المسافات الباردة - رواية زكريا شاهين - قسم 1
الإهداء:
إلى أوجاعنا والى الأيام التي ستأتي!!
زكريا شاهين
في حضرة الوداع
تجمع المدعوون الذين وفدوا تباعا، في الواحة التي تقع على مدخل الصحراء من جهتها الشرقية، وكأنما في حالة انتظار ظلوا قلقين، اقتعدوا المكان دونما ترتيب، وعندما نهض الرجل واقفا إيذانا بالمغادرة، قدموا له بعض اللفائف الصغيرة، قربة ماء، وتعويذة ألبستها إياها امرأة عجوز، كانت تتغلب على سنين العمر في عكاز تتوكأ عليه، تعلق الصغار بالرجل، ناحت امرأة وهي تحدق به، تحسر شاب بتنهيدة قوية، كان مصرا على الرحيل.... والريح!!.
الريح لا تحرك ساكنا، حتى ذرّات الرمل الصغيرة، والتي اعتادت الفرار من الأرض باتجاهات عدة، ظلت حبيسة المكان.
شئ ما كان يشدها نحو الأرض، والشمس، كانت تودع النهار، تميل نحو الغروب، وفي مساره المحدد، الذي خطه بعصا على الرمل، كان هناك اتجاه واحد.
أصر رجل طاعن في السن، أن الاتجاه خاطئ، إذ كيف يتبع مسار الغروب، بينما تشرق الشمس من الناحية الأخرى،" مشيرا إلى الشرق"؟.
قال صاحبه،: سيلحق بها بعد قليل، ربما قبل أن تكمل دورتها، انه يعرف ماذا يفعل!!
لكن الرجل الذي لم يصغي، ارتحل دون أن يلقي ببصره إلى الوراء كعادة المودعين إلى سفر طويل، أما الجمع، فقد غرق في بحر عميق من الصمت البارد.
كان واثقا من خطاه..
بعض من في القرية شكك في جدوى رحلته، رغم الاطمئنان المصطنع لما يفعل، فقد حدّث ألرشيدي قائلا:
عبرت ذات يوم تلك الوديان التي سيعبرها، هي قاسية جدا، ومع ذلك، فلقد خبرتها وخبرتني، ولكنني أخشى عليه من مصير السابقين، رايتهم أكواما من الهياكل العظمية، والجماجم المتراصة على جنبات الوديان ، لكأنهم قوم واجهوا الابادة، ثم دفنوا في مقابر جماعية، وحين مر السيل الكبير، بانت بقاياهم وما زالت هناك.
قال الرشيدي الذي جاء من قرية البطاني الغربي: إن أرواحهم تحلق في المكان ولا تغادر، وهي تصدر أصواتا غريبة كلما أنهت الشمس دورتها باتجاه المغيب، وكذلك في الشروق، لكانما تحتفي بالنور، وتودعه أيضا.
قال أيضا: ذات ليلة، وقد تأخرت في العبور، شاهدت نارا فاتجهت إليها، كانت متوهجة تنير ما حولها إلى درجة أنني عرفت موقعها من بعيد، لكنني وحين وصلت ، لم أجد النار، فيما كانت حرارة المكان مختلفة، كان ساخنا، والأرض اكتست برماد محترق، لا أحد في المكان، ناديت بأعلى صوتي منبها لوجودي، لم اسمع سوى ما رددته الوديان من صدى.
لكن الصمت البارد، لم تخدشه حكايات ألرشيدي، والذين اقتعدوا المكان، كانوا قلة على أية حال، أما الرجل، فقد غاب عن الأنظار، في حين بدا الليل بالاقتراب، مصطحبا معه انفعالات غريبة ومتوترة، والسماء... ما لبثت أن بدأت بالاضطراب.
هبت ريح قوية ، ودون موعد مسبق أو إشارات معتادة ، انهمر المطر، مطر لم يحدث وان كان له شبيه من قبل، وبسرعة غريبة، تشكلت سيولا صغيرة اتجهت جميعها نحو تجمع للمياه ، بدا فارغا في الأرض المنخفضة نسبيا في تلك الواحة، بحيث شكل بحيرة متواضعة فصلت تلال الرمل المحيطة بها عن الوادي الذي يبدأ بعد البحيرة الصغيرة ، ثم لا ينتهي في البعيد.
تمايل النخيل، انزوت الحيوانات الأرضية إلى شقوق أسفل الشجر القليل، وبين الأحجار المتناثرة، أما الجمع، فقد اتجه إلى كهف مجاور حفرته الطبيعة في سفح الجبل. ربما ليكون ملجأ للعابرين إلى الوادي، حيث يكمن السر الأول للخلق، وربما يقع مكمن الشمس هناك، وربما لأسرار أخرى.
كان الظلام يسكن الكهف الممتد إلى تعرجات كثيرة، من دخلها لم يعد، هكذا حدّث ألرشيدي، تعثر احدهم فأعانوه على النهوض، وعندما عبر الجمع نحو الظلمة الممتدة حتى على الجدران، توزعوا المكان، دون أن يتبينوا أين يضعون أقدامهم ، لحظات، ثم الفت عيونهم الرؤية.
مع زحف الليل الذي بدا لكأنما سيكون طويلا من بدايته، تبدلت الأمور تماما، فالحر الشديد تبدل إلى برد قارص، والجمع، لم يكن مستعدا لذلك.
المراة التي كانت تكغكغ صغيرها قبل لحظات ، وقعت أسيرة توتر مستمر بعد أن ارتفع صراخه، تذمر البعض، لكن الطفل استمر في صراخه، أقسمت أنها أرضعته قبل قليل، ثم أقسمت انه كان ينام على صدرها قبل أن تدخل الكهف.
– أنا لا اعرف سر استيقاظه المفاجئ، لم يحدث هذا من قبل!1
تمتمت المراة ، فيما كان كهل يحاول لملمة أوصاله التي تصطك من البرد، همس رجل في الجمع وهو يتلفت حوله، لا بد من إيقاد نار.
