المسافات الباردة - رواية زكريا شاهين - قسم 4
"إنني سعيد بألمي منذ زمن بعيد.!
شيخ الطريقة
في اللحظة الأولى للعبور، خيل إلى الشافي، أن العالم قد توقف عن الرحيل، وأن عبوره سيحدد لحظات الكون، لاشك أنه يقوم بعمل غير مسبوق، هربت الرياح التي كانت تدور في محيط المكان، بانت خاصرة الوادي وهي تطل من بعيد، كان كأنما هو طفل يغادر مدرسته متسللاً ثم قافزاً من فوق سورها هرباً من قسوة المدرس، مرت على ذاكرة نبوءة الدرويش..
منذ زمن غير بعيد، تشكلت في ذاكرته لوحة الزوايا، والمجاذيب الذين يتحلقون حولها في دائرة يغلقونها بالترابط بين الأجساد، ثم يفسحون للريح ممراً حين يتمايلون، فإذاً ما الريح عبر، أغلقوها مجدداً.
تستيقظ اللوحة كلما حاور الذاكرة..
المنتشرون وقد أخذوا أماكنهم وسط الساحة الواسعة، والدائرة المتحركة على إيقاعات الدفوف تبدأ دورتها، يميل القوم، والرؤوس تتحرك مع الصوت والصدى معاً، الأجساد محسوبة بدقة عبر دائرة الإيقاعات، فجأة، يرتفع الهمس رويداً رويداً حتى يصل إلى الذروة المستمدة من لهاث التراتيل، وحين أقصى القمة، تزداد الأجساد التي تسكنها الحركة.. حركة! أما الوجوه، فتشتعل بالظلال المجهولة، المجبولة بالحمرة القانية، والبياض المشرق، أما العقول، فيقول الشيخ بأنها تسرح إلى البعيد، وعندما تعود الإيقاعات لترسم البدايات الأولى في تراجع المنتشرين نحو المنبع الأول، تعود بترداد تراجعي، رويداً،، رويداً.. تستريح النفوس، وتستكين الحركة، لكأنما هي العودة من رحلة اليقين إلى مسافات الغيب، عندها، يرتفع الإحساس برهبة الزمان، كأنما الوقت كاهن يتلفع بعباءة الحركة التي تتمايل كالموج، ويرتفع صوت المرشد.. يصرخ الدرويش الأسود القادم من المجهول..
حـ ..... يـ...... ي....
يقترب المجاذيب من البوح، من العشق، من أول الحكاية، وتستعيد الذاكرة شخوصها كأنما عائدة من سفر بعيد، حيث يشع وجع المنافي، واغتراب المسافات في زوايا الحنين.
وفي الإلحاح المستمر لإعادة تشكيل هذه اللوحة، يغادر الضفاف باتجاه الساحة التي تستحثه على المشاركة، وحين يطل عليها من بعيد، يستعيد همس الدرويش في المرة التي يكاد أن يدخل الساحة:
يتفاعل الضد في داخله، ففي المرة الأولى، وحين التقت عيناه بعيني الدرويش القادم من المجهول قال له:
من غادر إلى هناك.. سكن الكهوف ولم يعد؟
ويستمر حوار الذاكرة:
قال الذي لم يغادر النبوءة:
حين تكون السماء صافية، وحيث الهلال الثالث يستفيق تماماً، تتوفر معطيات أكثر لتحقيق الحلم، إنما وقد لف الهلال بسحاب يحاول إخفاءه، فإن ذلك يعني عقبات على الطريق، ومخاطر دونها رغبة التخلص من كل شيء.
هي لحظة دونها ساعات طوال، لم يحدث أن ارتطمت موجة بموجة، ولا انقض طير على قطرة ماء، كان العبور يتشابه مع الانتظار، أحس أنه يقف في مواجهة المجهول، رأى رجالا قد اصطفت كراديسهم على جنبات الوادي أو خيل إليه، وكأنما على أرصفة الكون جميعاً، امتلأ المكان بالعيون التي تحدق به، وحين تقدم، انغرست قدماه في وحل البحيرة، كان حذاؤه ذا العنق الطويل، يغوص أحياناً حتى الاكتمال، وأحياناً أخرى، يكاد لا يلامس الأرض.. وعلى كتفيه كانت الحاجيات التي ورثها من حيث الوادع، تترنح في هدوء.
وعندما انتهى.. وما أن حط أقدامه على الشاطئ الآخر، مدخل الوادي، حتى أحاط به رجال كانوا هناك..
قال الذي وكأنه كبيرهم:
لا يصل إلينا إلا من أراد أن يكون منا..
ومن أنتم
نحن الذين تحالفت الأيام علينا، فتهنا في الشتات، لكننا سنبدأ من جديد..
وإلى أين؟
إلى العودة، إلى الوطن..
جئت من نبوءة قديمة، وأنا ابحث عن مكمن الشمس..
عليك بعصا الحكمة "وأشار إلى بندقية يحملها على كتفه".
لكنني جديد، ربما اختلطت علي الأمور......
لكنك وصلت إلى هنا..
ربما هو قدري..
أمامك خيارين، إما أن تبقى فتصبح منا، وإما أن ترحل ثم تغيب في قلب الوادي، وربما.!!
صمت الجميع.. قال الشافي..
دعوني أستريح.. ثم أفكر بالأمر..
وما إن أطل اليوم الثاني، حتى كان الشافي قد أحس بأنه ربما وجد ما يبحث عنه، ولكنها البداية، كانت التجربة مثيرة، وكان مخلصاً كذلك الذين هناك، لكن الانتظار، شكل مرحلة أولى من مراحل تكوين الحلم..
أحلام القدم الخشبية!
عاد المرقط في اليوم التالي مع بغاله لأخذ الحمولة كالمعتاد، لم يكن أحداً يعرف بأمر لقاءه مع الشيخ الكبير، وكالعادة، لم ترحمه نظرات القوم، لكنه لم يلق بالاً لذلك، اتجه إلى الساحة، والبغال.. حملّت كعادتها.
الشيخ الكبير، كان هناك، ولأول مرة منذ مجيء العسكر، أمام نظرات القوم المستغربة، حيا المرقط بابتسامة أبوية فاجأت القوم، لكنهم اعتبروها تودداً مصلحياً ليس إلا، لكن ذلك النهار لم يمر كعادته، فما أن انطلق المرقط باتجاه الوادي، حتى أسر الشيخ لخادمه أمراً، انطلق الخادم على أثر ذلك باتجاه بيوت القرية، كان عليه أن يبلغهم بعزم الشيخ الكبير دعوتهم إلى بيته بعد صلاة العصر، وهكذا كان، حضر الجميع، أما صاحبنا الشافي ، فقد كان خارج القرية منذ أيام، اعتاد القوم على غيابه، فمنذ أن توفي والده بالتبني، وهو يخرج بين فترة وأخرى باحثا عن قاتل والده –الأخرس- لذلك فإن غيابه لا يشكل عادة أي هاجس للقوم.
ظنوا أنه غائب كعادته، لكن الواقع كان غير ذلك، ففي الكهوف المنتشرة في الجبل يقيم بعض الغرباء الذين وفدوا إليها فجأة، واستقروا فيها دون معرفة أحد، والأكثر من ذلك، أنهم مسلحون بالبنادق، والشافي قرر أن يعرف سبب وجودهم هناك.
لأول مرة، يكسر الشيخ طقوس المجلس في بيت الضيافة، الشيخ رفض ولأول مرة أن تقبل يده، دخل الساحة محيياً الرجال الذين وصلوا تباعاً، كلهم كانوا هناك، حتى حارس المقبرة، الذي لم يعتد حضور مثل هذه الجلسات، حضر بعد إلحاح الخادم الذي أرسله الشيخ لاستدعائه، كان وجوده مهماً في نظر الشيخ، فالرجل وكما يقال عنه، خبر الحرب والمعارك، جلس الشيخ في مجلسه، أطرق هنيهة ثم بدأ بالكلام.
استهل الشيخ كلامه بالحديث عن أهمية صيانة الأرض والعرض، وعدم السماح للغرباء بالاستيطان واستباحة أراضي الوطن، وبأهمية الدفاع عن الوطن، مشيراً إلى أن الجهاد في هذا السبيل، تماماً مثل الجهاد في سبيل الله، يتساوى هذا وذاك، مذكراً بالماضي المجيد وعبره ومآثره.
والحالة التي وصلنا إليها – قال الشيخ- تحتاج إلى وقفة جادة، نفكر فيها بما حدث، وبالطريقة التي يمكن أن نتخلص فيها مما نحن فيه، اليوم، يجب أن تكون الدعوة هذه، دعوة جهاد، والفرصة قد سنحت، قد تستغربون، ولكنني أو أن أحدثكم بحديث المصدق لما سيحدث.
في الليل، وبالأمس، جاءني زائر تعرفونه جيداً، قد لا ترتاحون إليه الآن، ولكنكم تعرفونه وكفى، وعرض علي أمراً أحسست بحسن النوايا فيه، منحته ثقتي، لكن الأمر، أكبر من منح الثقة وكفى، إن الأمر يتعلق بمقارعة العساكر في الوادي، وطردهم من هناك.
هلل الجميع، رافعين أصواتهم بالاستعداد للتضحية والجهاد.
مهلاً.. قال الشيخ.. إن من عرض ذلك هو المرقط..
سرت الهمهمات بسرعة بين الجميع، بان الاستياء واضحاً على الوجوه، استغرب الجميع هذا الأمر، علت التساؤلات والأصوات:
كيف يمكن أن نثق بهذا الطائش؟
أنت تعرف أنه أصبح واحداً منهم!
لقد نسي من هو، نسي رعاية أهل القرية له، تربيته!
رحم الله الحكمة والصبر، قال الشيخ الضرير.
أسكتهم الشيخ بإيماءة من رأسه، ترافقت مع حركات يده.
قلت لكم، إنني أشعر بالثقة وأنا أتحدث عن النمر، إنه لم يضيع وقته أبداً، قلبي يحدثني أنه صادق، لم يخطئ إحساسي يوما، خاصة في المصائب والشدائد، قلت، أستشيركم بالأمر، طلبت منه أن يمهلني ثلاثة أيام، سيعود إليّ بعدها، فماذا ترون؟
قال أحدهم ساخراً!
هلا أخبرتنا بعرضه العظيم؟
لم يكن عرضاً بالمعنى التفصيلي، لم يتحدث عن خطة معينة، قال إنه سيدخل في تفاصيل الأمر بعد عودته القادمة، هذا كل ما لدي.
في العادة، كان حارس المقبرة، إذا ما حضر مثل هذه اللقاءات، لا يتفوه بأية كلمة، يكتفي بالصمت، وبالمراقبة، أهل القرية، لا يحبونه بسبب مهنته ليس إلا، لكنهم لا يكرهونه، يقولون أنه دفن جيلاً كاملاً دون أن يدفنه أحد، والحارس يقوم عادة بكل مراسيم وطقوس الدفن، فمن غسل الميت، إلى إلباسه الكفن، وحتى مواراته التراب، وفي الأعياد والمراسم، كان الرجل يستفيد من صدقات وهبات القوم، الذين يتذكروا موتاهم، إضافة إلى راتب ضئيل، يدفعه له إمام المسجد مقابل عمله، الناس، لا يعرفون له اسماً سوى "الحارس" هكذا عرفوه، فقد ساقه اليمنى أثناء اشتراكه في الحرب الأخيرة، قال ذلك ذات مرة، انتشرت الحكاية حتى عرفها الجميع، لكن الحقيقة غير ذلك، لا أحد يعرف كيف، متى فقدت هذه الساق، كأنه خلق بساق خشبية، هكذا رأوه، وهكذا تعودوا عليه، رغم أنه كان يعيش معهم بقدميه قبل أن يفقد واحدة منهما، لكنهم نسوا ذلك، اثنان فقط، يعرفان الحكاية، بل إن واحداً يعرف التفاصيل الأكثر دقة، إنه – الشافي- أما الثاني فهو العجوز الملقب بالشايب، لكنهما لم يبوحا بسره لأحد.
استسلم الجميع لما قاله الحارس فيما يتعلق بساقه، أصبح الأمر طبيعياً، إذ يمكن أن يحدث هذا لأي محارب، ثم إن المسألة، ليست أبداً بهذه الغرابة حتى تثير من حولها الشكوك والتساؤلات، فالرجل حسن السيرة والسلوك، لم يتزوج قط، لعل مرد ذلك إنه يعيش بغرفة تقع على باب المقبرة، أو لعل هنالك أسباب أخرى، من يدري؟
كان يشيح بوجهه إذا ما صادف فتاة في طريقه، أما حين تموت امرأة في القرية، فلا يتولى سوى حفر القبر، بينما تتولى امرأة عجوز بقية المراسم والطقوس.
يقولون:
إن حراس المقابر عادة ما يكونون من الملائكة، أحياناً يكونون أخياراً، وهذه حالة مؤكدة في غالبيتها، وربما كانوا ذا طبع حاد، وتلك سمة قل أن تحدث، إذ لو إنها وجدت، لما استطاعوا الاستمرار في أداء واجباتهم بالشكل المطلوب.
يجيئون فجأة، ويرحلون كذلك، لا أحد يعرف كيف، أو متى حدث ذلك! أهل القرية، لا يتذكرون أنه كان لمقبرتهم حارس قبل صاحبنا ذا الساق الخشبية، فمنذ أن ولدوا، كان هناك، هكذا يقولون.
