَ في منهج العُلا | |
يطرُقُ الخُلْدَ منزلا | |
لا يبالي، مُكبَّلا | |
ناله أمْ مُجَدَّلا | |
فَهْو رهنٌ | |
بما عزم |
وكان يحزنه خمود العزائم عند بعض حاملي عبء القضية الوطنية، ووقوفهم عند تقديم البيانات والاحتجاجات، ويؤلمه عدم مجابهة الخصمين: المستعمر البريطاني والصهيوني الغاصب:
لنا خصمان ذو حَوْلٍ وَطَوْلٍ | |
وآخرُ ذو احتيالٍ واقتناصِ | |
مناهجُ للإبادة واضحات | |
وبالحسنى تُنفّذ والرصاص |
وفي مواجهة المحو والإلغاء تصبح كل وسائل الاحتجاج المعتادة لغواً وعبثاً، ولا يقف أمام منهج الإبادة إلا منهج الشهادة. فالقوة تلغيها القوة:
لا يلين القويُّ حتى يلاقي
مثله عزّةً وبطشاً وجاها
وكما أدرك إبراهيم طوقان قيمة الأرض وجعلها في مرتبة القداسة أيقن أن الإنسان لا يستحق هذه الأرض إلا عندما يغسلها بدمه:
صهروا الأغلالَ وانصاعوا إلى
دنسِ الأرضِ فقالوا اغتسلي
ولطالما نقد الخلافات الحزبية وأصحابها، ودعا إلى استنهاض الهمم، وبذل الدم من أجل الوطن، لأن الكلام لم يعد يجدي:
وطنٌ يُبـاع ويُشتــرى وتصيحُ : «فَلْيحيَ الوطنْ»
لو كنتَ تبغي خيرَهُ لبذلتَ من دمكَ الثمن
ولقمتَ تضمد جرحَــهُ لو كنـتَ مـن أهل الفِطَن
و هكذا امتلك إبراهيم طوقان رؤية واضحة لطبيعة الصراع فوق أرض فلسطين، ولكنه لم يكن يمتلك سلطة القرار ليحيل هذه الرؤية إلى واقع، وإذ افتقدت فلسطين في ذلك الوقت القيادة التاريخية التي تتمتع بعمق النظر وصلابة الموقف، فإن مسار الأزمة كان واضحاً في مخيلة طوقان، إنه الكارثة:
لا تلمني إن لم أجدْ من وميضٍ
لرجاءٍ ما بين هذا السوادِ
• حياته .. شعلة من الثورة والتحدي
رحل إبراهيم طوقان مبكرا ، غير أنه بقيت لنا من شعره رؤيته الواضحة لآلية الصراع في الأرض المقدسة، وإذا كنا ندرك أن كلمات الشعراء مهما كانت حرارتها لا تكفي لتحرير وطن، فإننا على يقين بأن هذه الكلمات هي التي تذكّر الإنسان بالحق المغتصب، وتبقي هذا الحق مؤرقاً للوجدان حتى يستدعي الرصاصة التي تحرر الوطن وتحقق للقول الشعري نبوءته ووعده الذي لن يخيب.
عاش حياته القصيرة شعلة من الثورة والتحدي، في مواجهة الاستعمار البريطاني والغزو الصهيوني ، وقد طبع ديوانه، أول مرة، عام 1955 وفيه مقدمة مطولة عن حياته بقلم شقيقته الشاعرة فدوى طوقان. عن دار الشرق الجديد في بيروت، وقد حافظ شقيقه أحمد طوقان (رئيس وزراء الأردن الأسبق)، على القصائد التي اختارها إبراهيم وعددها (77) قصيدة واقتصر عمله على تشكيل بعض الكلمات.. وشرح بعض المناسبات.. وإضافة عشر مقطوعات غزلية، وبلغت أبيات هذا الديوان (1455) بيتاً تقريباً، واحتوى هذه الديوان - بالإضافة إلى القصائد - مقدمة لأحمد طوقان وكتيباً كانت قد أصدرته فدوى طوقان بعنوان: «أخي إبراهيم»، ثم رتبت القصائد حسب الموضوعات مع نشر بعض القصائد الطويلة منفردة، وقد ظلت هذه الطبعة تمثل الصوت الشعري المعروف لإبراهيم طوقان لجيل كامل من القراء العرب، وبقي الكثير من نتاجه الشعري مطموساً لا يعرفه إلا قلة من المعاصرين للشاعر والمتصلين به.
حتى جاءت دار القدس في بيروت عام 1975 وأصدرت طبعة جديدة لديوان الشاعر تُمّثل نقلة جديدة إذ ضمت الأشعار التي احتوتها طبعة دار الشرق، وأضافت إليها (36) قصيدة جديدة دون أن تذكر مصادرها، وبلغت أبيات هذه الطبعة (2132) بيتاً تقريباً، وفيها قام الدكتور إحسان عباس بترتيب الديوان ترتيبا زمنيا ، وخصَّ الأناشيد بحيز خاص ، كما أبقى على مقدمة فدوى وأضاف إليه دراسة بقلمه بعنوان "نظرة في شعر إبراهيم طوقان" ،. وظلت هاتان الطبعتان الأساس المعتمد لكل ما صدر بعدهما، فنهجت دار المسيرة نهج طبعة دار الشرق الجديد، وكذلك الأمر بالنسبة لطبعة دار العودة مع إضافة دراسة للدكتور زكي المحاسني عن الشاعر، بينما اتبعت طبعة المؤسسة العربية للدراسات والنشر طبعة دار القدس. وبعد أكثر من ستين سنة على غيابه ، أصدرت له مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري في سنة 2002 " الأعمال الشعرية الكاملة " ، من إعداد و ترتيب ماجد الحكواتي ، و قد بلغت عدد قصائد ومقطوعات هذه الطبعة (158) قصيدة ومقطوعة و عدد أبياتها (2530) بيتا تقريبا ، وفيها ملحق خاص لأربع قصائد اشترك إبراهيم طوقان في نظمها مع شعراء آخرين . أول هذه القصائد ، وعنوانها (حدائق الشام ) ، اشترك في نظمها: إبراهيم طوقان، وحافظ جميل (شاعر عراقي) ووجيه بارودي (شاعر سوري) في فتاتين كانتا في الجامعة (الأمريكية ببيروت) ها: ليلي تين، وأختها أليس تين، (وهما من دمشق)» من كتاب: «شاعران معاصران» لعمر فروخ»، ص31. ومطلعها :
يا تينُ، يا توتُ، يا رمّانُ، يا عِنَبُ
يا دُرُّ، يا ماسُ، يا ياقوتُ، يا ذهبُ !
اللهُ، اللهُ، ما هذا الدلالُ؟ وما
هذا الصدودُ؟ وما للقلب يضطرب ؟
القصيدة الثانية بعنوان ( وادي الرمّـان ) ، وعنها قال شريكه في نظمها الشاعر وجيه البارودي : " هذه القصيدة نموذج مفرد ، مبتكر نظمتها بالاشتراك مع المرحوم إبراهيم عبدالفتاح طوقان شاعر فلسطين ورفيقي في الجامعة الأميركية في بيروت. امتزج روحانا بكل كلمة وبكل شطرة فجاءت قصيدة لا يستطيع ناقد مهما حقق ودقق أن يجد دليلاً على ينبوعها الثنائي".
أما القصيدة الثالثة في بلا عنوان ، اشترك في نظمها كل من: إبراهيم طوقان، وعبدالرحمن عبدالمجيد، والشيخ محمد البسطامي وكلهم شعراء من مدينة نابلس. ومنها هذه الأبيات :
رعاكَ اللهُ ما تَصْنَـ
ـعُ، لو لاقيتَ سمسارا ؟!
إذا ألفيتُهُ في الدا
رِ، أهدمُ فوقه الدارا
وأجعلُ فوقه الأحجا
رَ، لا أترُكُ أحجارا !
وأجمعه بمِلقاطٍ
وأُضرِمُ فوقه النارا
أُصوِّبُ بين عينيهِ
أدقُّ هناك مسمارا
أُعلّقُ «لوحةً» فيها:
«ألا قُبِّحتَ سِمسارا!»
أما القصيدة الرابعة فموضوعها ، أن إبراهيم طوقان سأل صديقه الساعر عمر فروخ عن "قلوب طارت إلى حلب" فردّ عليه عمر بالبيت الأول ثم أكمل إبراهيم باقي الأبيات:
لقد طارت إلى «حلبٍ»
قلوبٌ شفّها الوجدُ
لِلُقيا من له حُسْنٌ
على الأكوان ممتدّ
كنور الشمسِ لا تخلو
وِهادٌ منه أو نَجْد
للقيا من بدتْ أَنْفا
سُهُ الريحان والنَّدّ
لقد عبقتْ فإن بَعُدتْ
يزدْ في طيبها البُعْد
للقيا من بدتْ «بَرَكا
تُهُ» الهِجرانُ والصَّدّ
• تراث عظيم لشاعر كبير ..
كتب إبراهيم طوقان القصة والمقالة والنقد الأدبي بالإضافة إلى الشعر. ومن ذلك: جبابرة التأليف بين الأمس واليوم وهي مقالة نشرها في مجلة الأماني البيروتية لصاحبها عمر فروخ, وقد وقع إبراهيم تلك المقالة بتوقيع (الأحنف) في العدد 30 سنة 1939 وأدب المنادمة عند ابي نواس في العدد 14 ومأساة ديك الجن الحمصي في العدد 5 سنة 1941 ومن مقالاته وتمثيلياته التي عملها لدار الإذاعة: مؤامرة على الفصحى/ عقد اللؤلؤ/ وفاء مزعوم/ أشواق الحجاز,
و لشقيقته فدوى كتاب في سيرته سمته "أخي إبراهيم ـ طبع سنة1946". ومن أعماله الأخرى: الكنوز، ما لم يعرف عن إبراهيم طوقان/ مقالات، أحاديث إذاعية، قصائد لم تنشر، رسائل ومواقف.إعداد المتوكل طه (ط 1: دار الأسوار- عكا. ط 2: دار الشروق، عمّان ، بيروت) .
