الثلاثاء ٢٨ شباط (فبراير) ٢٠٠٦
بقلم زكريا شاهين

المسافات الباردة - رواية زكريا شاهين - قسم 8

حدّث ولا حرج

ما أسهلها من مهمة.. قال المرقط للشافي..

استفسر الشافي عما حدث معه.. فأخبره أن الوالي وعده بدرس المسألة مع نواب الشعب، وإظهار الحقوق التي اغتصبت منه، لم يحدثه أبداً عن ذلك التجمع، فالوالي كان صريحاً معه حين قال.. لا تشارك من لهم تأثير على رجال القرية، عليك أن تنفرد بالعمل لوحدك.. هكذا المركزية..

شرح له مطولاً عن فوائد المركزية، وأنها تؤدي في النهاية إلى القبض على الأمور بيد واحدة فقط، أما إيجابياتها فحدّث ولا حرج، شعر الشافي أن في الأمر شيئاً آخر، لكنه استبعد كل الأمور، أحس بأن المرقط ربما لم يستطع مقابلة الوالي.. وأنه قال ذلك كنوع من التعزية والتمسك بجبال الأوهام الخادعة، صمت عن السؤال بانتظار الموعد.

بعد أسبوع من مقابلة الرجل الذي يعرف مكان وليد، وفي الليلة الأولى من الأسبوع الثاني حضر الرجل، واصطحب المرقط والشافي إلى حيث المقابلة..
كان وليد قد جاء من مكانه الذي يقيم فيه في الجبال إلى مزرعة تقع خارج المدينة، صاحبها نصير لجماعة وليد..
التقى الرجال الثلاثة، وكان عناق الأحبة، ثم كان حديث السجون.. سأل كثيراً عن أحوال صديقه القديم عبد الرحمن.. أخبروه أنه كان يريد المجيء، ولكن ظروف عمله أبت عليه ذلك.. لكن مجيئه سيكون حتماً في المرة القادمة..
قال وليد: بل سأذهب إليه.. أن له حقوقاً علينا جميعاً..
وليد كان متحفظاً تجاه المرقط على ما يبدو، لذلك فقد أشار إلى الشافي أنه عليهما أن يعودا إلى المدينة الجديدة، وسيلتقي بهما خلال أيام، في ذلك الكهف القديم.. وهكذا عاد الرجلان وفي داخل كل منهما تتفاعل أمور مختلفة تماماً.

انتشرت بيوت اللهو على الشاطئ، بعد أن امتلأ بالسائحات والسائحين الذين كانوا يأتون من المدن البعيدة، ظهرت مدينة صغيرة هناك، كانت مرتبطة بالمدينة الجديدة التي امتدت إليها، توسعت بشكل لا حدود له.. وبتنظيم عشوائي.. أما القرية، أو ما تبقى منها، فقد انعزلت في مكانها القديم، هجرها أهلها ليقيموا في البنايات الحديثة، تحولت إلى مرتع للرذيلة، تسللت إليها لغة الاتجار بالمخدر من كل الأنواع.. أصبحت أماكن تعاطي الحشيش والأنواع الأخرى علنية، والشيخ –الوالي- كان يبارك ذلك، فتجار المخدرات الأذكياء.. اقتطعوا له حصة كبيرة من مردود هذه التجارة.
أصبح من المناظر المألوفة، أن ترى نصف العراة، رجالاً ونساءً يأتون بسياراتهم الفارهة إلى مدخل القرية القديمة، ثم يغيبون بداخلها ليخرجوا وهم في حالة ترنح.. كانت المسألة مثيرة للقلق بادئ الأمر.. ثم أصبحت تحت إشراف شرطة الوالي، عادية تماماً، حملت المقاهي التي أصبحت مرتعاً لذلك أسماء جديدة وغريبة، كأن التاريخ بأسماء مشهوريه استقر بهذه المدينة، لكنه استقر بشكل استفزازي..
استطاعت شعور الرجال، تغيرت ملابسهم، لا بل لم يعد لذلك أهمية، أصبحت الملابس جزءاً من الكماليات.. كل هذا بزمن لم يتجاوز العامين.. يا له من زمن حضاري غريب.

جاء من همس في أذن الوالي الجديد أن الأراضي التي تقع حول الجدول، تصلح لزراعة الحشيش.. وأن مردود ذلك سيكون هائلاً.. خاصة وأن الحاجة إلى ذلك أصبحت ملحة..
تحرك الآخر الجشع في نفسه.. وافق على الأمر.. ثم بدأ التنفيذ، استقدموا المزروعات.. استحضرت الكلاب المدربة على الحراسة لتشارك في حماية المحاصيل.. والوالي.. يستعجل الموسم..

ظل عبد الرحمن مقيماً في الكهف مع خرافه، ينتظر عودة الشافي والمرقط، لكن صاحب القطيع، جاءه في اليوم التالي ليخبره بأن ضيوفاً وفدوا عليه من المدينة التي تقع على الشاطئ الآخر، وهم في شوق لرؤيته، تعلل عبد الرحمن بأنه لا يستطيع ترك القطيع، لكن الرجل أخبره بأنه بعد أن يعود سيرسل من يأخذ مكانه هنا، بينما عليه أن يرى ضيوفه، ثم أن الأمر في غاية الأهمية..

بعد مغادرة الرجل بساعتين جاء أحد العمال الذين يعملون في مزرعته، أخذ مكان عبد الرحمن، الذي اتجه إلى بيته القديم متسائلاً عن هوية الضيوف التي تحدث عنها الرجل... كانت مفاجأة كبيرة، إذ أن الضيوف كانوا امرأة ورجل، أما المرأة فهي زوجة أخيه، وأن الرجل أخاها.. تعانقا بود، كان يعرفها جيداً، ويكن لها صداقة واحترام، كذلك يعرف أخاها – فقد كان زميله بالدراسة، إنه يدعى سليم.

كعادته الذين يلتقون بعد فراق، دار الحديث عن الأخوة والعمل وغير ذلك.. كان الرجل جالساً معهم.. إذ لم يكن هنالك أمر يحتاج إلى خروجه..

تناولوا طعام العشاء.. ثم بدأت سهرتهم بشكل آخر..
قال سليم:
ألم تسأم هذه الحياة؟ سأل عبد الرحمن
إنها تدهشني – فكلما توغلت فيها.. ازددت حباً لها..
قالت زوجة أخيه.. إننا نود أن تساعدنا في مشروع سنقيمه هنا.. لقد اتفقنا مع صاحبك "مشيرة إلى الرجل صاحب القطيع" أن يشاركنا المشروع مقابل إقامته على الأرض التي بها الزرائب.. إنها أنسب مكان لمشروعنا..
تساءل عبد الرحمن عن المشروع – لكن زوجة أخيه استرسلت في حديثها قائلة..

إن هذه الأرض تشكل نقطة تقاطع ما بين القديم والحديث، وهي ممتازة جداً..
إن مشروعنا باختصار إقامة معهد لتعليم الموسيقى – مع دار للعرض، وصالة لمكتبة ثقافية متنوعة.
وهل يدر ذلك ربحا عليكم؟ سأل عبد الرحمن..
ليس مهما، باستطاعتنا تطوير الأمر لاحقاً.. فالمدينة مهيئة لكل شيء..

