الأميرة الحزينة والفقير
في قديم الزمان، وقرب نهر الفرات، حَكم الملك الحكيم عامر المدينة التي كانت تعيش في هناء واطمئنان، إلى أن أصاب ابنته الوحيدة رقيّة داءٌ محال الدواء، استقطب الحاكم أطباء من كافة أرجاء المعمورة من الصين والهند ومصر وبلاد الشام وما من حل لأزمتها.
في ليلة تدلى القمر في مرآة السماء كالثريا، خطر للمستشار هاجس واتجه إلى الملك مسرعاً.
– السلام عليك يا ملكنا المبجّل.
– وعليك السلام أيها المستشار الحكيم.
– اليوم وأنا أفكر بداء الأميرة رقيّة، قلّبتُ الأفكار في عقلي مراراً، فملّل الأميرة من الحياة وتذمرها من كلّ شيء واختفاء ابتسامتها أمرٌّ يؤرقني، لذا خطر لي هاجس.
– وما هيَ؟!..أسعفني بها.
– سنعلن على العامة " مَنْ يجد حلاً لمرض الأميرة ويخرجها من وضعها المأساوي لسوف يغدو زوجها وصهر الملك، ومن يفشل جزاؤه الموتُ ".
– ويحك!..ماذا تقول أيها المستشار!..ربّما نقتل نصف أهل المدينة.
– سيدي العزيز، لن يتجرأ إلا من يملك الجسارة والعقل الحكيم على هذا الفعل الحميد.
– حسناً!..فليعلن المنادي على العامة هذا الأمر الخطير.
دار المنادي بين أرجاء المدينة وهو ينادي:
" أمرَ الحاكم العادل، من يُخرج الأميرة رقيّة من وضعها النائم، سيكون زوجها القائم، ومن يخفق سيغدو رأسه فوق القصر عائم".
بعد انتشار الخبر، بدأ الشباب في المدينة بالتحرك،كل منهم يحلم بالزواج من الأميرة ومصاهرة الملك وبطريقة ليجدوا حلاً لمرضها، وما كان يثبط عزيمتهم خوفهم من الإخفاق.
جهز " محسن" نفسه وحضّر سجادته السحرية التي يجوب بها أرجاء العالم، حملها وتوجه إلى قصر الملك وأمّه تنصحه بعدم الذهاب، لكنّه أبى، وصل إلى القصر والسماء عمياء لا شيء يرنو من بساطها، طلب مقابلة الملك وحضر مجلسه، نبهه الملك في حال فشله سيكون رأسه مقطوعاً، وافق محسن ودنا من الأميرة وعيناها ترسم آثار الألم، أمسك "محسن" بيد الأميرة ووضعها على السجادة السحرية وجاب بها البلدان والقصور، طاف بها المحيطات والخلجان ولمْ يرَ ابتسامتها تزينُ وجهها، فقد زارت الأميرة معظم هذه الأماكن فأمر الحاكم بقطع رأسه، بكت المدينة دماً على شابها القتيل، وطار في تلك الليلة شهابٌ أبيض، في اليوم التالي جهز علاء الدين مصباحه السحري وقرر أن يدخل هذا الامتحان، وصل إلى الأميرة وهو يقول لها:
– يا سمو الأميرة!..هذا مصباحي السحري لو مسحته بيديك سيظهر لك مارد ضخم ، اطلبي منه ما تشائين سينفذ لكِ ما تبتغين.
احتارت الأميرة ماذا ستطلب من المارد، فارتسم الأسى على وجهها مرّة أخرى، خاف علاء الدين فهو يعرف جزاء الفشل، طلب من المارد أن يحضر للأميرة مغنّياً ذا صوت جميل وفرقة ذا عزف أخّاذ، أنشد المغني وعُزفت الموسيقى والأميرة لم تتحرك قيد أنملةٍ، لم يحرّك فيها شيئاً فترجاها أن تطلب طلباً أخراً من المارد ومن كثر إلحاحه طلبتْ الأميرة من المارد أن يلصق ابتسامة على وجهها، فجلب المارد مهرجين ولم تضحك الأميرة فتلاشى المارد واختبأ في مصباحه ولم يستجب.