قدمت سيرة حياته في مسلسل عراقي بعنوان (إبراهيم طوقان) ، كما قرر اتحاد الكتاب الأردنيين إعلان جائزة سنوية باسم الشاعر إبراهيم طوقان وذلك في حفل ذكراه المئوية في أيلول عام 2005.
منح اسمه وسام "القدس للثقافة والفنون" في يناير/كانون الثاني سنة 1990.
صدر عنه العديد من الدراسات والكتب نذكر منها :
1. رسائل إبراهيم طوقان إلى شقيقته فدوى، دار الهجر، بيت الشعر، رام الله2004 .
2. د. عمر فروخ، شاعران معاصران طوقان والشابي، بيروت، المكتبة العلمية، 1954.
3. البدوي الملثم،(يعقوب العودات)، إبراهيم طوقان في وطنياته ووجدانياته، المكتبة الأهلية ، بيروت،1964.
4. د. زكي المحاسني، إبراهيم طوقان، شاعر الوطن المغصوب، القاهرة، دار الفكر العربي، د.ت. (1956) .
5. عبد اللطيف شرارة، إبراهيم طوقان، دراسة تحليلية، دار صادر، بيروت، 1964.ط2 دار بيروت للطباعة والنشر 1982
6. وليد جرار، شاعران من جبل النار: إبراهيم طوقان ، عبد الرحيم محمود، مطبعة الخالدي، عمان، 1984.
7. حنا أبو حنا، ثلاثة شعراء، منشورات مجلة مواقف، 1995.
8. الدكتور يوسف بكار: (إبراهيم طوقان: أضواء جديدة)
رافق إبراهيم طوقان المأساة الفلسطينية مذ كانت مشروعاً إلى أن أصبحت أزمة ، وتوفي وهي توشك أن تتحول إلى كارثة، وفي خضم هذه العاصفة التي تهدّد الوطن والمواطن كتب شعره على ضوء الدم الفلسطيني. وقد فاز عن جدارة ، بلقب شاعر الوطن وسجل قضية بلاده في شعره القوي الذي يمتاز بذلك الطابع الفلسطيني الخاص، ويحس به كل من عاش ويعيش الأخطار التي تتعرض لها الأوطان.
وفي ختام مقالي هذا أنشر صورة قلمية لشاعرنا الكبير إبراهيم طوقان ، خطتها شاعرتنا الكبيرة ، شقيقته الراحلة فدوى طوقان ، راجيا المولى عز وجل أن يتغمد الفقيدان بواسع رحمته .
أخي إبراهيم
بقلم: فدوى طوقان
لا أحب إلي من ساعة آخذ فيها مجلسي من أمي، فتحدثني عن طفولة شقيقي إبراهيم رحمه الله، ويا له شعوراً حزيناً، يتسرّب في شعاب قلبي، حين تفتتح حديثها عن إبراهيم بهذه الديباجة التي تفعم نفسي بالرحمة لها، والحسرة عليه: «لقد بلوت في إبراهيم الحلو والمر، ولقيت فيه من الحزن وطارقات الهموم، أضعاف ما لقيت فيه من السعادة والهناء..» وتترقرق في عيني كل منا دمعة، وتعتلج في صدر كل منا لوعة، ثم تشرع هي، في حديثها عن طفولة إبراهيم، وقد أقبلت عليها بحواسي وقلبي وروحي جميعاً.
كان إبراهيم لعوباً إلى حد بعيد، لا يقتصد إذا أخذ بسبب من أسباب العبث واللعب، وكأنما كانت نفسه تضيق بإهابه فلا يهدأ، ولا يستقر. وهو في أحيان كثيرة على خلاف مع جدته لأمه، رحمها الله، إذ كان على وفاق مع طبيعته المرحة اللعوب، كان يعرف نزق جدته وضيقها بالضجة والحركة، فلا يألو جهداً في معابثتها واستفزازها، وذلك لكي تزجره وتنتهره برطانتها التركية التي كانت تخالطها من هنا وهناك كلمات عربية، لا تستقيم لها مخارج بعض حروفها فتأتي ملتوية عوجاء، تبعث إبراهيم على الضحك، ولقد تهمّ الجدة باللحاق به، فيفر منها.. ويتسلق إحدى شجرات النارنج التي تمتلئ بها ساحة الدار، وهناك يأخذ مكانه بين الفروع الغليظة الصلبة، وينتهي الأمر بينهما عند هذا الحد. ثم يشرع، وهو في مقعده ذلك من الشجرة، يترنّم بالأهازيج الشعبية التي كانت تروقه وتلذه كثيراً.
وإنني لأمثل في خاطري، ذلك الشيخ الوقور، جدي لأبي، رحمه الله متربعاً في كرسيه، مشتملاً بعباءته، وإلى جانبه حفيده الصغير إبراهيم، يتقارضان من الشعر والزجل «والعتابا» ما يعيه قلباهما.
وإنني لأمثل إبراهيم في خاطري كما يصورونه لي، واقفاً أمام جده يرتجل ما ينقدح عنه فكره الصغير يومئذٍ، من قول يرسله في وصف حادث حدث في البيت، فيه نكتة، أو طرافة.. وذلك في عبارات تكاد تكون موزونة مقفاة، يقلد فيها ما كان يستظهره في المدرسة من شعر، أو ما يعيه قلبه من قصص «عنترة» و«أبي زيد الهلالي» و«سيف بن ذي يزن»، تلك التي كثيراً ما أصغى إلى أمه وهي تقرأها لجده لأبيه، في أمسيات الصيف الجميلة، أو في ليالي الشتاء الطويلة.
كان ذلك التقليد من إبراهيم لأسلوب الأشعار التي يحفظها في المدرسة، ولأسلوب القصص التي يسمعها تُقرأ في البيت، يملأ نفس الجد غبطة، ويفعمها بهجة، فيأخذ حفيده إليه، ويحتويه بين ذراعيه، ويقول له بلهجة المعجب المتعجب: «... من أين تأتي بهذا الكلام يا إبراهيم!.»، ثم يأخذ كيس نقوده من جيبه، ويتناول منه قطعة، يقبضها إبراهيم، وينطلق بها مرحاً خفيفاً، كأنه طيف من الأطياف.
على مثل تلك المقارضات والمساجلات، وعلى مثل هذه المحاولة الصبيانية لقول الشعر، التي كانت تروق الجد، بما فيها من تسلية لشيخوخته، والتي كانت تستهوي الحفيد، بما فيها من إشباع لفطرة شعرية كامنة فيه، نشأ إبراهيم أول ما نشأ.
وفي هذه الأثناء أيضاً، كان إبراهيم يبعث بالعجب والطرب معاً في نفس معلمه، إذ يقف أمامه وقفته الخاصة كلما قام لينشد الشعر في درس الاستظهار، سواء أكان ذلك الشعر عربياً أم تركياً، فيلقيه إلقاء موسيقياً جميلاً، ينبعث له طرب المعلم، فيشرع، وهو المعلم الوقور، ينقر بأصابعه على المكتب نقرات إيقاعية، تساير ذلك الإلقاء الرائع الذي كان يزيد في روعته صوت خلاب آسر، عُرف له في مواقفه الخطابية فيما يلي:
كانت «المدرسة الرشادية الغربية» حيث تلقّى إبراهيم دروسه الابتدائية تنهج في تعليم اللغة العربية نهجاً حديثاً لم يكن مألوفاً في مدارس نابلس في العهد التركي. وذلك بفضل بعض المدرسين النابلسيين الذين تخرجوا في الأزهر، وتأثروا في مصر بالحركة الشعرية والأدبية التي كان يرفع لواءها شوقي وحافظ وغيرهما من شعراء مصر وأدبائها. هؤلاء المدرسون، أشاعوا في المدرسة روح الشعر والأدب الحديثة، وأسمعوا الطلاب للمرة الأولى في حياتهم الدراسية قصائد شوقي وحافظ ومطران وغيرهم، وفتحوا أذهانهم على أسلوب إنشائي حديث، فيه رونق، وفيه حياة، يختلف اختلافاً كبيراً عن ذلك الأسلوب القديم الذي كان ينتهج في المدارس في نابلس، والذي لم يكن ليخرج عن كونه أسلوباً تقليدياً عقيماً، لا تأثير له، ولا غناء فيه.
من هؤلاء المدرسين المجددين، المرحوم الشيخ إبراهيم أبو الهدى الخماش، وكان جريئاً صريحاً، ذا نزعة عربية صميمة، ومبادئ وطنية قومية، يجهر بها ويبثها في النفوس عن طريق خطبه وتدريسه ومجالسه، وذلك في عهد، كان الجهر فيه بمثل تلك المبادئ، يوفي بأهله على المهالك، وقد التحق في ما بعد بالثورة العربية، تحت لواء المغفور له الملك فيصل.
ومن هؤلاء المدرسين أيضاً، صاحب الفضيلة، الشيخ فهمي أفندي هاشم قاضي قضاة شرقي الأردن في وقت مضى.
