الأحد ١٤ تموز (يوليو) ٢٠١٩
بقلم نايف عبوش

العصرنة.. ضرورات التكيف وتحديات الاستلاب

لاشك أن العصرنة، بما ابدعته من منجزات تكنولوجية، وصناعية هائلة، قد أصبحت محط انبهار الإنسان المعاصر. ولاريب أنها قد أفرزت في نفس الوقت، تداعيات سلبية، يمكن تلمسها بمنعكسات الكثير من الآثار السلبية لتلك المنجزات، ولاسيما في مجال ثورة الاتصال والمعلوماتية، والثورة الرقمية، وغيرها، التي نعيش اليوم كل تفاصيلها بذهول.

ولأننا اليوم، في البلدان النامية ومنها بلداننا العربية، متلقون للتقنيات، والعلوم، والمعارف، ومستوردون للسلع والخدمات، ولسنا مبدعين لها ، فقد صدم الإنسان العربي المعاصر في الصميم بشدة عاصفة العصرنة، عندما أنهكه ضجيجها الصاخب، ليجد نفسه قد وقع في دوامة من التصدع القيمي، والوجداني، في ثقافته، وموروثه المعرفي، تحت وطأة ذهول شديد، وعجز واضح، عن مواكبة، واستيعاب تداعيات هذا السيل الهائل من الإنجازات العلمية، والتكنولوجية، بالإضافة إلى انبهاره تجاه ما بات يواجهه من تحولات هيكلية، تفوق في تسارعها، حدود قدرته على التصور ،لاسيما بعد أن أضحت ثقافته التقليدية متيبسة، وعاجزة عن الصمود، في وجه تحديات عاصفة عصرنة معولمة، وجامحة، باتت تكتسح، كل ما حولها من موروثات، وثقافات.

وهكذا استكانت الثقافة العربية التقليدية،لتتآزر بعجزها عن المدد والعطاء، مع تداعيات نقيضها، ثقافة العصرنة المعولمة، والحداثة المهيمنة، في أقسى عملية استلاب للإنسان العربي المعاصر ، ووضعه في دائرة الاغتراب، دون مراعاة لأدنى خصوصية له، فطالما استهدفت ثقافة العولمة في زحفها العاصف ، تشويش منظومة القيم الثقافية التقليدية السائدة، بعد أن جردت المواطن العربي من ثوابته الثقافية، ومرجعياته القيمية، التي كان يؤطر من خلال استلهامه لها، ملامح هويته،ويحقق خصوصيته، وهو الأمر الذي فسح المجال أمام ثقافة العولمة، مع انها طارئة، لكي تصول وتجول في ساحتنا العربية، دون قيود ،وتعبث بموروثنا، وتحطم وجودنا، وتمسخ معالم هويتنا،وتمحو ثقافتنا، في عملية تدمير للوعي حاصرت الفرد، حتى بات يشعر بأنه أسير معطيات ثقافة معولمة، وقيم مهيمنة، تدفعه إلى الشعور بالغربة،والضياع الإنساني، والانسلاخ التام من واقعه.

وهكذا يقع الإنسان العربي اليوم، فريسة زحف ثقافة الآخر المدمرة، التي فرضت عليه من عالم مختلف القيم ليس له صلة بعالمه، إلا كمستهلك محض لبضائعه، ومعارفه، وضحية انحطاط الحال الراهن الذي يعيشه في نفس الوقت، وبذلك يمكن القول في هذا السياق، إن الثقافة العربية اليوم، لم تعد قادرة، على الصمود بوجه عصرنة معولمة تكتسح، وتبتلع كل ما حولها، بما تسببه من خلل هيكلي في التوازن النفسي والاجتماعي للآخرين ،باعتبارها عصرنة جامحة، تقتحم الحدود بوسائلها المتعددة، بلاقيود، ودون الحاجة إلى تصريح.

وإذا كان لا بد لنا أن نعمل على إعادة هيكلة واقع الحال، بما يتلائم مع معايير التحديث، والعصرنة، حتى يمكننا التعايش مع معطياتها، والتكيف مع انجازاتها المتوالية، بأقل ضرر يلحق بأصالة هوية الوجود الاجتماعي، والموروث الثقافي، فإن ذلك ينبغي ان يتم في إطار الحرص الواعي على الحفاظ على أصالة هوية الموروث الحضاري لمجتمعنا، وأمتنا، والتكيف في نفس الوقت، مع المعطيات الإيجابية للعصرنة، والتفاعل المبدع، والخلاق معها، وإسقاط كل ما هو سلبي من تداعياتها دون تردد.

لذلك بات الأمر يتطلب من الكتاب، والمفكرين، والدعاة، والمؤسسات المهتمة بالشأن الديني، والاجتماعي، الإنتباه الجدي، إلى خطورة الانفصام بين الأجيال القادمة، والبيئة التي انجبتهم، والعمل على إدامة زخم التواصل الحقيقي المستمر بينهم، وبينها، وزيادة حس الإرتباط بالأصالة، وتعميق جذور الإنتماء، في نفس الوقت الذي ينبغي أن يتم فيه الانفتاح بوعي تام، على معطيات العصرنة التقنية، والمعرفية، والحضارية، والتفاعل مع توجهاتها الإيجابية بتروي، ومن دون انبهار، أو تهيب، او خنوع، أو استكانة، ترسخ في أوساط الجيل المعاصر، روح الفزع، والإنهزامية، وتشيع فيهم الشعور بالدونية، عند تعاطيهم مع تيار الحداثة الجارف، تفادياً للضياع، والاستلاب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى