الشهيد غسان كنفاني .. ظل الغياب
قضى غسان كنفاني حياته القصيرة (36 عاماً)، مناضلاً، وصحفياً، وكاتباً، وسياسياً، وروائياً، وقاصاً، وكاتباً مسرحياً، وناقد أدبياً، وباحثاً، ودارساً، وفناناً تشكيلياً، على درجة عالية من الوعي بوسائله الفنية..
وغسان أول شهداء الكلمة الفلسطينية المقاتلة، في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة، عاش مقاتلاً بعيداً عن أرضه، من أجل أرضه المستباحة، يقاتل بكل دمائه النبيلة، وكان يعرف أن التراجع موت، وأن الفرار قدر الكاذبين، وقد تميز بتفكيره الثوري ونضاله في سبيل وطنه المغتصب، وتجسيد مأساة شعبه بأعمال إبداعية متنوعة، صور فيها محنته وتشرده وصموده. وهو مناضل ومفكر وإعلامي وفنان.
وهو كما تقول الأديبة الكبيرة غادة السمان (فارس اسبارطي حياته ملتصقة على ذؤابة رمحه، يعتقد أن الحياة أكبر من أن تعطيه، وأنه أكبر من أن يستجدي، وكان دوماً يريد أن يعطي بشرف مقاتل الصف الأول).
ومثلما كانت حياة غسان شاهدة على وحشية وهمجية الاحتلال الصهيوني الاحلالي، كان استشهاده الشاهد الحي على أن (الكلمة الرصاصة.. الكلمة المقاتلة) أمضى على الأعداء من السلاح...
في التاسع من نيسان عام 1936 ولد غسان، هو ـ كما يذكر شقيقه الأديب عدنان كنفاني ـ الطفل الوحيد بين أشقائه الذي ولد في مدينة عكا، فقد كان من عادة أسرته قضاء فترات الأجازة والأعياد في عكا، ويروى عن ولادته أن أمه حين جاءها المخاض لم تستطع أن تصل إلى سريرها قبل أن تضع وليدها وكاد الوليد يختنق بسبب ذلك وحدث هذا.
كان من نصيب غسان الالتحاق بمدرسة (الفرير) بيافا، ولم تستمر دراسته الابتدائية هذه سوى بضع سنوات. فقد كانت أسرته تعيش في حي المنشية بيافا وهو الحي الملاصق لتل أبيب وقد شهد أولى حوادث الاحتكاك بين العرب واليهود التي بدأت هناك إثر قرار تقسيم فلسطين. لذلك فقد حمل الوالد زوجته وأبناءه وأتى بهم إلى عكا وعاد هو إلى يافا، أقامت العائلة هناك من نهاية عام 47 إلى أن كانت إحدى ليالي أواخر نيسان 1948 حين جري الهجوم الأول على مدينة عكا. بقي المهاجرون خارج عكا على تل الفخار (تل نابليون) وخرج المناضلون يدافعون عن مدينتهم ووقف رجال الأسرة أمام بيت الجد الواقع في أطراف البلد وكل يحمل ما تيسر له من سلاح وذلك للدفاع عن النساء والأطفال إذا اقتضى الأمر.
ومما يذكر هنا أن بعض ضباط جيش الإنقاذ كانوا يقفون مع الأهالي الذين كانوا يقدمون لهم القهوة تباعاً، وكان قائد الفرقة أديب الشيشكلي (الذي أصبح فيما بعد رئيساً لسورية)، وقد كانت الفرقة ترابط في أطراف البلدة. وكانت تتردد على الأفواه قصص مجازر دير ياسين ويافا وحيفا التي لجأ أهلها إلى عكا وكانت الصور ما تزال ماثلة في الأذهان.
في هذا الجو كان غسان يجلس هادئاً كعادته ليستمع ويراقب ما يجري.
ومع استمرار الاشتباكات منذ المساء حتى الفجر وفي الصباح كانت معظم الأسر تغادر المدينة، وكانت أسرة غسان ممن تيسر لهم المغادرة مع عديد من الأسر في سيارة شحن إلى لبنان فوصلوا إلى صيدا وبعد يومين من الانتظار استأجروا بيتاً قديماً في بلدة الغازية قرب صيدا في أقصى البلدة على سفح الجبل، استمرت العائلة في ذلك المنزل أربعين يوماً في ظروف قاسية اذ أن والدهم لم يحمل معه إلا النذر اليسير من النقود فقد كان أنفقها في بناء منزل في عكا وآخر في حي العجمي بيافا، وهذا البناء لم يكن قد انتهى العمل فيه حين اضطروا للرحيل القسري. ومن الغازية انتقلوا بالقطار مع آخرين إلى حلب ثم إلى الزبداني ثم إلى دمشق حيث استقر بهم المقام في منزل قديم من منازل دمشق، وبدأت هناك مرحلة أخرى قاسية من مراحل حياة الأسرة.
كان غسان في طفولته يلفت النظر بهدوئه بين جميع إخوته وأقرانه، غير أنه كان يشترك في مشاكلهم ومهيأ لها دون أن يبدو عليه ذلك.
في مرحلة الشباب:
في دمشق شارك غسان حياة أسرته الصعبة، أبوه المحامي بعد أن اضطرت الظروف والده أن يعمل ـ وهو المحامي المرموق في بلده ـ أعمالاً بدائية بسيطة، وعملت أخته بالتدريس، أما هو وأخوه فقد عملوا في صناعة أكياس الورق، ثم عمالاً، ثم قاموا بكتابة الاستدعاءات أمام أبواب المحاكم، في نفس الوقت الذي كان يتابع فيه دروسه الابتدائية. بعدها تحسنت أحوال الأسرة وافتتح أبوه مكتباً لممارسة المحاماة، فأخذ هو إلى جانب دراسته يعمل في تصحيح البروفات في بعض الصحف، وأحياناً يمارس التحرير، واشترك في برنامج فلسطين في الإذاعة السورية وبرنامج الطلبة، وكان يكتب بعض الشعر والمسرحيات والمقطوعات الوجدانية.
وكانت تشجعه على ذلك وتأخذ بيده شقيقته التي كان لها في هذه الفترة تأثير كبير علي حياته. وأثناء دراسته المرحلة الثانوية برز تفوقه في الأدب العربي والرسم وعندما أنهى الثانوية عمل في التدريس في مدارس اللاجئين وبالذات في مدرسة (الاليانس) بدمشق والتحق بجامعة دمشق لدراسة الأدب العربي وأسند إليه آنذاك تنظيم جناح فلسطين في معرض دمشق الدولي وكان معظم ما عرض فيه من جهد غسان الشخصي. وذلك بالإضافة إلى معارض الرسم الأخرى التي أشرف عليها.
وفي هذا الوقت كان قد انخرط في (حركة القوميين العرب).
وفي أواخر عام 1955 التحق غسان للتدريس في مدارس المعارف الكويتية وكانت شقيقته وشقيقه قد سبقاه في ذلك بسنوات. وفترة إقامته في الكويت كانت المرحلة التي رافقت إقباله الشديد والذي يبدو غير معقول على القراءة وهى التي شحنت حياته الفكرية بدفقة كبيرة فكان يقرأ بنهم شديد. كان يقول انه لا يذكر يوماً نام فيه دون أن ينهي قراءة كتاب كامل أو ما لا يقل عن ستمائة صفحة. وهناك بدأ يحرر في إحدى صحف الكويت ويكتب تعليقا سياسياً بتوقيع (أبو العز)، ولفت إليه الأنظار بشكل كبير، خاصة بعد أن كان زار العراق بعد الثورة العراقية عام 1958 على عكس ما نشر بأنه عمل بالعراق.
وفي الكويت كتب أيضاً أولى قصصه القصيرة (القميص المسروق) التي نال عليها الجائزة الأولى في مسابقة أدبية.
في هذه الفترة ظهرت عليه بوادر مرض السكري، وكانت شقيقته قد أصيبت به من قبل وفي نفس السن المبكرة مما زاده ارتباطاً بها، وبالتالي بابنتها الشهيدة لميس نجم التي ولدت في كانون الثاني عام 1955. فأخذ غسان يحضر للميس في كل عام مجموعة من أعماله الأدبية والفنية ويهديها لها وكانت هي شغوفة بخالها محبة له تعتز بهديته السنوية تفاخر بها أمام رفيقاتها ولم يتأخر غسان عن ذلك الا في السنوات الأخيرة بسبب ضغط عمله.
وفي عام 1960 حضر غسان إلى بيروت للعمل في مجلة (الحرية) كما هو معروف.
