الرائد إسماعيل شمّوط .. ظل الغياب
يُعد الفنان والناقد التشكيلي إسماعيل شمّوط، من أوائل وأبرز الفنانين التشكيليين الذين أرّخوا بفنهم للجرح الفلسطيني النازف منذ بدايته وحتى آخر مرة مسك فيها الريشة والألوان. ويعتبر المؤسس الفعلي للحركة الفنية التشكيلية الفلسطينية التي لم تعرف قبله فناناً استطاع أن يربط حياته الفنية بحياة شعبه في مختلف المراحل التي مرت فيها القضية الفلسطينية. وأكد في رسوماته، من خلال المزج بين الرمز والواقع، على التمسك اللا محدود لشعبه بأرضه وموروثه الحضاري الضارب في القدم، وعلى إرادته الصلبة بالدفاع عن قيمه وحقوقه ومستقبل أطفاله. وهو أول فنان تشكيلي فلسطيني يقيم معارض خاصة لإنتاجه الفني.
خلال فترة دراسته الجامعية تعرف (إسماعيل) على الفنانة التشكيلية الفلسطينية (تمام الأكحل)، التي ستصبح (عام 1959م) زوجته ورفيقة عمره في مسيرته الحافلة هذه، فكانت بذلك رفيقة الدرب والحياة والفن والنضال، وشكلا معاً ثنائياً فنياً جميلاً ومهمّاً.
مأساة شعب، ترسم ملامح الدرب
ولد إسماعيل عبد القادر شموّط في مدينة « اللد » في فلسطين المحتلة، في الثاني من شهر آذار (مارس) عام 1930م، في أسرة متدينة متوسطة الحال، مكونة من والدين وسبعة أخوة. وكان والده بائع خضار، ولهذا السبب تحضر في أعماله الكثير من مظاهر الحياة القروية والفلاحية الفلسطينية، واللوحات التي كرسها لثمار الأرض الفلسطينية، تشير إلى تماهي الفنان مع الحياة الوادعة في بلاده قبل النكبة.
برزت مواهب (إسماعيل) وميوله الفنية، وتعرفه على الألوان، وهو لم يزل في السابعة من عمره، وكانت رسومه الأولى للطبيعة ـ وهو في السنة الابتدائية الأولى ـ جميلة وآخاذة، فلفتت موهبته الأنظار، ولاقت تشجيعاً وتوجيهاً من معلم الفنون في مدرسته، الذي علمه أصول الرسم بأقلام الرصاص والأحبار الصينية والألوان المائية والطباشير، ومزاولة هواية النحت على أحجار الحوّار الكلسي.
وعن هذه الفترة المبكرة من عمره، وعن أهم المؤثرات التي لعبت دوراً هاماً في توجهه نحو الفن التشكيلي، يقول (شموط): « أحببت الرسم منذ نشأتي وطفولتي في أواسط الثلاثينيات، وفي المدرسة تعلمت الرسم والأشغال اليدوية، وكنت أنتظر هذا الدرس بفارغ الصبر. وقد كان أستاذي (داوود زلاطيمو) عاشقاً للفن (من رسم وأشغال يدوية وموسيقى وإنشاد) وكانت موهبتي في الصغر بارزة، بحيث جعلته يخصني برعاية خاصة، وراح يشجعني، ويمدني بالمواد الفنية المتيسرة في ذلك الحين. ومدينة (اللد) ـ مسقط رأسي، محاطة ببساتين وحقول، وسهول زاخرة بالأزهار الجميلة عديدة الألوان والأشكال ـ كان لها أكبر الأثر عليّ، وعلى إنتاجي الفني، وكانت رسومي ولوحاتي التي رسمتها في (اللد) لوحات طفل، ثم صبي، حملت مواضيع الجمال والطبيعة الجميلة، قبيل عام 1948م، أي قبيل النكبة مباشرة، صارت تشدني مواضيع لها علاقة بمجريات الأحداث في فلسطين؛ فرسمت صور المجاهدين والقادة، كان منهم الحاج أمين الحسيني، وبعض القادة العرب. وحدثت النكبة، وكنت أحد ضحاياها الذين عاشوا المأساة بكل أبعادها، وكان لها التأثير الأكبر على مجرى حياتي وعلى توجهي الفني ».
في عام النكبة 1948م، كان (إسماعيل) في بداية التاسعة عشرة من عمره، وقد لجأ مع أسرته، إثر عملية تهجير قسري مارستها عصابات المنظمات العسكرية الصهيونية، إلى قطاع غزة.
ولقد تركت النكبة أثراً واضحاً على أعماله الفنية وتوجهاته خاصة أنه فقد شقيقه الذي مات من العطش، وسجل هذه اللحظة من الخروج الفلسطيني في لوحته « العطش أو جرعة ماء » (1953م).
في مخيم اللاجئين بمدينة مدينة (خان يونس) في القطاع، امتهن الوالد فن التصوير، وهو الفن الذي سيرسخ في وعي الفتى وينبهه إلى أهمية التعبير بالألوان. وفي المخيم عمل الفتى بائعاً جوالاً للحلويات لمدة عام، ثم معلماً في إحدى مدارس اللاجئين في القطاع. وفي هذه المرحلة أتيحت له بعض الإمكانيات الفنية البسيطة؛ كي يعود ليرسم من جديد؛ فرسم واقع الحياة من حوله.
سافر (إسماعيل) عام 1950م إلى القاهرة، ليلتحق بكلية الفنون الجميلة (القسم الحر)، وقد أباح له قسم الرسم الحر العمل المهني الارتزاقي خارج أوقات الدوام وكسب مصاريف الدراسة عن طريق رسم أفيشات سينما ومناظر طبيعية وصور أشخاص وسواها زاده ذلك خبرة وجعله يخرج عن الأنماط الأكاديمية الكلاسيكية الجبرية للطلاب النظاميين مما أعطاه حيوية وحركة وحرية في تحوير شخوصه ونماذجه من هيئتها المصرية النمطية إلى كسوتها الفنية والجمالية بملامح فلسطينية مشدودة نحو المخيم وأماكن اللجوء والحنين لوطن مستلب ومفقود.