كانت إشارات المراة توحي بالرجاء، شفتاها ظلتا تتمتمان بكلمات مبهمة، قال رجل ملتح يقف على زاوية يراقب الريح والمطر:
– لا بد من البحث عن حطب جاف، ولكن ..كيف؟.
تبرع احد الشبان للقيام بهذا الأمر، انطلق خارجا وهو يفرك راحتيه، يتحدث إلى نفسه ، سأعود بعد قليل، ربما ساجد بعضا من الخشب الجاف ، وربما بعض الروث الجاف ، أو ما تركته القوافل ، لكن الأمر يبدو صعبا، فالطقس غير اعتيادي ، مع ذلك ، لا بد من القيام بهذا الأمر.
– لا يمكن.
قالها الرجل الملتحي وهو يعبث بشعر لحيته ، ثم انزوى مقتعدا عتبة الكهف من الداخل ، مطرقا في تفكير عميق ، أما الرجل الكهل، فقد تمدد في زاوية داخلية، غير عابئ بما يدور من حوله ، لكنه في نفس الوقت ، كان كمن يبحث عن شئ يخفف عنه الرعشات التي سكنته بسبب البرد، استلقى الرجل على الأرض واضعا يده اليمنى تحت رأسه ، بينما كان يمرر اليسرى على جسده البارد في محاولة لاستجلاب الدفء.
في البحث عن مكمن الشمس
كيف فاتني أن أعلن أنّي استعيد
خيوط الشمس كلما شحذت سكيني؟
كل الحكايات تجمعت هناك.
ارتحل الرجل ليستطلع مكمن الشمس...
حمل سره وبضعة أشياء صغيرة ، تلمس التميمة التي أسكنتها امرأة صدره ، كانت هناك ، تتدلى بخيط مجدول من ألياف القرع ، حاملا حزنه القديم المتجدد ، مضى وحيدا ليعبر الوادي.
قال له شيخ البحيرة ، تلك التي تتشكل في مواسم المطر، إن السر يكمن في وادي النطّوف، حيث أول بيت أقيم من الحجر، ذلك أن بدأ الخليقة يتصل بالمنطقة الممتدة على أطراف البحيرة ، والتي تخفي السر الأول ولا تبوح.
قالت له عجوز يقال أنها تحاذر أن يسقط غبار نافذتها بفعل صدى الصوت ، لأنها دائما تشير إلى الغبار على انه المادة التي يصنع منها صلصال الخلق: حذار من إغضاب التراب!
قال زوجها الكهل ، وهو يحاول بأصابعه المرتجفة أن يحرك التراب بعود صغير من القش،:
– ربما هي تهذي، ولكن لا تحاول أن تقاطعها.
قال ألرشيدي: انتم لا تعرفون البطاني الغربي ، كان ذلك حين ساهم في مساعدة الأولاد على فك الحروف في باحة المسجد ذات يوم، ثم إذ به يحدق فجأة بهم قائلا:
– إن لكم وطنا هناك.. اذهبوا إليه.. ولم يزد.
كان ذلك منذ زمن بعيد، عندما كان الرجل في بدء الخطو وقبل التوحد الذي أحس به حين قرر أن يعبر الوادي بحثا عن مكمن الشمس.
وادي النطّوف ، واد يجاور مدينة هي الأقرب إلى السماء ، أو ربما هي قطعة منه، هكذا يصفها ألرشيدي ، تحرس الوادي جبال سبع ، هي غريبة ومتفردة في تضاريسها ، هي جبال لا كالجبال، فلا نتوء ولا بروز ولا صخور تخرج عن إطار السهول الممتدة عليها ، تخيلوا سهولا فوق الجبال ، هي مرتفعات متصلة دونما عوائق ، ذلك سر من أسرار الخلق.
قال الأسعد ، الذي يقطن مدينة مهاجرة ، يروي ولا يتوقف عن أطفال الندى ، يزور ألرشيدي أثناء مروره مع القوافل، وعندما يستذكر قريته التي هاجرها بفعل الحرب، واستيلاء الغرباء عليها، هي آخر المرتفعات، ومن بعدها تنحدر الأرض.
قال شيخ البحيرة أيضا:
من مضى إلى هناك ، واتصل بسر البيت الأول ، حين تتعامد الشمس عليه ، كان له شان ، فالشمس ترسل أشعتها في كل يوم ، لكنها تتعامد في يوم محدد ، هي لا تغادر مكمنها إلا في ذلك اليوم ، وشتان ما بين إرسال الأشعة ، والمغادرة إلى خارج المكمن ، ومن لا يعرف السر، تغرّب في الأرض ، حيث المنافي والقلق والرغبة في الرحيل الدائم ، والشوق إلى العودة ، ولكنها صعبة دونها الوقت.
قال ألرشيدي: هو بحاجة إلى بعض من الجنون!
قال الشيخ: إن الوقت هو سيد الوادي ، أنت تفاجئ بشروق الشمس كما الغياب ، وتفاجئ بالغياب كما الشروق ، لكنه لم يفسر الأمر ، والبحيرة لا تبوح ، فالسر يكمن في جزء غير معروف منها ، البحيرة تجاور الوادي ، والسر.. ربما يمتد عبر الاتجاهات ، هو أيضا من أسرار الخلق.