قبل سنوات عدة، لا يتذكرون عددها بالضبط، كانت الابتسامة لا تفارق شفتي الحارس، حتى وهو يهيل التراب على موتاه، كان طلق المحيا، حليق الوجه، يحلو له مداعبة الأطفال، يجلس على كرسي حلاق القرية الوحيد، يثرثران معاً، حلاقته كانت تستغرق يوما بكامله، لكنه فجأة، أصبح رث الثياب، كث الشعر، أطلق لحيته بإهمال ودون أن يعيرها أي انتباه، انتابه هم شديد، حتى أن لون وجهه تحول إلى السمرة، أما الابتسامة، فقد نسيها تماماً.
لا يذكرون متى حدث ذلك بالضبط، إنه حدث وكفى، لكن بعضهم يتذكر أن الرجل، اعتكف ذات مرة في غرفته، طال اعتكافه عدة أسابيع، قالوا إنه كان يصنع ساقاً جديدة، بدلاً للساق القديمة التي أجاد صنعها حتى إنه لم يكن من السهل تمييزها عن الساق الحقيقية، والساق الجديدة، لم تكن كسابقتها، لقد فقد الرجل صبره إذن!!
في الساق الجديدة التي تحدثوا عنها ظهر الحارس بعد اختفاءه، والغريب، أنه طيلة مدة اختفاءه، لم يحتاجونه ولو لمرة واحدة، لقد توقف الموتى عن الموت، لكأن شيئاً ما، أجبرهم على ذلك، وعند ظهوره – يقول أهل القرية، دفن ثلاثة أشخاص في يوم واحد.
إذن، عاد الحارس بعد غيابه الطويل، كان يعرج قليلاً، فالساق الجديدة، ليست متقنة الصنع، ظهر في القرية دون موعد مسبق، لم يمر على دكان الحلاق كعادته، فقط، ابتاع بعض الحاجيات، وانطلق عائداً من حيث أتى، وفي طريق عودته، التقاه الشافي، ساراً معاً حتى وصلا إلى غرفته في المقبرة، كانت الشمس تميل نحو الغروب، والشافي ظل ملازماً إياه في غرفته حتى مطلع الفجر حين ظهرا معاً في المسجد.
الشافي، قال صاحبي:
وحده يعرف تفاصيل الحكاية.
خلاصة الأمر، أن حارس المقبرة، كان يميل إلى فتاة في القرية، لم يجرؤ أبداً على التقدم لخطبتها، كلما رآها، كان يسرع بفكره كأنما هو غارق في مشاكل البشر جميعاً، يحادث نفسه أحياناً، ملكته بكل جوارحه، مرة واحدة فقط، وحين رآها في المقبرة، كانت كافية لجعله عاشقاً متيماً، صريع الهوى، كان ذلك يوم ودعت والدتها إلى مثواها الأخير، والحزن الذي ارتسم على وجهها آنذاك، منحها نوراً أضاءه باشراقة محببة، لم تكن تذرف الدموع وتولول كما النائحات اللواتي حضرن التشييع، النظرة الأولى كانت بالصدفة، فعلت فعلها بالرجل، شكلت له قضية مزمنة صعبة الحل.
هو لا يعلم أن الفتاة، ومنذ ولادتها، حملت معها داءً يصعب شفاءه، والدها فقير الحال، لم يستطع أن يعالجها إلا بما أجاد به الطب المحلي في القرية، ودون جدوى، كان المرض يزداد كل يوم، جسدها لم يعد يتقبل الوصفات التي تكررت وملت مذاقها، كان الشافي يعرف ذلك، فقد وصف لها ذات مرة، منقوعاً من الأعشاب، ارتاحت إليه لأيام، ثم لم يعد يجدي نفعاً، كانت هي نفسها قد استسلمت للمرض، ففعل فعله في جسدها، الشافي لم يخبر الحارس بالأمر حين أسر له بمكنونات قلبه ذات ليلة، بل على العكس من ذلك، وعده بأنه سيفاتح والدها بالأمر، حين تسنح الفرصة لذلك.
متعمداً، كان الحارس يمر أمام بيت الفتاة كلما ذهب إلى القرية عله يحظى برؤيتها، لاحظ أنها لا تظهر أبداً حتى مع الفتيات اللواتي يرتدن البرية في بعض الأحيان للفسحة وقضاء الوقت، ولا حتى في مواسم الاحتفالات، تلك المسألة، كانت تثير أحياناً تساؤلات عدة لديه، هذه التساؤلات، لم تجد جوابها لدى الشافي، صديقه الوحيد.
الحارس يعرف والدها، ليس من الفئة المتزمتة التي تحظر على فتياتها الخروج من البيت، لقد حادثه ذات يوم حين التقاه في دكان الحلاق، كان الأب ودوداً للغاية، تمازحا بشأن تسمية الحلاق لدكانه، عرضا عليه أن يطلقا عليها اسم "صالون الحلاقة" بدل الدكان، لكنه أبى ذلك، ثم إن مجتمع القرية لم يكن مغلقاً، كان مجتمعاً منفتحاً في داخله، معتمداً على الطيبة المتحصنة بالأصول، والأخلاق الحميدة، خال من العقد كمجتمعات المدن، صحيح أنه منغلق على نفسه من الخارج، لكن أهله من الداخل، تتسم علاقاتهم بالحب والمودة دون غش أو خداع.
والأيام تمضي..
الشافي، يتملص دائماً عن الفتاة حين يفاتحه الحارس بالأمر، متعللاً أن الفرصة لم تسنح له بالحديث مع والدها بالأمر تارة، أو إنه نسي الموضوع تارة أخرى بسبب هموم أخرى.
يود رؤيتها مرة أخرى، قال الحارس، بل يتمنى ذلك، نصحه الشافي بالتريث حتى يفاتح والدها بالأمر.
كان قلقاً للغاية، والنوم، لم يعد سهلاً للياليه، يود كل ليلة أن يتسلل إلى أقرب نقطة لبيتها، عله يحظى برؤيتها مرة أخرى، قد يحدث ذلك بالمصادفة، لكنه لم يغامر في ذلك أبداً.
وجاء صباح آخر..
كانت النائحات يقفن على باب بيت الفتاة، خرج الشافي من البيت متجهم الوجه، تبدو عليه علامات الإرهاق ، فهو لم ينم طيلة الليل، لقد استدعي بعد صلاة المغرب إلى بيت الفتاة التي كانت تعاني النزع الأخير، حاول ما باستطاعته لإنقاذها، لكنها فارقت الحياة مع أول إطلالة للفجر، رحلت هادئة دون ضجيج، غفت غفوتها الأخيرة دون أن تطلب شيئاً.
كان الحارس يغط في نوم عميق بعد أن أتعبه السهر، حين استيقظ على قرع عنيف، قام متثاقلاً، تباطأ كثيراً حين فتح الباب، ثم عاد إلى فراشه عندما رأى الشافي هناك، لقد اعتاد على رؤيته دائماً، يأتي في كل الأوقات، دونما موعد، لم يخطر بباله ما حدث.
انهض وارتد ثيابك، أمامك عمل كبير، قال الشافي
أي عمل؟
عليك أن تحفر قبراً في أرض العم بشير..