وفي التاسع والعشرين من تموز (يوليو) عام 1953م، أقام ـ بمشاركة شقيقه الأصغر (جميل) ـ معرضه الأول في (نادي الموظفين) في مدينة غزة، ولم يزل طالباً في الكلية، وكان ذلك أول معرض لفنان فلسطيني على أرض فلسطين.
يقول شمّوط: « قصدت مصر من أجل دراسة الفن فيها، وكان والدي لا يملك قرشاً، فبعت بعض اللوحات إلى الأجانب حتى جمعت عشر جنيهات، سافرت بها إلى القاهرة ».
وفي كلية الفنون الجميلة درس على يد الفنانين الكبار أمثال: ( حسين بيكار وأحمد صبـري وحسني البناني ويوسف كامل وغيرهم ).
وفي القاهرة افتتح الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، في 21 تموز (يوليو) 1954م أول معرض له ـ بمُشاركة الفنانة تمام الأكحل والفنان الفلسطيني نهاد سباسي ـ وحمل عنوان « اللاجئ الفلسطيني »، وكان المعرض مكوناً من خمس وخمسين لوحة لـ (شمّوط)، وخمسة عشرة لـ (تمام الأكحل)، وعشر لوحات لـ ( نهاد سباسي).
في هذه الفترة تعرف (شمّوط) على القيادات الفلسطينية المقيمة آنذاك بمصر، أمثال: (مفتي القدس الحاج محمد أمين الحسيني، وأحمد الشقيري رئيس منظمة التحرير، ورئيس حركة « فتح » ياسر عرفات).
بعد حصوله على الشهادة الجامعية عام 1956م، حصل (شمّوط) على منحة دراسية مُقدمة من الحكومة الإيطالية مكنته من الإقامة ومتابعة الدراسة العليا لفن التصوير والرسم الجداري في أكاديمية الفنون الجميلة بجامعة روما لمدة عامين.
وبعد عودته إلى بيروت، عمل مابين (أواخر 1956م وإلى أواخر 1958م) رساماً في مقر رئاسة وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في بيروت.
وقد أتاحت له هذه التجربة ان يطل على فقر المناهج الدراسية عندما يتعلق الأمر بالرسم في الاردن وسورية ولبنان وقطاع غزة. فتقدم بمشروع لإنعاش التجربة الفنية في تلك المدارس، ووافقت عليه وكالة الغوث. وسمحت له باستخدام المواد المحلية المتوفرة بأسعار زهيدة للغاية.
وافتتح مع شقيقه (جميل) العائد لتوه عقب تخرجه ودراسته الفن من لندن مرسماً للرسم والإعلان التجاري وتصميم أغلف الكتب والرسوم الداخلية التوضيحية.
وأقام في قاعة اليونسكو ببيروت معرضاً مُشتركاً عام 1957م مع الفنان توفيق عبد العال وزميلته الفنانة تمام الأكحل.
وفي عام 1965م انضم إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وشكل عام 1969م مع زملائه أول اتحاد للفنانين التشكيليين الفلسطينيين.
وقد لعب الاتحاد بفروعه الستة (في فلسطين ولبنان وسوريا والكويت وقطر والإمارات) عاملا مهمّاً في نشاط الفنانين التشكيليين الفلسطينيين؛ فقد كان يقيم وينظم المعارض والندوات واللقاءات العديدة بحكم علاقته العربية والدولية.
وفي عام 1983م بُعَيد الاجتياح الصهيوني للبنان نزح مع عائلته إلى الكويت، التي ظل فيها حتى حرب الخليج عام 1992م، وقد اتسمت هذه المرحلة بطابع نوستالجي رومانسي والعودة لاستلهام الطابع الشعبي الفلسطيني مثل لوحات: « الضائع في السوق » (1984م)، و« العازفة تنتظر » (1984م)، وغيرها. وفرح كما في « مغناة فلسطين » (1970م)، و« اليد الخضراء » (1973م)، و« الحياة المستمرة » (1976م)، و« نساء ينشرن الغسيل الملون »، و« الربيع الذي كان » (1960م).
وعندما خرج من الكويت بعد حرب الخليج، أرخ لهذا الخروج بلوحة تشير إلى الحلم المتكسر والعودة للرحيل مرة ثانية « حزن في الكويت » (1992م).
من الكويت سافر (إسماعيل) إلى ألمانيا، وبعدها استقر في عمان، وبعد (اتفاقيات أوسلو) المشؤومة، سجل ما حدث للوطن، بنزعة تجريدية وتعبيرية في كل ما يتعلق بالاحتلال « معبر إيريز 1 2 » (1997م) و « الاحتلال » (2004م) و « الجدار » (2004م)، الذي رصف فيه الفلسطينيين بكل فئاتهم وفؤوسهم وإصرارهم على خلفية الفضاء الفلسطيني الأخضر وقرب الجدار العنصري.
وفي عام 2005م يعود (إسماعيل) لفكرة العودة في لوحة « سنعود »، أم بزيها الفلسطيني الجميل وطفلها الحامل شقائق النعمان لوالده الشهيد، وفي البعد الوطن الضائع المخضر.
وتشاء الأقدار أن يغادرنا (إسماعيل شمّوط) في الثالث من تموز (يوليو) 2006م، إثر خضوعه لعملية جراحية في القلب، في إحدى مشافي ألمانيا، عن عمر يناهز 76 عاماً بعد معاناة مع المرض.
رحل (فنان الشعب)، غريباً بعيداً، عن وطن مُشتهى وتربة طهور دنسها الصهاينة.
ويذكر لـ (شمّوط) أنه مؤسس دائرة الفنون ومديرها في منظمة التحرير الفلسطينية، وأنه قد أشرف على الإدارة الفنية لوفد فلسطين إلى (مؤتمر الشبيبة العالمي) في برلين عام 1973م، فلفت أنظار العالم بأناقة الزي الفلسطيني الموحد الذي كانت تزينه الكوفية المرقطة باللون الأسود لأول مرة.
