المسافات الباردة - رواية زكريا شاهين - قسم 3
"من تردد في طلب المجازفة، ظل قابعاً في التمني"
خرج راجح، ذلك الشاب الذي تبرع بالبحث عن أخشاب جافة لإيقاد النار. تمادت العاصفة في طغيانها، حتى أنها حاولت أن تسقط أشجار النخيل التي تلوّت تحت الضربات القاسية، فيما كانت أغصانها تتجه نحو اندفاعة تماما تشعر امرأة في عاصفة.
المسافات.. بعيدة وقريبة في آن، بحيرة وصحراء، وما بينهما ذلك الوادي الذي كان مقصد الشافي، -وادي النطوق، المتصل بوادي كدرون..، هذا الأخير الممتد تماما كامتداد جسد ثعبان يتلوى تحت الهاجرة. المسافات أيضاً، مترامية الأطراف كالصحراء، المطر.. يقع على بساط جسده بارداً ثقيلا، يكاد أن يحدث ثقوبا في اللحم، ينغرز البلل أكثر، فيصل التسرب إلى كل مكان فيه، تصبح الملابس المبللة، اهاباً لاصقاً له،
راجح كغيره، لم يكن يتنبأ بأنه يمكن أن يتغير الجو إلى هذه الحالة، لذلك، فالملابس التي كان يرتديها والجميع، لا تصلح لمثل هذه الحالة التي طرأت دون سابق موعد أو إنذار.
الأرض، تمتد أمامه دونما نهاية، ورغم هطول المطر، لم تكن موحلة، مما دفعه للإسراع في مشيته، ربما لأنها كانت عطشى، إذ لم يسبق وأن أنزلت السماء ماءها منذ سنين.
تلفت في كل الاتجاهات، لاشيء ينبئ بأنه يمكن أن يجد مبتغاه، والأحوال تزداد سوءا، الريح تعصف به من كل جانب، والمطر شديد.. المطر!! هل يمكن أن يستمر هكذا! وكيف لي أن أجد شيئا يصلح لإيقاد النار في مثل هذا الجو؟.
كان يحادث نفسه بشكل مسموع دون أن يعي ذلك، ملأته التساؤلات حتى غلب عليه الوجوم، أحس بانقباض شديد، بدأت معدته تؤلمه أشد الايلام، اكتشف فجأة بأنه يتحدث مع نفسه، تلفت حوله، ربما يتهمه أحد بالجنون فيما لو رآه على هذه الحالة، إنه ليس بحاجة لمثل ذلك، لقد كفاه ما مر به، وما كان من أمره في القرية.
– حسنا.. لا أحد هنا!
قالها بصوت مسموع، ثم استمر في البحث..
انفرجت السماء قليلا، ابتعدت غيمة عن صويحباتها فجأة، ظهرت فسحة، مضادة بشكل غريب للحظات، هذه اللحظات، أثارت مشاعر الرهبة في صدره، تمتم بكلمات متفائلة بعد أن تتطلع نحو السماء، لكنه ما إن أعاد النظر أمامه، حتى أحس برجفة تسري في أوصاله، أصابه توتر شديد"
– ياللعجب!! ماذا يفعل شيخ في مثل سنه في هذا المكان؟
قال راجح.. فرك عينيه، تطلع مجدداً..
– أجل.. إن أمامي شيخ حقيقي.
لم يكن يعلم أنه انتقل إلى أطراف وادي كدرون، وأنه لو استمر، فسيتبع خطى الشافي الذي سبقه، كان الشيخ يرتدي لباسا داكنا، طويلا، يتوكأ على عصا كأنها قطعت للتو من شجرة دون أن تشذب، إذ برزت من جوانبها كثيرا من النثوءات المتباينة الطول.
– من أنت؟ وماذا تفعل هنا؟
قالها راجح، ثم تمتم متابعاً..
– أيمكن أن يكون هنالك من هو أتعس مني في هذا المكان؟
وضعه الشيخ في حدقتيه قبل أن يجيب، بدا عليه كأنما لم يبتل رغم المطر، كان وجهه جافا لكنه لين الملامح، ورغم المطر المتساقط بغزارة، كان شاحباً يميل إلى اللون الرمادي، تتدلى من ذقنه لحية ذا شكل غريب، منفرجة من الوسط، قليلة الشعر، كثيفه على الجانبين..