غسان الزوج:
في عام 1961 كان يعقد في يوغوسلافيا مؤتمراً طلابياً اشتركت فيه فلسطين وكان من المشاركين وفد دانمركي. كان بين أعضاء ذلك الوفد فتاة تدعى (آني) كانت متخصصة في تدريس الأطفال. قابلت تلك الفتاة الوفد الفلسطيني وسمعت لأول مرة عن القضية الفلسطينية، فاهتمت اثر ذلك بالقضية ورغبت في الإطلاع عن كثب على مأساة الشعب الفلسطيني وما يعانيه جراء احتلال أرضه وتشريده في أصقاع الأرض، فشدت رحالها إلى البلاد العربية مروراً بدمشق ثم إلى بيروت حيث أوفدها أحدهم لمقابلة غسان كنفاني كمرجع للقضية، فقام غسان بشرح الموضوع للفتاة وزار وإياها المخيمات وكانت هي شديدة التأثر بحماس غسان للقضية، وكذلك بالظلم الواقع على هذا الشعب. ولم تمض على ذلك عشرة أيام إلا وكان غسان يطلب يدها للزواج وقام بتعريفها على عائلته، كما قامت هي بالكتابة إلى أهلها. وقد تم زواجهما بتاريخ 19 أكتوبر 1961 ورزقا بفايز في 24/8/1962 وليلى في 12/11/1966.
بعد أن تزوج غسان انتظمت حياته وخاصة الصحية إذ كثيراً ما كان مرضه يسبب له مضاعفات عديدة لعدم انتظام مواعيد طعامه.
وفي بيروت أصيب من مضاعفات السكري بالنقرس وهو مرض بالمفاصل يسبب آلاماً مبرحة تقعد المريض أياماً. ولكن ذلك كله لم يستطع يوماً أن يتحكم في نشاطه أو قدرته على العمل فقد كان طاقة لا توصف وكان يستغل كل لحظة من وقته دون كلل.
وبرغم كل انهماكه في عمله وخاصة في الفترة الأخيرة إلا أن حق بيته وأولاده عليه كان مقدساً. كانت ساعات وجوده بين زوجته وأولاده من أسعد لحظات عمره.
وحين تذكر السيدة (آني) تفاصيل اللقاء الأول بينهما، تقول: (منذ اللحظة الأولى للقائنا ، وثقتُ بكَ يا غسّان. لقد كـُنتَ على الدوام كلّيَ الصدقْ، حتى حين عرضتَ عليَ الزواج، فرشتَ أوراقك على الطاولة: لا وطن، لا مستقبل، لا مال، لا جواز سفر، ومرض مُزمنْ ضارٍ. ولم يُشكل ذلكَ كلهُ عندي أيَ عائقْ، فأنا أحببتُكَ أَنتَ يا غسّان وأُعجبتُ بكَ أنتْ. وعلى الرغم من (الوعود) الكثيرة المخفِقة، فقد أعطيتني ما يقرب من إحدى عشر سنة هي أجمل ما في حياتي وأشدُها أهمية، وهي سنوات سوف أعبُ منها العزيمة من أجل مواصلة السنوات الصعبة القادمة.
لقد كنت بالنسبة لفـايز، ولِـليلى، ولي، أكثر من أب وزوج رائع، لقد كنتَ أستاذاً ورفيقاً أيضاً. وفي أيام الآحاد، كنتَ تـُـكرس نفسك لثلاثتنا، أحببتَ منزلنا، وأحببتَ عملك في الحديقة، ووضْعـِكَ اليدين في التربة، وأحبَبتَ اللعِب مع الأطفال والقطط، وشرُب القهوةِ أثناءَ ترجَمتِكَ لي قصصَكَ ومقالاتك. أحياناً، كـُنا نتكلم فحسبْ، وكنت تستمتع بالعمل – بالكتابة، والرسم، والعمل بالحديقة، وكانت يداكَ الخيـِرتانِ الجميلتانْ وعقلك الخيـِر الجميل لا تكـُف عن الخلـق، وعن العـطاء).
في بيروت كان الشاهد والشهيد
كانت بيروت المجال الأرحب لعمل غسان وفرصته للقاء بالتيارات الأدبية والفكرية والسياسية. وقد بدأ عمله فيها في مجلة (الحرية)، ثم أخذ بالإضافة إلى ذلك يكتب مقالاً أسبوعياً لجريدة (المحرر) البيروتية، والتي كانت ما تزال تصدر أسبوعية صباح كل يوم اثنين. وقد لفت نشاطه ومقالاته الأنظار إليه كصحفي وكاتب ومفكر وناشط سياسي وثوري.
ومنذ توليه رئاسة تحرير (الهدف) البيروتية، تحولت المجلة إلى منبر للإعلام الثوري ينادي بالوحدة الوطنية والعمل الثوري والفدائي الفلسطيني.
ورفع غسان شعار (كل الحقيقة للجماهير) واختاره عنواناً للمجلة، وقد تعرض غسان نتيجة لكتابة بعض الافتتاحيات للسجن وعرّض مجلته للمحاكمة عدة مرات وحين سجن في 17 نوفمبر 1972 بتهمة القدح والذم والإساءة إلى ملكين عربيين كتب مقالا بعنوان (... ولو قدر لي أن أعيد كتابة المقال !) قال فيه : (إنني أطرح هذه الأسئلة على نفسي فيما يتعلق بحالة تقوم فيها الدولة بحبس صحافي أو كاتب لأنه قال رأيه واعتبرت الدولة ذلك الرأي يشكل مدحاً وذماً لشخص ملك ما، بينما يعتبر الكاتب أن هذه التهمة بالذات تفقد المقال قيمته وتجعله بلا معنى، فالمقال ليس إلا نقداً لموقف سياسي، مسؤول عن ذلك الملك الذي هو بدوره نتيجة منطقية لبنية النظام الذي يجلس عل قمته...).
وقد كتب غسان في العديد من أبواب المجلة إضافة إلى كتابة الافتتاحية فكان يحرر في المجلة الأركان الخاصة بالأحداث العربية وأحداث العدو والأركان الثقافية. وعن ظروف العمل في الصحيفة يقول غسان : (إن العمل في الصحيفة مرهق جداً. هذا هو شعوري الآن وقد أتممت عدد هذا الأسبوع، إنني أشعر بالإرهاق وأنه لأمر مروع لأي كان أن يعمل في صحيفة كهذه. ففي اللحظة الذي تنهي بها آخر جملة من العدد الآخر تجد نفسك فجأة تجاه عشرين صفحة فارغة تملأها ... وأنه لمن الصعب أن يصدق الآخرون بأن ثلاثة أشخاص فقط يقومون بتحرير الهدف. وهذه الحالة قائمة منذ ثلاث سنوات...).
وقد كان غسان يوقع مقالاته بالهدف بأسماء عديدة إلى جانب اسمه الحقيقي ومنها (غ.ك)، (فارس ـ فارس)، (...) ثلاثة نقط بين قوسين وإشارة () مجموعة من الدوائر داخل بعضها البعض.
يقول الكاتب الفلسطيني الشهيد حنا مقبل عن الموقع الصحفي الذي وصل إليه غسان (يكفي أن يشار إلى أنه وصل إلى مرتبة من الإتقان من حيث كتابة المانسيشت إلى كتابة الخبر الى صياغة المقال السياسي الى درجة لم يصل لها أي صحافي فلسطيني والكثير من الصحفيين العرب من الأسماء اللامعة).
وتعد الكتابات التي كتبها غسان بامضاء (فارس فارس) من المقالات النقدية الساخرة، الجادة، التي كتبها ونشرها في ملحق (الأنوار) ومجلة (الصياد) وجريدة (المحرر). وقد جمعها الأستاذ محمد دكروب قدم في كتاب بعنوان (مقالات فارس فارس)، ومما جاء في مستهل تقديمه للكتاب: (كان غسان كنفاني يكتب أيضاً الأدب الساخر / الضاحك. فإلى مختلف ألوان نشاطه ونتاجه الإبداعي المتعدد، العجيب التدفق والشديد التنوّع، الفني في أشكاله وأنواعه: من المقالة السياسية والتعليق الثقافي والنقد الأدبي (في سياق عمله الصحفي اليومي المتعب).. إلى القصة القصيرة المتدرجة بين الشكل الواقعي والشكل الرمزي للواقعية.. إلى الرواية وتحولات أشكالها البنائية الحديثة الخ..
إلى هذا كله بنى غسان كنفاني لنفسه واحة يفيء إليها.. يشعر فيها - ربما - بأنه أكثر حرية وتلفتاً وانفلاتاً مما هو في مجالاته الإبداعية المتعددة الأخرى...