فنان الشعب.. عاشق الأرض
واكب (شموّط) بأعماله الفنية معاناة ونكبة شعبه الفلسطيني منذ بداياتها الأولى وحتى رحيله، وهي مواكبة صادقة وعاشقة لأرضها وتراثها وشعبها وأمتها، تقدم نفسها بكثير من الوضوح والنبل والنقاء، في مئات اللوحات الصغيرة والجداريّة التي خرجت من بين أنامله الموهوبة البارعة والوفيّة لموضوعاتها ووسائل التعبير عنها. وقد فرضت الحياة التي عاشها أن يلجأ إلى المدرسة الواقعية في الفن التشكيلي ورسم المعاناة التي عاشها اللاجئون والشعب الفلسطيني بعد النكبة.
يقول (شموط): « خَلَقَتْ مواضيعُ لوحاتي أسلوبَها، وكان الهمُّ الأساسي في بداية الخمسينيات هو كيف يمكن أن أعبر عن ذلك الزخم المتأجج والمخزون في أعماقي بالريشة واللون ».
وفي حوار صحفي معه قسم (شمّوط) تجربته الفنية إلى عدة مراحل مترابطة، يقول:
« المرحلة الأولى في الخمسينيات: مرحلة تداعيات المأساة، وهي مرحلة اعتمدت الأسلوب الواقعي البسيط، من لوحاتها: « إلى أين؟ » و« سنعود » و« بداية المأساة » و« جرعة ماء » و« ذكريات ونار »، وغيرها.
المرحلة الثانية في الستينيات: وهي مرحلة انطلاق الفلسطيني من حالة الحزن إلى حالة التحفز، من لوحاتها: «عروسان على الحدود" و«طاقة تنتظر» و«حتى الفجر» و«رقصة النصر»... وغيرها؛ حيث تألقت الألوان في اللوحة، وأصبح الأسلوب تعبيريّاً رمزيّاً، إضافة إلى واقعيتها.
المرحلة الثالثة في أواسط الستينيات: وهي مرحلة المقاومة الفلسطينية المسلحة، وما أشاعته من أجواء جديدة في الحياة الفلسطينية، مليئة بالأمل والفرح والحركة، ومن لوحاتها: «مغناة فلسطين» و«اليد الخضراء» و«الحياة المستمرة» و«الربيع»... وغيرها، وفي هذه المرحلة تجلت الحركة والتناغم اللوني والخطي.
المرحلة الرابعة في أواسط السبعينيات: وهي التي شهدت مأساة المخيمات (تل الزعتر وجسر الباشا ) والعدوان الصهيوني ضد الفلسطينيين في لبنان، ولوحاتي في هذه المرحلة عادت لتتناول موضوع الحزن مرة أخرى، لكن مع بعض العنف، باستعمال الألوان الحادة، في مجموعة اللوحات التي أنتجتها عام 1976م تحت عنوان «تل الزعتر»، والتي رسمتها بالألوان المائية في ظروف صحية معينة، وكنت يومها خارج حدود الوطن العربي، وقد ظهر عنصر جديد في لوحاتي هو عفوية التعبير وغياب بعض عناصر الواقعية.
المرحلة الخامسة: وهي مرحلة غلب عليها الاتجاه الرومانسي ـ وكنت قد انتقلت للعيش في الكويت بعد أكثر من عشرين عاماً عشتها في بيروت ـ وحلمت بانتفاضة الحجر، وعبرت عن ذلك بلوحتين أنتجتهما عام 1984م (قبل الانتفاضة الأولى التي تفجرت عام 1987م).
ولقد أجبرتنا الظروف في الكويت عام 1992م على الانتقال إلى ألمانيا والعيش فيها لمدة سنتين، ثم جئنا إلى الأردن التي نعيش فيها الآن، وبحكم هذا التنقل، وظروف المتغيرات على القضية الفلسطينية، لم يكن إنتاجي فيها مستقرا من حيث الموضوع أو الشكل».
وعن التقنيات التي يرتاح في التعامل معها، يقول: «أنا رسام لوحة زيتية، والفرشاة عادة أداتي المفضلة، رسمت بالأزهار المائية والأحبار وبالفحم، وأخيراً اكتشفت عالماً جديداً هو عالم الكمبيوتر كأداة جديدة وغنية للرسم، لكني أظل رساماً يحب رائحة الزيت والتربتين، وليس هناك تقنية واحدة أَستعملها مع كل هذه الأدوات؛ فلكل واحدة منها تقنيتها، كذلك لا أعتمد على تقنية واحدة في الرسم بالزيت، والتقنية بالنسبة لي ليست عملية عقلانية، بل هي خاضعة لما يفرضه الموضوع الذي يولد مع الحدث وفي أثناء العملية الفنية.. واستخدامي للكمبيوتر في مجال الرسم لم يكن على الإطلاق محاولة للخروج من إِسَار تجربتي الفنية؛ فأنا أعتز بتجربتي الفنية. وجهاز الكمبيوتر جهاز علمي معقد، قد شكَّل لي نوعًا من التحدي؛ تحدي العلم للفن، وهو تحدٍّ قائم منذ عصور.. واكتشفت بطريق الصدفة أنه يمكن استخدام هذا الجهاز للرسم، وكان ما يشغلني معرفة: مَن سيسيطر على مَنْ؟ وأعتقد أنني تمكنت من السيطرة عليه، واستخدامه لإنتاج فني جرافيكي، ورسمت بواسطته مئات اللوحات الجرافيكية ذات ملامح «شمّوطية» إن جاز التعبير، وبذلك أثبت أنني كسبت معركتي مع هذا الجهاز، وأنني اكتشفت أداة جديدة للرسم باستخدام الكمبيوتر ».