سر عبد الرحمن بالأمر.. فمكتبة ثقافية – معهد للموسيقى وغير ذلك، شيء جميل.
قال الرجل صاحب القطيع الذي ظل مرافقا لضيوف عبد الرحمن::
لذلك.. فإنني مضطر لبيع الأغنام، لقد بعتها فعلاً، فحين تركتك، اتفقت مع تاجر المواشي الذي أنشأ مكتباً له في المدينة الجديدة على البيع، لن تجد صعوبة في نقلها- فسيرسل رجاله للقيام بالأمر..
كانت هذه المسألة غير العادية مؤلمة لبعد الرحمن، لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً، تناوشته الهواجس، سرح بأفكاره.. لكن الرجل تابع كلامه قائلا:

أما بالنسبة للبيت الذي لك.. فسنشتريه أيضاً.. ضع ما يناسبك من ثمن، فأنت تستحق الكثير..
كانت فكرة المشروع قد أثارت اهتمامه.. فوافق على الفور قائلاً:
إن مسألة الثمن متروكة لك على أية حال..
قالت زوجة أخيه.. وماذا ستفعل بالنقود؟ أجاب عبد الرحمن..
إن علي ديناً يجب سداده.

أما سليم.. فلم يتكلم كثيراً، كان منصتاً للحديث.. لكن الاتفاق جعله سعيداً.. إذ قضى سهرته مع عبد الرحمن وذكريات الماضي في مزاح وضحك مستمرين..
لم يمض نهار اليوم التالي إلا وكانت أغنام عبد الرحمن تساق إلى الميناء، بينما بدأت جرافات ضخمة بتسوية الأرض التي اتفق على إقامة المشروع عليها، كانت منبسطة أصلاً، ولم يكن هنالك من عوائق إلا ذلك البيت الصغير الذي هوى في لحظات أمام ضربات الجرافة العملاقة..

في الليل نزل عبد الرحمن حيث البيت القديم، من بعيد رأى كأن قناديل ونجوما تضيء الأمكنة.. كان هنالك آلات ورجال، الآلات تقوم بالحفر، وتأتي آلات أخرى لصب الأسمنت، بينما يتحرك الرجال إلى جانبها لتسوية الأرض.

وصل إلى هناك.. كانت مضاءة بالفعل.. إذ انتشرت بكل زواياها كشافات كهربائية أضاءتها كالنهار..
يا لهذه السرعة.. حدث عبد الرحمن نفسه، ولكنه كان يبدو سعيداً، فقد أعجبته الفكرة تماماً..

يومان فقط ووصلت شاحنات عملاقة تحمل أبنية جاهزة ومسبقة الصنع، صممت خصيصاً للمشروع، كأن القائمين عليه كانوا واثقين مما يعملون، لقد جهز كل شيء إذن قبل قدومهم..
لكن الأمر لم يكن بهذه الغرابة، فالمسألة كانت منتهية قبل مجيئهم إلى المكان إذ أن تاجر المواشي، أتفق مع صاحب الأرض على كل التفاصيل منذ أشهر.. كان يعمل سمساراً للمشروع.. فقد تولى كل شيء.. من توريد البناء إلى تسوية الأرض وخلافه..
السرعة التي أنجز بها المشروع كانت لا تصدق، إذ انتهى كل شيء قبل انقضاء أسبوع واحد على زيارتهم لعبد الرحمن.. كان يصاب بالدهشة كل يوم وهو يرى كيف يتم الإنجاز وسرعته..

أسبوع واحد بالفعل.. وجاء الوالي مسعود، وأفتتح المشروع برمته، كان الطابق الأول عبارة عن حوانيت للبيع، إضافة إلى مقهى خرجت مقاعدها إلى الرصيف، أما الطابق الثاني فقد كان لصالات متعددة سميت إحداها بصالة الشهيد عثمان، دار عبد الرحمن دورة كاملة على الصالات.. شاهد عجاباً.. فالأولى كانت مكتبة ضمت أجهزة حديثة للعرض.. بينما اصطفت على أرففها أشرطة كانت في غالبيتها أجنبية الثقافة والمضمون.. علت أغلفتها ما باح بما في داخلها، كانت مزينة بصور تمثل العنف والجنس معاً..

الصالة الثانية وهي التي سميت باسم الشهيد كانت أشبه بصالة اجتماعات، تزينها صورة الوالي مسعود من الوسط، ومسرح واسع به منصة مرتفعة، وغرف ملحقة لأجهزة إرسال واستقبال، كانت هذه الصالة قد خصصت لرجال الأعمال.. والصالة لها مداخل عدة منها يفضي إلى بار امتلأت أرففه بزجاجات من مختلف الأنواع، بينما كان هنالك مداخل تفضي إلى غرف للنوم.

الصالة الثالثة، كانت لمسبح كبير..
أما الرابعة فقد كانت صالة للرقص الجماعي، وبها مسرح أيضاً اصطفت عليه آلات الموسيقى التي تمثل إيقاعات مختلفة، وآلات جاز وغيرها ممن يستخدم للرقص السريع والمسرح زين بملصقات تمثل راقصين وراقصات...... وغير ذلك.
أما المكتبة وهي الأهم.. فقد كانت تحتوي على كتب كانت في معظمها تميل إلى الخلاعة والعنف، بينما كان القيم عليها شاباً بدا عليه أنه امرأة أكثر منه شاب.

أنهى عبد الرحمن دورته في الأعلى ثم نزل على سلم كهربائي أفضى به إلى الطابق الأول حيث المقهى والمحال الأخرى..
كانت المحلات قد زينت بشكل جميل، أحدها لبيع الأشرطة المسموعة والمرئية، بينما على من داخله صوت الموسيقى الصاخبة، مترافقاً مع تمايل فتاة في الداخل على إيقاعاتها، الثاني كان لبيع الزهور، والواقع أن رائحة المخدر كانت تفوح منه.

أما الثالث فقد كان يعرض ملابس للسباحة ارتدتها فتيات أحضرن خصيصاً لهذا الغرض..

والمقهى.. أكتظ على آخره، كانت فتيات صغيرات يقمن بخدمة الزبائن وقد ارتدين زياً أباح لأجسادهن أن تظهر من كل زاوية..
هذا هو المشروع الثقافي إذن، قال عبد الرحمن لنفسه..
نظر متلفتاً حوله، فإذا بسليم قد جاءه متأبطاً ذراع شقيقته التي كانت بدورها قد انتهت جولة مماثلة لجولة عبد الرحمن.
ما هذا.. ماذا فعلتم؟ قال عبد الرحمن، لكن سليم أجابه بلهجة الواثق مما يقول.. إننا نلبي حاجة الآخرين.. هذه هي الحياة.
أو يعلم أخي بذلك..
لكل منا تجارته الخاصة- قالت زوجة أخيه ثم تابعت سيرها بنفس الوضع السابق مع سليم.

الفجر،، ينهض متأخراً!