ماذا؟ هل توفي؟ لقد رأيته قبل أيام.. كان كالحصان.
لا.. لم يحدث له شيء، إنما هي فتاته..
قالها الشافي وأدار وجهه، لكن الحارس الذي أصابه الوجوم للحظات، اتجه بشكل إرادي نحو الحائط، تناول سرواله المعلق هناك، لكنه توقف فجأة كمن لسعته أفعى.
ماذا قلت؟ رويده؟ غير معقول، صرخ الحارس..
أجل، إنها الأعمار بيد الله، هيا ولا تتأخر، قد يأتي القوم في أية لحظة.
ارتبك الحارس، أصابته رجفة طالت قدميه، حدق في سقف الغرفة، ثم، استسلم لما حدث، تناول رفشاً ملقى على الأرض ومضى إلى الخارج يتبعه الشافي الذي خشي أن يفقد الحارس بأسه، ويفتضح أمره، خاصة وأنه ليس هنالك أية علاقات مميزة بينه وبين رويده.
كان الموقف صعباً، فالحارس، كان يحلم ببيت صغير، يجمعه ورويده، يمازح الشافي حين يطلب منه وعداً بتعليم أولاده القادمين بعد الزواج، القراءة والكتابة بشكل مميز، ذات مرة، قال للشافي أنه سيعتزل مهنة التعايش مع المقابر، إذا ما طلبت رويده ذلك، سيعمل مزارعاً، أجل، فالزراعة مهنة تقي صاحبها شر العوز، لكن الحارس ورغم أنه كان يتذكر كل ذلك، إلا أنه وبحكم مهنته، اتجه إلى تلك القطعة من الأرض، التي ابتاعها العم بشير لتكون مدفناً للعائلة، حسب عادات القرية.. وعندما وصل إليها، بدأ بالحفر مباشرة.
اطمأن الشافي إلى أن صديقه الحارس، يستطيع أن يتمالك أعصابه، فاستدار عائداً إلى القرية، لكن الحارس ما أن أعمل رفشة في الأرض، حتى انتابته نوبة من التوتر، جلس على أثرها يفكر فيما حدث.
هكذا انتهت كل أحلامه، ضربة أليمة وغير متوقعة، كانت كافية لذلك، كيف يستطيع أن يحفر لفتاته حفرة يلقي بها كل أحلامه؟ إنها القسوة بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
قلّب الأمر على كافة الوجوه، والأمر، ليس له سوى وجه واحد، ساعات قليلة، وتواري رويده التراب، صرخ بأعلى صوته، رويدة، انتبه لنفسه، لا يجوز ذلك، فعلى الأقل، كن وفياً لسمعة الفتاة، قالها بصوت عال، ثم انهمك في إعمال رفشة في الحفرة مرة أخرى.
توقف مجدداً، لقد رآها تضج بالحياة، لم تكن مريضة، إنه يعرف كيف يبدو الذين تبدأ حياتهم بالعد العكسي وهم على قيد الحياة، يراهم وهم أحياء، ثم يدفنهم بيديه، كانوا مختلفين تماماً.
لا.. لم تكن مريضة، لعل والدها رفضني! والشافي، لم يقل لي ذلك، لكن الشافي لا يكذب، لمعت عيناه فجأة، لا بأس، إنها سترقد قريباً مني على الأقل، وسأكون أقرب إنسان إليها.
كمن أصابه الهذيان، ومع ذلك، يعرف ماذا عليه أن يفعل، رتيبة رتيبة، كانت أصوات الحفر، تخرج مع حركة الرفش المتواصلة، ثم تسارعت الأصوات، والحفرة تتسع تحت ضرباته، استغرب الأمر..
كأنني أحفر في كومة دقيق ناعم: قالها بصوت مسموع، يا للسرعة التي تتسع بها الحفرة، "ظل يعمل الرفش في الأرض، والحفرة تزداد اتساعاً، حتى باتت أكثر مما يجب حفره"، ترى هل أحفر لاثنين؟ فكر جيداً، ثم عاود الحفر.
لم يشعر بمضي الوقت، عمله كان يسير ببطء وسرعة في آن، لم يشعر بما فعل إلا بعد أن تناهت إليه أصوات القادمين مع النعش، كانت تسبيحاتهم تختلط مع عويل النائحات، خرج من الحفرة بعد أن سوى التراب في أسفلها، وقف بعيداً بانتظار القادمين.
قلة كانوا يحملون النعش، الشافي ممسكاً بذراع العم بشير الذي بدا منهمكاً جداً، بينما سار بضعة رجال خلفه، تتبعهم النائحات اللواتي يشاركن في كل تشييع دون دعوة، كن كأنهن يندبن العالم جميعاً.
إنها واسعة جداً!
قالها أحد الحاضرين باستغراب حين انزل النعش بها.
اللهم أجعل لها مكاناً واسعاً في الجنة، عقب الرجل الضرير..
ألقت عجوز بأول حفنة من التراب فوق الجسد المسجى في ارض الحفرة، ثم فعل ذلك العم بشير، قرأ الجميع سورة الفاتحة.
هكذا دون وداع كبير، ولا مراسيم طويلة، غابت الفتاة في بطن الأرض، بينما انسحب الجميع عائدين إلى القرية..
الحارس، كان عليه أن يكمل ما بدأه القوم، عليه أن يضع أحجاراً عريضة مخصصة للقبور بين الجسد والتراب، بحيث تشكل فاصلاً بينهما، يسمونها "البلاطات"، يقولون أنه يجب أن تكون مرتفعة عن الجسد، بحيث أن الفراغ الذي يظل بينها وبين الجسد يستخدم للملكان اللذان يحضران بعد الدفن لمحاسبة الميت، وكلما كان الفراغ كبيراً، كلما ارتاح الميت في حالة الحساب، ربما كان الأمر صحيحاً، فكثيراً ما حدثّ حراس القبور، أنهم يسمعون همهمات وأصوات تصدر من قبر الميت في ليلة دفنه، لكنهم لم يبوحوا بأكثر من ذلك، وعندما يلمح عليهم بالسؤال يقولون:
إنها مجرد أصوات عودة التراب إلى سابق عهده بعد انتزاعه من الأرض، بحيث أن هذه العملية، تحدث فراغات هوائية تبدأ بالامتلاء بعد فترة، والله أعلم!
اقترب الحارس من القبر، كانت الفتاة مسجاة أمامه، إنها فتاته، والجميع قد رحلوا، فتاته التي لم يرها سوى مرة واحدة، حتى إنه لا يعرف لون عينيها، ماذا لو رأى تلك العينان؟ إنها فكرة حسنه..
اقتربت يد الحارس من رأس الفتاة، كان مغطى بالقماش الأبيض، اشتم رائحة العطر التي تستخدم بعد غسل الجسد الميت، إنه يعرف هذه الرائحة جيداً، اقتربت يده أكثر فأكثر، لمس القماش، لكن يده تراجعت فجأة لحظة انتابه فيها خوف وخجل في آن، لقد كان حبه لها منزهاً طاهراً، دون شهوة، لن يسمح لنفسه بتدنيس هذا الحب، خاصة وأنه محرم على من هم في مهنته، لا بل هو محرم على الجميع أصلاً..
اكتشف فجأة، أن القبر واسعا جداً، إنه كذلك كما قال الرجل، يا الله!!
إنه يتسع للاثنين، أحفر حفرة له ولها ؟، هكذا تساءل، لكن يده ميزاناً لقياس الحفر لكل الأحجام، وفي عمله هذا، لم يحفر في حياته حفرة أوسع من جسد الميت المراد دفنه، لقد خانته الموازين، واختلفت كل المقاييس في ذاكرته، كذلك ابتعدت المسافات بينه وبين ما يعمل، أحس بالصقيع يلف جسده، تمالك نفسه.. ثم بدأ بالهذيان..
إنها إرادة الله، ولكنه الانتحار، ليكن!! ألهبت عقله التساؤلات، بدا أن عقله لن يستقر على حال أبداً، وفي تلك اللحظة، تجلت له حياته التي يحياها، إنها بلا هدف، وداع دائم ومستمر، فرض عليه أن يودع كل الراحلين عن هذه الدنيا، أجل إنها بلا هدف، وحتى عندما حلم بأنه أمسك هدفاً يستحق العيش من أجله، أفلت هذا الحلم فجأة، لا.. لقد جاء الحلم ميتاً، إنه أمامه في حفرة تتسع لاثنين، تراءى له أنه عندما يموت، لن ينتبه إليه أحد، الغرفة بعيدة، والمقبرة لا يرتادها أحد، المكان موحش جداً، قد تتعفن جثته، وعندما يكتشفها القوم، تكون رائحتها لا تحتمل، هو الذي يرش العطور على أجساد الموتى، المسك والعنبر، من سيحفر له حفرته؟ وأين؟ حتى إنه لا يملك قطعة أرض يدفن بها أسوة بأهل القرية، لقد استنفذ عمره في حراسة الموتى، هل هم الموتى الذين يحتاجون إلى حراسته؟
رباه! أهي الحفرة هذه؟ حفرتها بنفسي لي ولها؟ أجل، إنها كذلك، ولكن من سيغطيها؟ من سيهيل التراب علينا؟ قد تأتينا الوحوش، ولكن لابأس، أستطيع أن أغطي ما أستطيع، ثم ليحدث ما يحدث، إذ عندما يأتي القوم، أكون قد فارقت الحياة، التحقت متحداً بحلمي لحياة أخرى، أليس هنالك حياة أخرى؟ أجل.. سأحقق حلمي فيها..
تمدد بالقرب من جثة الفتاة، مد يده نحو إحدى البلاطات المخصصة للقبر، كانت أكبر البلاطات حجماً، أزاحها قليلاً، هوت على ساقه اليمنى، أطلق صرخة ألم، كانت ثقيلة جداً، سقطت واستقرت فوق القدم بين الركبة والرسخ على ربطة القدم.
بين خطين متوازيين
خطان مرعبان!!
ارتفعت أصوات أبواب قديمة صدأة وقد فتحت للتو، بدأت شواهد القبور بالحركة، كانت حركتها تحدث أصواتاً كأصوات كر الخيل في الغزوات القديمة، ثم إذ بالغبار يملأ السماء، وإذ بصوت صليل سيوف تسل من أغمادها يصاحب كل هذا، ريح عنيفة تدور في كل اتجاه ، لكنها مع ذلك تتحاشى إصابة الأشجار، فالأشجار ساكنة عن الحركة تماماً، كانت هنالك أيد تخرج من القبور، تلاها رؤوس متلفحة بقماش أبيض، وبسرعة غريبة، تطايرت أحجار صغيرة في كل مكان، وارتفعت أتربة القبور إلى أعلى بحيث تكونت على هيئة أعمدة تنتصب فوق القبور، أشتد صراخ لا يحمل أي معنى، الشواهد، شواهد القبور، ارتفعت رويداً رويداً عن الأرض، انتابه خوف لا مثيل له، حاول الوقوف، لكن قدماه امتنعتا عن الحركة، كان هنالك شيء ما كالقيد يمسك بهما.
ماذا فعلت؟ إليّ.. صرخ بأعلى صوته، لكن الصوت ضاع في صخب الأصوات الأخرى، والظلام عم المدينة بكاملها، إلا من حزمتي ضوء، أضاءت جانبي القبر من الأعلى على شكل خطين متوازيين يميناً ويساراً، تراءت له قامات الموتى وهي تنتصب، ترتفع، تخرج من القبور، يحمل كل منها شاهد القبر الذي كانت ترقد فيه، ومن وسط الريح، تقدم الموتى حاملين شواهد قبورهم باتجاهه، أكفانهم نظيفة وغير مغبرة، كأنهم قد تم دفنهم للتو، غطى وجهه براحتى كفه.. لقد قرر المقاومة..!
اقترب الموتى، مشكلين خطين داخل الضوء، توزعوا على الجانبين، الشواهد محمولة بالأيدي، والصراخ، يزداد صراخاً، لم يفلح أبداً في معرفة مصدر هذا الصراخ، كان الصراخ يزداد، إنه حتماً لا يصدر عن الموتى،،، الأحياء، فأفواههم مغطاة كأجسادهم، أعتصر رأسه بين راحتيه، حاول الحركة مرة أخرى ولكن دون جدوى، والموتى – الأحياء، يقتربون منه بشكل أفقي حتى أصبحوا على خطوات، توقفوا للحظة، ثم كترتيب التلامذة في الصفوف الابتدائية عند عزف النشيد، وقفوا، صف على يمين الحفرة داخل خيط الضوء الأيمن، والثاني على اليسار، أما نهاية الصفين، فلم يستطع رؤيتها، كأنها تمتد إلى مالا نهاية، حدق جيداً ليتبين الأمر، لم ير سوى الخط الممتد أمامه من الموتى – الأحياء.
كانت قطعة الأرض التي اختارها العم بشير لتكون مدفناً للعائلة، تقع في نهاية المقبرة، لذلك فلم يكن هنالك أية معوقات تقف في طريق الصفين الممتدين إلى ما لا نهاية، لكنه لاحظ أن الموتى –الأحياء وصلوا إلى حائط المقبرة الخلفي، لكنهم لم يصطدموا به، بل ظلوا متقابلين تماماً، وفجأة، الصق الأولشاهده الذي يحمل بالشاهد المقابل من الصف الثاني، بدا الأمر وكانما تم صنع محفه كالتي يحمل عليها الموتى، ثم مرراه إلى الاثنين المجاورين وكان كلما انتقل من يد إلى أخرى، أو بين اثنين إلى اثنين آخرين جاءه صوت عبر أحدهم:
كنت تقاسمني زادي!! لم أحسب أنك ستغسلني للمرة الأخيرة.
كان التراب مبتلاً عندما أهلته على جسدي، لازلت أشعر بالبرد.
واريتني التراب في عز الظهيرة، أحسست بحر الهاجرة ووطأة العطش.
قطعت شجرة كانت بجواري لتدفأ بحطبها، حرمتني مما أحببت أن أنام بقربه.
حتى إنني لم أودع زوجتي.
إنك تخون الأمانة.
جزاؤك أن تبقى في هذه الدنيا.. ولا تموت.
هل فكرت بمن سيحفر حفرتك؟ وحدك لن تحفرها.
كما تداين.. تدان.
شوهت الحب.. حراس الموتى يحبون موتاهم فقط.
لقد شوهته!
في ذكراي المنصرم وعندما جاء الحضور، قال أحدهم.. علموا أطفالكم الفرح.. لم تقل له ماذا حل بأطفالي بعد الرحيل؟
خرقت قوانين السماء، امتلأت نفسك بالأنانية، خنت نواميس الحب، أصبحت من الأحياء إذن.
وفرت علينا مؤونة الانتظار، لقد فعلتها باكراً.
ستبقى حياً، لن يحبك أحد، كذلك فلن يكرهك أحد أيضاً.
لم يعد يعي ما يقال، أحس بالكلمات تثقب رأسه كأنها تزرع زرعاً، انفتحت الأرض كأنما بفعل زلزال، الفتحة التي ظهرت جاءت بين صفي الأموات- الأحياء، المحفة التي كان ينقل عليها، أدخلت إلى داخل الفتحة محمولة على شاهدين، كان المكان مضاءً بمشاعل الزيت، شعر بالدفء قليلاً، انزل حملة الشواهد الحارس إلى الأرض حين وصلا القاع الأول، تناهت إليه أصوات مألوفة لديه، كانت تصدر من خارج المقبرة، تماماً قرب قبر الفتاة، أصوات يعرفها بالتأكيد، ثم تلا ذلك صوت إهالة تراب، حسب أنهم يدفنونه، لكن ما بال الميتان ينظران إليه هكذا؟ حملاه من جديد، سارا به في طريق متعرجة، كانا يتحاشيان الاصطدام بأحجار مربعة ومستطيلة، هذه الأحجار اصطفت على هيئة القبور التي يجيد بناؤها، حتى إنها تحمل شواهد أيضاً، أقدامهما لم تكن تصدر صوتاً سوى صوت الاصطدام بورق شجر خريفي جاف. بدا كأنهما يعرفان الطريق جيداً، وقفا فجأة، أحس بأن وقوفهما سيستغرق أعواماً، لكنه كان مستسلماً للموقف، دفع أحدهم بيده بابا ضخماً تحرك على الفور، يا لهذه القوة، ادخلاه إلى حيث يؤدي الباب، وضعا المحفة على الأرض، ثم رفعاه إلى طاولة وضعت مقابل جدار عال، إنها تشبه طاولته التي يغسل عليها موتاه، أغلق أحدهما الباب، نظر حوله، كانت الإضاءة تأتي عبر قنديل معلق على الحائط بجوار الطاولة، الرجلان" الميتان"، وقفا ينظران إليه بعد أن مدداه على الطاولة، لاحظ أن أحدهما طويلاً عريض المنكبين، أما الثاني فهو كهل، كان الأخير يقف فاغراً فاه الذي بدا دون أسنان، ثم لاحظ أن الأول يلقي بأوامره إلى الكهل فيلبيها على الفور.
سكاكين، أدوات حادة، كانت تصطف على رف خشبي عريض، الرف، يقع تماماً على يسار الطاولة، بينما على يمينها علق منشار يستخدم في قطع الأشجار.
على رف آخر، لفائف بيضاء، قوارير قديمة، أدوات بدائية يشبه بعضها مقصات جز صوف الخراف.
أما في الزاوية، فقد كان هنالك قدر يغلي، بينما صفت بعض الجرار قرب موقد مشتعل، وفجأة، وفي الزاوية المقابلة قرب القنديل المضاء، برزت من الأرض شجرة مكتملة الأغصان، لكن أغصانها جرداء كشجر الخريف، وضع الرجل الأول يده عليها، فبدأت بالارتفاع، ثم نبتت عليها أوراق بدأت تتحول تدريجياً إلى أعضاء بشرية، كان الدم ما زال ينزف منها، رأس على ذلك الغصن، ويد على آخر، ساق في هذا الجانب، وإصبع في الجانب المقابل، وهكذا حتى امتلأت جميع الأغصان إلا واحداً، ظل فارغاً.
تناول أحد الرجلين حبلا طويلاً، ربطه عند فخذ القدم اليمنى للحارس، تحرك الآخر نحو الحائط، أحضر المنشار المعلق ووضعه على الطاولة، ثم أحضر سكيناً حاداً ووضعه بالقرب من المنشار.
بدأ الحارس محاولة جديدة للخلاص مما هو فيه، حاول الحركة، لكن الرجل الأول أمسكه من كتفيه، بينما قام الثاني بربطه في الطاولة.
ابتسم له الفم الخالي من الأسنان، فاصطكت أسنانه رعباً، قال الثاني:
لم يبق سوى أن نقطعها!
ما تلك التي سيقطعها، فكر الحارس، تذكر جزار القرية ذا الشارب الطويل، شاهده وهو يذبح ثوراً ذات يوم، ربط الثور تماماً كما هو الآن، أحس بأنهم سيفعلون به مثل ما فعل الجزار بالثور، توسل بصوت لم يخرج من فمه، أقسم أنه لم يكن ينوي فعل أي شيء، فقط، إنما كان يريد الموت إلى جانب من أحب، لكن الرجلان تابعا العمل وكأنهما لم يسمعاه، سكب أحدهم في فم الحارس شيئاً من الماء، ثم ابتعد قليلاً، وعندما عاد، كان يحمل خرقاً مبتلة بالماء الساخن بعد أن غمسها بالقدر، صرخ الحارس مستجمعاً كل قوته:
حسناً افعلوا ما تريدون، ولكن قبل ذلك، ما حكاية هذه الشجرة، إنها ترعبني.
ثم .. لمن هذه الأعضاء المعلقة عليها.
إنها بعض من أعضاء حراس المقابر، جاءه الصوت من بعيد، لم يحرك أحد الرجلين فمه.. ترى من المتحدث؟
أولئك الذين يخالفون التحكم في عواطفهم.
جريمتهم أنهم يقتربون من الأحياء، بينما هم وجدوا لخدمة الموتى.
صرخ بتوسل:
ولكنني لم أفعل شيئاً؟ لكن الأصوات تتابعت.
على هذه الشجرة، تعلّق الأغصان التي أثمت، فالقدم هناك، داست على طفل أثناء ردمه بالتراب، والإصبع ذاك، تطاول على ثدي امرأة، الأسنان المعلقة على الغصن البعيد، اصطكت رعباً مشاهدة جثة محترقة، أما الرأس، فهو لحارس أحضر مومساً إلى غرفته في المقبرة.