كان غسان يأنس إلى هذه الواحة مرة في الأسبوع، تحت اسم (قناع هو.. فارس فارس).. تلك المقالات الأسبوعية كانت طرازاً فريداً في النقد الأدبي... ويعد مشروع جمع مقالات غسان الساخرة خطوة هامة في مسار جمع تراثه الصحفي ونتمنى أن يتلو هذا المشروع جمع المقالات الصحفية السياسية التي هي جزء من الذاكرة الفلسطينية ، ولا أكشف سراً إذ قلت أنني بصدد الانتهاء من جمعها، وقد أستغرق هذا الأمر زمنا طويلاً، وبحثاً شاقاً في سوريا وبيروت وتونس على مدار عدة سنوات .
استشهاده :
في صباح الثامن من شهر حزيران / يونيو 1972 استشهد غسان على أيدي جهاز المخابرات الصهيونية (الموساد) عندما انفجرت قنبلة بلاستيكية ومعها خمسة كيلوغرامات من الديناميت في سيارته، أودت بحياته وحياة ابنة شقيقته (لميس) التي كانت برفقته.
تقول زوجته ورفيقة نضاله السيدة (آني) : (... بعد دقيقتين من مغادرة غسان ولميس ـ ابنة أخته ـ سمعنا انفجارا رهيبا تحطمت كل نوافذ البيت .. نزلت السلم راكضة لكي أجد البقايا المحترقة لسيارته .. وجدنا لميس على بعد بضعة أمتار .. ولم نجد غسان ناديت عليه !! ثم اكتشفت ساقه اليسرى.. وقفت بلا حراك ..).
وقد وجد المحققون إلى جانب السيارة المنسوفة ورقة تقول : (مع تحيات سفارة إسرائيل في كوبنهاغن). وفي شهر تشرين الأول عام 2005 أعترف قادة الكيان الصهيوني ـ لأول مرة وبشكل رسمي ـ أن عملاء جهاز (الموساد) هم الذين اغتالوا في العام 1973 غسان كنفاني بزرع عبوة ناسفة في سيارته.
عاش 36 عاماً ورسم 36 لوحةً
تشترك الصنوف الإبداعية، جميعها ـ سواء أكانت فنوناً كتابية (كالشعر، والأدب) أم مكانية (كالتشكيل)، أو فنوناً زمانية (كالموسيقى)، في أنها جميعاً ، هي نتاج قريحة واسعة الخيال، تتجسد في النص مهما اختلفت، وتباينت خاماته، ووسائله، التعبيرية، والتوصيلية.
وفي التجربة الإنسانية الإبداعية لا تبتعد الكتابة عن الرسم كثيراً، فهما ـ وإنْ اختلفا في أدوات الخلق ووسائل التعبير وطرق الانتشار ـ ينتميان إلى عوالم إبداعية متقاربة ذات خصوصية تخاطب الوجدان والروح، ويسعيان إلى الكشف عن جوهر الأشياء بأكثر المواد هشاشة ورقّة: الحبر واللون، وكثيرة هي تجارب الكتاب المبدعين التي برهنت على هذه العلاقة الأليفة التي تربط بين الكتابة واللوحة: عالمياً (فيكتور هيغو، وأنطونان آرتو، وهنري ميشو)، وعربياً (جبران خليل جبران، وفاتح المدرس، وأدونيس)، وفلسطينياً (جبرا إبراهيم جبرا، وخالد أبو خالد، وإبراهيم نصر الله، وفاروق وادي، وغسان كنفاني).
عبر غسان كنفاني في كل ما أنتجه من إبداع قصصي وروائي وفني، عن معاناته ومعاناة شعبنا الفلسطيني، وربما لا يعرف سوى المهتمين أن غسان كنفاني كان إلى جانب إبداعه الصحفي والقصصي والروائي، ودوره السياسي، فناناً تشكيلياً مبدعاً أيضاً. وذلك جانب هام من رحلة عطائه، جانب فسح له المجال واسعاً لتفريغ ما حمل من فكر وهم ورؤيا، على سطوح بيضاء لتكون لوحات يحاكي من خلالها الآخرين.
وقد كان (غسان) في كل منجزه الأدبي والفني، عدسة نقية تنقل بصدق وبحس مرهف صورة الواقع المؤلم بكل مرارته وقساوته وما يمتزج به من إرادة التحدي والتغيير.
ولا يختلف اثنان على ما ذهب إليه الفنان والناقد التشكيلي عبد الله أبو راشد من أن أهمية ومكانة (غسان) كفنان تشكيلي لا تقل عن أهميته ومكانته السياسية والفكرية والأدبية، كما لا تقل أهمية لوحاته الفنية عن نصوصه المسرودة والمكتوبة في كافة ميادين السياسة والأدب والنقد، إذ هي لا تفارق مساحة تفكيره وكتاباته، مندمجة في كافة معابره الإبداعية، إلا أن قصور كافة المؤسسات والهيئات الفلسطينية لهذا الجانب الإبداعي عند (غسان)، عرضها للإهمال وعدم التوثيق، وكثيرة هي لوحاته ورسومه التي ما زالت مجهولة حتى على أهله ورفاق دربه وجمهوره ومحبيه..
ذات صباح وقد كانت الشمس تلقي بأشعتها السّنبلية لتلج غرفة الصّف عبر النافذة.. وقف (غسان) أمام التّلاميذ رأى فيهم قامة الوطن.. نظر إليهم متأملاً وقال: ارسموا تفاحة.. أُخذَ بضوء الشمس فرأى الحقيقة.. تحول الوطن إلى خيام.. تتبعها.. أبصر ما يجب أن يبصر.
استدرك، قال بأعلى صوته.. لا.. لا ترسموا تفاحة.. اخفض من وتيرة صوته.. بل ارسموا خيمة.. ومنذ تلك اللحظة رسم الخيمة.. الثورة.. تعاقبت السنون عليه فرسم للوطن.. الشعب والأرض.. آخر رسم له كان بدمه.. رسم حدود الوطن.. حدود الفصل مابين هابيل وقابيل.. كان من دمه لدمه.
كان (غسان) يومها لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، وكان حينها مُعلماً لمادة التربية الفنية (الرسم والأشغال الفنية) في مدرسة (معهد فلسطين) في حي الأمين بمدينة دمشق القديمة، التابعة لوكالة الإغاثة الدولية (الأونروا).
وهكذا بدأت رحلة غسان في مصارعة عدو جائر لا يرحم.. يحرّض أنامل الأطفال وأقلامهم.. دفاترهم والألوان.. يحرك وجدانهم وعقولهم.. يشحذ الهمم للعودة لأرض الآباء والأجداد.. رسم لهم ليرسموا معه ليس الطريق إلى عكا وحسب بل إلى حيفا يافا القدس وغزة إلى الخليل الناصرة أريحا وبيت لحم.
ومنذ تلك المرحلة شكل الفن التشكيلي لـ(كنفاني) في عفويته وحدود موهبته المجال الحيوي لبدء الخطوة الأولى المتقدمة على طريق تحرير فلسطين. وكما يرى الفنان والناقد التشكيلي عبد الله أبو راشد فإن هذه المرحلة المُبكرة في حياة الشهيد غسان كنفاني ( تُعد الوعاء الفكري لنمو شخصيته ومُدركاته الفكرية والسياسية والنضالية، لتُوقظ فيه مساحات التأمل والمُخيلة والمعرفة في كشف النقاط الخفية من حياة تلاميذه من سكنى مُخيمات اللجوء عقب نكبة فلسطين عام 1948. مُؤلفة (منه ومنهم) توليفة إنسانية متجانسة وأرضية مُناسبة لتفجر مناطق وعيه الداخلي، واندماجه التام في معاناة شعبه ومواطنيه الأطفال القاطنين في مُخيمات البؤس والتشرد الذين شكلوا المادة الحية والمباشرة لإبداعاته من خلال تلمسه يوميات حزنهم المرتسمة في الوجوه ومعابر السلوك).
كما كان (غسان) ينفذ الرسوم التوضيحية لقصصه التي كان ينشرها في صحيفة (الفجر) و مجلة (الرائد)، التي كانت تصدرها جمعية المعلمين الكويتية.
ومنذ أن بدأت مجلة (الهدف) بالصدور كان لـ (غسان) اليد الطولى فيها حيث كان رئيس تحريرها ومخرجها ومصمم غلافها ورسّام ( موتيف) الرسومات الداخلية المناسبة للموضوعات وخاصة الأدبية منها، برغم أن غسان كنفاني اتجه إلى الكلمة المكتوبة بدلاً من التشكيل بالخط واللون والكتلة للتعبير عما يختزن من مشاعر وما يؤرقه من هم وما به من وجع كواحد من شعب شتته الإرهاب الصهيوني في كافة أرجاء العالم، وذاق ويلات الاستلاب السياسي والثقافي والاجتماعي والتراثي والتاريخي..