"فالوقت كاهن يهم بتلقي اعترافات العابرين للمكان"

عاد عبد الرحمن إلى الكهف.. لم يستطع أن يبقى هناك.. كان قد قبض ثمن البيت من الرجل، وعندما دخل الكهف.. شعر بوحشة شديدة، هو فارغ إلا من بقايا أغنامه، سرح بعيداً مستذكراً ما حدث، لكنه كان منهكاً من التعب، غفا دونما أية حركة..

كان الوقت متأخرا عندما فاجأه الشافي بالحضور.. كان وحيداً يحمل حقيبة في يده، كان قد أحضر بها بعض الحاجيات من المدينة الأخرى.. أستغرب الفراغ الذي وجده في الكهف، أخبره عبد الرحمن بما حدث.. كان الشافي ينصت إلى حديث عبد الرحمن، غير مصدق كل ذلك..
هل يعقل هذا؟ وفي أسبوع واحد؟

أكد له عبد الرحمن الأمر، داعياً إياه إلى زيارة المشروع.. ذهبا إلى هناك، وفي الطريق حدثه الشافي بما حدث في المدينة، وأن وليد سيأتي قريباً للزيارة، أباح له بشكوك حول ما حدث مع المرقط، حتى أن وليد لم يشأ أن يفتح حديثاً أمامه، هكذا قال الشافي لعبد الرحمن ولما انتهت الجولة، عادا إلى الكهف وقد علت الخيبة وجه الشافي وبأن عليه الضيق، كانت المسألة أخطر مما حدثه عنها صديقه.
المرقط، عاد إلى المدينة أيضاً.. توجه إلى منزل شيخ المسجد، تحادثا في أمر المدينة وما يحدث فيها، عرض المرقط على الشيخ أن يساعده في تنظيم الشبان لمواجهة الحالة التي ستصل بهم حتما إلى الحضيض، إذا لم يتم تفادي الأمر.. وافق الشيخ على ذلك.. كان هو الآخر يائساً ومتضايقاً إلى أبعد الحدود.

أيام.. نشط الاثنان معاً.. فتكونت لديهما جماعة كبيرة معظمهم من الشبان الذين لم تطلهم الحضارة الجديدة، بل ظلوا مبتعدين عنها، رغم أن بعضهم أصبح من العاملين في أعمال مختلفة من التي استحدثت في المدينة.

عاد المرقط إلى الوالي في المدينة التي تقع على الشاطئ الآخر.. نقده مبلغاً كبيراً من النقود وحقيبة امتلأت بالمنشورات التحريضية، وبضع مسدسات ولوازم أخرى.. وعندما عاد المرقط.. قامت جماعته بتوزيع المنشورات التي ظهرت في اليوم التالي في كل مكان مثيرة حنق الوالي مسعود.

أما الشيخ، فقد اختلفت لهجته في المسجد، أصبحت تحمل طابعاً تحريضياً، وصلت إلى مسامع الشيخ مسعود، أرسل رجاله ذات ليلة، قبضوا على شيخ المسجد ولم يظهر منذ ذلك الحين، لكن المرقط افتقده بعد يومين.. سأل عنه المعارف والأصدقاء، روت له إحدى النساء اللواتي يقمن في بيت مجاور للشيخ أن جنود مسعود قد قبضوا عليه.. أتجه إلى المسجد، وهناك وقف يحرض الحضور بشكل علني.. كان المرقط وبفطرته قد تذكر أن صالحة كانت قد دفنت قميص عثمان على عتبة بيته، ذهب إلى هناك، أخرج القميص، وأحتفظ به، رفعه عالياً أمام من كانوا في المسجد، قال، انظروا إنه قميص عثمان، أتعلمون من قتله.. أتعرفون القاتل.. لكنه قبل أن ينطق بكلمة أخرى، هاجمت فرقة مكافحة الشغب المكان، طردت المصلين من المسجد، لكن المرقط كان قد اختفى عند بدء هجوم الجند.. بحثوا عنه في كل مكان.. فلم يعثروا له على أثر.

في الكهف.. وبعد وصول وليد واجتماعه مع عبد الرحمن والشافي.. لم يبق سوى بضع خفافيش تحوم ليلاً خارج المكان، لتنام بداخله في النهار، فعبد الرحمن عاد مع وليد بعد أن قرر الالتحاق بالجماعة التي يقودها وليد.. تبرع بنقود البيت إلى صندوق الجماعة قائلاً: إنه شرطي للعودة إليكم.. أما الشافي فقد أعتذر عن الرحيل قائلاً: علي أن أنجز عملا لم أنجزه بعد، كان قد تذكر البحيرة والوعد..

ولكنها رؤى قديمة، انتهت منذ زمن بعيد – قال وليد..
لكن الشافي أصر على الأمر قائلاً: من يدري؟

خفايا.. وارتسامات

كانت صالحة تستخدم مياه الجدول لري مزروعاتها.. لكن المزارعين الجدد، الذين وفدوا لزراعة الحشيش، أغلقوا منافذ المياه المؤدية إلى مزرعتها.. حاولت منعهم بكل الوسائل الممكنة، رجتهم أن يتركوها وشأنها لتعيش، كانت على وشك الوضع بعد عامين من زواجها بمحسن، قالت إنها ترضى بأن يفتح منفذ المياه مرة في الأسبوع، لكن ذلك لم يجدها نفعاً، إذ أن الخبير الزراعي المكلف بالعمل لدى الوالي مسعود، كان قد أعد العدة للاستيلاء على مزرعة صالحة.. كانت مزرعة ذا تربة لم تستهلك بعد، محروثة بشكل جيد، وممهدة بتعب ملحوظ.

ذات ليلة وبينما زوجها يقوم ببعض الأعمال خارج المنزل، فاجأته طلقة من الرصاص تكررت حكايتها مع عثمان.. سقط مضرجاً بدمائه، كانت حالة الطلق قد فاجأتها هي الأخرى، لكنها زحفت إليه، حاولت امرأة كانت تقف إلى جانبها لمساعدتها في عملية الولادة أن تثنيها عن عزمها فلم تستطع، كان ما حدث قريباً من باب البيت، وصلت بمنتهى الصعوبة وعندما اقتربت منه، تفاقمت أوجاعها، استلقت على ظهرها بينما كان وليدها يطل إلى هذه الحياة.. كان ذكراً مكتمل النمو.. يولد فوق جثة أبيه.

في اليوم التالي، جاء الجند إلى المزرعة بعد أن بلغهم ما حدث.. نصبوا خيمة هناك بحجة التحقيق في الأمر.. أقاموا فيها، ضايقوا كل من في المزرعة.. أصبحوا يجلدون الرجال يومياً بحجة الاعتراف عن القاتل.. شككوا في صالحة نفسها.. كانت قد وقعت أسيرة المرض.. طلبت أن تغادر المزرعة إلى بيتها القديم، فكان لها ما كان.. وما أن غادرتها حتى اقتلعت منها المزروعات، وبدأ خبير الوالي يرسم طريقاً جديداً للجدول الذي ستسقي ماءه زراعته الجديدة.

يعود المطر باكرا!!