أمضى إبراهيم أربع سنوات في هذه المدرسة، هي سنوات الحرب العظمى، وانتقل على أثر الاحتلال الإنجليزي مباشرة، إلى مدرسة المطران في القدس، وله من العمر أربعة عشر عاماً.
وهنا نعرض لشخصية تَعرّف بها إبراهيم في القدس، فكان لها انطباع في نفسه في ذلك الحين، تلك هي شخصية المرحوم الأستاذ نخلة زريق، وكان هذا متأثراً باليازجيين، واسع الاطلاع على الآداب الإسلامية العربية، شديد التعصب للغة، شديد الوطأة على كل عربي متفرنج يتهاون في لغته أو عربيته، وكان ذا شخصية قومية، لابد من أن تترك في أعماق من تعرف بها، أثراً منها.
كان المرحوم نخلة زريق مدرساً للغة العربية في «الكلية الإنكليزية» في القدس: فتح عيون طلابه على كنوز الشعر العربي، وحبّبها إليهم.
ولقد كان إبراهيم، وهو في مدرسة «المطران» يأخذ من شقيقه أحمد - وكان طالباً في الكلية الإنكليزية - منتخبات الشعر القديم والحديث، مما يختاره المرحوم نخلة زريق لطلابه، فيستظهرها جميعاً، وعن طريق أحمد، تعرف إبراهيم بذلك المدرس الأديب، فكانا يزورانه معاً في بيته الذي كان محجّة العلماء والأدباء في القدس، ويصغي إليه وهو يتدفق في حديثه عن الأدب والشعر، والعرب والعروبة.. مما كان له شأن في إيقاظ وعي إبراهيم على مؤثرات أدبية وقومية أخرى.
وإذ أتم أحمد دراسته في الكلية الإنكليزية، وتوجه إلى الجامعة الاميركية في بيروت، ظلت تلك الأسباب موصولة بين إبراهيم وبين المرحوم نخلة زريق، ولكن لمدة قصيرة، إذ توفي الثاني سنة 1920.
في هذه الفترة من الزمن، كان إبراهيم يحاول أن يقول الشعر الصحيح، فتلتوي عليه مسالكه، ولا يفلح فيه، إذ لم يكن قد درس علم العروض بعد.
وفي العطلة المدرسية، يعود أحمد من بيروت، ويلتقي الشقيقان في نابلس وقد حمل أحمد لإبراهيم، ما حصّله هناك من علم العروض، ويشرح له تفاعيل الأبحر الشعرية ويُوقفه على أصول القوافي، فيستوعب الشاعر المنتظر كل أولئك جميعاً، وكأنما فُتح له فتح في دنيا الشعر التي كان يتشوق إليها ويعقد آماله ومطامحه عليها.
وعلى أثر ذلك، يبدأ إبراهيم يقرزم الشعر قرزمة، ويقوله في المناسبات التي تعرض له، والأحوال التي تمر عليه في مدرسة المطران مما يوحي به الجو المدرسي، بما فيه من جد وهزل.
وفي مجموعة أشعاره التي نظمها خلال عاميه الأخيرين في مدرسة المطران، نحس بالشاعرية الكامنة التي كانت تأخذ عدتها، لتستعلن بعد حين قصير في شعره القوي، كما نلمس تلك الروح الوطنية المشتعلة التي أُشربها منذ الصغر، والتي أذابها في ما بعد، في شعره الوطني.
وفي سنة 1923 نشر إبراهيم لأول مرة إحدى قصائده، ويقول إبراهيم بهذا الشأن:
« لعلها أول قصيدة نُشرت لي في صحيفة. رحم الله عمي الحاج حافظ!. قرأها، فأبدى إعجابه بها «على سبيل التشجيع» وطلب إلي أن أبيضها لينشرها في الجريدة! في الجريدة؟. شيء يطيش له العقل، فأسرعت إلى تلبية طلبه، وعُنيت بكتابتها قيراطاً، وبوضع اسمي تحتها ثلاثة وعشرين قيراطاً... ثم أتيت بها إليه، قال رحمه الله: «أتضع اسمك هكذا: إبراهيم طوقان؟ لا يا بني! يجب أن تضع اسم الوالد أيضاً، إبراهيم عبدالفتاح طوقان، اعترافاً بفضله عليك، وبره بك...» أدب أدبني به عمي رحمه الله، لا أعلم أني وقّعت اسمي بعد ذلك إلا تذكرت قوله وعملت به في كل أمر ذي بال أردت نشره».
ولقد كان من أكبر الأسباب التي أعانته على أن يقول الشعر فيجيده بالقياس إلى صغر سنه، هو كثرة حفظه للشعر المنتخب، واحتفاله الكبير بالقرآن الكريم، فقد كان كثير التلاوة له، عميق النظر فيه. وأما ذلك الاحتفال منه بكتاب الله، فإنه يرجع بدواعيه وأسبابه إلى بيئة في البيت، يُعنى أصحابها بتنشئة أطفالهم على تلاوته والتشبع بروحه. ولم ينفك إبراهيم منذ صغره يقرأ القرآن، ويطيل التأمل فيه، حتى أصبح له ذلك ديدناً، لا يعوقه عنه عائق، ولا يصرفه عنه تقلبه في مختلف معاهد العلم الأجنبية في ما بعد، ولم تكن تلاوة القرآن الكريم تلاوة سطحية عابرة، بل كان يتجه إليه بقلبه وروحه، ويحس له في نفسه وقعاً عجيباً، وأثراً بعيداً، فيهزه إعجازه هزاً، وتفعل فيه بلاغته فعل السحر، ويستولي عليه خشوع عميق، يصرفه عن كل ما يحيط به.
انتهى إبراهيم من تحصيله في مدرسة المطران سنة 1922 - 1923 وانتقل إلى الجامعة الأميركية في بيروت، وهنا تبدأ أخصب مراحل حياته الدراسية، أو أكثرها ألواناً.
فها هو في بيروت، يظله أفق أدبي واسع لا عهد له بمثله في فلسطين، هنالك الأدباء والشعراء، وهنالك الدنيا براقة خلوب.. وهنالك بعد ذلك، السهم الذي كان ينتظره، منجذباً عن وتره إلى آخر منزع، يتربص به الفرص، لينفذه في قلبه الذي لم يكن قد مسّه الحب بعد..
في هذه الجامعة، يعرّفه شقيقه أحمد بأحد أصدقائه من الطلاب، وهو «سعيد تقي الدين»، وسعيد، من أولئك الذين يتذوقون الشعر، ويميزون بين صحيحه وزائفه تمييزاً صائباً، فيلمح هذا في شعر إبراهيم بارقات وصوراً شعرية، تلوح من هنا، وتستتر من هناك. وتساند أحمد وصديقه سعيد، وبدأا يوجهان إبراهيم التوجيه الصحيح في عوالم الشعر ودنياواته الرحيبة الجميلة.
وفي عامه الدراسي الثاني في الجامعة، وكانت شاعريته قد بدأت تزخر وتمتلئ، لتنبثق عن معينها بعد أن أخذت عدتها من هذه الصناعة الدقيقة، صناعة الشعر، نظم إبراهيم قصيدته في الممرضات، أو «ملائكة الرحمة» فكانت أول قصيدة لفتت إليه الأنظار في لبنان.
ففي هذا العام «1924» مرض إبراهيم، واضطره ذلك إلى العودة إلى نابلس، قبل انتهاء الفصل الدراسي الأول، وفي أثناء مرضه نظم تلك القصيدة، ونشرها في جريدة «المعرض» التي كانت تصدر يومئذٍ في بيروت فإذا العيون تتطلع إلى هذا الشاعر الناشئ، الطالب في الجامعة، وإذا بالصحف تتناقلها، نقلتها مجلة «سركيس» عن «المعرض» وعلقت عليها بقولها: «ولعله أول من نظم شعراً عربياً في هذا الموضوع»، وطُلبت القصيدة من قبل مجلة «التمدن» في الأرجنتين، وأُهديت إليه المجلة سنة كاملة، وكان مما علقته عليها قولها: «ولو كان كل ما ينظمه شعراؤنا في هذا الباب من هذا النوع، لكان الشعر العربي في درجة عالية من القوة والفتوة» ونقلتها جرائد ومجلات أخرى، وكلها تُطري الشاعر، وتشجعه.
أما هذه القصيدة، فهي وإن تكن قد قيلت في موضوع الممرضات، غير أن قسماً كبيراً منها، كان في وصف الحمام، تلك الطيور الوديعة، التي كان يُغرم بها إبراهيم، ويُعنى باقتنائها وتربيتها، أيام صباه، وتحدثني أمي، كيف كان وهو طفل ينجذب إلى هذا الطائر انجذاباً خاصاً، ويتأمله محوّماً رائحاً غادياً، وكيف كان إبراهيم إذا وقف كل صباح ليغتسل على حوض الماء الذي يقوم في صحن الدار، أطال هناك الوقوف مستغرقاً في تأمله لأسراب الحمام، وقد حفت بالماء تغتسل وتعبث بريشها، فلا يزال على وقفته تلك، إلى أن ينبهه والده إلى إبطائه على المدرسة.
وهكذا يمضي إبراهيم في طريق النظم، وكانت نشوة توفيقه في قصيدة «ملائكة الرحمة»، قد فعمته بالزهو والخيلاء كما يقول، إلى أن تلقاه درساً أليماً، أوحى إليه يومئذٍ بقصيدة عنوانها «عارضي نوحي بسجع» وفيها تنعكس حالته النفسية الثائرة، التي ترجع بأسبابها إلى الدرس الأليم الذي تلقاه.