كما أنجز (غسان) في بيروت، أكثر من لوحة تعبيرية تحول عدد كبير منها إلى (بوستر) أو ملصق ثوري، وهو فن ازدهر في تلك الأيام التي لجأ فيها الشعب الفلسطيني إلى السلاح سبيلا لتحرير أرضه. في هذه اللوحات برزت الوجوه ذات التعابير الصارمة والتصميم الذي لا يلين قوية متحدية في ما بدا استمراراً لتلك الرسوم التوضيحية التي كان يرسمها لتنشر مع قصصه في المجلات الكويتية المذكورة.
وفي واحد من أشهر هذه (البوسترات) رسم غسان كنفاني فتاة رقيقة فشل الفقر وثوب اللجوء في طمس معالم الجمال البادية على وجهها، وبدت وهي تحتضن خارطة فلسطين بحنان أشبه بأم تحدب على ابنتها، ومن يتأمل في وجه تلك الفتاة التي نشرت على غلاف ديوان (حبيبتي تنهض من نومها) للشاعر محمود درويش الذي كان لا يزال في ذلك الوقت يعيش في فلسطين، فإنه سيلاحظ أن وجه الفتاة الشاحب الحزين والجميل في الآن نفسه في هذه اللوحة، يذكر كثيراً بشخصية زينب، تلك الفتاة الجميلة الرقيقة التي كثيراً ما كررها ناجي العلي في رسومه العديدة في مراحل أخرى من تطوره الفني.
رُسوم تحاكي واقع المأساة
أنجز (غسان) في حياته التي امتدت زهاء ست وثلاثين عاماً ست وثلاثين عملاً زيتياً وملوناً أما الأعمال التي أنجزها بالفحم أو بتقنيات أخرى مثل قلم الرصاص والحبر فكثيرة حيث كان ينشرها بمحاذاة النص القصصي أو القصيدة في النشرة الملحقة لصحيفة (المحرر) أيام ستينات القرن الماضي عندما كان يعمل في الصحيفة. وأعماله بالكامل ذات مضامين ثورية ووطنية ترتكز على أصول فكرية ذات نزعة وطنية حقيقية ببعد أممي وبرؤيا ثورية تعتمد على قوى طبقة البروليتاريا، والرثة منها تلك التي تمثل جل الشّعب الفلسطيني القابع في خيام التشريد المبعثرة في عدد من الدول العربية وخاصة ما أطلق عليها دول الطوق وفي ما بعد دول المواجهة.
ولقد استمد (غسان) عناصر لوحاته من الواقع فتراه أكثر من رسم قبة الصخرة كرمز لفلسطين، ذلك أيام كان ما زال طالباً رسم حيثما وقعت يده ونالت من ورق لا يشغله كلام أو صورة أو رسم والحصان كرمز للثورة وأما الوجوه فقد انتقاها من الوسط المحيط به والمألوف لديه وبتماس مباشر معه تماماً مثلما انتقى شخصيات نصوصه القصصية.
وقليلون هم من يعرفون أن (أم سعد) هي لوحة تشكيلية قبل أن تكون عملاً أدبياً. وهذا ما يؤكد أن تزواج الصورة التشكيلية مع الصورة القصصية في فكر وأدب غسان كنفاني كان له بليغ الأثر في نجاحه ووصوله إلى أفئدة وعقول مطالعي عطائه الأدبي والفني والفكري، الذي كان حصيلة تلاقح المعاناة الشخصية مع الإرث الثقافي والحضاري الشعبي من ناحية والمادة الأولية اللازمة كعناصر أساسية لتشكيل وبناء العمل.
ويرى الأستاذ أبو راشد أن غسان (متحصناً في حدود هوايته ومجال مهنته كمعلم، رافقته في جميع معابر ابتكاره الأدبي والفكري والسياسي. وقد وجد في ممارستها نوعاً من الحنين والذكريات، وفرصة لتفريغ شحناته الإنسانية المُضافة كتعبير حسي مُقابل لرموزه وشخصياته التي استحضرها في قصصه القصيرة ورواياته وشخوص مسرحياته. احتلت (أم سعد) حيزاً مميزاً من رسومه ولوحاته راسماً إياها في مواقف تصويرية وتعبيرية متعددة بألوانه الزيتية الحافلة بنشيد البكاء والأمل في آن معاً. تجد فرشاته وسكينه متعة في تفريغ ملامح القسوة المنتشرة فوق تضاريس الوجوه المعانقة لطبقات لونية متراكمة، تفوح منها على الدوام ملونات الأزرق الذي يميل للخضرة مع الأبيض، وجه امرأة تشي بالمعاناة وحمل هموم السنين، تلبس وطناً فلسطينياً بأسره. امرأة من نساء المخيم تتدثر بالغطاء ( النقاب ) الأبيض، مُتدلياً على الكتفين ومُغطياً الصدر بأناقة تعبيرية حافلة بأنفاس الاتجاهات الواقعية والانطباعية والرمزية بالفن. وتأخذ منه قصة السيد المسيح الفلسطيني (الناصري) مساحة رمزية متسعة ومفتوحة على المساءلة والتأمل من خلال لوحته الزيتية (رجل مصلوب بالوقت) وأنه مُتبصر ومُتوقع لمآل مصيره واكتشاف قدره المرسوم، شأنه في ذلك شأن ضحية مصلوبة كالسيد المسيح، باختلاف الأدوات والأزمنة والأوقات).
التراث والذاكرة الفلسطينية .. زاد المبدع
وعنه يقول الكاتب الفلسطيني عدنان أبو زليخة: ( أعمل (غسان) ريشته ذات الحس المرهف فكتب اسم وطنه (فلسطين) فداخل العلم مع خريطة الوطن المستلب وربط الحروف بعضها ببعض بزركشات منمنمة من التراث الشعبي الفلسطيني مؤلفاً بذلك بين الشمال والجنوب وبين الساحل والجبل ومواصلاً بين البحر والنهر مستخدماً في ذلك العمل الألوان الإعلانية كون عناصر اللوحة هي عبارة عن وحدات ذات ألوان نقية (وحدات زخرفية شعبية وعلم متضمن في خارطة ليكون رمزها بالكامل) فكان لهذا العمل موقع الصدارة بين ملصقات الثورة الفلسطينية منذ انطلاقها وحتى يومنا هذا).
ويذهب (أبو زليخة) في مقالته إلى شرح لوحات (غسان) من ذلك لوحته الثانية الشهيرة (الحصان والبردة). وفيها رسمٌ لمهر يمثل الثورة الفتية دوماً..وهو شامخ راقص بعنفوان وكبرياء يوحي بخفة حركته وحركة شعر رقبته وذيله الذي حركته بنان (غسان) فجعلته على هيئة نار تتأجج وما يزيد في الاضطرام حركة الحصان الموحية بالطيران فيطبع في النفس إيحاء لاشعورياً بفكرة البراق. وخاصة عندما يتعامل مع اللون الحنائي للحصان ولون البردة الخضراء التي وشح بها وقد جملت بالزخارف العربية التي تمثل المرتكز الأساس لأنها تعبر عن الأصالة التي هي بمثابة الزاد للأديب والمفكر والفنان والثائر.
أما لوحة (نساء النكبة) فهي ذات ألوان داكنة مائلة للسواد إلا من بعض البياض الذي جاء من خلال لباس الرأس للنسوة اللاتي جعل منهن عناصر للوحته المعبرة كل التعبير عن النكبة وذلك من أجواء اللوحة العامة ألواناً وخطوط وقسمات الوجوه البائسة جراء ظلمة التشريد وسنين الحرمان وحركة الأجسام المكونة لـ(اللوحة).
أما اللوحة التي اسمها (عنترة)، فقد غلب عليها اللون الأصفر، وهو لون صحراوي يمثل خلفية اللوحة، وهي تخلو من كل العناصر إلا ذلك الفارس الذي يمتطي فرسه وتراه يشغل حيّزاً بسيطاً منها لكنه يشكل الأمل من خلال موقعه في اللوحة ومن خلال الألوان المنفذ بها. فإذا ما نظرنا إلى الفارس لسوف نراه يشغل حيزاً يمتد من أسفل اللوحة إلى قمتها.
وفي لوحته (جبال وذاكرة)، نجد شيئاً من فلسطين في عناق بحرها وجبالها وغناء أشجارها واستدعاء ما تبقى من موطنه مدينة (عكا) المعانقة للبحر والسهل والجبل، مرسومة بالسكين وبملونات الأزرق المُخضرّ في متواليات متدرجة وبقع ضوئية هنا وهناك، تفسح عن مُخيلة جامحة وبقايا ملامح وأشكال منكسرة في قيم لونية (انطباعية) المؤثرات. بينما تُشكل لوحته (فلسطين) مدى فهمه المعاصر للقضية في سياقاتها الوجودية من كونها قضية وطنية قومية عربية ودولية بامتياز، تجمع في طياتها ثراء التراث وغنى الذاكرة البصرية الفلسطينية لمُنتجات الأجداد عبر توليفات الزخارف والمطرزات الفلسطينية التي تُجمل بها أثواب النساء الفلسطينيات والرجال والأطفال من جميع الأعمار وما تحتله الرموز الشكلية (خريطة فلسطين) والدينية من رمزية دلالية ومساحة مفتوحة على التجريد وعلى تناغم الخطوط والتقاسيم الشكلية من استنهاض للضمير العالمي ونبشٍ لواحة التاريخ وتوثيق صادق لمفاصل المقاومة ومكانة الفن والإنسان في حروب الوجود.