كانت الرؤى القديمة، قد عاودته حين تذكر البحيرة، فقد ظلت ارتسامات ما رآه في حالاته الأولى بين اليقظة والمنام، تفعل فعله فيه، لقد سكنه الدرويش، وفتاة البحيرة، والشيخ والوعد، والأهلة الثلاث وكل ما شاهد من خفايا في ذلك الوادي وهو الذي فسر أنه مازال يقف على شاطئ البحيرة..

عليه أن يعرف السر الأول..
ولماذا ارتكب الريح خطيئته الأولى..
وهل من جدوى لعبور المتناقضات التي عصفت وبسرعة بكل شيء..
عادت الرؤى كأنما هي حقائق يجب اكتشافها..
في البدء..
اعتكف لأيام في الغرفة الملحقة بالمسجد..
كان يتأمل كل ما مر به، كأنما يود لو يجد طريقة أخرى للتعامل مع ما يجري..
كان يراقب الشروق والغروب من مجلسه تحت شجرة البلوط التي سبق لوالده وأن جلس تحتها عندما أتى القرية.
لقد غاب الشيخ، وهو لم يعرف سر غيابه بعد..
شعر بأنه غريب تماما عن الذين وفدوا..
ماذا لو بحث حقاً عن واد وبحيرة؟
ذات قيلولة، كان يقتعد مكانه تحت شجرة البلوط.. يتأمل دونما هدف..

رأى الرجال الذين سقطوا تحت سياط الجند في ذلك الوادي ينهضون من جديد..
رأى الهلال الثالث، والدرويش الذي ذكّره بالوعد..
لم يطل مكوثه هناك، عاد إلى البحيرة، لن يسكن المكان، عليه أن يفي بالوعد..
ولكن.. أي وعد؟
انتبه إلى جمع من الناس يتطلع نحو الشمس..
لماذا هم هكذا؟ سأل ألرشيدي الذي كان يتفرج على الأحداث ولا يعلّق عليها كعادته، بعد ان رحل الأسعد عن القرية وانقطعت أخباره.
..
قال الرشيدي:
إنهم يبحثون عن مكمنها.. ألا ترى عيونهم كيف تتابعها..
ألا أستطيع المساعدة؟
بلى، عليك أن تبحث أيضاً عن مكمن الشمس.. ولم يزد
انتصب الشافي من أمام الشجرة، ثم أتخذ قراره بالبدء من جديد، توجه إلى منطقة الكهوف.

ما كان من باطن الأرض!!

أتيحت لإسحق ، وهو شاب كان يعيش على هامش الأحداث دون فعل، فرصة للعمل مع مجموعة من الباحثين عن الآثار، فارض القرية كانت مرتعاً لذلك..
عمل في كل المهمات، حفر الأرض، حمل التراب كما حمل الآثار التي كانت تكتشف، كانت المجموعة تقوم بنقل الآثار التي تجدها إلى مستودع في منطقة الميناء، ومن ثم يتم تهريبها إلى الخارج..
ذات يوم قائظ، كان اسحق قد غفا قرب حفرة حديثة يعمل بها.. أما المجموعة الباحثة فقد توزعت على خيام صغيرة كانت تقام في كل مكان تعمل فيه..

رأى مثقلا بالتعب، يكاد أن ينام.. حلقة حديدية صدئة قد برزت بشكل ظاهر من حفرة تمدد بقربها.. انحنى عليها، أزاح عنها التراب فإذا بصندوق حديدي يلمع تحتها، حفر حول الصندوق، كان الصندوق صغيراً، ولكنه ثقيل نظر حوله، كان يود التأكد من أن أحداً لا يراه.. لمعت عيناه بمعاني الفرح حين رأى أن الجميع قد دخلوا الخيام هرباً من الحر.. أخرج الصندوق، كان غطاءه يكاد أن يفتح عندما رفعه، لقد أثّر الصدأ عليه، وضعه على الأرض ثم رفع الغطاء، وجد بضعة قطع ذهبية قد سكنت بداخله، إضافة إلى تمثال صغير يمثل حيواناً قديماً صنع أيضاً من الذهب..

كانت القطع قليلة العدد، والصندوق خفيف الوزن، نزع قميصه ولف الصندوق به، ثم غادر الموقع وأتجه إلى المدينة..
أفتقده جماعة البحث، لكنهم لم يلقوا بالا لغيابه، إلا أنه لم يعد في اليوم التالي.. كان ماهراً في عمله، لذلك فقد كانوا يحتاجونه كثيراً.. ذهبوا إلى بيته، وجدوه هناك.. طلبوا منه العودة، لكنه أعتذر بدعوى أنه يرغب في السفر..

اسحق بان عليه الثراء فجأة، تحول ليلة إلى لهو عجيب في حي الملاهي، وفي المدينة القديمة، أصبح له من الأصدقاء ما لا يعد ولا يحصى، فقد كان كريماً معهم.. وفي ليلة ثمل فيها، حدث أحدهم عن سر هذه الثروة المفاجأة.. وأنه يملك من الذهب ما يكفي قبيلة، يبيع منه متى أحتاج إلى النقود، هنالك من يشتري بسرعة، إنه ذلك السمسار، تاجر المواشي، فهو يعمل في كل شيء.. وأسحق وقد غلبه السكر كثيراً، همس في أذن صاحبه أن بيوت القرية كلها مملوءة بمثل ما وجد..
انتشر الخبر بسرعة كالنار في الهشيم، مظاهر أسحق الجديدة جعلتهم يصدقون ما قال، بدا، أصحاب المساكن القديمة كأنهم قد تحولوا إلى حفارين للقبور فكل منهم انهمك في الحفر، داخل الغرف، وفي زوايا المنازل.. قدم الدجالون وقراء التعاويذ، صاروا يفتون في المسألة، يشيرون على الأماكن التي يمكن أن يكون الذهب مدفوناً تحتها.. كبرت المسألة – حتى إن شقيق اسحق نفسه بدأ الحفر في المنزل، كان يحفر دون هوادة... وصل إلى أساسات البيت، كان البيت قديماً أصلاً.. وفي ليلة ممطرة، انهار البيت على شقيقه، ودفن تحت الأنقاض.. أما اسحق، فقد ضاع ذهبه الذي دفنه هو الآخر داخل غرفته في المنزل المنهار.

عاد المرقط إلى الوالي القديم، بعد حادثة المسجد، قال له الوالي أنه أستعجل الأمر، وأن ذلك قد أفسد كل شيء.. هكذا بكلمات مقتضبة ودعه الوالي طالباً من رجاله إيصاله إلى فندق ليقضي الليلة هناك ثم يرحل من الصباح.