قال الشيخ:
– كنت بانتظارك
– كيف؟ أنت لا تعرفني!
– لقد تأخرت كثيرا ياراجح، لكنك في النهاية أتيت، لم أفقد الأمل برؤيتك.
– وتعرف اسمي تعرف اسمي!
– عليك أن تتجه شرقا، ومن هنالك إلى الجنوب حيث تلتقي الأنهر جميعا، إلا واحداً، أتجه إلى هناك.
– ولكنني كما ترى.. لا أملك واسطة.
– امتطي صهيل الخيل.. لاعليك..
– ماذا أفعل في الشرق، إنني حتى لم أفكر بالرحيل، أفكر بالاستقرار والزواج هناك "مشيراً إلى القرية".
أدار وجهه باتجاه البلدة، لكنه لم ير شيئا، كأن الأشياء اختفت جميعا، إنه لم يبتعد كثيراً، فماذا حدث؟
قال الشيخ:
– أنت خططت للرحيل، ولكنك لاتعرف، وإلا.. فما سبب انتظارك عودة صاحبك؟
– وهل رأيته؟
– من؟
– أجل.. أذكر أنني رأيته، كان هذا منذ أكثر من أربعين عاماً، أذكر ملامحه جيداً..
– أربعون؟ إنك تهذي يارجل بتأكيد، لقد غادر منذ أقل من ثلاث ساعات، لابد أنك تتحدث عن آخر.
– أبداً.. ثم؟! لماذا تضيّع معه حسابات الزمن مصبات الأنهر؟ وحتى مواعيد الفجر؟ إنك هناك، سنصنع مجدك القادم.
في كفك أضع كل الأماني.. فأمدد يدك إليّ.
أحس راجح بأن يده تلامس يد الشيخ، بينما استرسل الأخير وهو قابض على يد راجح، الريح تسايرك ومن كل اتجاه.
لاتحني رأسك للعاصفة، إن الذي أشار بعكس ذلك، هو ليس بحكيم، فالغارائز تستيقظ بالتحدي.
– ماذا عليّ أن أفعل؟
– كن عاشقاً للنشيد، مخلصاً للعلم.. عالماً بالتاريخ، رفيقاً لسّمار الحقول، لا تطارد الوهم كمن يقبض على ألوان الفراشة، رماد يمسح بها طرف ثوبه، لا يترك أثراً حتى!! سراب تفركه بين يديك.
– أريد أن أبدأ حيث الحقيقة.
انفرجت أدراج الشيخ، أنطلق مجداً بالكلام..
– ليس شرطاً أن يكون المعبد، معبدك أنت، قائماً على زوايا مستطيلة أو مربعة، إنما المعبد للصلاة حيث الحرية، متناثراً يرجم بحجارته أنىّ تتطلب الرجم، أرجم رأس الأفعى، فتستيقظ الشمس.
ثم تأتي مع كل العصور.
ومن الأبجدية، من وحي الفاتحين القدامى، الراحلين مع صهيل الخيل، وتشابك مسيرات الماء، كن يقظاً كالظباء، حاداً كالصقر.. متحفزاً كحمير الوحش..
– أنا لا أبحث إلا عن بعض ما يمكن أن أوقد به النار.
– ستظل تبحث ولن تجد، عليك أن تصغي جيداً..
– لكن من أنت.. ولم الشرق؟
– هناك، تتجمع مياه الأنهر جميعاً، تتوحد مع البحر الكبير إلى مالا نهاية، تلقي بما تحمل من أثقال في قاع هذا الواسع، إنها الرواسب التي تحملها في طريقها.. مثقلة بها طيلة الرحلة حتى المصب الأخير، ورغم الثقل ذاك، إلا أنها تحافظ عليها، ذلك هو القانون.. رواسب أثام البشر جميعاً. ولولا تلك الأنهر، لتراكمت الآثام، ولأصبحت الخطيئة هي الأقوى..