بعد فشل علاء الدين أمر الحاكم بقطع رأسه في تلك الليلة العفراء، وبدأ الرعب يسري في جسد الملك خوفاً من عدم إمكانية الشباب من إخراج الأميرة من حيرتها فأقنعه المستشار بمحاولات أخرى.
جهز" ضحروج" السمين نفسه للذهاب إلى القصر وأمّه تقنعه بعدم الذهاب لكنّه مصمم على الأمر وتوجه الفتى السمين والقصير إلى القصر وهو يقود ستة حمير محملة بأطيب أنواع الزاد، دنا ضحروج من الأميرة وهو يفتح فاهها ويدخل الطعام والأميرة ترمي الطعام، جرّب العسل والفاكهة وأطيب أنواع اللحوم المشوية كي تأكل وتستلذ بالطعام لكنها أبت، ولم تأكل شيئاً، وحين شعر ضحروج بأن أمره بات خطيرا، حاول عنوة إرغامها على الطعام، فأحس به الحرس وقطعوا رأسه ثم علقوه على باب القصر.
تأزّمتْ حالة الأميرة وبدت عصبية المزاج أكثر من السابق، لا تخرج من غرفتها واعتكفت على نفسها.
في تلك الأثناء كان "نسيم" الراعي الوسيم يجلس عند عدوة الوادي يقرأ قصصاً وأشعاراً، فهذا الشاب الوسيم يعاني العوز والفقر لكن فؤاده غني وعقله راجح، زاره أحد الأصدقاء وطرح عليه ما فعله الملك لتشفى ابنته، رفض نسيم في البداية الاقتراح، وعندما غدت النجوم جريئة في سماء القرية والقمر يعزف على الناي والرياح تعزف كريشة على السنابل الخضراء المتدلية فتصدر صريرا عذبا، عقد نسيم العزم على التوجه إلى قصر الأميرة، وصل إلى القصر ورحّب به الملك وحدّق في عينيه قائلاً:
– أيّها الشاب الوسيم، تعرف جزاء الفشل وإنّي لأنصحك بالعودة.
– مولاي الملك!..حين أضع هدفاً نصب عيني لا أتخلَ عنه مهما كلفني الموضوع.
– حسناً!..أنتَ حرٌّ قد أنذرتك.
– أينَ الأميرة؟..
– نادوا الأميرة.
اقتربت الأميرة من نسيم وهي حزينة الوجه مكفهرة الملامح، أمسك نسيم بيدها بقوة وخاطب الملك:
– أيها الملك المبجل أتسمح لي أن أرافق الأميرة ثلاث ليالٍ وليراقبنا العسس عن بعد.
– لكَ ذلك.
خرج نسيم برفقة الأميرة من القصر، ومنزل نسيم يبعد مسافة نصف يوم عن القصر، أخذها مشيا على الأقدام والأميرة لا تتعب، تستمتع بنسائم الهواء وبالفضاء الواسع والدرب الطويل، استراحا عند واحة وأخرج نسيم الزاد الذي يحفظه في سلة قصب قديمة ملفوفة بقطعة قماشية، تناولت الأميرة الزيتون وبعض الخضراوات وهي تستلذ بالطعام، أكلت حتى وصلت لحد التخمة، وصارت تحدّق بالمياه الصافية والبط الجميل الذي يزين الواحة فيصنع بياضها مع زرقة السماء لوحة تشكيلية جميلة، تابعا مسيرهما ووصلا إلى كوخ نسيم، أحضر لها لباساً قروياً للأميرة كي تنام فيه وقال لها:
– البسي هذا الفستان فهو يصلح لهذه الطبيعة القاسية.