كان الوالي القديم، قد خشي سوء ما فعل المرقط، فأسر إلى رجاله أن يتخلصوا منه، لكن المرقط شعر بالأمر عندما رآهم يعاملونه بسوء، ثم رآهم يتهامسون وقد حملوا معهم حبلاً وخنجراً وكيسا كبيرا من الخيش، أخبروه بأنهم سيستخدمون هذه المعدات لاصطياد خنزير بري من الغابة، طلبوا منه المرافقة، لكنهم قبل أن يصعدوا إلى السيارة على باب مبني الولاية، فر المرقط من أمامهم، واختفى في شارع مجاور، كان يعرف عنوان الرجل الذي أخذه إلى وليد، ذهب إليه وحدثه بهواجسه، أخفاه الرجل ليلتها، ثم دبر له أمر السفر في قارب صغير بصحبة بعض الصيادين، حيث عاد إلى القرية.
لم يعرف المرقط ماذا يفعل... أتجه إلى الكهف القديم، كان الشافي أيضاً وفي ذلك النهار قد أتجه إلى هناك.. تقابلا وتعانقا.. حكى كل منهما للآخر ما حدث معه..

قال الشافي.. إنها النهاية.. لكنني سأبدأ من جديد..
وأين ستبدأ قال المرقط..
أشار الشافي إلى الشمس قائلاً: هناك.. حيث تكمن.. إنها تخفي كل شيء..
أجل سأذهب باحثاً عن مكمن الشمس.
لم يكن المرقط ليعرف أن الشافي قد اكتشف سر موت والده، وأنه التقى بالخادم الأخرس.
كان ذلك عندما احتدمت معركة الوادي، فقد لفت نظر الشافي، رجل يقاتل بكل شراسة، يتقدم رفاقه، يذوذ عنهم، يندفع كأنما المعركة تخصه وحده، كان رجلاً مميزاً لفت نظر الشافي، عندما انتهت المعركة، استفسر من وليد عنه، ضحك وليد قائلاً:
قد لا تصدق!
ولماذا؟
إنه الرجل الأخرس، المتهم بقتل والدك..
تغير لون الشافي، أحس بأن الكهف الذي يجلس بداخله يكاد أن ينطبق عليه، ظن أن وليداً يسخر منه، ولكن، تساءل الشافي!
من أين لك بمعرفة القصة القديمة تلك؟
هدأ وليد من أمره، أخبره بكل التفاصيل، وأن الرجل الأخرس يعمل معهم منذ هرب من القرية، وهم يعرفون بأنه ليس قاتلا،، لأنه أثبت ذلك في كل تفاصيل حياته، لقد روى لهم ما حدث، وهم مقتنعون بذلك تماماً، ثم نوه وليد إلى ذلك الخلاف الذي كان بين والده والقاتل بسبب أمه، ورغم أن الشافي، ظل يراوح المكان بين الشك والاقتناع إلا أنه قال أخيراً:

وماذا يفيدني الآن لو قتلت رجلاً شجاعاً كالأخرس..
لكن الأمر، سكن في نفسه، شكل له منعطفاً كبيراً في حياته، كان يظن أن كل أهل القرية تآمروا عليه، بما في ذلك شيخ المسجد، لقد أتخذ قراره بالرحيل.. حيث الحقيقة والأمل، حيث مشرق الشمس، وربما مكمنها..

الانتظار،، أكثر عافية!
والحقيقة، ليست دائماً مطلوبة..

ارتفع أذان الفجر، معلناً.. حي على الصلاة.. حين أتجه من ظل مواظبا من رجال القرية على أداء صلاة الفجر بالمسجد إلى هناك..
كان الشافي والمرقط، قد قضيا ليلتهما في الغرفة الملحقة بالمسجد تهيأ لرحيل الشافي، المؤذن الذي أصبح يؤم الناس في الصلاة منذ اختفاء الشيخ، كان يعلم بنية الشافي وتصميمه على الرحيل منذ الليلة الماضية، فقد سهر مع زواره حتى الفجر، لم ينم أحد في تلك الليلة في الغرفة قرب المسجد.

كان الحاضرون إلى المسجد قلة، راجح، والشايب والرشيدي، ورجل ملتح يعمل بالزراعة، والشيخ الضرير، وبائع اللبن الوحيد الذي ظل محافظاً على دكانه ورجلان آخران من خارج المدينة.. علم الحاضرين بأمر رحيل الشافي فتأثروا أشد التأثير.. كانوا يريدونه بينهم، رجوه ألا يرحل.. لكنه كان مصراً على ذلك.. اقترح المؤذن أن يذهبوا لوداعه حتى حدود الصحراء، حيث ممر القوافل هناك.. لأن الشافي لا يريد السفر عن طريق البحر..

وافق الجمع، وانطلقوا بعد انتهاء الصلاة.. في الطريق، وقبل الصعود إلى الجبل، رأتهم صالحة، كانت تشارك عجوزاً من القرية خبز بعض الأرغفة على فرن قديم ظل يعمل رغم انقراض سلالته، عادت مسرعة إلى البيت، حملت طفلها والتحقت بهم دون أن تتفوه بأية كلمة..
قال الشافي أن عليه واجباً يجب أداؤه، وأتجه إلى المقبرة، حيث يقبع الحارس القديم بعد أن أصبحت مقبرته نادراً ما تستقبل الميتين، ذلك أن القوم استخدموا مقبرة جديدة في المدينة الجديدة، كانوا يدفنون موتاهم بها دون طقوس أو جنازات كالسابق، إذ أن عربات خاصة هيأت لذلك، كانت تحمل الميتين من بيوتهم مباشرة إلى المقبرة التي كانت أضرحتها كأنها واجهات قصور.
سمع الحارس جلبة القوم، خرج يستطلع الأمر معتقداً أن في الأمر جنازة جديدة، لكنه رأى الشافي يتقدم نحوه مودعاً، رفض وداعه، وحمل نفسه متثاقلاً وأنضم هو الآخر للقوم.. صعدوا الجبل الكبير، وقف الشافي على حافته، ألقى نظرة الوداع إلى قريته القديمة، ثم حدّق في السماء، للحظات، انحدر بعدها من قمة الجبل إلى أسفل، يتبعه القوم في طريقه إلى مدخل الصحراء حيث الواحة والكهف، في الطريق إلى هناك أنضم بعض الرعاة إلى المودعين، كذلك شباناً من القرية، كانوا يكنون للشافي حباً عميقاً، إذ أنهم من تلامذته السابقين حيث المدرسة القديمة في المسجد.

الجمع، قضى الليلة كاملة في ذلك الكهف، وسط العاصفة القوية، أصابهم التعب والبرد، تمددوا على الأرض ينشدون الراحة دونما جدوى، غفى بعضهم بفعل التعب، والآخرون ظلوا مستيقظين حتى أطلت خيوط الفجر الأولى.
لملموا بقاياهم، انحسرت العاصفة مع انحسار الليل، لكن حبات من المطر، ظلت تتساقط وهم في طريق عودتهم إلى القرية..

كثير من البحيرات ،،، قليل من النبوءات!!

كانت أسرار الوادي قد باحت للشافي بما تحتوي، وحين قضى أياما هناك بعد عبوره للبحيرة أستوعب الماضي، وما يخبئ المستقبل، أكتشف أن العالم أصغر كثيراً مما كان يعتقد، الكراديس التي حسبها لأول وهله إنها ضرب من العبث، كانت شتات تجمعت من كل أقاصي الأرض، كل من فيها ينوء بحلمه الذي أتى به إلى الوادي، كثير من البحيرات، وقليل من النبوءات، لكن القاسم المشترك، كان ظلماً عاماً جمع من خبأ نفسه داخل هذه الكراديس، وسط محيط قاس مضطرب، لفظهم جميعاً تحت وطأة التغيير إلى هناك..