– لم أفهم..
– ستفهم ذات مرة، الشرق ياولدي.. حيث الأنبياء من كل زمان.
– أو تحمل الذهب أيضاً؟
– وما أدراك بذلك..
– أعرف أن مصبات الأنهر تحتوي على شذرات الذهب، تلتقطه وهي في طريقها باتجاه البحر، لذلك فإن ماحول هذه المصبات، يصبح مرتعاً للحالمين بالثروة، لقد قال ذلك المشرف الذي عملت معه في اكتشاف الآثار هناك.. آه، كم أتمنى لو أجد ذلك مرة أخرى..
– ألم تكفك الأولى؟
– وتعرف ذلك أيضاً..
– ولكنك فشلت.. أنت بحاجة إلى الحكمة وليس الذهب..
– أنني إن وجدت الذهب، اشتريت الحكمة..
– الحكمة لا تشترى، إنها تكمن في وجودنا جميعاً، لكنها تسكن فينا بعد التجربة والبحث الدؤوب، فالو نقك نحو الأفق الرحب ولا تترجل، حتى في العراء، ليس حكماً خالصاً أن يكون الجمر للحرائق..
– هذيان، فبالذهب.. اشتري كل شيء..
– إلا الحكمة، كذلك الكبرياء..
كن كالسرد، شامخاً لا ثمر فيه، لكنه شامخ يمنع انهيار التربة، ويقي من غضب الريح، كالنخل، يتماثل ولا يسقط، لكنه يسقط ثمره ليأكل الآخرون، أنيّ يكون، تستمر الحياة عميقاً، عميقاً في الأرض.
– لم أتزود للرحيل..
– عليك أن تحفر مرتين، مرة للبحث عن الماء، وأخرى للبقاء.. لا تستوطن إلا لما يقي وجودك.. تمسك بمكان ولادتك، لأنك يجب أن تموت هناك..
– ما أشبه الليل بالليل.. كأنني في كابوس!
– من بعضي، تستطيع إشعال النار، حاول.. ما عليك، هو الهشيم الذي سيحترق، تدفأ بهذا الاحتراق، فقط، عليك أن تمضي، وسيتبعك الحالمون كما أنت!
– كله هذيان!
افلتت يده من يد الشيخ فجأة، فسقط على الأرض، قال الشيخ:
– ولكنك لا تجد ما توقد به النار، مع أنك تقف فوق الذهب، أنظر إلى موقع قدميك.. أرجم رأس الأفعى، فتستيقظ الشمس، لا جدوى من البحث عن مكمنها، فقط، افعل كما قلت لك.. ارجم.. .. الشمس..
– بالله من أنت، لقد أخذتني بغتة، ماذا تفعل هنا؟
كان راجح يردد الكلمات تلك وهو يتطلع إلى قدميه، والفرجة المضادة من السماء كانت مازالت هناك، الرمال تلتمع تحت قدميه متوهجة كالذهب تماماً رغم سقوط المطر، انحنى ليمسك بها، لكنه توقف فجأة، كيف يصغي إلى هذا الهذيان؟
– اتجه شرقاً، أرجم رأس الأفعى..
وردد الصدى صوت الشيخ الذي كان يبتعد، عوت الريح بقوة، انطلقت أصوات بعيدة كأنما هي صهيل الخيل، اقتربت الغيوم مجدداً لتحاصر الفرجة المضادة، ابتلعت غيمة كبيرة أخرى أصغر منها.. ذابت الصغيرة في تعرجات الكبيرة، وذهب أثرها، عاد الظلام يخيم على المكان..
اشتدت الريح اشتداداً أحدث قوة كبيرة للعاصفة التي انطلقت كالإعصار، نظر راجح إلى ..... كان الشيخ، رآه يتلاشى مع الهواء وحبات الرمل المتطاير، أمسك بقواه مجدداً واندفع نحوه وهو يصرخ.
– لا تتركني..
لكن الشيخ، ظل في التلاشي رويداً رويداً، وقبل أن يغيب عن نظر راجح، كان الأخير قد تمسك بعصاه، ..... على الأرض، بينما اختفى كل أثر للشيخ..