كما أنجزت ريشة (غسان) لوحة تنتمي للمدرسة الواقعية، وهي لوحة (رجل يرتدي قمباز)، وهي تعكس ما يختلج في أعماقه من أمواج، يضرم بحر الوجد يسعره شوقاً للوطن وحنيناً له فتنطلق تلك الدفائن الداخلية لتطفو على المحيا فترسم بريشته لتتجسد كحركة من أعضاء الجسد أو ملامح تغمر الوجه لتنبئ عن مقدار الشقاء والحرمان ومرارة التشرد..الأسى والحزن على الوطن.. فكانت لوحة أفرغ فيها هذه المعاني على هيئة رجل يرتدي قمبازاً بلون بني داكن ذلك ليجعل من اللون وسيلة فعالة من وسائل التعبير عما يبتغيه من أفكار ومعاني تؤتي أكلها في جوانية حيث تتظافر الألوان والخطوط التي تصور الملامح وبالتالي تصل رسالة متكاملة تحرك الناظر لها وتفعله فيتفاعل معها. فعندما تقف أمام لوحة لرجل يلبس قنبازاً وكوفية وعقالاً مكفهر الوجه حزين واضعاً خده على كفه لسوف تدرك عمق المأساة التي يحيا.
وهناك لوحة أخرى لوجه غير واضح المعالم ملفوف بكوفية.. يعبر عن حالة الضياع والحزن والحيرة التي يعيشها الشعب معتمداً بذلك على القليل من الألوان أبرزها اللون البني الداكن الذي طغى على الوجه واليد ولم يفت الفنان غسان كنفاني أن يرسل الأمل في أجواء اللوحة من خلال ألوان الشروق في زاوية اللوحة العليا عن اليمين.
عوالم (أسطورة العشق الفلسطيني) في الفن السابع
إن علاقة الفن السابع بالأدب ليست حديثة، بل تعود إلى بدايات ظهور السينما. ومثلما وقع الأوائل من السينمائيين أسرى إغراء الأدب، فإن الذين تعاملوا مع نتاج (غسان) سينمائياً وقعوا أسرى إغرائه كذلك.
يجد الباحث عن عين غسان السينمائية، بصفائها وحساسيتها، حاضرة في رواياته المكتملة وغير المكتملة. وهذا ما يؤكده المخرج العراقي، الفلسطيني الهوى، قيس الزبيدي، بقوله: (نستطيع أن نؤكد أن أدب غسان كنفاني (رواياته) ليس أدباً خالصاً وإنما أدبٌ فيه كثير من السينما، فيه سينما أكثر بكثير من كثير من الأفلام)،
ووفقاً لـ (الزبيدي) فإن حصيلة السينما في اعتماد روايات (غسان)، هي حتى الآن، أربعة أفلام روائية عن ثلاث روايات، هي على التوالي كالتالي: رجال في الشمس (فيلم المخدوعون)، وما تبقى لكم (فيلم السكين)، وعائد إلى حيفا (فيلم عائد إلى حيفا وفيلم: المتبقي). أما بالنسبة للفيلم القصير المقتبس من أدبه، فهناك الفيلم الروائي القصير (زهرة البرقوق) عن رواية (برقوق نيسان)، والتمثيلية التلفزيونية (وصية أم سعد) عن رواية (أم سعد)، و(البرتقال الحزين) عن قصة (أرض البرتقال الحزين). ويشير (الزبيدي) إلى أن التباساً انتشر في أدبيات السينما عموماً، حيث اعتقد أن الفيلم السوري الأول (رجال تحت الشمس) مأخوذ عن رواية كنفاني (رجال في الشمس) غير أن سيناريو هذا الفيلم، الذي يتضمن ثلاث قصص عن المقاومة الفلسطينية، كتبت قصصه الثلاث مباشرة للسينما، وحمل الفيلم عنواناً مشابهاً تقريباً لعنوان رواية كنفاني.
ويذكر الناقد السينمائي بشار إبراهيم أن (غسان لم يشتغل في السينما.. بل لم يرَ أيَّاً من الأفلام التي صيغت عن رواياته، وذلك على الرغم من أنه وقّع عقدي تحويل روايتين له، على الأقل، هما رواية (ما تبقى لكم) 1966، و(رجال في الشمس(1963، إلى فيلمين روائيين طويلين، هما على التوالي فيلم (السكين) لخالد حماده 1971، و(المخدوعون) لتوفيق صالح 1972... وقد مضى غسان كنفاني شهيداً، وترك خلفه فيلمين أُعدَّا عن روايتين له، لم يشاهد الفيلمين، ولا اهتم بمتابعة العمل فيهما.. وإذا كان الفيلمان حققا مستويين متفاوتين من البراعة، فإن السينما التي لم يبدُ أن غسان قد اهتم بها في حياته، شاءت الاهتمام به بطريقتها الخاصة، واقتفاء أثره في أفلام تتالت طيلة ثلاثين سنة مضت على رحيله..).
(السكين) الفيلم الروائي الطويل، الذي أعده المخرج خالد حماده، لصالح المؤسسة العامة للسينما السورية، عام 1971، كان أول فيلم روائي طويل يتمُّ إنجازه عن أدب غسان كنفاني، من خلال الرواية التي حملت عنوان (ما تبقى لكم)، والتي كتبها في العام 1966.
وكان فيلم (المخدوعون)، لمخرجه المصري توفيق صالح، وإنتاج المؤسسة العامة للسينما في سورية، عام 1972، بعد فشله في الحصول على موافقة المؤسسة العامة لسينما في مصر، لإنتاجه، منذ العام 1965، كان الفيلم الثاني وقد حصل على العديد من الجوائز السينمائية الدولية، أهمها (التانيت الذهبي) في مهرجان قرطاج 1972. ولعل الإخلاص لرؤية غسان كنفاني، هو الذي ميز عمل توفيق صالح، بغض النظر عما أضافه المخرج من تفاصيل تضيء الفكرة، أو أسقط من النص جملاً فائضة عن حاجة الشاشة، أو عدل قليلا بما تقتضيه متغيرات الزمن بين صدور الرواية وعرض الفيلم، وما تفرضه عليه رؤيته هو كمبدع.
وفي العام 1982 بادرت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، من خلال ما أسمته يومها (مؤسسة الأرض للإنتاج السينمائي) إلى تحقيق الفيلم الروائي الطويل اليتيم في إطار سينما الثورة الفلسطينية، وذلك عندما أسندت إلى المخرج العراقي قاسم حول مهمة إخراج فيلم (عائد إلى حيفا) عن رواية غسان التي تحمل ذات الاسم، وقد استعان المخرج بقيس الزبيدي في المونتاج، وزياد الرحباني في الموسيقى، ومجموعة من الممثلين اللبنانيين والسوريين من طراز جمال سليمان، وحنان الحاج علي، وبول مطر، والألمانية كريستين شور..
وفي العام 1995، قام المخرج الإيراني سيف الله داد بالعمل على رواية (عائد إلى حيفا) مرة أخرى ليقدِّم فيلمه (المتبقي).. مستعيناً بطاقم من الممثلين السوريين أمثال جمال سليمان وجيانا عيد وسلمى المصري وعلاء الدين كوكش وغسان مسعود.. وغيرهم من الممثلين والفنيين والتقنيين، وقام بتصوير فيلمه في مدينة اللاذقية توأم مدينة حيفا، فقد صنع فيلماً تلتبس هويته بين العربية والإيرانية، إذ رأينا نسخة ناطقة بالعربية وأخرى مدبلجة بالفارسية..
ورغم أن الفيلم ينهض على خيوط يستلها من رواية (عائد الى حيفا). إلا أن سيف الله داد لم يشر في (تيترات) مقدمة الفيلم الى غسان كنفاني وروايته، وإنما اكتفى بإشارة مترددة في تيترات النهاية (التي تراهن على جمهور يغادر الصالة المضاءة في تلك اللحظة ).. توميء إلى إلقاء (نظرة) على كنفاني و(عائد الى حيفا).!