كانت البداية، حين أكتشف أن أولي الأمر، يتلونون تبعاً للمصالح، وأن المصالح، تفضي إلى حقائق أهمها، أن لا حياة للضعيف، تماماً كما الغابة، رغم أن لها جوانب رحيمة غير منظورة على الأرجح، وإنما ينسب إليها البشر تشبيهاتهم وهم يعلمون أن الحقيقة هي غير ذلك تماماً..
وحتى هناك، حيث يظن أن الواقع، قد يختلف، تتكرر اليوميات ولكن بصورة مفلسفة بفعل إدعاء الانتماء.. لا جديد سوى الاستمرار في لعبة القدر.. ومهما يكن، فإن الشافي خاض معركته بمفهومه الخاص، متمنياً أن تصحوا الامنيات على صباح الشمس، حين عجز عن فهم أسباب المحاولات التي تكررت منذ زمن ضاع في حساب التاريخ الذي يكتبه أولي الأمر.. لم يعد الأمر يتجه نحو فهم الأهداف المستقبلية، حين توقف أمام الأحداث التي كانت تؤثر فيه، هكذا هي الحركة التي ظلت تعلق السؤال القديم الجديد.. ماذا أريد؟

قبل رحيل الجمع لوداع الشافي بيومين، كان الوالي مسعود، منهمك وأعوانه لإعداد برامج حصاد موسم الحشيش، فالموعد قد جاء مبكراً لهذا العام، والمحصول وافر، وهو يحتاج إلى مجهود كبير، ذلك أن هذا النوع من المحصول، يحتاج إلى أيدي عاملة، فالآلات الزراعية، لا تجدي نفعاً، وكان لابد من تدبير ذلك.

في الصالة.. صالة الشهيد عثمان، دعا الوالي مسعود إلى اجتماع ضم أعيان ووجهاء البلدة، وحين التأم الجمع، تصدر منبر الخطابة يعلن بدء الاحتفالات بموسم الحصاد، كان الخبير الزراعي يجلس على يمينه، فيما جلس السيد سليم، المشرف على المجمع الثقافي على يساره.
رحب بالحضور، ثم تطرق إلى موضوع القطاف، حيث أن المسألة محتاجة لتجنيد كل من هو قادر على العمل، طالباً من الحضور، الآراء والمقترحات التي يمكن أن تتحقق بأقل التكاليف، وبعد تعدد الاقتراحات عبر حوار الساعات الطويلة، أستقر الرأي على أن يصدر الوالي أمراً بإعلان الحالة القصوى لاستنفار عام، يوجه فيه مواطنوا المدينة جميعاً إلى المزارع الواسعة، ليساهم كل منهم في خدمة اقتصاد البلدة الذي يتركز حول هذا الموسم العظيم.. وافق الجميع على هذا الاقتراح البناء، وأستقر الرأي على ذلك، وكان لابد من احتفال بالمناسبة، حيث أنتقل الحضور إلى الصالة المجاورة، والتي تستخدم للتدريب على الرقص، فتحت أبواب المقهى كذلك البار الملحق بالصالة، حضر العازفون والراقصون وأصحاب الخبرات في مجال الإبداعات الثقافية المميزة من رقص وترفيه وتلوين في مسابقات مزج الشراب واستنباط أنواع الطعام، دارت الحالة دورتها الأولى، حين دارت كؤوس الشراب المترافقة مع الدخان الأزرق للمخدر، وحين بدأت الدورة الثانية، كانت طقوس الاحتفال، قد كسرت حياءها في خضم بداية اللاوعي، اختلط الجميع بالجميع، أزيلت حواجز الفروقات في مفارقة تؤكد أن الكل سواسية، حين سقطت الأقنعة، وتجلت حقيقة الرغبات الكامنة في نفوس البشر بوجهها المظلم، ارتدت تلك الحضارة ثوبها المعلق، حين خلع الحضور أثوابهم، وكان كل شيء قد باح بما يخبئ، وفيما امتد الوقت مسرعا تساقط من هم هناك، كل على الكلّ، حتى أتمت الطقوس دورتها، ثم بدأوا بالإنسلال مع خيوط الفجر الأولى، ليبدأ نهار جديد مختلف، في حين أن استكمال الطقوس، كان يحتاج إلى نوع آخر من الاحتفال، حيث القرارات المصيرية في غفلة عن الرعاع الذين عليهم أن ينظموا يومياتهم للاحتفال بالموسم.

ففي الساحة القديمة ببيت الوالي، أي في ساحة الضيافة التي تحولت إلى ساحة استقبال فخمة، صفت الموائد العامرة بكل ما لذ وطاب، طيور مذبوحة، خراف أعدت خصيصاً في مسابقة للطهي، منوعات جيء بها من أماكن بعيدة، والمشروبات التي تعددت ألوانها، وتعدد مذاقها، وكان الكم الهائل لما هو على الموائد، يكفي نصف البلدة بل يزيد.
الفتيات اللواتي أحضرن خصيصاً لخدمة الضيوف، قيل أن نصفهم ملكات جمال سابقات، درن على الحاضرين بدورة الشراب الأولى، هذه الدورة التي يقال بأنها فاتحة للشهية، ثم دخل رجال معممون، يحملون النراجيل التي وزعت حسب توزيع الجالسين، ثم حين أذن الوالي ببدء طقوس النراجيل المعطرة، وضعت على رؤوسها جمرات الفحم المشتعل، ليرتفع الدخان الأزرق وسط تمايل الحاضرين، والواقفين معاً..
صفق الوالي براحتيه، بدأت الموسيقى، ثم تلى ذلك الراقصات اللواتي تمايلن على الحضور وهن يرتدين ملابس شفافة تكاد تخفي القليل من أجسادهن بالكاد، حافيات الأقدام، تحركن كالطيور، تمايلن والجميع في حركات لا تحكمها سوى الرغبات، شربن وطربن فشرب الجميع، وطرب كذلك، وحين انتقلت فرقة الموسيقى إلى نغمات خاصة وهادئة، سكنت الحركة، وتوزع الفتيات على الحاضرين في أوضاع مختلفة.

انفلتت الأمور من عقالها لساعتين أو أكثر، ولم يتوقف الانفلات إلا حين قال الوالي مسعود:
انتبهوا، لقد آن وقت العمل..
لملم الحاضرون ما تفرق.. وبإصغاء نائم.. سمعوا بالكاد، ما قال:
لي رغبة أن أرى رعيتي مجتمعة، أراها بنظرة واحدة.. أشيروا عليّ:
استأذن أحدهم فقال:

تجمع الرعية في وسط المدينة حيث موقف الحافلات، إنه يتسع للجميع..
صفق الحاضرون، ولكن لماذا.. لا أحد يدري..
قال الوالي مسعود:

وسأهديهم ثلاث عربات مليئة بالمحصول، تصل الساحة حيث التجمع بعد انتهاء القطاف، ليستمتع الجميع دونما مقابل..
التفت إلى الخلف قائلاً:
أصدر مرسوماً بذلك، وأكتب ما أملئ عليك..
كان يخاطب السيد سليم، المشرف على المجمع الثقافي..
تعتبر المدينة منذ الغد، في إجازة وحتى إشعار آخر، احتفالاً بالموسم..