ويرى الفنان التشكيلي والناقد عبد الله أبو راشد أن لوحات (شمّوط) التصويرية « تمثل تأريخاً جميلاً لمسيرة حياته الشخصية المواكبة لدروب الأحزان الفلسطينية متعددة الوجوه والأسماء وتوثيق بصري وسردي أمين لكل تفاصيل الحياة اليومية الفلسطينية وما تخللها من أفراح وأحزان وأحلام عاكسة واقع الحال الفلسطيني المُعايش في بيئته الجغرافية في تراثه وأبعاده الحضارية والتاريخية وتقاليد سكانه بمختلف طوائفهم وأفكارهم باعتبارهم حالة متفردة ما بين الشعوب العربية في مصابهم ومآسي تشردهم في جهات الدنيا الأربع بفعل الغزوة الصهيونية المدعومة بكل جبروت الغرب الأوربي والأمريكي ».
ويضيف الأستاذ (أبو راشد) إن «لوحات (إسماعيل) متفاعلة مع مخيلته الواسعة ويده الماهرة في توصيف مواقفه البصرية بأساليب تقنية مدرسية رصينة لا تخرج عن حلول الشكلية ولتقنية عبر ميادين الواقعية التعبيرية بالفن التي شكلت المجال الحيوي لكل مُنتجاته. تحتل مفردة الإنسان الفلسطيني بأجناسه ومراحله الإنمائية المجال الأساسي والجملة التشكيلية الأكثر تواجداً في عموم أعماله. ألوانه الزيتية في المراحل الأولى والأكرليك في المرحلة الأخيرة هي الخامة التي يجد الفنان واحة وارفة الظلال لتوصيف أفكاره ومشاهده المُستلمة بكل فصولها الشكلية من الأسرة الفلسطينية هذه الخلية الفاعلة في إنتاج الأبناء الطيبين الذين عبدوا طريق العودة بذكي الدماء والجرحى والشهداء. وسطروا حكاية شعب وارض ووطن منارا لكل المقاومين».
رسام الشجن والمأساة والأمل
يقول شاعرنا الكبير الراحل محمود درويش (في ذكرى إسماعيل شمّوط): «الموهبة تسبق وعي المهمة. ومن التجربة وُلدت هذه الموهبةُ التي أدركت في ما بعد أنَّ عليها أن تخوض حرب الذاكرة ضد النسيان. وانتصر الفنانُ على ما أُعدَّ له ولشعبه من مشروعِ خروجٍ من التاريخ إلى التيه والنسيان... إسماعيل فنيّاً سيرة ومسيرة. ذاتٌ ذابت في الموضوع، وأقامت الموضوع في الذات، ومن فرط ما هُوَ هُوَ وليس هو في آن واحد، خُيِّل إلينا نحن المُثَبتين في زَيْت اللوحة، أننا شظايا قصائد أعاد الفنان تشكيلها وتجميعها في إطار...
يكفي أن يتذكر إسماعيل طفولته في اللد ليرسم جمال الطبيعة، وهجرتَهُ ليرسم أحزان النكبة، وصباه بائعاً متجولاً للحلوى ليرسم الشجن، وتلَّ الزعتر ليرسم المأساة والبطولة، وحصار بيروت ليرسم الصمود والغضب، وصبرا وشاتيلا ليرسم الضمير الدولي طعاماً للكلاب الضالة، والانتفاضة ليرسم الأمل. ويكفي أن يتذكر الغد ليرسم المرأة ».
تُعد أبرز خصائص ومقومات تجربة إسماعيل شمّوط، انتقاؤه للموضوع المؤثر، وحشده لعناصر وأشكال كثيرة في جدارياته، والصدق والانفعال الواضحان، في معالجة لوحاته، إضافة إلى التنوع المشهدي الذي يلجأ إليه، في غالبية منجزاته الفنية التي تُعتبر خير مؤرخ موثق للقضية الفلسطينية بمراحلها وتحولاتها كلها، بدءاً من النزوح والتشرد وفقدان الأرض والأهل، وانعكاسات ذلك على وجوه المسنين والشباب والأطفال: ألماً، وحزناً، وضياعاً، ودهشة، وانتهاءً بمظاهر الكفاح والنضال والصمود، من أجل استرداد الوطن والأرض والحقوق، والتي تمثلها ثورة شعبه البطل التي أخذت أكثر من شكل وصيغة، هذه الثورة التي بدأت شرارتها مع بداية النكبة، وها هي مستمرة حتى يومنا هذا.
وقد صوّر (شمّوط)، في فنه الواقعي التعبيري المتكامل رسماً وتلويناً، موضوعاً ومعالجةً، وبكثير من البراعة والنبل والإخلاص، ثورة شعبه الفلسطيني: في انتفاضة المقاتلين من الرجال والنساء، ثم في ثورة أطفال الحجارة، وفي وقار الشيوخ، وتجذر النساء في الأرض، وتطلع الشباب إلى المستقبل، بانكبابهم على الدراسة والعمل وصنع حياتهم الجديدة، بجوانبها السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية. كما صوّر الشهداء الذين سقطوا ويسقطون يومياً، من أجل أن تنهض فلسطين عزيزة، حرة، كريمة... الشهداء الذين يعودون أبداً ودائماً، إلى وعي الأمة وضميرها وذاكرتها.
وفي دراسة للوحات (شمّوط) من قبل( كارين رودانتس) ـ الباحثة بقسم علوم الاستشراق، بجامعة مارتن لوثر بألمانيا الديمقراطية ـ عام 1975م تقول: « عاش إسماعيل شمّوط ما فعله الاحتلال والتشريد بالجيل الأكبر سناً. كان التشرد بالنسبة لهذا الرجل اجتثاثنا لجذوره، فقد اشعر وجوده الشكلي بأنه غير ذي جدوى. الجسد المنهوك والظهر المحدوب واليدان المسبلتان السليبتا الإرادة. وتنطق كل تقاصيل اللوحة باستسلام ويأس الرجل العجوز. وبالكاد تضيئ النار الضعيفة داخل الخيمة، فتظل هذه معتمة باردة. جيل الشيخ الطاعن عاجز عن النضال، إلا أن ذكريات المعارك السالفة لا زالت تعيش في مخيلته. في عام 1973م صور وأخرج إسماعيل شمّوط فيلماً سينمائياً حمل عنوان هذه اللوحة وضمنه شرحاً وافياً تحدث فيه عن تلك الانتفاضات التي ما كان بالمستطاع إخمادها نهائياً. إن الفيلم يتناول خير وتجارب السنين التي توالت بعد انجاز اللوحة.
لهذا السبب كانت لغة السرد التاريخي أكثر حزماً كما أنها أضفت على اللوحة أبعاداً جديدة. ولا يعني هذا أن طابع التخاذل الشديد يطغى على اللوحة بدون قيد أو شرط. إن تقاليد النضالات تعيش هي الأخرى بالذكريات، والجيل الصاعد سيواصل المسيرة التي بدأها الآباء. هذا الأمل الجديد يجسده الأطفال الراقدون بهدوء في زاوية الخيمة، إلا أنهم يمثلون قوة مضادة ضعيفة بالمقارنة مع صورة الشيخ التي تسيطر على تركيب اللوحة الثلاثي. في هذه اللوحة تكتسب بعض التفاصيل وزناً رمزياً. وبها يبدأ تطور يميز أعمال شمّوط ».
ويرى الأستاذ محمود شاهين أن (شمّوط) « عكس بفنه الملحمي، مشاهد متداخلة وغنية بالتفاصيل: الإصرار المدهش لشعبه الجبار، على النهوض من دماره، وبناء حياته الجديدة الكريمة الحرة، فوق أرضه المتجذر فيها كالشجر العتيق، رغم حجم التحدي الصهيوني وشراسته، وقسوة الظروف المحيطة به وبقضيته.
وأن أعماله جسدت ملحمة الشعب الفلسطيني بلغة فنية واقعية تعبيريّة مختزلة، ثرة الألوان، حاشدة العناصر، غنية الرموز والإشارات، ما جعلها تتمكن من الإحاطة بكل ملامح وتفاصيل القضية الفلسطينية، وإبراز خصوصيتها وعظمتها وفرادتها».
وخلال رحلة عطائه الطويلة شغل (شموّط) عدة مواقع منها: منصب أول أمين عام لاتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين، وأول أمين سنة لاتحاد الفنانين التشكيليين العرب.، رئيس قسم الثقافة الفنية في منظمة التحرير، مسؤول الفنون التشكيلية في الأمانة العامة للاتحاد السنة للفنانين.
وتلقى الفنان الراحل الكثير من الجوائز الفلسطينية والعربية والدولية، منها: «درع الثورة للفنون والآداب»، عام 1978م. و «وسام القدس»، عام 1990م. و «جائزة فلسطين للفنون».
وله عدد من المؤلفات الفنية والثقافية والتراثية، منها: «الفنان الشاب، بيروت ـ 1957م». و «فلسطين صور تأريخ وسياسة، بيروت ـ 1972م ». و « فن وطني فلسطيني، بيروت ـ 1978م». و «فلسطين في المنظور، بيروت ـ 1978 م». و «الفن التشكيلي في فلسطين، الكويت ـ 1989م ».
والكتاب الأخير هو أهم كتب (شمّوط)، وهو يقع في زهاء ثلاثمئة صفحة من القطع الكبير جداً، ويتضمن، بالألوان المفروزة جيداً، ستا وستين وثلاثمئة صورة لستة وعشرين ومئة فنان فلسطيني، مع ضبط تاريخي للرسم والنحت في فلسطين، وفهرس تفصيلي بأسماء الرسامين وأماكن وجودهم، ولم يتجاهل صغيراً ولم تصرفه المنافسة عن كبير، حتى صح القول المثبت في الطية الداخلية الاولى لهذا الكتاب، انه «إذا قيض للمكتبة العربية ان تحظى بموسوعة عن الفنون في مستقبل الأيام، فان هذا الكتاب بشقيه الأدبي والفني، يشكل جزءاً لا يتجزأ من ذلك العمل الكبير».
و يحرص (شمّوط) في مؤلفه القيم، على تحديد مصطلح (الفن التشكيلي) ليكون القارئ على بينة مما هو عازم على قراءته، فيوضح ان الفنون التشكيلية هي الرسم والتصوير والحفر والنحت وفروعها في الزخرفة والتصميم والإعلان وما يتصل بها في مجال الخلق والإبداع. ويستدرك مشيراً إلى أن (التصوير) هي الكلمة الصحيحة لمعنى الرسم بالألوان، ولا تعني التصوير الفوتوغرافي إلا إذا اقترنت بكلمة الفوتوغرافي أو الشمسي.
ويستطرد المؤلف في شرح الفنون الشعبية في فلسطين، ولا سيما فن النقش على الحجارة بفروعه الإسلامية والمسيحية والشعبية، معززاً ما يذهب اليه بالصور والرسوم، من غير إغفال أن الفن الفلسطيني جزء من الفن العربي العريق.
وفي هذا الكتاب يثبت (إسماعيل) حقيقة تأخر نشوء الحركة الفنية التشكيلية الفلسطينية بالمقارنة مع مثيلاتها العربية، بسبب الكارثة الاستعمارية التي تعرضت لها البلاد.
إلا أن (شمّوط) يشير أن تأخر ظهور الحركة التشكيلية، لم يمنع ظهور فنانين فلسطينيين، أخذ شهاداتهم ووثقها. وكانت الشهادة الأولى من (داوود زلاطيمو) الذي يذكر محاولاته الأولى بين عامي (1910 و 1915م)، عندما كان يرسم المناظر الطبيعية وأحياناً يرمم بعض الأيقونات.
إسماعيل شموط.. الفن هويتي
[1].
[2].
[3].
[4].
[5].
[8].
[9].
[10].
[11].
[12].
شهادات عن فنان ثائر، عاش من أجل قضية فلسطين
[13].
الشاعر الراحل محمود درويش
[14].
القيادي الراحل شفيق الحوت
[15].