يقول إبراهيم بهذا الصدد: «كنت قد توفقت في قصيدة «ملائكة الرحمة»، وسمعت كثيراً من كلمات الإعجاب بها، فخُيّل إلي أن كل قصائدي في المستقبل، ستكون مثلها مدعاة للإعجاب!؟ وأخذت في نظم قصيدة غزلية، وأنا مفعم بزهوي وخيلائي، وأخذت أغوص على المعاني، وأتفنن بالألفاظ!!. وكان يشرف على نشأتي الأدبية اثنان من الزبانية هما أخي أحمد، وسعيد تقي الدين، فهرعت إليهما لأسمع إعجابهما وأنتشي به، وتلوت عليهما القصيدة، وظفرت بالإعجاب!... وتركاني، وعادا إلي بعد قليل. قال أحمد: «أخي أنا لا أفهم القصيدة جيداً حين تتلى علي، أريد أن أقرأها بنفسي»، فناولته القصيدة، ودنا رأس سعيد من رأس أحمد، وشرعا في قراءة صامتة، ثم كانت نظرات تبادلاها، أحسست منها بمؤامرة.. وإذا بالقصيدة تُمزّق، وإذا بها تُنسف في الهواء. قال أحمد: «هذه قصيدة سخيفة المعنى، ركيكة المبنى»، قال سعيد: «ليس من الضروري أن تنظم كل يوم قصيدة»! قال أحمد: «كلها تكلف وحذلقة!». قال سعيد ليهوّن أثر الصدمة: «لا بأس بها، لكنها لا شيء بالنسبة إلى قصيدة ملائكة الرحمة، اعمل كل سنة قصيدة مثل ملائكة الرحمة، وكفاك».. قال أحمد... وقال سعيد.. ولكن كان رأسي بين أقوالهما كأنه في دوار، ولم أتمالك عن البكاء، وتركتهما حانقاً ناقماً، وبعد ساعة كان سعيد فوق رأسي - وأنا لا أدري - يتلو أثر تلك الصدمة في قصيدتي: «عارضي نوحي بسجع». فاختطفها، وعاد إلي بها في الصباح، وعليها الجملة الآتية بقلم عمه الشيخ أمين تقي الدين: «روح شاعرة، ليتها في غير معاني اليأس، فالشباب واليأس لا يلتقيان، أما النظم، فيبشر بمستقبل فيه مجيد».
«قسوة وعنف، أفاداني أن أكون مع نفسي بعدئذٍ قاسياً عنيفاً، أمزق القصيدة حين أشعر بالتكلف يدب فيها، وأن أقف موقف الناقد الهدام، أحطم شعري بيدي، أو أبديه وأنا راض عنه، ضامن رضى قارئه أو سامعه. أحمد وسعيد ليسا من الزبانية، إنهما ملكان كريمان!. جزاهما الله عني خيراً».
ونعود إلى ما بدأنا به من الحديث عن أيام إبراهيم في بيروت فنقول: مضت عليه سنوات ثلاث في الجامعة، بلغ في نهايتها الثانية والعشرين، وقد قعد به المرض خلالها عن إتمام دراسته في الصف الأول العلمي، فانتقل إلى نابلس، ثم عاد في العام الذي تلا ذلك إلى الجامعة. وكان في هذه السنوات الثلاث لا ينقطع عن قول الشعر، وفي سنة 1925 نشرت له جريدة «الشورى» في مصر نشيداً وطنياً لتحية المجاهد الأمير عبدالكريم الريفي. فلما اطلع الشاعر الأستاذ خير الدين الزركلي على النشيد قال:
«إن صدق ظني، فإن صاحب هذا النشيد سيكون شاعر فلسطين».
ومن عجب، أن يظل قلب إبراهيم خالياً من المرأة حتى ذلك الحين، ولقد كان أصدقاؤه في الجامعة يعجبون لذلك ويقولون له على سبيل المزاح: «أنت شاعر ولكن بلا شعور، أين وحي المرأة في شعرك؟».
في نهاية تلك السنوات الثلاث، بلغ إبراهيم الثانية والعشرين كما ذكرنا من قبل، وهنا مس الحب قلبه.. ولكن هل كان مس ذلك الحب رفيقاً رحيماً؟ كلا، بل كان مساً عنيفاً ملهباً أشعل روحه وأيقظ حسه، وأرهف نفسه.
ففي سنة 1926، طلعت في الجامعة في بيروت، فتنة تمثلت في صورة فتاة فلسطينية طالبة هناك، فأحيت قلوباً وسحقت قلوباً... وتورط إبراهيم، ودخل المعركة، وابتلى حسنات وسيئات، أما السيئات، فليس هذا بموضع تدوينها، وأما الحسنات، فتنحصر في الطريق الأدبي الجديد الذي نهجه، والاستعداد الكبير للسير في هذا الطريق.
صار قوي الملاحظة، حاضر العاطفة، متوفز الأعصاب، صار كثير المطالعة، صياداً للمعاني، بسيط العبارات، سهل الفهم، مصيباً.
تلك هي حسنات ذلك الحب، على حد تعبيره.
ونظم في فتاته قصيدته «في المكتبة» ونشرت القصيدة في إحدى الصحف في بيروت، فنطقت بألسنة الكثيرين من الطلاب والأساتذة أيضاً.. ومنذ ذلك الحين، أخذ إبراهيم يضرب على قيثار الغزل، فيطرب سُمّاعه، ويعجب قراءه. وقد أحبته فتاته بمقدار ما أحبها، ثم ضرب الدهر بينهما، فكانت نهاية حبه مأساة، خلّفت في قلب الشاعر جرحاً، كان يندمل حيناً، وتنكأه الذكرى حيناً آخر، فينعكس ذلك كله في شعره، كما تنعكس صورة على صفحة المرآة المصقولة.
نكتفي بهذا القدر من قصة ذلك الحب، الذي كان له أكبر الأثر في إرهاف حسه، والسمو بشاعريته إلى سماء الشعر الصادق، الذي ينبثق من ذات النفس، وينبعث من أعماق الروح.
ونلتفت الآن إلى بعض الأجواء الأخرى، التي كانت تحيط بإبراهيم في أعوامه التي قضاها طالباً في الجامعة.
لقد احتضنت إبراهيم في الجامعة وخارجها، بيئة شعرية أدبية لم تكن لتحتضنه لو لم يكن في بيروت. أما في الجامعة، فقد كان هناك رعيل من أقرانه الطلاب، امتاز بصبغته الشعرية، وتعاطيه لقول الشعر الجزل. من ذلك الرعيل كان عمر فروخ «صريع الغواني» وحافظ جميل «أبوالنواس» ووجيه بارودي «ديك الجن» وإبراهيم «العباس بن الأحنف». وكان تجاوب الذوق والمشرب قد وصل بين هؤلاء بأسباب المحبة والأخوة. وكانت تجري بين حافظ ووجيه وإبراهيم، مساجلات شعرية عديدة، تناقلها الطلاب وأحبوها، غير أن هذه المساجلات لم تكن لتخرج عما توحي به طبيعة الشباب الملتهب، المندفع وراء الحياة..
هذا في الجامعة، وأما خارجها، فقد كانت هنالك مجالس الأدب العالي والشعر الرفيع، وكلها تفتح لإبراهيم صدرها، وتوليه من عنايتها واهتمامها، وتعقد بينه وبين أصحابها صلة الود. وحسبي أن أذكر من أصحاب تلك المجالس الأدبية الرفيعة المرحوم الشيخ أمين تقي الدين والمرحوم الأستاذ جبر ضومط، والشاعر بشارة الخوري «الأخطل الصغير».
أصبح إبراهيم شاعر الجامعة، كما لقبته صحف بيروت، ولم يقتصر في ذلك العهد على الشعر الغزلي فحسب، بل كانت أغاريده الوطنية الفياضة بالعواطف الصادقة، والإيمان الوطني القوي، تسير جنباً إلى جنب مع أغاريده الغزلية، وهذان الوتران كانا من الأوتار التي امتاز إبراهيم بالضرب عليها.
وفي سنة 1929، نال شهادته من الجامعة، ليخوض بحر الحياة العملية المزبد المتلاطم.
معلم، معلم، معلم، هذه هي الكلمة التي كان يسمعها تتردد على شفاه الكثيرين من الطلاب الخريجين، يوم توزيع الشهادات، فيقول لنفسه: «أبعد هذا العناء والكد، يختار هؤلاء التعليم مهنة؟. ألا ساء ما يفعلون، ما أقصر مدى طموحهم».
أما هو، فقد كانت المفاوضات جارية بينه وبين إحدى دور الصحافة في مصر، وتوشك أن تنتهي على أحسن ما يتمناه، فهذه مهنة تلائم ذوقه على الأقل، وتسير مع اختصاصه، سيكون محرراً في مجلة كبرى في القاهرة، وناهيك بالقاهرة من مدينة فن وأدب وجمال، وأي شيء تصبو إليه نفس الأديب الناشئ الطموح، ولا يجده في القاهرة؟ المكتبة الكبرى، الأزهر، الصحف، الشعراء، الكتاب، «يا مصر، لله مصر!.» صحافي، صحافي..
هذا ما كان إبراهيم يحدث به نفسه في أيامه الأخيرة في الجامعة.
من المنصة التي منح عليها «البكالوريا»، مشى إبراهيم إلى سرير المستشفى، وأراني حتى الآن، لم أُشر إلى أنه كان يشكو ألماً في معدته منذ أيام التلمذة في مدرسة المطران في القدس، وكثيراً ما أقعده ذلك عن مواصلة التحصيل، إلى أن يُشفى فيعود إليها، وكثيراً ما حمله بعد ذلك، على الاستقالة من وظائفه التي تَقلّب فيها.