تعطل المدارس، ويشارك التلاميذ في العمل ليساهموا في خدمة اقتصاد الوطن..

توضع الحافلات، تحت تصرف المشاركين في القطاف، حيث يتم النقل مجاناً إلى المزارع وبالعكس..

ترفع الزينات، وتشارك الفرق الموسيقية إضافة إلى الراقصات والراقصين في مهرجان الموسم، سواء في المزارع والشوارع أو ساحة التجمع.
يساهم المواطنون العاملون في كل الأجهزة الخاصة والعامة في تكاليف هذه الاحتفالات.

يطفأ التيار الكهربائي عن ساحة التجمع ليلة الاحتفالات، وتضاء الساحة بالمشاعل.. أريد طابعاً خاصاً، إذ أن هذا الاحتفال، هو حفل سنوي سيعتبر أحد الأعياد الحضارية.
دوى التصفيق الحاد مرة أخرى، ثم دارت الكؤوس حتى وقف الوالي، رفع نخب الغد القادم، وقفوا جميعاً، رددوا ما قال الوالي: ثم انصرفوا على موعد مع الغد.

خليط اللهب الأزرق!!

اكتظ الناس في ساحة المدينة، كانوا خليطاً عجيباً من كل الفئات، إنه الغد الذي حدده الوالي مسعود لبدء احتفالات موسم قطاف محصول الحشيش، والتعليمات، كانت تنفذ بدقة، الكل بالانتظار، ليتجهوا إلى المزارع.. وحين بدأت الحركة تأخذ طابعها التنفيذي، بدت المدينة كأنما لا سكان فيها، فالكل يشارك في العمل، بينما امتلأت المزارع بمن وصل إليها، وانهمك الجميع في العمل.

جمع المحصول على هيئة أكوام كبيرة اسبه ما تكون بالتلال، تقدمت الشاحنات حيث بدأ تحميل المحصول بها، وعندما امتلأت، اتجهت جميعاً باتجاه المستودعات القريبة من بيت الوالي مسعود، فيما اتجهت شاحنات ثلاث، محملة بالحشيش إلى ساحة المدينة حسب تعليمات الوالي، سارت الجموع خلفها تتمايل طرباً وتتحرك رقصاً على إيقاعات الفرق الموسيقية التي لم تتوقف عن العزف منذ بدء القطاف، اصطف تلامذة المدارس على جنبات الطرق لتحية العابرين، كأنما هم أرتالا من الجيوش، تسير خلف آليات مدرعة، اللافتات الكثيرة علقت على كل المفارق والطرق، كذلك صور الوالي، فقد وزعت بشكل كثيف وعلقت على كل مكان يتسع لها مهما كان صغيراً..

ببطء متعمد، كانت الشاحنات تسير، فيما الشمس تستعد لإكمال دورتها بعد أن استنفذ النهار وقته المعتاد، والجموع التي تمني نفسها بالمحصول، كأنما هي مدفوعة بشكل لا إرادي وراء الشاحنات الثلاث التي شبهها أحد المشاركين بالوحوش، كان يحادث رفيقه قائلاً:
سننقض عليها..

ثم يفرك يديه فرحاً للوليمة القادمة، بدأت خيوط الظلام بالتسلل رويداً رويدا على جنبات المدينة، وعندما كادت أن تسيطر على الساحة، أضيئت المشاعل إيذاناً بالوصول، كان ذلك مع إطلالة الكراديس التي وصل صراخها إلى المدى، غطى الصراخ على أنين الشاحنات التي كانت تترنح تحت ثقل ما تحمل، امتلأت الشرفات التي تحيط بالساحة بمن آثر الابتعاد عن الجموع، فيما وقف الوالي على شرفة بيت دولته، يحيط به وجهاء البلدة، كان بيت الدولة يقع على طرف الساحة، ويطل على أركانها الأربع، يود الوالي أن يحقق أمنيته، أن يرى الرعية مجتمعة في مكان واحد، وحين أطفأت الشاحنات محركاتها، سكن المكان، انقطعت أصوات الكراديس المرافقة، واتجهت الأنظار نحو شرفة الوالي الذي علاه الزهو والسرور، لحظات ثم رفع يده ايذاناً ببدء الاحتفالات.

كالكلاب الجائعة، أو الوحوش الضارية التي أضناها البحث عن قوتها ثم وجدته فجأة، فريسة لا تحتاج إلى مجهود، وفي تنافس وحشي بلغ أقصاه، بدأت الكراديس هجومها على الأكوام التي ألقتها الشاحنات على أرض الساحة، صاح أحد الجنود الذين تحلقوا حول المكان:
طابور.. انتظموا..

ولكن ما من مجيب، فقد خرجت المسألة عن حدود التحكم، كأنما هي لوعة اللقاء، اشتبكت الأجساد ببعضها البعض، سقط من سقط، فيما داس المندفعون على الضعفاء الذين لم يستطيعوا المزاحمة، وحين وصلت الطلائع الأولى، بدأت بنهش المحصول، كل على طريقته، بالابتلاع، بالمضغ، فيما أحضر بعضهم أدواته الخاصة ليمارس طقوس الاستفادة ما أمكن، طعن رجل آخر بسكين كان يقطع به الحشيش، صرخ الرجل دونما جدوى ثم سقط على الأرض يتخبط بدمه، حاولت امرأة مساعدته، لكنها سقطت فوقه حين داسها آخرون اندفعوا من الخلف، أختلط الكل بالحشيش، وأختلط الحشيش بالدماء، فيما كانت صرخات لها معانٍ مجتمعة تتوزع من هنا وهناك، تدخل أحد الجنود، فسقط في اشتباك الأيدي التي تناوبت عليه عز الأمر على رفاقه، حاول بعضهم إنقاذه، فعم الاشتباك، كان الوالي ينظر إلى كل ذلك من شرفة الدولة، ساءه ما حدث، أرسل بأحد مرافقيه إلى قائد الجنود، فإذ بالأخير يعطي أمراً بقمع الجموع، فيما وصل فريق من الخيالة كان قد أعد لاستعراض خاص، لكن هذا الفريق، وبأمر من قائد الجند المحيطين بالساحة، بدأ بالمشاركة حين توزع أفراده على أطرافها.. أزداد العنف عنفاً، سحب أعضاء الخيالة اسواطهم ثم انهالوا بها على الجموع لتفريقها حين بدأت بالاتجاه نحو الجند للاشتباك معهم، صاح الوالي:
انتبهوا، قد تكون حركة منظمة.
صاح قائد الجند:

إليهم، لا تدعوهم يفلتون..