أترى هذا الغصن الفارغ، ستعلّق قدمك اليمنى عليه، كانت أول من نزل إلى قبر الفتاة بعد تفكيرك اللعين.
ارتفع صراخه، كان كلامه مبهماً، بدأ الرجل الأول بنشر الساق، بينما كان الثاني يسكب شيئاً من الماء المغلي عليها، أحس بأن شيئاً ما يشبه قماش أكفان الموتى يمر أمام عينيه، يغلقهما، ثم يرفع القماش بفعل فاعل، كان الثاني يجفف عرقه الذي بدأ يغرق وجهه.
لحظة رهيبة تلك التي قطعت بها قدمه، رآها وهي تقطع، ثم رآها وقد علقت على الغصن، كان الألم يلفه من كل جانب، حمله الاثنان، انزلاه عن الطاولة، سارا به مسافة لا يعرف مقدارها، رأى ناراً مشتعلة من بعيد، كان لهيبها يصل إليه، تقدم الرجلان وهما يحملانه باتجاه النار، ادخلا ما تبقى من قدمه اليمنى داخل النار، انكمش اللحم، طقطق الخشب المحترق، امتلأ المكان برائحة الشواء، بينما لم يعد الحارس يذكر شيئاً، لقد فقد وعيه.
أحس الحارس بعد حين، كأن حبات من المطر تسقط على وجهه، فتح عينيه، كان يرقد على فراشه، والغرفة هي غرفته، الشافي، كان يجلس إلى جانبه، يحمل بيده قماشاً مبتلاً يضعه على جبين الحارس بين فترة وأخرى، تحسس جسده الذي غطي بقماش سميك، تحسس قدمه اليمنى، كان الفراغ قد حل مكان الجزء المقطوع، توقع الشافي أن يقول الحارس شيئاً، أن يسأل عن قدمه، أن يصرخ، لكن الحارس لاذ بالصمت.
قال الشافي: إنه حين تركه وعاد مع المشيعين من المقبرة، أوصل العم بشير إلى البيت، فواجبه يقتضي منه ذلك، فالعم بشير، وحيد لا معين له، كان ذلك منذ ثلاثة أيام.
رفع الحارس حاجبيه باستغراب، لكن الشافي تابع:
تركتك هناك لتردم قبر الفتاة، ثم عدت عندما خيم الظلام، لم أجدك في الغرفة، انتظرت قليلاً، لكن القلق انتابني، خرجت أبحث عنك، خلف الغرفة، قرب البئر، وفي أطراف الغابة، إذ ليس من عادتك أن تذهب بعيداً، فجأة، تذكرت قبر الفتاة، ذهبت إلى هناك، وجدتك ملقي في الحفرة، بعد أن سقط الحجر الكبير على قدمك اليمنى، ألا تذكر؟
كانت قدمك قد تحطمت تماماً، كنت فاقداً للوعي على ما أظن، لقد نزفت كثيراً، إن دمك يملأ قبر الفتاة، لم استطع تحريك الحجر لوحدي دون أن أرفع قدمك الأخرى، عدت مسرعاً على القرية، وفي الطريق، قابلت الشايب، حضرنا معاً، تعاونا على رفع الحجر، كان قد غار إلى داخل الساق ممزقاً اللحم، محطماً العظام، قدمك اليمنى كانت تتدلى كخرقة بالية في مهب الريح، لم نستطع حملك بشكل اعتيادي، صنعنا لك حمالة من الأغصان، ألا تراها؟ إنها هناك، كان لابد من قطع ما تبقى من لحم يمسك بالقدم، ونشر بقايا عظام محطمة، حتى تكتب لك الحياة.
كان الحارس قد أصيب بالذهول حين نظر إلى الحمالة التي صنعها الشافي لنقله، أصابته رجفة مفاجأة، إنها حقاً تشبه شاهدي قبر الصقا سوياً.. لكنه تمالك نفسه بينما تابع الشافي القول:
ثلاثة أيام وأنت تهذي يا رجل، اضطررنا إلى كي مكان القطع بالنار لوقف النزيف، يبدو أنك كنت راغباً في الرحيل عنا.. على كل حال، حمداً لله، عليك أن تستعد للشفاء، ثم أردف مازحاً:
لست أول من سيكون بقدم خشبية أيها المحارب، عندما يحين الوقت وتستعيد بعضاً من صحتك، تبدأ الحركة!! سنصنع معاً قدماً خشبية تعينك على الاستمرار.
كانت الدموع تملأ وجه الحارس، لم يستطع أن يتمالك عواطفه أكثر، قال:
لم أكن غائباً عن الوعي، كنت في مكان آخر..
لكن الشافي ابتسم للرجل الذي اسقط رأسه على الوسادة محاولاً النوم، كان لابد أن يصدق ما لم يسمع..
بعد أسبوع، بدأ الحارس يتماثل للشفاء، روى للشافي ما كان من أمره مع الفتاة، وما حدث له مع الموتى- الأحياء..
قال الشافي: إنه الهذيان.. ولكن.. هل كنت ستدفن نفسك حقاً مع الفتاة؟
أجاب الحارس:
لست أدري.. أحس أنني تعب وحزين..
كانت أعماقه تغوص في أعماقه، باردة كمسافات الجليد، اتكأ على يده محاولاً الجلوس، لكنه عاد فألقى رأسه على الوسادة:
أجل.. أنني تعب وحزين..
ثقافة الشاطئ الآخر
"لاشيء يمكن أن يؤخر إشراقة الشمس عن الموعد"
لم يستطع الشيخ الكبير، أن يسكت القوم كعادته، لكن الرجل الضرير، قرع الأرض بعصاه قائلاً:
إذا كانت المسألة تخص القتال والحرب، فهي تحتاج إلى من يفهم هذه اللغة، وأنا أرى بيننا من يتقنها، فالأولى أن نستمع إلى الحارس، ألم يشترك في الحرب؟ ألم يفقد ساقه هناك؟
اتجهت أنظار القوم إلى الحارس، كان قد أخذ فجأة، تبادل النظرات مع الشايب الذي تجاهل كل شيء، وقال:
قبل أن ندخل في التفاصيل التي أرى أنها ضرورية، علينا أن ننتظر عودة المرقط، وحده يملك المعلومات عن الجماعة هناك، المهم الآن، أن نتفق على مبدأ الجهاد، أرى أن نمنح المرقط فرصة إثبات نفسه بعد أن شوهته ألسنة القوم، إنكم تعرفونه كما أعرفه تماماً، إنه صادق على ما أعتقد، لنمنحه الفرصة، أشعر أن شيخنا يبادلني الرأي!
وأنا أيضاً، قالها عثمان، وهو شاب تزوج حديثاً..
أجل.. لنعطه الفرصة، قال الشيخ بارتياح..
أكد الرجل الضرير، أن المسألة الآن، تعود إلى قرار الشيخ الكبير، فهو أدرى بمصلحة القرية وأهلها، مقترحاً أن يستمع إلى المرقط، ثم يتم تدارس الأمر على ضوء ذلك.