مضى الرجل دون أن يصافح المودعين ، لم يلتفت إلى الخلف حتى الشاطئ الأول ، تذكر شيخ البحيرة حين حدثه عن عاقبة الالتفات إلى الخلف ، تذكر المراة التي قال الشيخ إنها تحولت إلى عمود من الملح حين تنكرت لسر الالتفات ، ظلت عيناه تلامس الاتصال البعيد مع السماء ، لطالما اختفى الذين حاولوا العبور من البحيرة ، ربما لم يتجاوز وادي الحسى الأول ، حيث صعق ألرشيدي هناك لرؤية الجماجم وحين اكتشف ملامح المقتولين ، كان صغيرا آنذاك ، لكن هذه الملامح ، استقرت في ذاكرته حتى بعد الهجرات السبع التي تحول في نهايتها إلى حكيم ، والذين حاولوا عبور البحيرة لم يتجاوزوها بسبب التفاتهم إلى الخلف ، يقول الشيخ:
سترى الصخور التي تزنّر الوادي على جنباته، كأنما هي شخوص اختلف الرواة في طبيعة وجودها هناك ، قيل أن هذه الشخوص ، كانت فيما مضى ، لقوم يدعون بـ " الحرس القديم" ، يقيمون المصاطب العالية كالأبراج ، ثم يهدمونها ، أما السبب ، فلم يفصح عنه الشيخ ، بل قال إن سلالتهم تمتد إلى تاريخ قديم رافق الطوفان العظيم ، أما بنائهم للأبراج ، فربما أرادوا اكتشاف المسافات دون الرحيل إليها ، وعندما أيقنوا أنها مسافات باردة ، هدموا تلك الأبراج.
قال الأسعد: كل ذلك من نسج الخيال...
حدق الشيخ به مليا، ثم غادر المكان حينها ، لكنه أومئ للرجل الذي يود الرحيل لاكتشاف مكمن الشمس أن يتبعه.
يخالف ألرشيدي أيضا هذا الرأي ، فهو يرى أن هذه الشخوص ، كانت ومنذ القدم ، تحرس الوادي ، لكن الأسعد يتراجع أحيانا عن التشكيك ، ليخمن أنها تشكلت هكذا لتكون منتصبة على جنبات موكب الشمس حين تخرج من مكمنها ، ودليله على ذلك ، أن بشرة الشخوص الصخرية تتفاعل مع تنقل أشعة الشمس ، فحين تلامسها ، تتغير ألوانها باستمرار ، والأغرب من كل ذلك ، أنها تكتسي لون البشرة الإنسانية عند الفجر ، ثم تصبح داكنة عند الغروب ، وقبل أن يكمل ، كان ألرشيدي يقاطعه قائلا ، إن ذلك سر من أسرار الخلق.
شيخ البحيرة والرشيدي والأسعد دائما على اختلاف ، لكنهم يتفقون على شئ واحد ، إن السر يكمن في البحيرة.
الجبال السبعة التي تحرس المدينة ، منبسطة كأكف الرعاة ، يسير العابرون فوقها كأنما على سهل مستقيم ، لا اعوجاج ولا عوائق رغم العلو الذي يتصاعد أحيانا ، ثم يتدرج بحيث تختلف اتجاهاته ، الحنين إليها ينبع من احتضانها لأول طير انطلق بعد رسوّ بقايا الخلق على الجودي ، حين حط على جذع زيتونة أورقت بعد انحسار الطوفان كإشارة من السماء ، الطوفان ، ترك آثاره على قممها الصغيرة بشكل حلزوني ، حيث تتسع عبر دوائر ومسافات متلاحقة ، تلهث خلف بعضها البعض، مدى في المكان هي لون كالسماء ، وسر كالحقيقة الغائبة ، هكذا يصفها ألرشيدي.
قال شيخ البحيرة: ربما هو مكتوب في اللوح المحفوظ ، انك تقرأ شواهد الصخور ، فتمتلك حوافز الاستمرار ولم يزد.
الرجل.. في سيرته الذاتية!!
تطوق الينابيع إلى الانفلات،،،
لأنها تقدس العطاء!!
كان الرجل الذي رحل ليستطلع مكمن الشمس ، يعمل مدرسا في مسجد القرية ، ولان الدخل الذي يجنيه من هذا العمل لا يكفي متطلبات الحياة ، فقد اعتاد أن يستفيد من مواسم الحصاد وجني الثمار بالعمل مع المزارعين.
القرية التي يعيش بها ، يعتمد أهلها في معيشتهم على الزراعة ، يزرعون كل شئ ، لكن اغرب ما فيها ، خلوها من أشجار الزيتون.
عبد الشافي ، وهذا اسم صاحبنا الذي ارتحل كان يقول:
إن خلو القرية من الزيتون ، جعل تربتها باردة لا روح فيها ، مسافاتها باردة ، لا أريد أن ادفن هنا عندما أموت ، حتى انه أوصى بذلك صديقه حارس المقبرة ، والأغرب ، أن البحيرة الصغيرة ، كأنما أوجدت فاصلا بين هذه الأرض الخالية من الزيتون ، والوادي الممتلئ به.
ينادونه الشافي اختصارا ، التصق به اللقب بسبب معرفته للوصفات العلاجية الشعبية ، والتي تعلمها على يد عطار عجوز عندما كان يساعده في دكانه الصغير ، يقولون انه اكتسب صفة الصمت بسبب صبره وبحثه المستمر في الجبال والحقول عن أعشاب ورث سرها من العطار العجوز .
أشجار النخيل ، تكاد تغطي مساحات كبيرة تسوّر القرية من أنحائها المختلفة بعكس الزيتون ، والنخيل أيضا ، يفصل ما بين القرية والصحراء من جهة ، بينما يفصلها من الجهات الأخرى جبال مليئة بالكهوف القديمة ، تحيط بها أشجار متناهية في الصغر ، لكنها غزيرة الأوراق من الأسفل.
يصفه ألرشيدي بأنه كان نحيل الجسد ، لكنه كان يملك قوة كبيرة ، فقد استطاع ذات يوم ، أن يصرع ثورا هائجا اندفع نحو سوق القرية كأنما به مس من الجنون ، ولولا وجود الشافي هناك ، لقتل خلقا كثيرا.
هنا يقاطعه الأسعد ليقول إن الثور ، كان هائجا بفعل إحساسه بان خللا في الطبيعة على الطريق ، وان الأرض مادت قليلا كأنما بفعل زلزال آنذاك ، لكن ألرشيدي يصر على أن اهتزاز الأرض كان بفعل حركة الثور الهائج ، ثم لا يتوصلان إلى اتفاق.
تقسم المراة العجوز التي تحاذر أن يلمس أحدا صلصال الخلق على نافذتها ، أنها شهدت ولادته ، وان خروجه إلى الحياة استغرق وقتا أطول من المعتاد ، كان الجنين كأنما يرفض الخروج إلى النور ، تشبث في الظلمة داخل الرحم ، وعندما اطل أخيرا ، كان ذلك بعد ليلة كاملة ، جاء مع أول خيط للشمس ، أما والدته ، فقد فارقت الحياة عندما اطل هو عليها.
مقطوع من شجرة ، هكذا يقول عنه الجزار ، فوالده توفي قبل أن تلده أمه بستة أيام ، كان الوقت صيفا ، لم تستطع والدته أن تشارك في تشييع جثمان الوالد ، حتى أنها لم تجلس أيضا مع النائحات اللواتي بكينه بحكم العادة ، والشافي ، لم يفكر بالزواج بالرغم من تقدمه بالسن ، فقد قال الجزّار ، الذي يفتخر دائما انه ينحدر من سلالة الحرس القديم ، أن الشافي كان دائم التفكير بأشياء أخرى لا يفكر بها العاديون من الرجال ، ربما أهمها ، البحث عن مكمن الشمس ، ويا لغرابة ذلك ، أما لماذا اتجه نحو الغرب ، فلذلك قصة أخرى.
حين ارتكب الريح خطيئته الأولى
لا تستيقظ الدهشة ...
إلا عند الرحلة الأولى في غرائب الأمكنة!!
زفرت الريح ، تلاعب زفيرها بماء البحيرة كأنما يداعبه ، تشكلت دوائر ابتعدت نحو المدى حين أقلعت الريح بعيدا ، كانت الريح تحمل اللقاحات إلى الشاطئ الآخر، لقد اعتادت أن تنقلها منذ أول ورقة خضراء ، وكأنما لم تشأ الريح أن تطيل المداعبة حتى لا تفقد شيئا منها ، لكنها في الإقلاع ، كانت تلاحق الدوائر التي طفت على السطح ، ارتطمت بجدار الجبل ، قهقه كهف حين مرت ، تراجعت محملة بذرات رمل تشكلت عبر حلقات مفرغة ، لكانما قهقهات الكهف التي كسرت السكون أخافتها ، ثقل الحمل عليها ، تشتت دوائر الماء ، تصاعد همس الارتطام ، ابتعدت مسافات الدوائر ، تقطعت ، تحاورت الدوائر في تداخل متشابك ، أسقطت الريح ما تحمل من لقاحات بين هذه التداخلات ، اقتربت الدوائر رويدا رويدا ، لكانما ألقت القبض على اللقاحات التي أسقطتها الريح ، ثم غاصت بحملها إلى القاع ، تجهمت السماء حين غادرتها خيوط الشمس بفعل غمامة سوداء ، زفرت الريح مرتدة إلى اتجاهها الذي أتت منه ، دارت دورتين ، لكنها عادت وفرت مذعورة ، قصف الرعد السماء ، وفي الجهة الأخرى ، صرخ ألرشيدي الذي كان قد تسلل خلف المسافر، يراقب الريح والبحيرة وأشياء أخرى،،،،
– لقد ارتكبت الريح الخطيئة،،،
استدار مرتعبا عائدا إلى كهف الجماعة ، انهمر المطر كأنما هو بكاء الندم على اللقاحات التي اعتقلت إلى قاع البحيرة ، بينما دفعت خطيئة الريح الخائفة ، صدى قهقهات الكهف إلى التوسع ، زمجر الوادي ثم ساد الصمت.
تجهم المسافر،تحسس التميمة، إنها الخطيئة بفعل الريح، ربما عليه ان يؤجل عبوره إلى وقت آخر، لكنه ربما أيضا يفقد الرغبة في ذلك، هكذا قال شيخ البحيرة معقبا:
– من تردد في طلب المجازفة.. ظل قابعا في التمني.
حدث ذات يوم
قليلون فقط يعرفون من أين أتى والد صاحبنا ، لكن ألرشيدي والذي يبدو وانه عقد معه صداقة قديمة ، يعرف التفاصيل ، ومع ذلك ، فالجميع يتفق على انه قدم من ناحية الغرب ، وربما كان يجاور البحر، حط رحاله في القرية قبل مغيب الشمس بقليل ، وفي ساحتها وأيضا في الطرف الغربي اقتعد المكان.
كان ذلك ذات يوم صيفي من أيام الحصاد ، لم يكترث به احد في بادئ الأمر ، فالعابرون يمرون كل يوم ، ذلك أن القرية تقع على طريق القوافل ، وغالبا ما يقصدها المسافرون للتزود بالمؤن والماء ، لكن حالة هذا الرجل ، لم تكن كحالة عابري السبيل ، فقد قضى ليلته في المكان الذي جلس فيه ، وهو لم يرتحل مع الذين قدموا من القافلة ثم غادروا ، متعبا وحزينا كان.. .. نصحه احد رجال القرية ، بالذهاب إلى المسجد ، فإلى جانبه غرفة لإيواء الضيوف وعابري السبيل ، تحرك متثاقلا يحمل متاعه القليل نحو الموضع الذي أشار إليه الرجل ، كان المسجد قريبا ، والغرفة التي قصدها مشرّعة الأبواب ، فارغة إلا من حصيرة صغيرة ووسادتين ، فيما كانت الشمس تملأ الغرفة بسبب تعدد النوافذ بشكل غير عادي ، أمام الغرفة فناء عريض تتوسطه شجرة بلوط ضخمة ، استغرب وجودها في المكان ، فهو يعرف أن هذا النوع من الشجر ، لا يستطيع العيش في مناخ صحراوي ، أمام الشجرة ، حجر كبير وضع خصيصا لاستخدامه كمقعد للجلوس ، جلس الرجل هناك ، ورغم اشراقة الشمس ، كان الصباح شاحبا على غير عادته ، والحركة بدت ميتة في المكان ، فالمسجد الذي يستخدم جزءا منه لتعليم الأطفال ، كان مغلقا ، فقد تصادف وصوله مع يوم العطلة ، إضافة إلى أن معظم أهل القرية يعملون في المزارع ، وقد كان موسم الحصاد في حينها ، لكن إمام المسجد ، سرعان ما حضر إلى المكان ، كان شيخا كبيرا ذو مهابة بدت على محياه ، مبتسما بشكل دائم ، رحب بالضيف قائلا:
– أهلا بك ، بامكانك استخدام الغرفة إن شئت.