وفي تقييمه للأعمال السينمائية الثلاثة (المخدوعون، السكين، عائد الى حيفا)، يقول الزبيدي: ( مع أن هذه الأفلام الثلاثة، استندت إلى نوعية خطاب ثقافي جاد ورصين متماثل مع نوعية خطاب الكاتب نفسه، لكن مع هذا لم يتم الالتفات في عملية تحويل تلك الأفلام إلى خصائص أدبه وعنايته في كيفية (شكل) السرد، إنما تم الوقوف، فقط، عند بوابة ال(ماذا) في هذا السرد، أما الفيلم الإيراني )المتبقي) فإنه كخطاب لم يتماثل مع رواية (عائد إلى حيفا) الأصل التي أخذ عنها، بل ذهب أبعد في التركيز على ال(ماذا) الأصل وحوله، بإضافات لا تتنافس فقط مع ما أراد الكاتب الملتزم التعبير عنه كحالة تاريخية وواقع متغير، دون الرجوع، بأمانة، لا إلى الواقعة التاريخية ولا إلى إعادة قراءة مستقبل تلك الواقعة التي تحولت مع الزمن إلى ظاهرة معاصرة).
وإذا ما التفتنا إلى الزمن الذي أنتجت فيه تلك الأفلام، فسوف نفهم أيضا الدافع وراء اختيار بعض روايات غسان كنفاني للسينما، الذي لم يكن بسبب نوعية رواياته، وإنما بسبب القضية التي تناولتها رواياته، أي فلسطين، ويقول غسان كنفاني بهذا الصدد: (إن فلسطين تمثل العالم برمته في قصصي). أما بصدد رواياته فيقول: (إن شخصيتي كروائي كانت متطورة أكثر من شخصيتي كسياسي، وليس العكس).
أما الأفلام التي تطرقت إلى شخص غسان كنفاني كمفكر وإنسان وشهيد، فهي عديدة نذكر منها: (لماذا المقاومة؟)، و(لن تسكت البنادق)، و(الكلمة البندقية)، و(أوراق سوداء)، و(أبداً في الذاكرة).
ويعد فيلم (أسطورة العشق الفلسطيني) للمخرج الفلسطيني رامي السعيد، ومن إنتاج (وحدة سينما العودة الفلسطينية) التابعة لبيت الذاكرة الفلسطينية في دمشق، أحدث الأفلام التسجيلية التي تناولت حياة (غسان)، وفيه يركز المخرج على الجانب الأدبي والإبداعي من سيرة حياته، حيث يبدأ الفيلم بمشاهد لعملية (مطار اللد) التي نفذها مقاتلو الجيش الأحمر الياباني وكيف حملت قيادة العدو الصهيوني المسؤولية المباشرة للشهيد غسان كنفاني ونفذت عملية اغتياله في بيروت في صباح يوم الثامن من شهر تموز (يوليو) 1972م، مستخدماً مشاهد وثائقية لتلك الأحداث.
ويتضمن الفيلم شهادات سجلت مع عدد من الأدباء السوريين والفلسطينيين، ممن عرفوا الشهيد عن قرب أو من خلال قراءاتهم وهم : الروائي حنا مينه، والشاعر سليمان العيسى(من سوريا) ، والشاعرالراحل يوسف الخطيب، والأديب عدنان كنفاني ( شقيق الشهيد غسان)، والناقد يوسف سامي اليوسف، والشاعر محمود علي السعيد (من فلسطين).
وينتهي الفيلم ومدته( 36 / دقيقة ) بمشاهد نادرة لجنازة الشهيد غسان في بيروت، وهو مترجم للغة الفرنسية.
مواسم رحلة عطاء مبدع ثائر
تعددت عطاءات غسان كنفاني الفكرية والثقافية والفنية والإعلامية فكتب القصة القصيرة، والرواية، والمقالة الصحفية، والدراسات التحليلية والمسرحية كما رسم عديد اللوحات التشكيلية وفي تنوع نشاطاته كانت فلسطين محور عمله...
أعماله الروائية:
رجال في الشمس: بيروت – 1963. وصدر ضمن مشروع "كتاب الشهر". الذي تصدره وزارة الثقافة، فلسطين، 2004.
ما تبقى لكم، دار الطليعة، بيروت، 1966.
ام سعد دار العودة، بيروت1969، ط2، 1970.
عائد إلى حيفا، دار العودة، بيروت،1969 .
الشيء الآخر (من قتل ليلى الحايك)، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1980.
العاشق، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1980.
و"العاشق"، و "الأعمى والأطرش"، و"برقوق نيسان". (3 روايات غير كاملة)، نشرت ضمن أعماله الكاملة.
"العبيد" أو اللوتس الأحمر الميت، (رواية نشرت على حلقات في مجلة الطليعة الكويتية من العدد 32، 22/5/1963 إلى العدد 48، 11/9/1963). ولم تنشر في كتاب.
المجموعات القصصية:
موت سرير رقم 12 مكتبة منيمنة، بيروت، 1960.
أرض البرتقال الحزين دار الفجر، الاتحاد العام لطلبة فلسطين في لبنان، بيروت، 1963.
عن الرجال والبنادق دار الآداب، بيروت، 1968.
عالم ليس لنا، دار الطليعة، بيروت، 1965.
القميص المسروق وقصص الأبحاث العربية، بيروت، 1982.
ما لم يعرف من أدب غسان كنفاني، (تضم 5 قصص قصيرة) جمع وتقديم سليمان الشيخ، المؤسسة العربية الدولية للنشر/ دار الشباب ، نيقوسيا، 1986.
المسرح والدراما:
الباب، دارالطليعة، بيروت، 1964.
القبعة والنبي، بدون تاريخ.
جسر إلى الأبد (دراما إذاعية)، وقدمتها مؤسسة يوم المسرح الفلسطينية في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي عام 1998. وصدرت في الجزء الثالث من أعماله الكاملة، مؤسسة غسان كنفاني ودار الطليعة، بيروت، 1978.
الدراسات:
أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 48- 1966، بيروت، 1966.
الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال، بيروت، 1968.
في الأدب الصهيوني، بيروت، 1967.
المنظمة الاشتراكية الإسرائيلية ماتسبن، بيروت، دار منيمنة.
ثورة 36-39 في فلسطين، خلفيات وتفاصيل وتحليل. شؤون فلسطينية، بيروت، 1972. ط2، دار كنعان، دمشق، 1990
المدافع، عكا، دار الأسوار، 1978.
المقاومة و معضلاتها، (دراسة).
ثم أشرقت آسيا (أدب رحلات) حول زيارته إلى الصين، صدر في حلقات عام 1965.
ترجمة:
تنيسي وليامز، صيف ودخان، (رواية) ترجمة، 1964.
كتابات ساخرة:
مقالات فارس فارس، دار الآداب ومؤسسة غسان كنفاني الثقافية، 1996 .
مراسلات:
رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان، دار الطليعة، بيروت،1992.
كتب للأطفال:
أطفال غسان كنفاني،دار الفتى العربي، بيروت، 1980.
القنديل الصغير
الكتاب للجميع - السفير 2002
الآثار الكاملة:
ظهرت آثاره الكاملة في ثمانية مجلدات على النحو التالي:
المجلد الأول: ويشمل الروايات، تقديم د. إحسان عباس، 1972.
المجلد الثاني: ويشمل المجموعات القصصية القصيرة، تقديم يوسف أدريس، 1973.
المجلد الثالث: ويشمل المسرحيات، 1978. وقدم لها جبرا إبراهيم جبرا، 1978.
المجلد الرابع: ويشمل الدراسات الأدبية، تقديم محمود درويش.
المجلد الخامس: ويشمل قصص الأطفال.
المجلد السادس: مقالات وقصائد نشرت باسم فارس فارس
المجلد السابع: ويشمل الروايات التي لم تنشر، دار الطليعة، بيروت.
المجلد الثامن: ويشمل الدراسات السياسية، دار الطليعة، بيروت.
دراسات حوله .. إنسانا وأديبا ومناضلا:
ضياء العزاوي، رسوم لأرض البرتقال، لجنة تخليد غسان كنفاني، 1973 .
د. إحسان عباس، غسان كنفاني إنسانا وأديبا ومناضلا، منشورات الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين، بيروت.
د. أفنان القاسم، غسان كنفاني: البنية الروائية لمسار الشعب الفلسطيني من البطل المنفي الى البطل الثوري، وزارة الثقافة والفنون - العراق 1978
أنطوان شلحت، غسان كنفاني: الرجل تحت الشمس ( جمع واعداد) ، بالاشتراك مع يعقوب حجازي، دار الأسوار، عكا 1980.
د . رضوى عاشور، الطريق إلى خيمة الأخرى: دراسة في أعمال غسان كنفاني، دار الآداب، بيروت،1981 .
فاروق وادي، ثلاث علامات، المؤسسة العربية، بيروت، 1981
عمر مشروح، الرواية الفلسطينية من خلال أعمال غسان كنفاني، رسالة ماجستير، كلية الآداب جامعة الرباط، 1982.
د. ماجدة حمود، الشخصية القصصية والروائية في أدب غسان كنفاني، أطروحة ماجستير، جامعة دمشق، 1983.
إدريس الناقوري، رواية الذاكرة أو عائد الى حيفا، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1983.
محمد عبد الله الجعيدي، العذاب والمنفى في فن القصة الفلسطيني الحديث، غسان كنفاني نموذجا،(بالاسبانية) منشورات الهدف، مدريد، 1987.
فيحاء عبد الهادي، وعد الغد " غسان كنفاني"، دار الكرمل، 1987.
خالدة شيخ خليل، الرمز في أدب غسان كنفاني، دار شرق برس، 1989.
محمد أبو النصر، دراسات في أدب غسان كنفاني، حين يموت الرجل، اتحاد الكتاب الفلسطينيين، القدس، 1990.
فيحاء عبد الهادي، غسان كنفاني ( الرواية والقصة القصيرة) – دراسة نقدية – الجمعية الفلسطينية الأكاديمية للشئون الدولية، القدس، 1990.
حيدر توفيق بيضون، غسان كنفاني الكلمة والجرح، دار الكتب العلمية، بيروت، 1995.
ناهض خميس زقوت، نوابغ الإبداع – شخصيات فلسطينية (معين بسيسو، غسان كنفاني، ناجي العلي، نجاتي صدقي)، دراسة وسيرة ذاتية، منشورات عشتاروت للثقافة والفنون، غزة، 1996.
نجمة خليل حبيب، النموذج الإنساني في أدب غسان كنفاني، بيسان، 1999
سهيل كيوان، غسان كنفاني - الجمال الحزين والعطاء المتوهج، المؤسسة الفلسطينية للإرشاد القومي، رام الله، 2001.
الحكم النعيمي، غسان كنفاني - شهادات وصور، مؤسسة غسان كنفاني الثقافية، 2001.
وسيم الكردي، رجال في الشمس، حضور النص وغيابه، دار القطان، فلسطين، 2002.
يوسف سامى اليوسف، غسان كنفاني رعشة المأساة، دار كنعان ، دمشق، 2004.
صبحية عودة، صورة البطل في الرواية الفلسطينية (غسان كنفاني نموذجاً)، 2005.
كريم مهدى المسعودى، غسان كنفاني وعبد الرحمن منيف الرؤية المستقبلية في الرواية، دار أسامة.
مصطفى الولى، غسان كنفاني : تكامل الشخصية واختزانها : دراسة نقدية في جوانب من أدبه ورسائله، دار الحصاد، دمشق، 1993.
د. عبد الرحمن ياغى، مع غسان كنفاني وجهوده القصصية الروائية المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.
فضل النقيب، هكذا تنتهى القصص هكذا تبدأ : انطباعات شخصية عن حياة غسان كنفاني وباسل الكبيسى، مؤسسة الأبحاث العربية.
د.فيصل دراج، غسان كنفاني: رمز الثقافة الوطنية، ضمن سلسلة "المكتبة الوطنية" (رقم 3)، إصدار المركز الفلسطيني للبحوث والدراسات الاستراتيجية، رم الله، 2008.
أوس داوود يعقوب، غسان كنفاني .. الشاهد والشهيد، فصول من سيرته الإعلامية والسياسية ، الكتاب الدوري لمجلة (فكر) ، تصدر كل شهرين، عن الحزب القومي الاجتماعي، العدد(113)، دمشق، تشرين الثاني ـ كانون الأول 2011.
الجوائز:
نال جائزة القصة العربية عام 1962.
نال جائزة أصدقاء الكتاب في لبنان عن روايته "ما تبقى لكم" عام 1966.
نال اسمه جائزة اتحاد الصحفيين الديمقراطيين العالميين عام 1973.
نال اسمه جائزة اللوتس من اتحاد كتاب آسيا وإفريقيا عام 1975.
منح اسمه وسام القدس للثقافة والفنون، من منظمة التحرير الفلسطينية في كانون الثاني/ يناير 1990.
شذراتٌ مما كتبْ الشهيد
لقد حاولت منذ البدء أن أستبدل الوطن بالعمل، ثم بالعائلة، ثم بالكلمة، ثم بالعنف، ثم بالمرأة، وكان دائماً يعوزني الانتساب الحقيقي. ذلك أن الانتساب الذي يهتف بنا حين نصحو في الصباح: لك شيء في هذا العالم فقم. أعرفته؟ وكان الاحتيال يتهاوى، فقد كنت أريد أرضاً ثابتة أقف فوقها، ونحن نستطيع أن نخدع كل شيء ما عدا أقدامنا، إننا لا نستطيع أن نقنعها بالوقوف على رقائق جليد هشة معلقة بالهواء.
سأظل أناضل لاسترجاعه لأنه حقي وماضيّ ومستقبلي الوحيد..لأن لي فيه شجرة وغيمة وظل وشمس تتوقد وغيوم تمطر الخصب... وجذور تستعصي على القلع.
حياتي جميعها كانت سلسلة من الرفض ولذلك استطعت أن أعيش. لقد رفضت المدرسة ورفضت الثروة ورفضت الخضوع ورفضت القبول بالأشياء.
إن الدنيا عجيبة، وكذلك الأقدار. إن يداً وحشية قد خلطت الأشياء في المساء خلطاً رهيباً فجعلت نهايات الأمور بداياتها والبدايات نهايات...ولكن قولي لي: ماذا يستحق أن لا نخسره في هذه الحياة العابرة؟ تدركين ما أعني...إننا في نهاية المطاف سنموت.
إن الإعلام معركة ... وبالنسبة لنا فإن معركتنا الإعلامية لا تحقق انتصارا إذا ما جرى خوضها من خلال المبادرة الكلامية مع العدو أمام رأي عام في مجمله منحاز وعلى شبكات إذاعية وتلفزيونية تقف جوهريا ضد قضايانا .. إننا في حالة حرب، وهي بالنسبة للفلسطينيين على الأقل مسألة حياة أو موت. ولابد من التزام جمهرة الشعب الفلسطيني بالشروط التي تستوجبها حالة حرب من هذا الطراز.
لنزرعهم شهدائنا في رحم هذا التراب المثخن بالنزيف..فدائما يوجد في الأرض متسعا لشهيد آخر.
إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية..فالأجدر بنا أن نغير المدافعين..لا أن نغير القضية.
إن الإنسان هو في نهاية الأمر قضية.
لا تمت قبل أن تكون ندا!.
إن قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت..إنها قضية الباقين.
الغزلان تحب أن تموت عند أهلها..الصقور لا يهمها أين تموت.
ليس المهم أن يموت أحدنا..المهم أن تستمروا ...
أنا أحكي عن الحرية التي لا مقابل لها..الحرية التي هي نفسها المقابل
لا أرتد حتى أزرع في الأرض جنتي..أو أقتلع من السماء جنتها..أو أموت أو نموت معاً.
إن الموت السلبي للمقهورين و المظلومين مجرد انتحار و هروب و خيبة و فشل.
الثورة وحدها هي المؤهلة لاستقطاب الموت..الثورة وحدها هي التي توجه الموت..و تستخدمه لتشق سبل الحياة.
الأشباح ماتوا ..قتلتهم الفيزياء. .وذوبتهم الكيمياء.. و أرعبتهم العقول.
إن كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق و تافه لغياب السلاح..و إنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه.
لك شيء في هذا العالم..فقم!.
هذه المرأة تلد الأولاد فيصيروا فدائيين..هي تخلف و فلسطين تأخذ.
في صفاء رؤيا الجماهير تكون الثورة جزءاً لا ينفصم عن الخبز و الماء و أكف الكدح ونبض القلب.
إن ضرب السجين هو تعبير مغرور عن الخوف.
إن الخيانة في حد ذاتها ميتة حقيرة.
سيظل مغروسا هنا ينبض وحده في العراء..إلى أن يموت واقفاً.
أورثني يقيني بوحدتي المطلقة مزيدا من رغبتي في الدفاع عن حياتي دفاعاً وحشياً.
أيمكن أن يكون القدر مرتباً على هذه الصورة الرهيبة..يا إلهي..أيمكن؟!
إن حياتي وموتك يلتحمان بصورة لا تستطيع أنت ولا أستطيع أنا فكهما.. ورغم ذلك فلا يعرف أحد كيف يجري الحساب ها هنا.
لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟
لم أعد أشك في أن الله الذي عرفناه في فلسطين قد خرج منها هو الآخر.. وأنه لاجئ في حيث لا أدري!
إن الانتصار هو أن تتوقع كل شيء.. وألا تجعل عدوك يتوقع.
إنها الثورة! هكذا يقولون جميعاً.. وأنت لا تستطيع أن تعرف معنى ذلك إلا إذا كنت تعلق على كتفك بندقية تستطيع أن تطلق..فإلى متى تنتظر؟!
بالدم نكتب لفلسطين.
شهادات .. غسان الإنسان والمبدع والمناضل والشهيد
أخذ اغتيال كنفاني شكل القتل الرمزي، وبه افتتحت (إسرائيل) سياستها المركزية مع الجسد الفلسطيني، فصار قتل القادة والمناضلين الفلسطينيين أشبه بطقس رمزي، يسعى ليس إلى قتل الشخص المحدد فقط، بل إلى قتل الفكرة الفلسطينية.
إلياس خوري
كم يشبهك الوطن! .. وكم تشبه الوطن!..
الموت دائماً رفيق الجمال. جميل أنت في الموت يا غسان. بلغ جمالك الذروة حين يئس الموت منك وانتحر. لقد انتحر الموت فيك. انفجر الموت فيك لأنك تحمله منذ أكثر من عشرين سنة ولا تسمح له بالولادة. اكتمل الآن بك، واكتملت به. ونحن حملناكم – أنت والوطن والموت – حملناكم في كيس ووضعناكم في جنازة رديئة الأناشيد. ولم نعرف من نرثي منكم. فالكل قابل للرثاء. وكنا قد أسلمنا أنفسنا للموت الطبيعي.
– أيها الفلسطينيون... احذروا الموت الطبيعي!. هذه هي اللغة الوحيدة التي عثرنا عليها بين أشلاء غسان كنفاني.
محمود درويش
لدى قراءة كنفاني اليوم نكتشف، أولاً ودائماً، أنه في عمق وعيه كان يدرك أن الثقافة أصل، من عدة أصول، للسياسة وأنه ما من مشروع سياسي دون مشروع ثقافي. لعل المسعى الأهم لبحوث كنفاني الأدبية هو ذلك المتمثل في ترسيخ أسس ولادة الفلسطيني الجديد، لجهة التأني عن الإنسان المجرد والفلسطيني المجرد والاقتراب من الإنسان الفلسطيني الذي يعي أسباب نكبته ويدرك أحوال العالم العربي ويعرف أكثر ماهية الصهيوني الذي يواجهه. وهذه المهمة لا تستطيع أن تقوم بها إلا ثقافة في مفهومها النقدي، المتجاوز لما هو سائد، الذي يقطع مع القيم البالية.
أنطون شلحت
تبرز مكانة غسان كنفاني في كونه السارد الفلسطيني لمرحلة التهجير واللجوء، وتشكُّل سؤال المقاومة الفلسطينية الذي تجاوز خطاب التفجع والبكاء وانتظار الإغاثة. فكنفاني هو أيضاً كاتب تجربته الشخصية التي تماهت مع التجربة الجمعية إلى درجة يصعب فصل الواحدة عن الأخرى. وهو يشكّل حالةً استثنائيةً في اقترابه المباشر من حرارة التجربة وكتابتها، من دون أن تحترق أجنحة الفنّ في كتابته.
نجوان درويش
مسيرة غسان كنفاني في الصحافة، تكاد توازي حضوره الإبداعي وتفوقه غزارة. لفت الأنظار في الكويت بتعليق كان يوقّعه (أبو العز)، وكان نشر مقالاته الأولى في (الرأي) في دمشق. كتب في الأدب والنقد، لكن مقالاته السياسية هي التي أثارت الاهتمام الأكبر.
بيار أبي صعب
لم يعش سوى 36 سنة. لكننا إذا نظرنا إلى كتاباته الروائية والقصصية والمسرحية والنقدية، إضافة إلى عمله كباحث وسياسي ومؤرخ وصحافي ورسام، نحسب أننا أمام كتيبة من المؤلفين، وليس كاتباً فرداً. إن غسان كنفاني يترك لنا صورة كاتب واظب على الكتابة طوال حياته التي كان يستشعر ربّما أنها ستكون قصيرة. لا بد أن هذا الرجل تخلّى عن النوم والعطلات والسفر واللهو، ووهب حياته كلها للكتابة وحدها... وإلا كيف يمكن تصديق عدد كتبه، وعدد الأسماء المستعارة التي كتب بها. لا بد أن صاحب «عائد إلى حيفا» وجد وصفة سرية لمضاعفة سنوات عمره من دون أن يتغير عددها، ليتمكن من إنجاز كل هذه الأعمال.
حسين بن حمزة
كانت حياته القصيرة وإبداعه أقرب إلي عاصفة من القدرة على التعبير عن الكرامة والوطن خرجت من مخيمات نكبة 1948، وحملت معها إلى العالم كله صورة تلك المخيمات وقضية شعب سدت أمامه كل الأبواب ولم يبق له سوى دخول التاريخ برأس ثابت كالرمح، لأن الوطن لا يستبدل بشيء آخر أيا كان .
أحمد الخميسي
كان غسان كنفاني في حياته القصيرة، أنموذجاً طافحاً لحالة الشغف. نستطيع الانتهاء إلى هذا الاستنتاج من خلال العديد من التفاصيل المتفرقة، التي نلتقطها في الحياة اليومية لغسان، كما من ذلك التناثر الجميل على العديد من الأنساق الإبداعية التي جرَّبها، من القصة القصيرة، إلى الرواية، إلى المسرح، إلى الفن التشكيلي، وربما الشعر.. ومن البحث والدراسة، إلى النقد الأدبي، إلى الكتابة الصحفية والتحليل السياسي، إلى الكتابة الساخرة..
بشار إبراهيم
كان اللون والخط بداية عطائه الذاتي ولكنه وجد أن الكلمة أكثر التصاقاً بالفكرة وأكثر تعبيراً عنها فاستخدم الكلمة في مجال القصة القصيرة والرواية والمسرحية والدراسة والمقال السياسي فقد كان أول من تعرض لدراسة الأدب الصهيوني دراسة علمية وافية.
داوود يعقوب
لقد تعمد غسان بمطر يافا، وحين غادرها كان مطرها قد اخترق جلده إلى الأبد وصار من بعض دورته الدموية... وكان النسيان مستحيلاً.
وكان غسان منذ البداية يتقن استعمال قلمه وسكينه معاً، ويؤمن بهما معاً.
.. أرى غسان دائماً: رجل قلمه من الناحية الثانية مشرط قاطع، إنه الرجل الذي لا يحجم عن استعمال السلاح المناسب في الوقت المناسب، طرف القلم وطرف المشرط، وبوسعه : (أن يصنع الحياة بمشرط جارح)
غادة السمان
سأحاول أن أنبش وهج رسائله إلى غادة السمان، لا بوصفها فضيحةً معلنةً، كما أرادها حملة السيوف، بل من باب أنّ هذه الرسائل نصوص عشق متوحّشة. فالمناضل الجيد عاشق جيد بالضرورة. كنفاني كما تكشف عنه سطوره في الرسائل يكتب نصاً متوهّجاً من دون أقنعة. ولعله في مثل هذه الاعترافات تكمن خصوصية كنفاني، فهي إضافة أصيلة إلى نصه الآخر، النص الثوري والمقاوم.
.. الرسائل نصوص نادرة كم نحتاج إليها في مكتبة فقيرة، بعيداً من نصاعة الزيف الأدبي الذي تغرق به رفوف المكتبة العربية والفلسطينية، بعدما ضاقت بالصراخ والديناميت الفاسد.
خليل صويلح
عودّنا غسّان أن تكون هداياه لنا بالمناسبات "مولد أحدنا أو الأعياد الدينية والوطنية" رسائل أو لوحات يرسمها.
شقيقه الأديب عدنان كنفاني
أهم مصادر ومراجع الملف:
أحمد عمر شاهين، موسوعة كتاب فلسطين في القرن العشرين، دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية، 1992م.
إسماعيل شموط، الفن التشكيلي في فلسطين، الكويت، 1989م.
أوس داوود يعقوب، غسان كنفاني .. الشاهد والشهيد، فصول من سيرته الإعلامية والسياسية، الكتاب الدوري لمجلة (فكر) ، تصدر كل شهرين، عن الحزب القومي الاجتماعي، العدد(113)، دمشق، تشرين الثاني ـ كانون الأول 2011.
سلمى الخضراء الجيوسي، موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر، الجزء الثاني: النثر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1997م.
محمد دكروب، مقالات فارس فارس، دار الآداب ومؤسسة غسان كنفاني الثقافية، 1996م.
مجموعة مقالات من الشبكة العالمية (الانترنيت)، عن الشهيد غسان كنفاني.