أما رجال المعارك، وأشار إلى الحارس، فهم جاهزون كما أرى!
انطلق الجدل مجدداً، لكن الشيخ نهض من جلسته حاسماً الأمر لمصلحة رأي الرجل الضرير فقال:
سأرى المرقط، ثم نرى ما سيكون، أوصيكم بكتمان ما تداولنا به، حتى عن نساءكم، إن الأمر غاية في الدقة.
والشافي؟ تساءل الحارس..
سأخبره بالأمر بنفسي عندما أراه..
كانت الساعة قد قاربت منتصف الليل، والجمع داهمهم الوقت فنسوا أداء صلاة العشاء، اقترح إمام المسجد أن يؤدوها في مكانهم، إذ عليهم أن يخرجوا من الاجتماع بهدوء ودون ضجيج، وهكذا كان، انسل القوم بعد ذلك بهدوء..
وكان نهار جديد!!
مر النهار كعادته، ثم تلاه نهار آخر، عاد الشافي، لكنه ما لبث أن غادر من جديد، لم يره الشيخ الكبير، قابله خادمه، هم بإعلامه بالأمر، لكنه لم يشأ أن يفعل ذلك دون علم الشيخ، لقد قال أنه سيخبره بما يجري بنفسه، لكن الشافي كان مشغولاً بشيء آخر، قال لإمام المسجد إنه سيغيب فترة طويلة، ولن يستطيع متابعة تعليم طلاب المسجد القراءة والكتابة..
كان النهار بطيئاً على غير عادته، القوم يستفزهم الانتظار، ولكن ما العمل؟ استعد الشيخ الكبير لملاقاة المرقط في الموعد المحدد، طلب منه الخادم أن ينصرف إلى البيت، فزوجته مريضة، كان الشيخ يريد ذلك، أذن له بعد أن أمره بإشعال الموقد، لا حاجة له به، وحين أتى المرقط، لم يكن بحاجة إلى قرع الباب، إذ أن الشيخ تركه مفتوحا، وللمرة الأولى، قابله بود ظاهر..
استوى الشيخ الكبير في مجلسه، بينما جلس المرقط على البساط..
قال الشيخ:
آمل أن لا تخذلني، إنني أوافقك الرأي، فإذا كانت هنالك خطة معقولة للتخلص من العساكر الأجانب الذين احتلوا وادينا، شاركناك بها، وإذا كان الخيال قد نسج لك ذلك، فعليك أن تعدني بأن لا تبوح بأي شيء، أنت وشأنك حينها..
قال المرقط:
أيها الجليل، أنت تعرف الوادي جيداً، وهذا يسهل الأمر كثيراً، لقد اعتاد الضابط بعد أن اطمئن على الوضع بشكل عام، أن يوزع حراسة المعسكر على مدخلين فقط، الأول يقع في فم الوادي باتجاه القرية، والثاني في منطقة تقع في منتصف الجدول حيث الصخور الضيقة، تاركاً جوانب الوادي وباتجاه التلال دون حراسة، أنا لا أدعي أن المسألة سهلة، ولكنها ليست صعبة إذا ما تذكرنا أن صخور التلال على الجانبين يمكن أن تخفي خلفها جميع رجال القرية، يتوزعون أفقيا بحيث يخيل للأعداء أنهم يقاتلون جيشاً كاملاً..
قال الشيخ:
أنت تتحدث عن معركة أيها المرقط، هل نسيت أننا لا نملك إلا الفؤوس والسكاكين وبضعة بنادق جد قديمة..
– لا.. لم أنسى ذلك، دعني أكمل، إن الخطة التي سوف نتفق عليها بإذن الله، ستجعلنا نملك البنادق..
– وحتى لو تم ذلك، فالرجال لم يسبق وأن استخدموها، إنهم بحاجة إلى تدريب..
– المسألة بسيطة، سأحصل على واحدة، سأخبر الضابط أنني بدأت أخاف رجال القرية، ولابد لي من حماية نفسي، لابد من بندقية لإخافتهم على الأقل، ولا أظن أنه سيمانع في ذلك، أما مسألة التدريب، فهي لا تحتاج إلا لبضع ساعات، نقضيها بعيداً خلف الجبل في الفترة الفاصلة بين وصولي صباحاً وبين تحميل البغال، بضعة أيام فقط، ثم نتحرك في خطوتنا التالية..
– أتظن أن بضعة رجال من القرية قادرون على القيام بمثل هذا الأمر؟
– لقد قلت لك، إن جميع الأسرى الذين يعملون كخدم هناك، ينتظرون مثل هذه الساعة، نحن لسنا وحدنا.. صدقني.
– ماذا علي أن أفعل؟
– عليك أن تختار خمسة رجال، فليكونوا من المقربين، يكونون جاهزين لدى وصولي غداً صباحاً، يمكنك ذلك عند صلاة الفجر في المسجد.
– سيكون كل ذلك معداً بإذن الله.
لم ينم الشيخ ليلته، ظل منتظراً حتى علا صوت المؤذن يدعو إلى صلاة الفجر، توجه إلى المسجد، وهناك، اختار الرجال الخمسة، كانوا، الحارس، الجزار حميد، وعثمان، الراعي عبد الرحمن، وولده الشيخ مسعود.
انسل الرجال تباعاً إلى خلف الجبل، بعد ساعة وصل المرقط، كان يحمل بندقية حديثة على كتفه، سلم البغال إلى خادم الشيخ قبل أن يتجه إلى الرجال، لم يضع وقته، لقد جاء مسرعاً.
جلس الجميع على الأرض.. وكانت ساعتان، عاد بعدها المرقط ليأخذ الحمولة ويعود إلى المعسكر كالمعتاد.
تكرر الأمر في اليوم التالي، أتقن الرجال التدريب، أطلقوا بعض الطلقات على سبيل التجربة، رأى المرقط أنهم ليسوا بحاجة إلى المزيد منه، أسر لهم أنه بحث خطة العمل القادمة مع الشيخ، وأنه سيكمل التفاصيل في هذه الليلة.
ولما عاد المرقط لاستلام البغال، أخبر الخادم أن يعلم الشيخ بأن يكون بانتظاره الليلة في نفس الموعد، وبحضور الرجال، وكان أن اجتمعوا هناك.
تناقش الرجال بالأمر، وهم بانتظار المرقط، تحدثوا عن السهولة التي تم التدريب فيها رغم عدم استخدامهم لهذا النوع من البنادق من قبل، أشاروا إلى حماس المرقط، ومعرفته الدقيقة بتفاصيل ما يفعل، أكثروا من احتساء الشاي على غير عادتهم، كان ذلك بسبب القلق والانتظار، فتل الجزار حميد شاربيه وقال:
– إذا تمكنا من طرد هؤلاء الأوغاد، نكون قد حققنا إنجازاً عظيماً نفخر به، يجب علينا أن ننجح.
لقراءة كامل اجزاءالروياة انقر هنا