قال ذلك ثم اتجه إلى غرفة صغيرة أخرى ملحقة بالمسجد ، احضر إبريقا من الفخار وقد امتلأ بالماء ، وفراش بسيط لكنه نظيف ، ناول الحاجيات التي احضرها للرجل متحدثا إليه:
– يبدو انك جئت من مكان بعيد ، أنت متعب ولا شك ، وان لم تسترح ، فسيقضي الإجهاد عليك ، أنت ضيفا في بيت الله ، تفضل" مشيرا إلى الغرفة".
اتجه الرجل إلى حيث أشار الشيخ ، وضع الفراش في زاوية بعيدة عن أشعة الشمس ، ثم ما لبث أن غاب في سبات عميق.
كان يركض صاعدا الجبل ، فيما يخترق سمعه أزيز الرصاص وصياح الهاربين من الحرائق ، التفت لمرة واحدة ، كانت القرية تحترق خلفه بالكامل، لكن اشد ما سكن ذاكرته بقسوة ، هو أن طيور الحمام التي كانت تشارك أهل القرية سكناهم ، كانت تتساقط محترقة قبل أن تصل إلى الماء الذي اتجهت إليه بفعل الغريزة ، كل شئ ينهار، سحابة الدخان الأسود التي ارتفعت في السماء ، كانت تلاحقه بفعل الريح ، وهو يصعد دونما توقف ، التفت مرة أخرى ، رأى أمه وقد مدت إليه يداها ، يدان محاصرتان باللهب ، صرخ بأعلى صوته..أمي..
استيقظ من حلمه ، خرج إلى الساحة واغرق وجهه بالماء ، ثم عاد محاولا تكرار النوم الذي استجاب له دونما إبطاء ، ظل نائما حتى اليوم التالي.
أيام والرجل لا يبارح المكان إلا للمسجد ، أو ليركن إلى ظل شجرة البلوط الغريبة ، أما شيخ المسجد ، فقد كان يزوده بالطعام بشكل دائم ، لم يسأله عن اسمه يوما ، أو عن سب مجيئه إلى القرية ، والرجل ، لم يحاول أن يحادث أحدا ، كان دائم الصمت مما أثار فضول الكثيرين ، بعضهم ظن به السوء ، إذ ربما كان مجرما أو لصا لجا إلى القرية هاربا من العدالة ، والبعض الآخر كان متعاطفا معه دون سبب ظاهر ، هذا البعض الأخير ، كان شكل أغلبية الذين اهتموا به أو تناولوه في أحاديثهم ، لكن الواضح، أن سكان القرية أصبحوا ينامون ويستيقظون على سيرة الرجل المجهول القادم من البعيد.
مضى الأسبوع الأول على هذه الحالة ، لكن الرجل ومع بدايات الأسبوع الثاني ، اسر إلى شيخ المسجد بأنه يفضل لو وجد عملا ، وعده الشيخ خيرا ثم مضى ، وعندما عاد إليه بعد صلاة العشاء، ظلا جالسين حتى مطلع الفجر.
عودة الطائر الرمادي
ستغرق في الشك ما لم تحدق تماما في اليقين
بين حشائش البحيرة.. على طرفها اقتعد المكان..
كان الشافي يعرف أن رحلة البحث عن مكمن الشمس هي رحلة غير عادية ، انتبه إلى طائر يحوم مقتربا ، كان الطائر رمادي اللون ، حلق دورتين ، ثم استقر على غصن عار يمتد وحيدا بين أغصان مورقة ، تتراقص على شجرة تقف مائلة بانحناء كأنما تقدم احترامها للبحيرة ، همهم في سكون:
– لماذا لم يختر إلا ذاك الغصن؟
وكأنما أحس الطائر الرمادي بحيرته ، اطلق صفيرا ناعما ثم استرسل في غناء طويل ، ثم اتبع ذلك بغناء متقطع كخفقات القلوب ، حط طائر آخر على غصن قريب مورق يجاور الغصن العاري الذي وقف عليه الطير الأول ، اقترب الثاني إلى طرف الغصن الذي مال بفعل ثقله ، بدأ الأول يطلق لحنا مختلف تمام الاختلاف عن ألحانه الأولى ، خمن أن الطائر الثاني ، هي أنثى جذبتها ألحان الأول ، نفش الأول ريشه ، بانت خطوط متعددة الألوان ، كانت تحت الكسوة الرمادية ، استعرض رشاقته بالقفز على الغصن نفسه ، ظلت الأنثى تراقبه وهي دور حول نفسها في المكان ، تصعد قليلا ثم تعود إلى الغصن ، أدرك السر ، فالطائر الأول لا يريد للكائنات مشاركته في رغبته للحصول على أنثاه ، انه يستعرض وحده ، وعلى غصن عار ، ما اكتسبه من الخلق ، مما يظن انه جمال يخصه وحده من دون الكائنات ، ومهارات لا يملكها احد ، يفتتن بنفسه ، فهو لا يقترب من الأغصان المورقة ، ولا من أوراق الشجر ، ولا من الزهور التي تفتحت في المكان ، التي ربما تنافسه بهجة اللون وكمال التكوين ، يود أن يستمتع بما أوتي من خلال كشف خاص به ، إنها ألذات التي يحاول البوح بها ، ذلك أيضا من أسرار الخلق.
يطول الحوار ، فالأنثى تقترب ولا تقترب ، والذكر يظل في المكان ولا يبتعد ، وبينهما مسافة صغيرة تحتاج إلى جهد كبير لكسر الغربة الثنائية والاقتراب من الألفة ، ولكل منهما فهم خاص لمعنى الاقتراب.
يعوي الجبل مجددا ، تنفتح السماء باتجاه الأرض ، يسقط رهاما لا يلبث أن يزيد ، يتحرك الطائر الرمادي ، تتحرك الأنثى ، يغادران المكان ، يقتربان معا ، يطيران سوية ، ثم يدخلان في فجوة صغيرة في الجبل ، لقد جمعهما اقتراب الخطر ، لم يتنازل احدهما للآخر رغم طبيعة الأشياء ، لكن السماء، ... يا للسماء،، لقد حسمت الأمر بطريقتها الخاصة ، هذا أيضا من أسرار الخلق.
احتفظ بالسر ، أيقن أن الحياة تستكمل هكذا ، وهي لن تبدأ دون تدخل السماء ، ارتد بنظره إلى البحيرة ، كانت الدوائر قد تلاشت ، قذف حجرا نحو الماء ، عاد الصدى للغة الارتطام بطيئا إلى مسامعه ، تكونت دوائر صغيرة خجلة تدور في فسحة تقترب منه ، وعندما اصطدمت بالشاطئ ، امتدت متحولة إلى خط أفقي ، وفي نقطة التحول تلك ، شاهد رغوة بيضاء أحدثها اصطدام دوائر الماء بالشاطئ ، تناثرت الرغوة عبر هذا الخط ، ثم تلاشت هي الأخرى.
فكر لو انه يحصل على تلك الرغوة ، فربما استطاع أن يكشف سر الهمس عند ماء البحيرة ، إذ لا بد وان تكون هذه الرغوة نوعا من الاحتجاج... ربما!!.
قذف بحجر آخر ، استعد لاستقبال الدوائر التي يفترض أن تتحول إلى رغوة بيضاء ، لا بد وسيمسك بها ، أوقع كفيه على أطراف الماء ، تهيأ متحفزا ، لكن الريح ، اندفعت في تلك اللحظة ، اصطدمت بالدوائر التي تشكلت ، عادت الدوائر مبتعدة عن الشاطئ ، همهم في توتر:
– إنها الريح تعلن عن وجودها ، تذكر ألرشيدي وكيف تبين خطيئة الريح الأولى ، تساءل: ترى، ما علاقة الريح بالسماء؟.
أحس كأنما يعبث باللاجدوى من الإجابة ، ابتسم لأفكاره الغريبة ، نظر إلى البحيرة ، تذكر الخطو الأول والوعد.
أول الحكاية.......
الرجل الذي سكن المسجد في غرفته المجاورة يدعى وهدان ، كان يعمل ممرضا ، لم يستطع أن يكمل تعليمه العالي فاختار الطريق الذي يقترب من حلمه ، لقد كان يحلم أن يصبح طبيبا ، لكن ظروف العائلة لم تكن تسمح بذلك ، حصل على وظيفته في مستشفى المدينة الرئيسي ، بعد أن تفوق في دراسته بمعهد التمريض ، أصبح من موظفي الدولة ، لكن دخل الوظيفة لم يكن كافيا للحد الأدنى من الحياة الكريمة ، قرر أن يبحث عن عمل آخر ، لعله يستطيع أن يقتصد بعضا من النقود التي قد تساعده إذا اتيحت له الظروف بان يحق حلمه.
كفاءته المميزة في العمل ، ميزته عن زملاءه الممرضين ، أما والده ، فقد كان يملك عربة متنقلة يبيع عليها الخضار بين الأزقة والبيوت ، والدته ، كانت كمثيلاتها اللواتي لا يغادرن بيوتهن إلا ما ندر ، لم تبتعد عن بيتها أكثر من حدود بيت الجيران ، خرجت من بيت أبيها إلى بيت الزوجية ، أنجبت وهدان وشقيقتين ، كان الرجل الوحيد ، إحدى شقيقتيه تزوجت ثم سافرت مع زوجها إلى خارج البلاد أيام الهجرة الكبيرة التي أحدثتها الحروب ، أما الثانية ، فاستقرت في بيت يجاور بيت العائلة ، حيث يملك زوجها مخبزا صغيرا في الحي ، والحياة رغم الإمكانية المحدودة بالنسبة له ، حاول ان يقتنع بأنها تسير بشكل طبيعي .
اكتسب من خلال عمله معارف من كبار الأطباء والإداريين العاملين في مختلف دوائر الدولة ، كان مواظبا على عمله مما أثار حفيظة الكثيرين من زملائه القدامى الذين سعوا بدأب عجيب لافتعال المشاكل له دون جدوى ، فقد كان معروفا بنزاهته وحسن تعامله مع الآخرين ، كان رؤسائه يتجاوزون الكثير من المتاعب التي كادت أن تسبب له الأذى ، لكن الأمر تغير بتغير الظروف والأفراد ، فقد تم تعيين مدير جديد يختلف عن سابقه ، كان الجديد في الأمر ، أن المدير الذي تم تعيينه يحمل طباعا تسلطية ، إلى جانب غروره الذي اكتسبه من تخرجه من دولة أجنبية ، يهوى الظهور ، يتدخل في شؤون الممرضين والممرضات بسبب وبدونه بشكل استفزازي دون مراعاة لأبسط الحقوق ، وقد أشاع ومنذ اليوم الأول لوجوده بان له قريبا مهما في السلطة.
زميل قديم كان يكره وهدان دونما سبب ظاهر ، استطاع أن يستميل المدير الجديد إلى جانبه ، بدأت المسالة بهدايا بسيطة ، ثم تطورت إلى خدمات شخصية دون مقابل ، هذا الزميل ، وجد فرصته للنيل من وهدان ، فبدأ بالكيد له ، أصبح يتهمه بأصغر خطا حتى لو لم يكن له علاقة بذلك ، تحمل وهدان كل ذلك بصمت ، لكنه كان يحس باقتراب عاصفة مجهولة الأسباب ، قد تطيح بأحلامه ومستقبله.