ارتدت الأميرة الفستان وبدت أجمل مما كانت عليه، فوجهها أشرق وكأنها رأت الشمس، استمتعت الأميرة بغرفة نسيم الوحيدة والصغيرة والمؤلفة من الخشب وسبّاك يقبل القمر في الليل وتتدلى منه الشمس في الصباح، أُعجبت بمكتبته الكبيرة والتي تحمل نفائس الكتب، وقبل خلودها إلى النوم أشعل نسيم ناراً أمام باب الكوخ، وطلب من الأميرة الحضور، وقفا أمام الأوار وجلب نسيم كتاباً وصار يقرأ لها القصص والأميرة كلها أذان مصغية مستمتعة بصوته الدافئ وقصصه المشوقة.
دُقّت الساعة معلنة منتصف الليل، وبدأ النعاس يدق مضجع الأميرة، في السابق كانت معروفة بالأرق وقلة النوم واستيقاظها المتأخر، كانت تتقلب ساعات لتنام واليوم النعاس يقبل جفونها، أمرها نسيم أن تفرش لنفسها سجّادة على الأرض لتنام عليها، فرشت الأميرة وخلدت إلى النوم.
في الصباح الباكر، وعلى صياح الديك أيقظ نسيم الأميرة وأخبرها بتجهيز نفسها للذهاب إلى رعي قطعان الغنم، توجهوا بأغنامهم على سفح الجبل لتجتر الأعشاب، والأغنام تشكل رتلاً موسيقياً وكلب يمشي أمام القطيع ليحميه من الذئاب وأجراس القطيع تبشر بأمل عائد، بدأ نسيم يعزف على الناي والأميرة تنظر إليه بإعجاب، وتتأمل الأزهار الصفراء والحمراء والأشجار الحسناء المحيا، صارت الأميرة تقطف الورود وتشكل سوارا وطوقاً منها، تلاحق الفراشات وتحتضن صدر الطبيعة والابتسامة لا تفارق وجهها، أما نسيم فهو يعزف على نايه والقطعان ترقص على ألحانه وأسراب الطيور تبدو كقوس كمان وهي تلف الجبال، علمها نسيم على حلب الأغنام وتعلمتْ على الرغم من خوفها بداية، غدتْ تحلب الأغنام وهي مبتسمة، وعندما اقتربت الشمس على الغياب، رجعا إلى المنزل، ثم حمل كل منهما فأسا وذهبا لقطع الأشجار.
تألمتْ الأميرة من خشونة الفأس على أناملها الناعمة، لكنها بناء على أوامر نسيم صارت تقطع الأخشاب، وعندما لاح وجه الظلام حمل كل منهما حطبه على ظهره وتوجها إلى المنزل.
صنعت الأميرة من الحليب اللبن الرائب بعد أن علمها نسيم وتناولا طعامها ثم أمسك كل منهما كتاباً وشرعا بالقراءة حتى خلدا للنوم والكتاب على وجهيهما.
استيقظا في الصباح الباكر حينما تطلق الشمس شعاعها الأول دون ظلال، وتحركا في هذا الصباح الجميل إلى النهر ليصطادا السمك، رميا صنارتهما وجلسا ينتظران، اصطاد نسيم سمكاً وفيراً ورجع إلى المنزل أما الأميرة بقيت تنتظر حتى المساء واصطادت سمكة يتيمة وعادت إلى المنزل وجلست تشوي سمكتها على النار، ونسيم يدق على بطنه من الشبع، أما الأميرة فأكلت سمكتها ولم تشبع فقال لها نسيم:
– لا تفكري قطعاً أن أعطيك سمكة من عندي، إن كنت مازلت جائعة سأعلمك على جني الفطر.