الشاعر أحمد دحبور
[16].
الناقد التشكيلي نزيه خاطر
[17].
الفنان والناقد عبد الله أبو راشد
[18].
الفنان علي الكفري
[19].
الفنان محمود خليلي
[20].
الفنان سليمان العلي
[21].
الناقد د. محمود شاهين
[22].
الكاتب سعيد مضية
[23].
الكاتب إبراهيم درويش
[24].
الشاعر والتشكيلي عز الدين المناصرة
إسماعيل وتمام.. السيرة والمسيرة
حمل إسماعيل شمّوط وزوجته الفنانة التشكيلية تمام الأكحل، جراح النكبة ومأساة اللجوء والتشرد، من خلال لوحاتهما الجمالية إلى دول العالم أجمع. شارحَيْن لكل الناس الظلم والقهر والجور الذي تعرض له الفلسطينيون، على أيدي عصابات وقوات الاحتلال الصهيوني. وقد عاشا، حياة اللاجئ الفلسطيني الذي عاش في المنافي بعيداً عن الأرض التي عشقاها، وترسخ حبها في قلبهما...
الحديث عن فن (شمّوط)، يعني ميكانيكياً الحديث عن فن (تمام)؛ ـ على حد قول الشاعر والدكتور عز الدين المناصرة ـ في مؤلفه المتميز (موسوعة الفن التشكيلي الفلسطيني في القرن العشرين.. قراءات توثيقية تاريخية نقدية).
ويذكر المناصرة أنه حاول ذات مرة أن يدفع بالثنائي (إسماعيل وتمام) للفصل بينهما في كتاباته، قصد أن « تستقل شخصية تمام»، إلا أنهما لم يوافقانه الرأي: «الحجّة معروفة هي ـ المعارض المشتركة والتجربة المتقاربة فنياً والحياة الزوجية المشتركة».
وهكذا أصبح من الصعب الحديث عن (إسماعيل) دون ذكر (تمام) والعكس صحيح أيضاً.
يوم التقى (إسماعيل) بـ(تمام الأكحل)، رفيقة دربه فيما بعد، كانت ـ كما يذكر الأستاذ المرحوم شفيق الحوت ـ «مثله في الجوهر، مثله في المأساة والتطلعات... وأهم من هذا مثله في الهواية والهدف...».
يضيف الحوت: « (تمام) سمراء نحيلة جعلت منها المأساة ينبوع مرح وسخرية. لا تخشى اليوم ولا الغد ففي قلبها إيمان المكافحات.
كانت زميلة له تواكب مسيرته من بعيد لبعيد، وكان هو يتلهف على رأيها فيما ينتج ويحقق دون أن يدري بأنه كان يسير على شباك الحب والهوى.
وصحا فجأة على حبه ليكتشف أنه معلق في الهواء بين ما يتمنى وبين ما تود النفس ويهوى القلب... كانت أمامه فرصة العمر ليكمل تعليمه العالي في إيطاليا هناك قرب آلهة الرسم والنحت... وكانت (تمام) كذلك أمامه. فما العمل.
هي بحكم شرقيتها كانت أكثر منه واقعية. فلم تهزها المفاجأة وإن كانت قد أشعلت نيران قلبها. وكفنانة كانت تعلم أن أي وقفة في طريق الزميل الحبيب هي جريمة لن تغتفر. وبدون أية دراماتيكية مفجعة اتفقا على اللقاء بعد رحلة العلم إلى روما. اتفقا بدون كلام ودون وعود. فقد أبيا كل من طرفه أن يربط الآخر بمجهول مستقبله ولكنهما في الأعماق كان يعلمان أنهما على موعد أكيد.
وبالفعل إلتقيا وتزوجا وأمسكا بريشتيهما من جديد ليبدآ المشوار الجديد.
ومنذ عشر سنوات أو أكثر بقليل أصبح الفنانان ـ إسماعيل وتمام ـ في بيتهما في مجالسهما ـ في إنتاجهما ـ رائدين من رواد حياتنا الفلسطينية الفنية ».
ومنذ العام 1953م وحتى تاريخ رحيله كان (إسماعيل) يتنقل بلوحاته ولوحات رفيقة عمره بين العواصم العربية والأجنبية عارضاً آخر إبداعاتهما التشكيلية ومقدماً في الوقت نفسه سيرة الوجع الفلسطيني الذي لم ينتهي فصولاً بعد.
وفي استفتاء عالمي جرى عام 2003م ـ عبر موقع الكتروني ـ في 65 دولة، عن أفضل أعمال فنية معاصرة، كان (شمّوط والأكحل) من بين العشرة الأوائل في العالم، فضلاً عن رسالة تهنئة من مؤسسة عالمية في ألمانيا.
ومنذ عام 1986م تعرض (إدارة متاحف دولة جمهورية ألمانيا الديمقراطية) ثلاثة من لوحات إسماعيل شموط وتمام الأكحل بشكل دائم، ولم يحدث مثل هذا لغيرهما من التشكيليين العرب.
وقد كانت آخر أعمال (شمّوط والأكحل) الفنية جدارية بعنوان «السيرة والمسيرة»، أما آخر نشاط مشترك لهما كان عرض أعمالهما الفنية في بيروت، وقبلها في دمشق، قبل حوالي ثلاث سنوات من رحيله، وفي المعرض المشترك الذي أقيم في (المتحف الوطني) تحت عنوان (فلسطين ـ السيرة والمسيرة). وقد زار هذا المعرض مدينة حلب وعدداً من المدن العربية، وذلك قبل أن ينتهي به المطاف في فلسطين، مشكلاً (نواة متحف الذاكرة الفلسطينية) في (أبوديس) جوار مدينة القدس المحتلة.
المعارض التي أقامها إسماعيل وتمام شموط:
أقام (إسماعيل وتمام) منذ عام 1954م وحتى عام 2003م الكثير من المعارض لأعمالهما الفنية، فيما يلي نذكر أهمها:
-عام 1954م في القاهرة، رعاه وافتتحه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
-عام 1957م في بيروت، وصيدا بلبنان، وغزة، ورام الله، ونابلس، والقدس بفلسطين.
-عام1964 م في القدس ونابلس وعمان.
– عام 1964م مائة وواحد وعشرين معرضاً في اثنى عشرة ولاية أمريكية خلال أربعة شهور ونصف (نيويورك، وواشنطن، وفيلادلفيا، وبيتسبيرغ، وشيكاغو، وآن آربر، وشامبين، وديترويت، وهيوستن، وآوستن، ولوس أنجلوس، وسان فرانسيسكو).
– عام 1965م طرابلس (ليبيا)، وفي القاهرة، وفي دمشق.
– عام 1966م الكويت، وفي بيروت.
– عام 1967م لندن، وفي بيرمنجهايم بانكلترا.
– عام 1968م القاهرة، وفي الإسكندرية.
-عام 1969م و1970 م بيروت.
– عام 1971م بلغراد، وفي صوفيا.
-عام 1973م بكين (الصين).
-عام 1973م تونس وفي الجزائر وفي المغرب.
– عام 1976م فينا (النمسا)، وفي باريس، وفي روما.
– عام 1977م برلين.
– عام 1977م المتحف الوطني الألماني في برلين.
-عام 1982م بيروت.
– عام 1984م الكويت.
-عام 1986م أبو ظبي.
– عام 1987م المنامة وفي كوالا لامبور، وفي اليابان.
-عام 1989م الكويت.
– عام 1994م عمان.
– عام 1996م عمان وفي رام الله ونابلس والناصرة، وبيروت.
– عام 2000م معرض (السيرة والمسيرة) في عمان.
-عام 2001م معرض (السيرة والمسيرة) في أنقرة، وفي إستانبول.
-عام 2002م معرض (السيرة والمسيرة) في الدوحة، وفي أبوظبي وفي الشارقة، وفي دبيّ، وفي القاهرة، وفي دمشق، وفي حلب.
– عام 2003م معرض (السيرة والمسيرة) في بيروت.
تمام الأكحل.. رسّامة الجرح الفلسطيني النازف
يعدُّ الفنان التشكيلي الراحل (إسماعيل شمّوط)، أول فلسطيني يصل إلى القاهرة عام 1950م لدراسة (الفن التشكيلي). وفي عام 1953م وصلت أول فتاة فلسطينية إلى القاهرة للدراسة في (كلية الفنون الجميلة)، هي: (تمام عارف الأكحل) التي وُلدت في يافا سنة 1935م، وكانت من ضمن اللاجئين الذين ذهبوا إلى لبنان.
وكما ذكرنا سابقاً؛ فإنه يصعب الحديث عن (إسماعيل شمّوط( دون الحديث عن زوجته الفنانة التشكيلية (تمام الأكحل).
وإذا كان (إسماعيل) يمثل البداية التسجيلية للفن الفلسطيني مطلع الخمسينيات، فإن تجربة (تمام الأكحل) تعتبر التجربة الرائدة بالمعنى الدقيق للريادة، فهي أول تجربة فنية تتجاوز في إبداعاتها الصيغ التسجيلية في تعبيرها عن القضية الفلسطينية، وهكذا فتحت الباب على مصراعيه للدخول في مرحلة جديدة متطورة.
صوَّرت (تمام) بإبداع ريشتها على مدى أكثر من خمسين عاماً تراث الشعب الفلسطيني وواقع معاناته.
وحين تفتح صفحات التاريخ الشخصي لـ (تمام) وارتباطها بالفنان (إسماعيل شمّوط)، ندرك أن هذا الارتباط الوجداني بين فنانين خالدين، ليس وجدانياً حسب، إنه أمثولة على الانسجام التام بين عناصر الجمال الفلسطيني، وتعبير فذ عن طلاقة الوعي الجمالي الفلسطيني بعناصره ومكوناته.
ولدت (تمام) في مدينة يافا عام 1935م، شردتها النكبة مع أهلها من يافا إلى بيروت عام 1948م، ومنحتها كلية المقاصد في بيروت بعثة لدراسة الفن في المعهد العالي للفنون الجميلة بالقاهرة عام 1953م.
وفي عام 1957م حصلت على شهادة الفنون الجميلة وشهادة إجازة تدريس الفن من المعهد العالي لمعلمات الفنون بالقاهرة.
وقد حصلت (الأكحل)، التي تقيم في (عمان) حالياً، على جوائز متنوعة وعديدة. كان لها الأثر الايجابي بمزيد من الإصرار على إدامة العطاء الفني لفلسطين الأرض والشعب والقضية حيث بقيت (تمام) وزوجها الراحل (إسماعيل شمّوط) خارج الأطر التنظيمية، وبقي عنوانهما الوحيد القضية الفلسطينية، والتعبير عن آلام وأمال الشعب الفلسطيني، وهي ترسم وفق منظومة جمالية، اختزنتها في أعماقها، منذ سني حياتها المبكرة، فهي ابنة يافا.. المدينة الفلسطينية التي تنفتح على بحر الأساطير.
زيتونة الفن التشكيلي الفلسطيني
تشكلت ذائقة (تمام) الفنية في أزقة يافا القديمة ومينائها وبيّاراتها، قبل أن تعصف بها رياح التهجير هي وأسرتها، لتتحول الذائقة إلى نكهة أخرى رغم بقائها قابضة على جمر الوطن.
و «ليس من قبيل المبالغة القول إن أعمال (الأكحل)، اتسمت بصبغة فلسطينية حارة، تجذب متلقيها جمالياً، وتؤثر فيه قبل أن تدفعه إلى التوقف عند رموزها ومضامينها، وما إن يصل إلى هذه المرحلة من القراءة البصرية، حتى تتسرب إليه رائحة البرتقال والبحر والقرى المعتقة والكنائس العريقة والخيول السابحة في فضاء الأفق، وغيرها من رموز منتقاة بعناية امرأة تطرز ثوب عرسها ».
يقول الفنان والناقد التشكيلي عمر أبو راشد: « تُعد تمام بحق زيتونة الفن التشكيلي الفلسطيني، وعلامة فارقة في مساحة التشكيل العربي، في شخصها أو عِبر لوحاتها التصويرية المنتمية إلى ذاكرة المكان الفلسطينية بجميع فصولها اليومية. مواكبة لجماليات وأحداث فارقة في تاريخ الشعب العربي الفلسطيني، ومدونة مميزة لسجل فلسطيني حافل بدروب المعاناة والألم، في مقابلة موضوعية مع دروب المقاومة والتفاؤل والأمل. عايشت الوطن الفلسطيني همّاً وحلماً منذ الولادة وحتى اللجوء القهري في نكبة فلسطين الكبرى عام 1948م، متنقلة ما بين عواصم دول عديدة بسبب ظروف العيش وضرورات الحياة ومتطلبات السياسة في لبنان ومصر والأردن والكويت وألمانيا وفلسطين كمواطنة عربية وفنانة فلسطينية ترسم بملونات العلم والحلم الفلسطيني مع زوجها الفنان الراحل إسماعيل شمّوط متوجة بمعرض « السيرة والمسيرة » الفلسطينية في أجمل حِلة بصرية مُعبرة ».
صورة الوطن والشعب
صوَّرت (تمام) بإبداع ريشتها، وعلى مدى أكثر من خمسين عاما تراث الشعب الفلسطيني وواقع معاناته. وهي ترى أن مأساة التهجير، وما ضمته من تفاصيل وأحداث، صاغت ضمن ما صاغته فنون الشعب الفلسطيني. وتذكر في حوار صحفي أجري معها أن: « مشاعر الغبن والقهر والألم وما بين ذلك من تفاعلات وتفاصيل كانت حاضرة في حياة الفلسطينيين، لاسيما أن لكل منكوب قصة خاصة، فأحدهم اختطفوا ابنته وهددوه باغتصابها إن لم يوقع على بيع الأرض، وآخر وقعوه على عملية جراحية مزعومة لأحد أفراد عائلته ليتبين أن ذلك عقد بيع للأرض، وقصص أخرى كثيرة شكلت النفسية الفلسطينية وما أفرزته من فنون ».
وتضيف (تمام) في موقع آخر: « إن ما حدث للشعب الفلسطيني عام 1948م من اغتصاب وتشريد وغربة ما زال مستمراً حتى الآن، وإذا ما أوقد ويوقد الحس واللغة التشكيلية بداخلي وعبرت عنه وما زلت عبر عشرات اللوحات التي عرضت في معظم دول العالم في سبيل تدعيم الحق الفلسطيني وحشد الرأي العام إلى جانب هذه القضية المقدسة واستطيع القول أن خشيتي بتمرد أدواتي الفنية على قدراتي كان أحد الدوافع الأساسية قبل سنوات لإنتاج الجداريات الفلسطينية كي تبقى صورة الوطن والشعب والأرض حية أمام أعين الأجيال المقبلة وأمام ضمائر الناس في كل مكان وأنا اعتبر أسمى الأعمال والأهداف هي تلك التي تتخذ الإنسان محوراً لها فتعمل لرفع الظلم عنه وتحاول تجميل الحياة من حوله وتفتح آفاق الآمال أمامه. وأنا أؤمن بأن الفن يجب أن يعبر عن روح العصر الذي يعيشه الفنان سواءً أكان الموضوع من الحدث البيئي أو التراثي الذي يرجع إلى مئات السنين أو أن يكون حادثة وقعت منذ ساعات قليلة. وأن لا يكون الفن فن الماضي أو الحاضر بل فن على الدوام ولكل الأوقات والزمان. المهم أن يكون فناً صادقاً من أحاسيس يملؤها الصدق مستمداً الحدث بدون تقليد مفتعل حتى يخلد ولا يسقط وهذا يتطلب أن نأخذ بعين الاعتبار ضرورة تجسيد مستوى للفن، مستوى ومقومات وحدود ثابتة لا تتغير ولا يسهل الخروج عنها وإلا لماذا ندرس بعصرنا الحديث الروائع الفنية الخالدة التي أنتجها فنانين مبدعين قبل آلاف السنين للتعرف على حضارتهم وثقافتهم الخالدة ».
وعن تجربة (تمام) الفنية، يقول الناقد الأستاذ منير عبد الرحمن أنه « لا يمكن الحديث عن الفن الفلسطيني المعاصر دون الحديث عن جداريات الفنانة الفلسطينية (تمام الأكحل)، فهي ليست واحدة من الفنانين الفلسطينيين البارزين فقط بل أحد الذين وضعوا قواعد الفن الفلسطيني الحديث وساهموا باغنائه فنياً. فعمر مسيرتها الفنية بعمر القضية الفلسطينية ولوحاتها الفنية تعبر عن مراحل تطور القضية الفلسطينية وكفاح شعبها ضد الاحتلال، وبرأي غالبية النقاد تشكل لوحاتها الفنية مرجعاً لتاريخ القضية ».
وتنوي السيدة (تمام الأكحل) أن تنشر قريباً كتاباً عن مراسلاتها مع (إسماعيل) قبل وبعد زواجهما، لأن تلك المراسلات، كما تقول: « لا تمثل دلالة قوية فقط عن نجاح زواج أصحاب المهنة الواحدة بعكس ما هو شائع، بل لأنها توثيق تاريخي وسياسي عن أحداث تلك الفترات عندما كان أحدنا يغادر لإقامة المعارض».
أهم مراجع ومصادر الملف:
إسماعيل شموط، « الفن التشكيلي في فلسطين »، الكويت، 1989م.
عز الدين المناصرة، « موسوعة الفن التشكيلي الفلسطيني في القرن العشرين.. قراءات توثيقية تاريخية نقدية »، (جزأن)، دار مجدلاوي للنشر، عمان ـ ط1 2003م.
مقالات من الشبكة العالمية « الانترنيت » لكتاب ونقاد وفنانين تشكيليين فلسطينيين وعرب.