ذات نهار ، استدعاه المدير الجديد إلى مكتبه ، دخل وجلا لعلمه المسبق أن شيئا ما يدبر له ، فوجئ بوجود شرطة في المكان ، اتهم بأنه مسؤول عن اختفاء كمية كبيرة من الأدوية التي تستخدم للتخدير ، اقسم انه لا يعرف شيئا عن الموضوع ، طلب شهادة العاملين في المستشفى ، فوجئ بتخلي الجميع ، حتى تلك الممرضة التي كانت تحاول التقرب منه ، والتي طالما ساعدها في الخروج من مشاكلها أثناء العمل ، أما زميله الذي أصبح الصديق المقرب من المدير الجديد ، فقد شهد شهادة كانت حاسمة ضد وهدان ، حين ذكر بأنه لاحظ ذلك منذ وقت طويل ، وانه حين اخبر وهدان بالأمر، تلقى تهديدا منه.
لم ينفع الماضي الملتزم ، ولم تشفع الأخلاق الحسنة للحدث ، ولم يتم التوسع بالتحقيق ، كان المجرم قيد الاعتقال ، زج بالسجن لمدة عام ، مع حرمانه من ممارسة التمريض في مستشفيات أو عيادات المدينة ، وحتى داخل السجن، فقد وضع تحت المراقبة الشديدة بتوصية من الزميل الذي أصبح متنفذا من خلال تشعب علاقاته بالمدير الجدي د، هذه المراقبة ستستمر لمدة غير محددة بعد خروجه من السجن ، ولا ترفع عنه إلا بأمر من القاضي.
حين امرأة ألزمته الوعد!!
كان ما زال يقتعد المكان..
هي امرأة قال لها ذات يوم...
اصنع لك بيتا من صخور الوادي..
أضيئه بزيت الزيتون الممعن في القدم..
آتيك بطير الهدهد، ومن عظمة الجناح الأيسر تعدين كحل العيون ، وتستخدمين ريشة الصدر الأقرب إلى القلب في الاقتراب من العيون ، وعندما باحت لأقرانها بما قال ، ألزمته الأمر.
بكت امرأة كانت تسكن بالقرب من ذاكرته ، فالأمر لم يرق لها على الإطلاق ، أحست بخطورة المغامرة التي تكمن خلف هذا الوعد ، أحست بان هناك من سيسرق فتاها.
عنفه شيخ البحيرة كي يرجع عن وعده ، لكنه عندما رأى الإصرار في عينيه، اخبره باول الخطو...
إن مكمن الشمس هناك.. مشيرا إلى ابعد بكثير مما كان يظن ، ربما ابعد من نهاية الوادي ، أو ربما ابعد حتى من المجهول الذي سيليه، حذره من البوح ، حذره ألرشيدي بان الأمر اخطر مما يظن!! فالرحلة إلى وادي النطّوف ، هي رحلة إلى أسرار الخليقة الأولى، حدد شيخ البحيرة الوقت ، ثلاثة أهلة وتمضي ، شروق واحد تراه ، فإذا اجتزت البحيرة بعد الشروق الأول الذي يلي الهلال الثالث ، ظل الشروق ملازما لك حتى المنعطف القريب ، ستشاهد سلما حجريا يتكون من درجات تشكّل كل منها في ألف عام ، وعندما تصل إلى نهاية السلم ، يبتدا الينبوع ، فإذا ما نزلت إلى الشق الذي يفصل بين الجبلين إلى القاع ، عليك أن تجتاز مسافة الماء وان غمرك ، تنبه جيدا واحرص على أشيائك من البلل ، ولا تفعل كما الريح حين سورة الغضب ، واعلم أن حرابا مسننة تختفي على جنبات الشق الصخري حيث الحرس القديم ، فان التفت إلى ما حولك أو إلى الخلف ، صعقتك الأسنة ، ربما تسمع من ينادي عليك ، ربما تشعر بعيون تتبعك أو تراقبك ، لا تحفل بالأمر وتجلد دون رغبتك التي تفرضها أحاسيسك الإنسانية التي تصبح متوترة آنذاك ، أنت إن تمسكت بالتحديق إلى الأمام ، اجتزت المسافة واستعدت الخيط الأخير من الشروق الذي سيختفي حين اجتيازك الممر المعتم ، إياك والذاكرة التي تسترخي!!.
استسلم وهدان لما حدث ، قضى تلك الأيام الطويلة في السجن حتى اكتملت ، وحين خرج إلى النور مجددا ، كانت والدته قد فارقت الحياة ، أما والده فلم يعد يقوى على ممارسة عمله في بيع الخضار على العربة القديمة ، والبيت ، كان موحشا إلا من الذكريات ، وعلى مدخله كانت تستلقي عربة الخضار التي بدأت كأنما تشكو وحدتها هي الأخرى.
مضى الأسبوع الأول ، ووهدان يحاول أن يجد عملا جديدا دون جدوى ، فالبلدة صغيرة ، وقصته لم تزل على الألسن ، كان الأمر صعبا.
ذات ليل ، استيقظ وهدان على سعال والده المتواصل ، أسرع إليه بكوب من الماء ، جلس إلى جانبه ليسري عنه ، بدأ الوالد حديثه عن المستقبل القاتم لوهدان ، وعن إحساسه برحيله القريب ، وعن زوج شقيقته الذي أصبح يسئ معاملة زوجته بعد إحساسه بعبء الالتزامات التي فرضتها حالة الوالد وغياب وهدان ، إن أسرته تتوسع باستمرار ، ودخله محدود للغاية ، قالها الوالد بأسى ، المصاريف في ازدياد ، وعندما انتهى الحديث وسكن والده إلى النوم ، ظل وهدان ساهراً لم يغمض له جفن ، وعندما أطل الصباح ، لمح العربة القديمة ، فكر قليلاً ثم سحبها من مكانها ، مسح عنها ما علق بفعل وقوفها هناك لمدة طويلة ثم خرج من البيت وهو يجرها أمامه ، أتجه إلى صديق قديم لوالده ، طلب مساعدته في أول رأسمال صغير له ، تجاوب الرجل ، امتلأت العربة بالخضار وبدأت الحياة تدب في أوصال العربة من جديد ، تحسنت الأحوال مجدداً واستمر الحال هكذا ، لكن ما خبئ لوهدان كان من المفاجأة بشكل لم يكن متوقعاً ، فذات يوم ممطر ، أتجه وهدان بعربته حيث أعتاد المرور على الأحياء البعيدة المتفرقة ، وفجأة توقفت إلى جانبه سيارة شرطة نزل من فيها ، هجموا على العربة فيما وضعت القيود في يدي وهدان ، فتشوا العربة فوجدوا فيها كيساً صغيراً قالوا أنه يحتوي على مخدرات ، جن جنون وهدان ، كيف حدث ذلك ؟ إنه لا يعرف شيئاً ولكن دون جدوى ، وفي المحكمة لم يجد من يشفع له ، لكن ما لفت نظره ، جلوس زميله القديم الذي يعرف أنه وراء التهمة الأولى إلى جانب امرأة تذكّر أنه رآها من قبل ، كان صوت القاضي يعلن الحكم فيما كان عقله يعمل بسرعة لعله يفسر سبب وجود المرأة ، وذاك الذي تسبب في سجنه في الماضي القريب ، وفجأة صرخ بأعلى صوته: - أجل إنها هي... لقد وضعت المخدرات في العربة حين ابتاعت الخضار مني، إنها هي، انسحبت المرأة من القاعة مع زميله القديم ، ضاع صراخ وهدان مع انتهاء الجلسة ، وبدأ الحضور بالمغادرة ، أما الحكم فقد كان مشفوعاً بالأشغال الشاقة ولمدة خمسة عشر عاماً..... يا للهول!!.
منذ اليوم الأول في السجن ، أحس وهدان بأن الأمور لا يمكن أن تستمر هكذا ، لابد أن يفعل شيئاً ، تعرف على الكثيرين ممن قالوا أنهم ظلموا ، وآخرون كانوا يتباهون بجرائمهم ، فكر في الهرب ، لكن ذلك كان ضرباً من المستحيل ، وكرت سبحة الأيام ، كانت زيارة زوج شقيقته تمنحه بعضاً من العزاء ، لكن هذه الزيارة انقطعت دونما مقدمات ، وبذلك انقطعت أخبار الوالد ، ولم يعد هنالك ما يشغل وهدان سوى إحصاء الأيام ومعاشرة السجناء الذين فرضوا عليه دون إرادته ، ثلثي المدة انقضت وأفرج عن وهدان لحسن سلوكه ، كان ملفه نظيفاً تماماً ، حتى أن المشرفين على السجن كانوا يكنون له الاحترام ويشعرون بأن لا علاقة له بما نسب إليه ، خرج مرة أخرى ليواجه الحياة من جديد ، أوصلته سيارة شرطة إلى ساحة البلدة ، ومن هناك انطلق إلى البيت ، كان متلهفاً على لقاء والده وشقيقته وزوجها ، لكنه كان يحس إحساساً غريباً كلما اقترب من المكان ، لقد اختفى البيت أو يكاد ، فملامح المنطقة تغيرت تماما ً، انمحت آثار البيوت العتيقة لتحل محلها بنايات شاهقة ، والبلدة كبرت لتتحول إلى مدينة تعج بالحياة ، ولا أثر لما مضى وما كان يعرف.
فجأة رأى رجلا يخرج من دكان البيع الأقمشة ، التقت عيناه بعيني الرجل ، حدق فيه ملياً ، فإذا به يبادره التحية ، كان الرجل يعرفه ، إنه صاحب المخبز القديم الذي كان يشغل زاوية الشارع فيما مضى ، سلم عليه ، هنأه بخروجه من السجن ، وعندما استفسر عن كل شيء صمت الرجل ثم قال:
– لقد توفي الوالد رحمه الله ، أما زوج شقيقتك فقد هاجر وعائلته بعد أن باع البيت ، ولكن لا عليك ..تعال لتقضي الليلة عندي ثم نتحدث ونتسامر.
تلقى وهدان الأخبار بهدوء ، فقد عودته سنوات السجن الطويلة على الصبر والتجلد ، رفض عرض الرجل معتذراً بأن له صديقاً ينتظره ، كان يريد الابتعاد عن المكان ، انطلق إلى الساحة التي تتجمع فيها القوافل المغادرة عبر الصحراء ، كان رأيه قد استقر على مغادرة البلدة ، لقد لفظته ، إنه لا يشعر بأي انتماء إليها ، وهكذا ، كان عقله الذي صقلته الأحداث يعمل بصورة مغايرة ، أنه يود الرحيل إلى ربما لا مكان ، يود تغيير نمط حياته كلها ، يريد أن يذهب إلى مكان لا يعرف به أحدا ً، كانت إحدى القوافل تستعد للرحيل ، قابل رئيس القافلة ، عرض عليه مصاحبته وهو الذي لا يملك مالاً مقابل أية خدمات يؤديها على الطريق كان الرجل ذا تجربة طويلة قال:
– لابد أنك تعاني من مشكلة ما؟
– أبداً كل ما في الأمر أنني فقدت كل شيء هنا.
– ألست مطلوباً أو مطارداً من أحد؟
– لا ،،، فقد خرجت من السجن للتو لا أريد أن أخدعك.
أعجب الرجل بصراحة وهدان، قال:
إن ملامحك تدل على أنك لست ممن يرتكب الجرائم ، أعتقد أنك قد سجنت بالخطأ وربما ظلماً ، إي...ه ، لقد تغير الكثير من القيم ، لا عليك ، هيا لنرحل.
التحق وهدان بالقافلة التي انطلقت ، كانت القرية في طريقها وكان الوصول إليها شاقاً، لكن كل شيء سار على ما يرام.
هذا ما عرفه شيخ المسجد الذي تعاطف مع وهدان ، وفي اليوم التالي وجد له عملاً في دكان عطار قديم ، شاخ صاحبها وأصبح بحاجة لمن يساعده في العمل رغم ندرته.