أخذها معه إلى الغابة وصار يعلمها جني الفطر، أصبحت الأميرة تجني الفطر بنفسها وأوقدت ناراً وبدأت تأكل ثم عادا إلى المنزل، وفرشا في الخارج سريراً من القشّ والتحفا السماء غطاء، والأميرة تقرأ الكتب بنهم ولا تشبع، فتارة تقرأ وأخرى تحدق في النجوم والقمر، خلدت إلى النوم، وحين يخفي الليل أسراره سمع نسيم صوتاً مرعباً فاستيقظا وإذ حولهما قطيع من الذئاب، نبه نسيم الأميرة بحمل شعلة نار بيدها، اقتربت الذئاب وهجمت على نسيم ونسيم يدافع عن نفسه وعن الأميرة، والذئاب تصدر عواء مرعباً، تعلمت الأميرة منه فبدأت تدافع هي أيضا حتى هربت الذئاب.
بعد فرار القطيع غفوا جراء تعبهما، في صباح يوم جميل يُولد عمل جديد وأمل يرسم ملامحه، علم نسيم الأميرة على الزراعة فلديه قطعة أرض صغيرة وقرر أن يزرع فيها شتل البندورة، جلب الشتل وغرسها والأميرة تساعده في السقاية وهي تبتسم غبطة.
زار الملك ابنته ونسيما خفية دون أن ينتبهوا إليه، فتفاجئ بوجه ابنته تبدل فالشمس لا تفارق وجهها قد أمسى وجهها كزهرة عباد الشمس، وحب الحياة أصبح نشيدها السرمدي.
ترك الملك نسيما وأمر الخدم والجند في القصر بتحضيرات، ودعا كل أفراد المدينة إلى الحضور، وأرسل رسولا إلى نسيم يخبره إن المدة المحددة انتهت فاستعد وأصحب الأميرة معكَ اليوم ليلاً، وصل نسيم إلى بهو القصر وقد جهز نفسه ليومه الأخير، فربما سيقتله الملك الليلة، وهو يفكر في خلده، سمع صوت موسيقى عالية وحفلات رقص وألعاب نارية، قرر الملك تزويج نسيم إلى الأميرة، تفاجئ نسيم أما الأميرة فالضحكة لا تغادر محياها، وقبل ان تتم المراسم صعد نسيم إلى المنصة مخاطباً الملك:
– مولاي الحاكم، إن كنت تأذن لي بالكلام، فلدي كلام لأقوله.
– تفضل بنيّ.
– "عندما فكرت أن ادخل هذه المغامرة الخطيرة، لم أكن أفكر بتاتا بالذهب والثروة، فلا تهمني الثروة ولا العربات ولا القصور أنا هدفي في الحياة حب الحياة ونشر بذور السعادة على وجه الأنام، فأنا ابتسم مهما كنت جريحاً من الداخل، كان هدفي إيقاف سفك الدماء والمجازر التي حصلت ومقتل الأبرياء، ونشل ملاك من أنياب الظلام الدامس إلى براعم النور.
والآن وبعد أن حققتُ مرادي وهدفي، اطلب يد الأميرة فإن وافقت سأصونها طوال عمري وأهديها أزهار قلبي، وإن رفضت سأبقى مفتاح السعادة لها متى نادتني أو احتاجتني في الدرب" ثمّ غنى لها نسيم:
يا بنةَ الملك!
هيّا تعالي إلي
ارض ِ بي
أنا الفقير
بيدَ أن مهجي مهج أمير
صفق الملك لنسيم ولفصاحة لسانه كما صفق له كل الحاضرين، والمناديل البيضاء تمسح الدموع من العيون، والجميع بانتظار جواب الأميرة، هزّت الأميرة برأسها في إشارة على الموافقة، وأقيم عرس كبير في المدينة وانتشرت بذور السعادة في كل جزء من أرجائها ونمت أشجار السعادة أحقاباً.
مشاركة منتدى
28 كانون الأول (ديسمبر) 2015, 09:51, بقلم توتة
ما شاء الله حلوة القصة ومدرستنا مثلوها على شكل مسرحية وحضر الوزير والشيخ حميد وكافئونا بفلوس
27 شباط (فبراير) 2020, 18:13, بقلم مريم
كان في احد الايام