أبلّ إبراهيم من مرضه، وكان والده إلى جانبه في هذه الآونة، إذ قدم بيروت ليشهد حفلة الجامعة، ثم توجه الاثنان إلى مصر ليستشيرا الأطباء هناك، وليبحث إبراهيم في شغله الصحافي.
وفي مصر ينفذ البرنامج، وتتجه صحة إبراهيم اتجاهاً حسناً، وبعد بضعة أسابيع يعود الوالد بولده إلى نابلس، قرير العين، ناعم البال، على أن يعود إبراهيم للشغل في مصر بعد أن يُمضي مع ذويه أياماً قليلة.
غير أن الأم تأبى عليه ذلك، وتحكم أن يظل ولدها قريباً منها، وتدخل العاطفة في الموضوع.. زد على ذلك أن أباه لم يكن راغباً في شغله في مصر.
وكانت هنالك ظروف أخرى، شاءت أن يلغي إبراهيم برنامجه الصحافي ويضرب بهذا الأمل المنشود عرض الحائط، ولو لمدة سنة.
وفي هذه الآونة، كانت وظيفة معلم اللغة العربية في مدرسة النجاح الوطنية بنابلس شاغرة. فيأتي إلى إبراهيم والده، يقنعه بالموافقة على التدريس هناك، فهذه خدمة وطنية مشكورة، أضف إلى ذلك أن المسؤولين في المدرسة، سيجعلون ساعات العمل بحيث لا يرهقونه، ثم إن هذا العمل في بلده، وإنه لون من ألوان الاختبار يقطع فيه إبراهيم جزءاً من أوقات الفراغ الطويلة المملة.
ويكون رد إبراهيم على أبيه بأنه لا يستطيع أن يتصور نفسه معلماً، فهذا عمل لم يُخلق له، وسيكون فيه خائباً لا محالة، ولكن أباه يبين له أنه سيعلّم في موضوعه، فلا يخرج عن نطاق ما خُلق له.
وإذا بإبراهيم ذات صباح أمام فريق من الطلاب، على مقاعدهم الخشبية، وإذا به يكتب على اللوح: «الطقس جميل»، ثم يقول لأحد التلاميذ: أدخل «كان الناقصة» على هذه الجملة، فيقول التلميذ: «كان الطقس جميلاً».
نعم.. كان الطقس جميلاً، فتعكّر، وجرت الرياح بما لا تشتهي السفن..
زاول إبراهيم مهنة التعليم في هذه المدرسة سنة واحدة، وكان له تأثير في بعض طلابه من الصفوف العالية، فحبب إليهم الشعر والأدب، ولا أزال أذكر ذلك اليوم الذي أقبل فيه يحدثنا مبتهجاً، بأن بعض تلاميذه النجب، قد بدأوا ينظمون الشعر على يده.
خلال هذا العام الدراسي «1929 - 1930» كان إبراهيم ينظم الشعر الوطني، فيرسله صرخات حافزة، وناراً مشتعلة، ومن أشهر قصائده في ذلك الحين «الثلاثاء الحمراء».
ففي حزيران سنة 1930 صدر حكم الإعدام على شهداء فلسطين الثلاثة، وذلك على أثر ثورة سنة 1929. وقد ضجّ أهل البلاد لهذا الحكم، وقدموا احتجاجاتهم ورجاءهم، فلم يغنِ ذلك عنهم شيئاً.
وفي نهار الثلاثاء، السابع عشر من حزيران سنة 1930، كان التكبير على المآذن، وقرع النواقيس في الكنائس، يتجاوب صداهما في أرجاء فلسطين قاطبة، إذ في ذلك النهار، نُفّذ حكم الإعدام بالشهداء الثلاثة، في ثلاث ساعات متوالية، فكان أولهم فؤاد حجازي وثانيهم محمد جمجوم، وثالثهم عطا الزير، وكان من المقرر رسمياً أن يكون الشهيد «عطا الزير» ثانيهم، ولكن «جمجوماً» حطم قيده، وزاحم رفيقه على الدور حتى فاز ببغيته..
وهنا يأخذ الشاعر ريشته ليصور هذا اليوم المخضب بالدماء أروع تصوير، وليسجل في سفر الشعر الوطني الخالد، مصارع أولئك الشهداء، فتكون قصيدة «الثلاثاء الحمراء».
وكان يوم حفلة مدرسة النجاح السنوية في نابلس، ولم يكن قد مضى على تنفيذ حكم الإعدام بهؤلاء الشهداء أكثر من عشرة أيام، فالنفوس لا تزال ثائرة، والعواطف لا تزال مضطربة، وفي تلك الحفلة، ألقى إبراهيم قصيدته «الثلاثاء الحمراء».. وذُهل عن الجمهور، وشعر كأنما خرج من لحمه ودمه، فكان يلقي بروحه وأعصابه، فما انتهى حتى كان بكاء الناس يعلو نشيجه، ثم تدفقوا خارج القاعة في حالة هياج عظيم حتى لقد قال بعضهم يومئذٍ: «لو أن إبراهيم ألقى قصيدته في بلد فيه يهود، لوقع ما لا يحمد عقباه». يشير بذلك إلى فرط الحماس الذي أثارته هذه القصيدة في أولئك السامعين.
وفي مطلعها يقول :
لما تَعرّضَ نجمُكَ المنحوسُ وترنَّحتْ بعُرى الحبالِ رؤوسُ
ناح الأذانُ وأعولَ الناقوسُ فالليلُ أكدرُ، والنهارُ عَبوس
طفقتْ تثورُ عواصفُ وعواطفُ
والموتُ حيناً طائفُ أو خاطفُ
والمعولُ الأبديُّ يمعنُ في الثرى ليردَّهم في قلبها المتحجِّرِ
لم تكد تبدأ عطلة العام الدراسي الأخيرة لسنة 1930 حتى كانت الجامعة الأميركية في بيروت، قد عرضت على إبراهيم، بواسطة الأستاذ أنيس الخوري المقدسي، التعليم في قسم الأدب العربي في الجامعة.
كان مجرد فكرة العودة إلى بيروت، وآفاقها الرحيبة السحرية، كفيلاً بأن يجعل إبراهيم يوافق على مزاولة التعليم مرة أخرى، وعن طيب خاطر.. فلقد كان حبه لهذا البلد، ولأهله الكرام، حباً متمكناً من نفسه، إلى حد بعيد، بل لقد كانت بيروت عنده بمنزلة الوطن الثاني له، يرى في أهلها أهله، وفي عشيرتها عشيرته، وكيف لا يكون لهذا البلد في نفس إبراهيم مثل هذا المكان الرفيع، وفيه تفتحت زهرة شبابه أول ما تفتحت:
أولُ عهدي بفنون الهوى
بيروتُ، أَنْعِمْ بالهوى الأولِ..
وانتقل إلى الجامعة الأميركية، فدرّس فيها عامين، نظم خلالهما أروع قصائده التصويرية، مما يدخل في باب الموضوعيات من شعره. ولإبراهيم في هذا الباب قصائد فذة، تفيض بالصور الحية الناطقة.
ولقد عادت المرأة، أو بالأحرى، عاد الجمال يحرّك قلب إبراهيم في بيروت، فيوحي إليه بأرق الشعر وأجزله. ومسارح الجمال في بيروت مختلفة الألوان، متعددة الصور، وهي هناك تكاد تكون مكشوفة النقاب لا تختبئ وراء حجاب. وإبراهيم نشأ في بلد متمسك بتقاليده وعاداته أشد التمسك، فهو يسدل دون المرأة ستاراً كثيفاً نسجه. ومن هنا، كانت بيروت مهبط وحيه في ما قاله من شعر في المرأة.
وفي غادة أشبيلية أندلسية، كانت في بيروت، نظم إبراهيم في ما نظم من شعر غزلي في ذلك الحين، عدة قصائد، وهو يعترف بأن انجذابه إلى هذه الغادة، قد لا يكون بدافع جمالها، وخفة روحها، بمقدار ما كان يتقرّاه في خلقتها من الدم العربي وما كان يلاحظه من الفن العربي في ثيابها ورقصاتها.
وأثناء إقامته في بيروت قدم الجامعة الأميركية الدكتور «لويس نيكل البوهيمي»، وهو مستشرق تخصص في الغزل العربي، فكان يتنقل بين عواصم الشرق والغرب، باحثاً في مكاتبها الكبرى عن الكتب المتعلقة بموضوعه، وكان من نتيجة ذلك أن ترجم إلى اللغة الإنكليزية كتاب «طوق الحمامة» لابن حزم الأندلسي، وقد تعرف إبراهيم بالدكتور نيكل عن طريق صديقه الأستاذ أنيس فريحة، وكان هذا المستشرق، حين تعرف بإبراهيم، قد بدأ بتصحيح كتاب «الزهرة» لابن داود الأصفهاني، وتعليق حواشيه وتنظيم فهارسه. فلما رأى مدى اطلاع إبراهيم على الشعر القديم دعاه إلى العمل معه وأشركه في تصحيح الكتاب وطبعه، وباشرا العمل معاً في اليوم الثاني للمقابلة الأولى، وفي بضعة شهور أنجزا عملهما فيه حيث طُبع الكتاب سنة 1932، ويقول الدكتور نيكل بهذا الشأن في رسالة خاصة تلقيتها منه: «... ثم أقمنا حفلة «الزهروية» في مطعم نجار، ونظم إبراهيم قصيدته «غادة أشبيلية»، وكانت تلك الأيام من أسعد أيامه وأيامي...».
وفي نهاية العام الثاني لتدريسه في الجامعة، قدّم إبراهيم استقالته من العمل، وعاد إلى فلسطين، حيث زاول مهنة التعليم في المدرسة الرشيدية في القدس. وفي هذا الحين، ضاق بعمله أشد الضيق، فنفّس عن الكرب الذي لحقه من هذه المهنة بقصيدته «الشاعر المعلم» وقد صاغها في قالب فكاهي عذب، صور فيه ما كان يكابده من مشقة التعليم، والجهد الذي كان يبذله، والعناء الذي كان يلاقيه من جراء ذلك كله.
وفي أواخر سنة 1932، وقبل انتهاء الفصل الدراسي الأول، ألح عليه السقم، ولازمته العلة، فانقطع عن التدريس، وظل طريح الفراش، إلى أن اشتدت وطأة المرض، فأشار الأطباء بضرورة نقله إلى المستشفى، وإجراء عملية جراحية في معدته، ولقد كان من خطورة شأن هذه العملية، أن نفض الجراح يديه من نجاة مريضه من الموت بعدها، لما كان عليه إبراهيم من النحول والضعف. ولكن «الله في السماء، والأمل في الأرض!» فقد أُجريت العملية بالرغم من الشك الكبير في نجاته من خطرها. وتشاء حكمة الله، أن ينجو إبراهيم من الموت المحقق، ولقد أقر الطبيب سلامة مريضه كانت من معجزات الله، لا شأن لفن الطب فيها، ولا لحذق الطبيب، إذ كانت حال إبراهيم فوق هذين كليهما.
وتماثل للشفاء، وحانت الساعة التي سيغادر فيها المستشفى، فشيّع الطبيب هذا «المولود الجديد»، كما كان يسميه، مهنئاً والديه به، وخرج إبراهيم وفي جيبه ورقة عليها هذه الأبيات:
إليكَ توجّهتُ يا خالقي
بشكرٍ على نعمة العافيه
إذا هي ولّتْ فمن قادرٌ
سواكَ على ردّها ثانيه
وما للطبيب يدٌ بالشفاءِ
ولكنّها يدكَ الشافيه
تباركتَ، أنتَ مُعيد الحياةِ
متى شئتَ في الأعظم الباليه
وأنتَ المفرِّج كربَ الضعيفِ
وأنتَ المجيرُ من العاديه
بلى، لقد كان إبراهيم يؤمن بالله إيماناً عميقاً صادقاً، وقد ابتلاه ربه بالحرمان من نعمة العافية، وهو في ريعان الشباب، فما وجده إلا صابراً متفائلاً، وإنك لتتصفح ما خلفه من مآثره الأدبية، فتراه قد عرض فيها مراراً عديدة لذكر مرضه وسقمه، ولكنه عرض مرح مبتسم، لا روح للتشاؤم فيه ولا أثر لشكوى الزمان، إذ كان المرح والابتسام خلقة في إبراهيم، فلم يكن لينظر إلى الدنيا إلا من وجهها الضاحك المشرق، وانظر إلى هذه الأبيات لترى كيف كان يواجه تنكر العافية:
وطبيبٍ رأى صحيفةَ وجهي
شاحباً لونُها، وعُودي نحيفا
قال: لابدَّ من دمٍ لكَ نُعطيـ
ـهِ نقيّاً، ملءَ العروقِ عنيفا
لكَ ما شئتَ يا طبيبُ ولكنْ
أعطني من دمٍ يكون خفيفا..
ضعف في البنية شديد، قد يبعث في غير إبراهيم التشاؤم والضجر، ولكنه هو، القوي بروحه، المرح بطبيعته لا يدع النكتة تفلت منه وهو في أشد حالات المرض: «أعطني من دم يكون خفيفا»..
غادر إبراهيم المستشفى موفور الصحة، وعاد إلى بلده بعد أن قدم استقالته إلى المدرسة الرشيدية في القدس، وقد عزم عزماً أكيداً على عدم العودة إلى هذه المهنة، مهنة التعليم، مرة أخرى.
أمضى بعد ذلك عامين في نابلس، خدم خلالهما مدة في دائرة البلدية، وفي هذين العامين، نظم إبراهيم مقطعاته الوطنية التي كان يوالي نشرها في جريدة «الدفاع» والتي كان يُقبل عليها القراء بشغف عظيم، لما فيها من تصوير صادق لوضع فلسطين الخطير، وتفكك الأمة المريع، في تلك الفترة من الزمن.
وفي سنة 1936 استلم إبراهيم عمله الجديد في القسم العربي في إذاعة القدس، وقبل الحديث عن أعماله هناك، أوثر أن أقف عند شعره وقفة قصيرة.
إذا قرأت شعر إبراهيم، تجلت لك نفسه على حقيقتها، لا يحجبها عنك حجاب، ذلك أنه كان ينظر نظراً دقيقاً في جوانب تلك النفس، ثم يصوّر ما يعتلج فيها من عواطف وخلجات، كأصدق ما يكون التصوير، ومما كان يعينه على البراعة والصدق في التعبير، علم غزير بفنون الكلام وأساليبه، وهذا العلم كان نتيجة لاطلاعه الواسع على المآثر الأدبية الرفيعة، من قديمة وحديثة، إلى جانب القرآن الكريم، والحديث الشريف.
وما أعرف كتاباً أدبياً كان أحب إليه من كتاب «الأغاني»، فقد كان يرى فيه دنيا تغمرها الحياة على اختلاف ألوانها، وناهيك «بالأغاني» من كتاب أدبي توفرت فيه المادة، وتنوع الأسلوب، واتسع فيه مجال القول في الأخبار والنوادر الأدبية على اختلافها.
وكما كان كتاب «الأغاني» من أحب كتب الأدب العربي إلى إبراهيم فقد كان «المتنبي» من ناحية، «والعباس بن الأحنف» من ناحية أخرى من أحب الشعراء إليه وأقربهما من قلبه، وكان الدكتور «نيكل» قد ساعده في الحصول على نسختين تصويريتين لديوان «العباس» من إستنبول إذ كان في نية إبراهيم - لو أمهله الزمن - أن يُخرج هذا الديوان في طبعة جيدة أنيقة.
وأما «شوقي» في الشعراء المعاصرين فهو سيد المكان في قلب إبراهيم، يمكنك أن تُقسّم شعر إبراهيم إلى ثلاثة أقسام: الغزليات، والوطنيات، والموضوعيات، وهذه الأخيرة تمتاز بعمق الفكرة، ودقة التصوير، وقد حلّق فيها إلى آفاق الشعر العالي، هنالك «الشهيد» و«الفدائي» و«الحبشي الذبيج» وغيرها. ولعل واسطة العقد في موضوعياته، قصيدة «مصرع بلبل» وهي فتح جديد في القصة الشعرية، نلمس فيها تأثر إبراهيم بالأدب الغربي دون أن يفقد مميزات خياله الخاص، وتعبيراته الشعرية الخاصة.
وفي قصيدة «الشهيد»، ينقلنا إبراهيم بدقة وصفه، وروعة تصويره إلى ما يثور في نفس الشهيد من عواطف، واستقتال في سبيل الواجب الأسمى، لا يبتغي من وراء ذلك ذيوع اسم ولا اكتساب صيت، وإنما هو عنصر الفداء، وجوهر الكرم، صيغت منهما نفس الشهيد، فهان عندها الموت في سبيل الله والوطن.
ومن موضوعياته الرائعة قصيدة «الحبشي الذبيح» وهي صورة حية ناطقة، يرسم فيها إبراهيم حالة ذلك «الديك الحبشي» الأليمة حين يُذبح ويأخذ يصفق بجناحيه، ويجري من هناك وهناك، مزورّ الخطى، كأنما هو يلحق بالحياة التي استُـلبت منه، ولقد أوحى إليه بهذا الموضوع العنيف، وقوفه يوماً برجل على جانب الطريق في بيروت يذبح ديوكاً حبشية يعدها لرأس السنة، وإذا بالنفس الشاعرة يروعها أن لا يقوم السرور إلا على حساب الألم، وإذا بها تفيض بأقوى الشعر التصويري الحي.
ونلتفت الآن إلى إبراهيم شاعر الوطن، الذي سجل آلام فلسطين وآمالها خلال الانتداب الإنكليزي، كما لم يسجله شاعر فلسطيني من قبل.
انظر إليه وقد خلّد ثورة فلسطين وشهداءها سنة 1929 في قصيدة «الثلاثاء الحمراء»، ثم يوم عاد في الذكرى الرابعة لهؤلاء الشهداء فخلدهم مرة أخرى في قصيدة «الشهيد»، كل ذلك في شعر لاهب حماسي، فلا بكاء ولا استخذاء، وإنما هي صرخات مدوية مجلجلة، تحفز الهمم، وتثير الشعور بالعزة والإباء.
وأما بيع الأرض، فلم يزل إبراهيم يصور لقومه الخطر الذي ينتظر البلاد من وراء البيع، ولم يزل يفتح عيونهم على الشر الذي عمّ واستحكم من جراء ذلك:
أعداؤنا منذ أن كانوا صيارفةً
ونحن منذ هبطنا الأرضَ زُرّاعُ
يا بائعَ الأرضِ لم تحفل بعاقبةٍ
ولا تعلّمتَ أن الخصمَ خَدّاع
لقد جنيتَ على الأحفاد وا لهفي!
وهم عبيد.. وخُدّام.. وأتباع
وغرّكَ الذهبُ اللمّاع تُحرزهُ
إن السرابَ كما تدريه لـمّاع
فَكّرْ بموتكَ في أرضٍ نشأتَ بها
واتركْ لقبركَ أرضاً طولُها باع
وقد التفت إبراهيم مرات عديدة في شعره، إلى هذه الناحية، وحين نشرت الصحف أن زعيم الهند «غاندي» قد أنذر إنكلتره بالصيام مدى الحياة، ما لم تُغيّر خطتها السياسية في الهند، راح إبراهيم يغمز ويقارن بين زعيم هنا.. وزعيم هناك:
حبذا لو يصوم منا زعيم ٌ مثل «غندي» عسى يفيد صيامُهْ
لا يصمْ عن طعامه.. في فلسطيـ ـنَ، يمـوت الزعيمُ لولا طعامه
ليصمْ عن مبيعه الأرضَ يحفظْ بقعةً تستريح فيها عظامه!
وهو في رثائه للمغفور له الملك فيصل، يضرب على هذا الوتر نفسه، مشيراً إلى استقبال الجثمان الطاهر في فلسطين:
ما الذي أعددتِ من طيب القِرى
يا فلسطينُ لضيفٍ مُعجِلِ
لا أرى أرضاً نلاقيه بها..
قد أضاع الأرضَ بيعُ السُّفَّل
فاستري وجهَكِ لا يُلمحْ على
صفحتيه الخزيُ فوق الخجل !.
ولم يكن ليدع مناسبة تمر، دون أن يشير إلى هذا الداء العضال، الذي بُليت به فلسطين. ولشدّ ما صب نقمته على تلك العصبة الحقيرة، عصبة السماسرة، التي يقوم على يديها ضياع البلاد:
أمّا سماسرةُ البلاد فعصبةٌ
عارٌ على أهل البلاد بقاؤها
إبليسُ أعلن صاغراً إفلاسَهُ
لما تَحقّقَ عنده إغراؤها
يتنعّمون مُكرَّمين.. كأنما
لنعيمهم عمَّ البلادَ شقاؤها
هم أهلُ نجدتها.. وإن أنكرتَهم
وهُمُ- وأنفُكَ راغمٌ- زعماؤهما..
ولكم كانت تروعه تلك الحزبية التي يضطرم وقودها في البلاد، فلا ينتج منها إلا تفكك الأمة وشقاقها، وفي ذلك ما فيه من إعاقة السير نحو الهدف الواحد:
وطني، أخاف عليك قوماً أصبحوا
يتساءلون: مَنِ الزعيمُ الأليقُ؟
لا تفتحوا بابَ الشقاقِ فإنهُ
بابٌ على سُودِ الحوادثِ مُغلَق
واللهِ لا يُرجى الخلاصُ وأمركم
فوضى، وشملُ العاملين مُمزَّق
ولطالما نقد أصحاب الأحزاب في شعره وندد بهم، لا يخص فريقاً دون فريق، وإنما يوجه القول إليهم جميعاً:
ما لكم بعضُـكم يُمزّق بعضاً
أفرغتم من العدو اللدودِ ؟
اذهبوا في البلاد طولاً وعرضاً
وانظروا ما لخصمكم من جهود..
والمسوا باليدين صَرحاً منيعاً..
شاد أركانَه بعزمٍ وطيد!
كلُّ هذا استفاده بين فوضى
وشقاقٍ، وذلّة، وهُجود..
واشتغالٍ بالترّهات، وحبِّ الذْ
ذاتِ.. عن نافعٍ عميم مجيد
شهد اللهُ أنّ تلك حياةٌ
فُضِّلت فوقها حياةُ العبيد
وما كان أنكأ لقلب إبراهيم من خمود العزائم في حاملي عبء القضية الوطنية ووقوفهم عند تقديم «البيانات» و«الاحتجاجات»، لا يتعدونها إلى غيرها من الأعمال المجدية، انظر إليه يخاطبهم متهكماً:
أنتمُ «المخلصون» للوطنيّه..
أنتمُ الحاملون عبءَ القضيّه..
أنتمُ العاملون من غير قولٍ..
بارك اللهُ في الزنود القويّه..
و«بيانٌ» منكم يعادل جيشاً
بمعدّات زحفه الحربيّه..
و«اجتماعً» منكم يردّ علينا
غابرَ المجدِ من فتوح أميّه..
ما جحدنا «أفضالكم».. غيرَ أنا
لم تزل في نفوسنا أمنيّه
في يدينا بقيّةٌ من بلادٍ..
فاستريحوا كي لا تطيرَ البقيّه
وبذلاقة ورشاقة، كان إبراهيم يتغلغل بقلمه إلى صميم الأشياء فيزيح عنها الستر ويبين ما خفي وراءها من حقائق مرة، ويا لها من مرارة يرسلها في شعره متألماً «لمظاهر العبث» التي كان يراها تغلب على ميول الأمة:
أمامكَ أيها العربيُّ يومٌ
تشيب لهوله سودُ النواصي
وأنتَ كما عهدتُكَ.. لا تبالي
بغير مظاهرِ العبث الرخاصِ
مصيرُكَ بات يلمسه الأداني
وسار حديثُه بين الأقاصي
فلا رحبُ القصورِ غداً بباقٍ
لساكنها، ولا ضيقُ الخصاص
لنا خصمان، ذو حَوْلٍ وطَوْلٍ
وآخرُ ذو احتيالٍ واقتناص
تواصَوْا بينهم.. فأتى وبالاً
وإذلالاً لنا ذاك التواصي
مناهجُ للإبادة.. واضحاتٌ
وبالحسنى تُنفَّذ، والرصاص..
وأما وعد بلفور، وأما هجرة اليهود إلى هذا الوطن المنكود، فلم يبرحا مجالاً لقولٍ ذا سعة في شعر إبراهيم، وهدفاً يرمي إليه، ويحوم حواليه.
وهكذا، ترى شعره الوطني شعراً يحمل طابعاً فلسطينياً خاصاً، كان حتماً أن تطبعه به أحوال البلاد المضطربة في هذا العهد المظلم من عهود فلسطين، وما كان إبراهيم ليفوز بلقب شاعر الوطن، وشاعر فلسطين لو لم يسجل قضية بلاده في شعره القوي، الذي يمتاز بذلك الطابع الفلسطيني الخاص.. ولو لم تنعكس في ذلك الشعر أصدق صورة لهذا الوطن في هذا العهد..
تأسست إذاعة القدس سنة 1936، ووقع الاختيار على إبراهيم ليكون مراقباً للقسم العربي فيها، فاحتضن هذا القسم، ولفه تحت جناحيه، وتعهده بعنايته مدة أربع سنوات.
وفي سنة 1937 تعرف إبراهيم «بسامية عبدا لهادي» من إحدى أسر نابلس، فاتجه إليها قلبه، وهناك استقر؟ فأصبحت شريكة حياته، وعاش هانئاً في بيته، سعيداً بعاطفة جديدة مقدسة هي عاطفة الأبوة، إذ ولد له «جعفر» ثم ولدت «عريب».
أقبل إبراهيم على عمله في الإذاعة بكل قلبه، إذ كان مثل هذا العمل يوافق ذوقه ويمشي مع ميوله، ولم تمض مدة يسيرة على إشرافه على البرامج العربية، حتى كانت تلك البرامج مرآة ينعكس عليها ذوق هذه البلاد، وآراء أهلها العرب، وكان أكبر همه أن تكون الأحاديث قريبة من مستوى العقول على اختلاف طبقاتها، لا سيما الأحاديث الأخلاقية، فكان يصل إلى هذا الغرض التهذيبي بطريقة لا يشك في نجاحها، وهي طرق هذه الموضوعات من نواحٍ ثلاث: الآية القرآنية، الحديث الشريف، المثل المشهور. ولكل من هذه النواحي أثرها البعيد في العقليات المختلفة لأهل المدن والقرى على السواء، لما لها من علاقة ماسة بالحياة الاجتماعية.
ولقد كان لإبراهيم في الإذاعة أحاديث أدبية كثيرة، أضف إلى ذلك قصصاً وروايات تمثيلية، كان يصنعها بنفسه، وأناشيد، منها ما كان ينظمه لبعض البرامج الخاصة، كنشيد «أشواق الحجاز» والنشيد الذي وضعه في رثاء المغفور له الملك غازي، ومنها ما كان ينظمه لأحاديث الأطفال.
لم تكن الوظيفة لتقعد بإبراهيم عن تقديم رسالته إلى هذا الوطن الذي تفانى في حبه، وجمع له همّ قلبه، ولئن كانت قد اعترضت لهاة بلبل الوطن الغريد، وحالت دون تسلسل أغانيه الوطنية الشجية، التي طالما أيقظت القلوب النائمة، وألهبت النفوس الهامدة، فلم تكن لتستطيع، أن تحول دون حبه لهذا الوطن، وبذله أقصى مجهوده لخدمة أمته عن طريق الإذاعة.
ولعل من أهم ما قام به هناك، تصديه لفئة غير عربية.. كانت تسعى سعيها لتنشيط اللغة العامية، وجعلها اللغة الغالبة على الأحاديث العربية المذاعة.. وكانت حجتها في ذلك، أن الإذاعة لا يمكنها أن تحقق الغرض الذي هدفت إليه، وهو نفع الطبقة المتوسطة، إذا جرت على استعمال اللغة الفصحى.. لأن هذه الطبقة من أهل المدن والفلاحين، لا تُحسن اللغة الفصحى، على حد تعبير أصحاب القول بتنشيط اللغة العامية، ولا تفهم اللغة العربية «القديمة» التي جرى عليها المذياع!..