انهالت السياط على الأجساد من كل الاتجاهات، داست الخيل على البشر الذين كانوا يتساقطون هنا وهناك، وحين حاولت الجموع فتح ثغرة للهرب، وصلت سيارات سدت الطرق إلى خارج الساحة، كأنما الجموع قد سقطت في مصيدة، دخلت الخيالة إلى الساحة، على الصراخ المختلط بشتائم الجند، كانت الدماء تلون الساحة لتعطيها تشكيلاً فريداً يؤرخ إلى مذبحة، تسير الجموع على غير هدى، فالمكان، أطبق على من فيه، استعان البعض بالمشاعل التي كانت معلقة على أعمدة، وحين سقطت هذه المشاعل فوق المحصول أو ما تبقى منه، أشتعل فجأة، لتمتد النيران إلى الناس الذين كانوا يحاولون الهروب من جحيم الاحتفال، ابتدأت جثت بالتناثر هنا وهناك، هي معركة غير متكافئة، لعلع صوت الرصاص الذي حصد العشرات، ربما كانت مقدمات للثورة، هكذا قال أحدهم للوالي، ارتفعت أعمدة الدخان الازرق لتملأ سماء الساحة، ثم تمتد إلى المدينة، اختلطت رائحة محصول الحشيش برائحة احتراق الجثت، كان الجميع يستنشق الدخان حتى الثمالة، تمايل الجميع بما في ذلك الجند، قهقه أحد المتمايلين؟؟ سكن صراخ الألم، ثم انطلقت الجموع في قهقهات هستيرية، قهقه الوالي وبطانته، قهقهت فتاة كانت تقدم له المشروب.

تداركوا الأمر، لقد خرج عن السيطرة.
صاح الوالي، كانت سيارات للإطفاء تقترب من المكان، لكنها هوجمت فتوقفت لتتوقف خلفها عربات أخرى، ألقى أحدهم بكتلة ملتهبة على العربة فاشتعلت ثم إذ بها تنفجر شظايا في المكان، فر السائقون جميعاً بعد أن شاهدوا ما حدث، امتدت ألسنة اللهب بعيداً حتى طالت أعمدة الكهرباء، لمعت في الأفق إشارات تنبئ باحتراق الأسلاك التي تصلها ببعضها البعض، عم الظلام المدينة بعد أن كان مقتصراً على الساحة فقط، خرجت الجموع بقوتها من الساحة، واندفعت نحو طرق المدينة، ثم بدأت بتخريب كل شيء، السيارات، واجهات المحال التجارية، الشوارع، الحدائق، كل شيء.

لم تكن البلدة لتعرف أنها على موعد مع كارثة أعم وأكبر حين لم ينته الليل بعد، إذ فيما كانت الجموع تفعل فعلها في كل شيء، حتى لفح المدينة إعصار قوي، جاء إليها من الناحية الغربية، متجهاً إلى أقصى الشرق، أقتلع الإعصار في طريقه الأشجار، ودفع بالصخور والأتربة وما وجده في طريقه ليصفع به البلدة، وفيما هوت أول البيوت التي كان أصحابها قد نقبوها بحثاً عن الذهب في حمى الحدث الذي تأثرت به البلدة سابقاً، ارتفعت أعمدة من أمواج البحر، تمايل الجسر الكبير الذي يربط بين الشاطئين ثم هوى..
الذين فروا من الساحة، لاحقهم الإعصار، كان الحصاد مزدوجاً، فمن مذبحة الحشيش، على هول العاصفة التي تأخذ كل ما في طريقها، ومع ذلك، فالبعض، كان مازال في نشوة الطرب، فقد كانوا قد خبئوا في جيوبهم احتياطاً من المحصول، بدأوا بتناوله من جديد، اقتعد بعضهم زوايا الأبنية، فيما هام آخرون على وجوههم دونما اتجاه، هوت بنايات كاملة حين ضربتها سيول ضخمة تكونت في الجبل ثم انحدرت نحو المدينة ، أشجار وصخور اقتلعت من هناك، انشقت الأرض في أكثر من موقع، كأنه الزلزال، هكذا قال الذي نجا من شق انفتح بجانبه، سحب نفساً عميقاً من سيجارة كان يدخنها ثم ناولها إلى رفيق كان بقربه، ضحك آخر حين شاهد شجرة ضخمة تتجه نحوه، مد يديه كأنما هي حبيبة طال انتظارها، كان يود أن يعانقها، فإذ هو قد اختفى بعد أن سحبته بعيداً في سيرها المرافق للإعصار، تطاير زجاج القصر الملون، كان الوالي قد انسحب إلى داخل القصر، نزل إلى القبو، انفجرت أنابيب المياه، كذلك حفر المجاري، تطلع رجل إلى حفرة امتلأت بالمياه، خلع ملابسه ثم قفز إلى داخلها، انشقت جمجمته التي لامست الأرض الصلبة، ضحك متفرج وهو يشير إلى الرجل قائلاً:

لقد أكله سمك القرش..
صرخ آخر، اهربوا باتجاه البحر، ثم قفز في نفس الحفرة، لكنه اصطدم بمن سبقه فخرج يولول ويقول..
ي.... أه... كأن المدينة كلها على الشاطئ.
مرت العاصفة، ثم بدأت بالابتعاد رويداً رويدا، ثم بالتلاشي، لقد أتجه الإعصار إلى خارج البلدة، هدأت الأمور إلا من ريح خفيفة ظلت تجوب المكان، مصطحبة معها بعض حبات المطر، انحسرت السيول حين توزعت في كل اتجاه، ثم تجمعت من جديد في مسيرة نحو الوادي، لكن المدينة، وقعت أسيرة ضباب غلفها، كان لونه غريباً، ولم يكن ذلك بفعل أطنان المخدر التي احترقت، وإنما لأن الشمس، كانت قد بدأت ترسل خيوطها الأولى عبر المكان.
أطل النهار، كان الخراب قد عم كل شيء، لا أحد إلا الجثث تسكن الطرقات، وبعض الباحثين عن أي شيء، يفتشون في كل شيء، فجأة ظهرت بعض الكلاب التي بدأت تنهش الجثث، كانت هي نفسها التي أحضرت لحراسة المحصول، برزت أفعى ضخمة من تحت أنقاض بناية ثم اختفت..
كان الجمع الذي ترك الكهف بقرب الواحة يقترب من أعلى الجبل المطل على المدينة، كان الضباب قد بدأ بالانحسار فيما نشرت الشمس أشعتها، شاهدوا ما حصل، أصابهم ذهول سرعان ما تسبب في صمت عام، سكن الطفل عن الصراخ، فجأة قطع الرجل الضرير الصمت قائلاً:
لقد حذرت!

صرخ ألرشيدي وهو يتذكر الخطيئة الأولى للريح، إنها الثانية!!
تطلعوا إلى بعضهم البعض، ثم استداروا عائدين باتجاه الكهف، كان سيلاً من الفئران الضخمة، فئران بحجم القطط، يقترب من المدينة.
توقفوا مجدداً عند الواحة، كان النهار قد انتصف، والشمس تلقي بأشعتها اللاهبة في أنحاء المكان، شاهدوا راجح يجلس في ظل نخلة، يحمل عصا في يده، ممزق الثياب منهوك القوى، تفرقوا تحت ظلال النخيل..
لقد آثروا الانتظار..

حدّث ولا حرج

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى