يوسف الخطيب في دمشق
أقامت وزارة الثقافة السورية نهاية الأسبوع الماضي، حفل تأبين للشاعر الفلسطيني الكبير يوسف الخطيب (6/ آذار/1931م ـ 16/ حزيران/ 2011م)، الملقب بـ «سيف فلسطين» و«مجنونها»، وذلك في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق، برعاية وحضور وزير الثقافة الدكتور رياض عصمت، والدكتور فيصل عباس وزير النقل، وعدد من الشخصيات الثقافية والفنية والإعلامية الفلسطينية والسورية والعربية، ولفيف من أصدقاء الشاعر ومحبيه، كما حضر الحفل ممثلين عن بعض المؤسسات والهيئات العربية أبرزهم المنسق العام لتجمع اللجان والروابط الشعبية في لبنان الدكتور معن بشّور الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.
بُدأ الحفل بتلاوة مباركة من آي الذكر الحكيم، وتخلله عرض فيلم وثائقي «تحية للشاعر الراحل يوسف الخطيب»، ـ مدته ربع ساعة تقريباً ـ تضمن أبرز محطات حياته ومواقفه الثقافية والسياسية الوطنية منها والقومي ولقطات من عدد من مقابلاته المتلفزة. بالإضافة إلى قصائد شعرية بصوته ..
الوزير د.رياض عصمت ألقى كلمة وصف فيها الشاعر الراحل بـ «عندليب فلسطين»، و«سنديانتها»، و«المدافع عن أرضها»، و«رافع راية المقاومة والتحرير» و«المقاتل دون هوادة من أجل قول كلمة الحق، فكان صلباً مثل صخرة».
وأكد د.عصمت أن رحيل (الخطيب) يشكّل خسارة فادحة للأدب العربي الحديث، وهو الذي كان في كل ما كتب وأبدع شاعراً حقيقياً ألمَّ بالمشهد الثقافي العربي وعبّر عنه بصوت هادر وحس عالٍ مليء بالحيوية، وهو الذي ألهم الساحة العربية بإيمانه الكبير بقضية شعبه وبروحه الخلاقة المبدعة وحضوره القومي، كما ألهم كل الأجيال، وخاصة الشابة منها، بحنجرته القوية وصوته الجهوري، فوصل إلى القلوب بشعره الجميل شكلاً ومضموناً، مبنى ومعنى..
وميزة الفقيد برأي د.عصمت أنه كتب عن النكبة والنكسة، لكنه لم ينتكب ولم ينتكس، بل ظلَّ مؤمناً بقضيته، حالماً بمستقبل أفضل.. من هنا فإن القيمة النبيلة التي قدّمها الراحل أنه كان الأمثولة عن رجل عاش قضيته وشعره، فظلَّ مثالاً يحتذى به.. وختم د.عصمت كلامه مشيراً بأن الشاعر يوسف الخطيب ارتحل ارتحال الشمس لكن شمسه لم تغِب.
وفي مستهل كلمته بيَّن المفكّر اللبناني معن بشّور أنه في حيرة من أين يبدأ حديثه عن الراحل، الذي وصفه بأنه المقاوم لأي انحراف، والرجل الجامع بين الانفعال السريع والبراءة الدائمة، بين التوتر المستمر والبساطة الهادئة، وإن كان الثابت في سيرته أنه كان متدفقاً في إبداعه وقد عشق فلسطين وسكنته العروبة.
وتحدث بشّور عن مناقب الشاعر الراحل، ولفت النظر إلى دوره مع أقرانه من شعراء فلسطين ككمال ناصر وفدوى طوقان وهارون هاشم رشيد في الحض على الثورة استمرارا لما بدأه شعراء الجيل الأول إبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي وعبد الرحيم محمود وتمهيداً لولادة جيل جديد ممثلاً بمحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وأحمد دحبور وعز الدين المناصرة وغيرهم.
وأردف بشّور قائلاً: (( تراه شاعراً بين المناضلين ثم تجده مناضلا بين الشعراء لقد كان يقول لي إذا كان الشعر عذوبة في التعبير ورقة في الأحاسيس وجمالاً في الأداء فإن النضال هو حلم لا حدود له .. لقد تكونت شاعرية يوسف الخطيب وثقافته معاً، في وقت مبكر من العمر فحرص أن يتحدث في سيرة طفولته الرائعة عن كل مكون من مكونات شاعريته وثقافته في كل كتاباته ومناسباته، أما فلسطين التي غدا بها مجنوناً فقد أصبحت البوصلة التي تحدد اتجاه كل واحد منا ومعياراً لمصداقية نهجنا، حيث لا يستطيع أحد أن يتلاعب بمتطلبات النضال من أجلها)).
وبيَّن بشّور أن عشق الراحل لدمشق كان نابعاً من إدراكه اليقيني أن سورية كانت وستبقى مستهدفة وقد رحل وفي قلبه قلق وتوتّر لما يحاك لها، مدركاً أنه لا بد من إنجاز معادلة تاريخية فيها تقوم على تحقيق الإصلاح وطرد المؤامرة عبر الحوار والانفتاح على كل مكوّنات المجتمع السوري بعيداً عن كل الأجندات الخارجية، أما البعث الذي غنّى له الراحل وأفنى في كنفه أجمل سنوات عمره فقد طالبه بتجديد نفسه من أجل سورية وفلسطين، لم ينسى بشّور عينيّ الراحل المتسمرتين نحو مجدل شمس ومارون الراس، معجباً بالتصميم الأسطوري للعودة إلى فلسطين التي رغم التعثّر الذي يحيط بالأداء العربي اتجاهها فإنها اليوم الأكثر توهّجاً في عالمنا.
بعد كلمة الأستاذ بشّور تم عرض قصيدة صوتية للشاعر يوسف الخطيب وهي قصيدة ( في أذان العصر) التي كانت من ضمن الإصدار الصوتي الذي أصدره الخطيب في العام 1983م.
رجا: قصائده كانت رهن الاعتقال والإقامة الجبرية ..
الكاتب الفلسطيني أنور رجا أشار في كلمته إلى أن الراحل الآن واقف بيننا، يواري دمعة حبلى لوجع الموت في المنافي، وهو بيننا يراقب إن كنا أدركنا سرّ الوطن فيه وقد ارتاح عن مقصّات النقد التي تنال من جسد قصيدته فلم يعد يهمه بعد الآن إن كتب من هوية نصّه الإبداعي أو أن يمتلك أجنحة الخيال أو أنه ابن السوسسيولوجيا والإيديولوجيا وهو الذي جسّد مقولة وطن القصيدة أو قصيدة الوطن.
مضيفاً: (( إن الراحل كتب بأفعال الشعر والقمر نشيد إنشاد فلسطين بدءاً من بيوت بلدته « دورا » وقمرها الذي لا يغادرها، وانتهاءً بخنادق المقاومة والمقاومين في فلسطين الذين غنّوا ورددوا قصائده بعد أن جعل من دم قلبه قسَماً فلسطينياً عربياً وقد وضع فاصلاً بين أن يكون الإنسان لقيطاً أو جديراً بالهوية، فوقف مثل رمح على حد الصراط المستقيم وقد يمّم وجهه شطر الوطن، في الوقت الذي كان يعرف فيه أن ثمن الرأي الحر قد يأتي على شكل رصاصة في الظهر كتلك التي اغتالت ظهر حنظلة )).
وأضاف رجا: (( إن الراحل عانى من المحاولات الدائمة لوضع قصائده رهن الاعتقال والإقامة الجبرية وفق المذهب النفطي وقد رضي بجزاء عصيانه، ويرى أن قصيدة الراحل قد تأتي بكامل أنوثتها رهّافة ولهّابة بلحظ جارح، وقد تُقْبِل ورائحة البارود تسيل من جسدها بولادة كاملة حيث لا مجال هنا للهمس وإرضاء المزاج الفني لناقد، ورغم المعادلة الأصعب في أن يكون الشاعر مقاتلاً بالهوية والموقف )).
وقال رجا: (( إن الفقيد لم يكن يعرف فقط لغة الشعر بل لغة الجراح وكلام السنابل ومنطق الطير أيضاً وهو الذي عاتب عندليباً في إحدى قصائده لأنه لم يأتِ بقشّة واحدة من بيادر روحه فلسطين. مبيناً أن الراحل لم ينزل قصيدته عن كتفه تماماً كما يفعل الثائر ببندقيته، فلم تؤرجحه الريح ولم يخف من تجار النفط.. من هنا لم يكن شعره لديه ترف الصورة وازدواجية المعنى ومتاهات التأويل وهذا ما جعله شاعراً أشبه بأعمدة الأوابد التي نقف أمامها في محاولة لاكتشاف ما يقوله صدى الماضي والحاضر فيها، فكان اسم فلسطين وسيمفونية البقاء التي عزفها لبلاد جعل من قصيدته حالة مفصلية في الساحة الفلسطينية لا يشبه أحداً بإيقاعه الخاص، فكان الراوي لحكاية انفضّ عنها الجميع )).
وأكد رجا أن (( كل حرف من ملحمة الراحل الشعرية فاضت به روحه فنزف شعراً حتى الشهادة، وهذا ما يجعل شاعرنا الفقيد متواصلاً فينا ليس لأن المبدعين الكبار لا يموتون، بل لأن فلسطين أيضاً عاشت بانتظاره، وها هو يعود إلى هناك حيث يصبح الشهداء عن الشعر على وطن محنّى بقصائد العائدين )) .
المثقّف الكفء .. زارع الشعر
المخرج التلفزيوني خلدون المالح استعاد في كلمته التي ألقاها سنوات ماضية عديدة جمعته بالراحل الذي كان زميلاً في الإذاعة السورية وقد كان فيها رسول فلسطين، وبيّن كيف كان الراحل مؤمناً بعودته إليها، فكان ينشد دوماً « راجعون راجعون »، وتأسف المالح لما ألمَّ بالشاعر من حالة تشرّد في عدة دول عربية وأوربية، فقط لأنه لم يتكسّب من شعره، بل كان يدفع ثمن جرأته ووطنيته، وهو الذي كان لاذعاً في نقد الأنظمة العربية وقد أورث أمته دساتير النضال.
وبحضور عدد من الكتاب الفلسطينيين، يتقدمهم الأستاذ حمزة برقاوي (أمين سر الأمانة العامة بالاتحاد)، والشاعر الكبير خالد أبو خالد، وعدد من أعضاء الأمانة العامة لاتحاد الأدباء والكتّاب الفلسطينيين (سوريا)، فوجئ الحضور بإلقاء الممثلة سلاف فواخرجي كلمة رئيس الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين الشاعر مراد السوداني!، وقد كان هذا محل استغراب شديد من قبل الحاضرين..
السوداني الذي تعذر حضوره للحفل، أكّد من خلال كلمته أن وفاة يوسف الخطيب خسارة للأدب والثقافة فيقول: (( نحدّق اليوم في إرثك فنرى طاقة الفعل بالقوة والعناد العارم الذي يعيش بروحك فعلا وإنجازاً وانحياداً للحرية الحمراء وشمائل الزمان والحق والصدق .. إنه الخير العام الذي وسّعت فضاءاته وجعلت فلسطين رأس حربتك الثقافية) ولفت السوداني في كلمته إلى الدور المميز الذي لعبه الشاعر في رسم ملامح الأدب الفلسطيني المعاصر في الداخل والشتات مؤكدا على أن المثقفين والأدباء في الأرض المحتلة باقون على عهد الشاعر يوسف الخطيب وعلى مبادئه)).
وتحدّث السوداني في كلمته، عن إرث الراحل الناجز الذي جعل فلسطين رأس حربته، فبقي ثابتاً على الثابت، فلم ينحرف قلمه وظلّ صوته هادراً يجهر بالبلاد كاملة غير منقوصة، مشيراً إلى أفعاله الشعرية التي تقتحم السجون لتكون بين الأسرى وطلاب الجامعات، فكان المثقّف الكفء الذي يليق بفلسطين والذي ما ركض يوماً وراء مغنم.. من هنا سيبقى الفارس الذي يقتحم لجّة الغياب بحضور الشاعر الحقّ الذي لا يموت إلا في قلوب ميتة وقد بقي حتى الرمق الأخير يصرّ على الكلمة الطلقة ويزرع الشعر، فانتصر قولاً وشعراً .
وقال السوداني: (( ها نحن في الأرض المحتلة نؤكد لك من جديد أنها ستبقى، لإنها مقولة جديرة بالحياة والحلم والعنفوان، مقولة هذه فلسطين التي منحتها الجهد والوقت )).
مضيفاً: (( ها أنت أيها الشاعر الفارس باق في قلوبنا كبقاء التراب الحر، باق أيها الفارس الشهم
فطوبى لك وأنت حتى الرمق الأخير مصرّ على الكلمة
فطوبى لك وأنت تنتصر قولاً وشعراً وفعلاً )).
ومن خلال كلمة آل الفقيد، التي ألقاها في ختام الحفل أكد نجل الراحل الأكبر بادي أن يوسف الخطيب كان سيف فلسطين وحنجرتها الغاضبة ومجنونها، وإن كانت مشاعر الحزن واللوعة تكاد تخلع قلوب العائلة فإن الفخر والاعتزاز هو ما يجيش في قلوب أفرادها الذين تعلموا من الراحل الحياة وتشرّبوا العروبة وتجسّدوا فلسطين في مدرسته، وهم يعتزون بأنهم من سلالته وقد نشأوا في كنفه وتحت خيمته التي مازالت تعلو على كل الأبراج والقصور، ويبيّن أن النسب الرفيع بما فيه من إرث مخزون هو ثروة لا تتلاشى وكنوز لا تنضب على مرّ الزمان، وأشار المهندس بادي أن والده الفقيد لم يعِش حياته بسلام وهدوء ولم تكن أيامه إلا احتراقاً في سبيل الرسالة النبيلة التي عاش حياته يحملها وهو الثائر المشحون بالقلق خوفاً من ضياع حبيبته الأولى، كما توقف بادي الخطيب مطوّلاً عند الجهود الكبيرة التي بذلها الراحل في سبيل استكمال مذكرته الفلسطينية التي طُبِعَت بلغات عديدة والتي لم تُستكمَل بعد أن تلقّى هذا المشروع ضربة مؤلمة وطعنة من الظهر في حرب غير معلنة عليه ليكون الإصدار الأخير والأكثر تميزاً في هذا المشروع عام1967م والسبب أنه لم يساوم ولم يتنازل ولم يتكسَّب حرفاً في كلمة تباع في مزاد، وذكر المهندس بادي أن الفقيد أوصى أحد الأصدقاء بأن يحمل إليه مؤخراً حفنة من تراب فلسطين، والمفارقة أن الأمانة وصلت في يوم رحيله ليرافقه تراب فلسطين إلى داره الأخيرة .