وقف إبراهيم وقفة حازمة أمام هذا الرأي، ونقضه يومئذٍ بحجج دامغة، أظهرهم فيها على أن المذياع لم يجر على اللغة العربية القديمة، وأنه ليس في بلاد العرب من يعرف هذه اللغة بالمعنى الذي قصده أصحاب القول باللغة العامية، غير أفراد متخصصين، وهي عندنا لغة الجاهلية التي قضى عليها القرآن بأسلوبه الجديد المبتدع، وأن عندنا اليوم لغة عربية صحيحة، يصطنعها المؤلفون ومحررو الجرائد، ويفهمها المتعلم والأمي على السواء.. وأن الفلاحين، وجلهم من الأميين، لتقرأ عليهم الجريدة، فيناقشون القارئ في افتتاحيتها، ولا يعقل أن يناقش المرء في شيء لم يفهمه، هذا وإن العرب، مسلمين ومسيحيين، يدينون بالقومية، وهذا مشروع غايته القضاء على اللغة العربية، وهي عندنا كل ما بقي من ذلك التراث الطويل العريض الذي اجتمع لنا من الفتوحات والحضارات والعلوم والآداب والفنون.. فما من عاقل اليوم، يعرف قدر نفسه ويعتز بعربيته، يرضى عن العبث بهذا التراث الباقي، والقضاء عليه بيده..
بهذه الصراحة التي عُرفت لإبراهيم في كل موقف ذي خطر، هُزمت تلك الفئة التي اعترفت على أثر ذلك، بأن إبراهيم يحتاج إلى جلسات أخرى، لتُزعزع أركان عقيدته في لغته.. وأستغفر الله، وحاشا لإبراهيم..
ولشد ما لقي من صعوبات أثناء عمله، إذ كانت فلسطين خلال السنوات الأربع التي خدم فيها في الإذاعة، في ظرف دقيق جداً، ففي السنوات الثلاث الأولى، كانت الثورة في فلسطين قائمة على ساقها، وفي السنة الرابعة، كانت الحرب العالمية الأخيرة.
أما الصعوبات التي لقيها في عمله أثناء الثورة، فتنحصر في ذلك الشغب الذي كان يدور حوله من قبل بعض الجهات اليهودية، ووقوفها له بالمرصاد في كل ما يذيعه من أحاديث، أو ما يذيعه غيره من المحدّثين العرب، فكانت تلك الجهات اليهودية تُخرّج كل ما يقال تخريجاً سياسياً، وتُشكّل من القصة ذات اللغة البسيطة، والوضع المحكم، شعوباً ودولاً، وحكومات وانتدابات.. ولم تكن لترى في الأحاديث الأخلاقية، إلا تحريضاً تحت قناع ديني.. وأما الدعاية فقد كانت في رأيها مبثوثة في الموضوعات التاريخية!. زد على ذلك، قول تلك الجهات اليهودية بأن الأحاديث النبوية، والأمثال المشهورة التي تقدم في الإذاعة، فيها الخطر كل الخطر!. إذ يطلب فيها من الأمهات أن يُنشّئوا أطفالهم بعضلات قوية، ومنشأ الخطر على زعمها هو أن تلك التنشئة القوية، إنما يُقصد من ورائها المقدرة في المستقبل على المقاومة. وعن الطريق الأقصر، فالبرنامج العربي الذي كان يشرف عليه إبراهيم مُسخَّر للتحريض.. كما كانت تقول الصحف اليهودية.
وهكذا كانت تُوضع في الميزان جلّ أحاديث القسم العربي في الإذاعة، فيُناقَش إبراهيم فيها، ويُحاسب عليها، ولكنه كان يعرف كيف يقف أمام ذلك كله.
وانتهت الثورة، وقامت الحرب العالمية الثانية، فكانت الرقابة على الصحف والنشر والإذاعة.
ومن قبل بعض المشرفين عليها يومئذٍ، قامت الدعاية السيئة وقام التحريض ضد إبراهيم.
وكانت قصة «عقد اللؤلؤ» أو «جزاء الأمانة» التي اقتبسها إبراهيم من كتاب «الاعتبار» لأسامة بن منقذ، وقدّمها في المذياع في أحد برامج الأطفال، فأخذ الرقيب وعصبته تلك القصة، وخرّجوها تخريجاً يكفل لهم استفزاز المستعمر.. فإذا بتلك القصة التي تشيد بالأمانة والوفاء تُشهر سلاحاً في وجه إبراهيم او بالأحرى في ظهره، من قبل من لا يعرف قيمة لمعنى الأمانة المقدس.
تكاتفت جموع الشر على إبراهيم من هنا وهناك، فأُقيل من عمله في الأول من أكتوبر سنة 1940.
وإذا كان بوسع أحد من الناس، أن يبيع ضميره، ويضرب بمبدأه وعقيدته عرض الحائط، فيظل هانئاً بعمله، قرير العين، فما كان بوسع إبراهيم أن يفعل ذلك، وهو الأبي النفس، العيوف للاستخذاء والذل، وهو الذي كان يتحول عن الحظ السعيد يأتيه وفيه جرح لكبريائه وكرامته، أو خلاف لعقيدته، كما يتحول المؤمن الصادق عن وسوسة الشيطان.
اشمأزت نفس إبراهيم، وعافت البقاء بين قوم لا خلاق لهم.. فآثر الرحيل عن وطنه الذي تفانى في حبه، وأذاب روحه في مناجاته، وعزم على الرحيل إلى العراق، بلد العروبة والعزة.
وفي مساء اليوم الذي أقيل فيه إبراهيم من عمله، خفّ صديقه أكرم بك الركابي إلى السيد طالب مشتاق، قنصل العراق في القدس يومئذٍ، وأطلعه على ما جرى لإبراهيم، وفي محادثة تلفونية من قبل السيد طالب، الصديق المحب، سُجّل اسم إبراهيم في وزارة المعارف في بغداد ليزاول مهنة التعليم في أحد معاهد العلم هناك، ولقد كان ذلك بسرعة، ودون أخذ وردّ، إذ كان إبراهيم معروفاً لدى الأوساط الأدبية الرفيعة في العراق.
ولقد لاقى من والده معارضة شديدة بشأن ذلك الرحيل، وإلحاحاً عليه بالبقاء عنده في نابلس، ولكن إبراهيم، على بره بوالده براً يفوق الوصف، وعلى تعلقه العجيب بوالديه وإخوته - ولقد كان هذا البرّ وهذا التعلق من خلائق إبراهيم الممتازة - سافر إلى العراق وهو عازم عزماً أكيداً على عدم العودة إلى فلسطين مدى الحياة!.
ومن هؤلاء الذين يصدق فيهم قول يزيد بن المهلب: «هم أهل العراق، أهل السبق والسباق، ومكارم الأخلاق» وجد إبراهيم على أبواب بغداد من ينتظره من الأصحاب العراقيين، وفي بيت السيد محمد علي مصطفى، الأستاذ في دار المعلمين العليا، نزل إبراهيم وأهله معززين مكرمين، إذ لم يكن قد تهيأ بعد، وفي دار المعلمين الريفية في الرستمية، باشر عمله.
كان للمعاملة السيئة التي لقيها إبراهيم في وطنه وبين قومه تأثير كبير على بنيته النحيلة، فلم تكن تلك البنية لتحتمل كل هذه الآلام النفسية التي كابدها إبراهيم خلال شهور، وهو الرقيق الشعور المرهف الإحساس إلى حد يكاد يكون مرضاً، فلم يكد يمضي شهران على إقامته في العراق حتى وقع فريسة العلة والسقم، مما حمله إلى العودة إلى نابلس قبل انتهاء الفصل الدراسي الثاني.
ونهكت الأسقام إبراهيم، فنقل إلى المستشفى الفرنسي في القدس، وبعد أيام قليلة، وفي مساء الجمعة، الثاني من شهر مايو سنة 1941 أسند إبراهيم رأسه إلى صدر أمه، وقد نزف دمه، وخارت قواه، وهناك أسلم روحه الطاهرة إلى بارئه، واستراح استراحة الأبد.
كان لإبراهيم - رحمه الله - مصحف صغير، لا يخلو منه جيبه، تبركاً به من جهة، وليكون في متناول يده كل حين من جهة أخرى، فلما توفاه بارئه، كان ذلك المصحف تحت وسادته، ولا تزال إلى اليوم ثنية ثناها في إحدى صفحات سورة «التوبة». وكانت هذه الآيات الشريفة آخر ما تلاه إبراهيم من كتاب الله أثناء مرضه، ولقد آثرت أن أختم بها الحديث عن حياة إبراهيم إرضاء لروحه:
»الذين آمنوا وجاهدوا في سبيل اللهِ بأموالهم وأنفسهم أعظمُ درجةً عند اللهِ وأولئك هم الفائزون. يُبشّرهم ربُّهم برحمةٍ منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيمٌ مقيم. خالدينَ فيها أبداً إن اللهَ عنده أجرٌ عظيم».
مشاركة منتدى
10 أيار (مايو) 2012, 16:30, بقلم محمد جبارين
اشكرك كل الشكر على الطرح استفدت جدا من الموضوع
28 تشرين الأول (أكتوبر) 2013, 11:59, بقلم فراشة الربيع
بـــــــــــــــــــآركـ الله فيــــــــــــــــــــكـ
21 شباط (فبراير) 2014, 11:07, بقلم تولين عبد الله
اريد معرفة مقالات زيادة عنك
23 آذار (مارس) 2016, 15:25, بقلم يارب
قصيدة العمل رجااء كامله اريدها
21 تشرين الأول (أكتوبر) 2018, 07:32, بقلم معاوية
قصة لابراهيم طوقان عن المرأة
21 تشرين الأول (أكتوبر) 2018, 07:34, بقلم معاوية
قصص ابراهيم طوقان عن المرأة