كانت العصا في يده، أما نتوءاتها، فقد انغرست في ملابسه محدثة بها ثقوباً جعلت للريح ممراً فيها.. صرخ بأعلى صوته..
– لكنني أضعت الطريق، لم أعد أميز الشرق من الغرب، عد إليّ، إليّ..
جاءه الصوت من بعيد، عبر خيوط الليل المتشابكة مع المطر:
– كذلك صاحبك الذي مضى، ولكنك تحمل عصا الحكمة، إنها دليلك نحو ما تريد، فلا تضعها..
– عد إليّ، أريد بعض النار..
لكنه لم يسمع سوى صدى صوته الذي ارتطم بالعيد ثم عاد إليه، نظر إلى يده التي تمسك العصا، رأى نفسه وهو يقبض بشدة عليها.. رأها تلتصق باليد كأنما هي جزء منها، اتكأ عليها محاولاً النهوض، خانته قدماه، كرر المحاولة حتى أفلح في ذلك، تحسس جسده، كانت ملابسه قد اتسعت بشكل غريب، مرر كفه على وجهه، أحس به وكأنما امتلأ بالأخاديد..
– رباه.. ما الذي حصل؟ تتطلع إلى الخلف، رأى الواحة رغم الظلام، هرول عائداً وقد امتلأت أطرافه بالرهبة والخوف، كان يقبض على العصا، الريح تفتح ممراً أمامه بقوة اندفاعه..
اقتربت المسافات قليلاً.. لكنها ظلت باردة..
لم يزل القوم وقد تجمعوا في ذلك الكهف، يغالبون البقاء، لقد نسوا راجح.. دخل عليهم متغير الهيأه تماماً، كانوا يحاولون التماس الدفء بالاقتراب من بعضهم البعض، حدقوا به ملياً، من يكن هذا القادم مع المطر والريح؟
كانت ملابسه قد تمزقت تماماً، وجه شاحب كوجوه المودعين إلى الرحيل الأخير، يمشي متثاقلاً تكاد قدماه أن لا تحملاه.
قال الكهل الشايب:
من أنت؟ كيف وصلت إلى هنا؟ حتى وحوش الصحراء، لا تخرج في مثل هذا الطقس!
من أنا!
تسأل راجح للحظة، ثم قال متمالكاً نفسه:
لم أجد حطباً، ولا ما يمكن أن يقوم مقامه.
قال الرجل الضرير:
إنه راجح.. أعرفه من صوته..
يا للعجب..
قال الكهل.. ثم أضاف:
ما الذي فعل بك هكذا؟ كأنك كبرت دهراً وبالكاد فارقتنا، ماذا حدث أيها الرجل، تكلم بحق السماء، من مزق ثيابك بهذه الصورة، هل صادفت وحشاً في طريقك..
كأنه عائد من القبر..
علق الرجل الملتحي..
قلت لكم.. لم أجد حطباً وكفى.. إنني متعب.
كان المرقط ينظر إلى العصا بشهوة غريبة، يحس بداخل برغبة تدميرها.. لاشك أن بها سراً.. من أين أتى بها راجح.. قال:
لكنك تحمل بعضاً من الحطب، هات العصا لنشعل النار، إنها أفضل من لا شيء!
ولكنها عصا الشيخ، وهي دليلي إلى الشرق..
الشيخ..؟ أي شيخ، ألا ترى أننا نكاد نموت من البرد..
لن أعطيك إياها.. قلت إنها عصا الشيخ..
اقترب المرقط، أمسك بطرف العصا، تجاذب وراجح تلك العصا التي تمسك بها الأخير، كان الملتحي يجمع قليلاً من الهشيم الذي سكن زاوية الكهف، وعندما تمكن من جمع كومة منه، أشعل النار، كان راجح مرهقاً، تمكن منه المرقط، أخذ العصا، ثم كسرها على ركبته، وألقى بها بالنار، في تلك اللحظة، قصف الرعد السماء كأنما أصوات مدافع انطلقت كالحمم، صرخ راجح وهو الملقى على الأرض:
إنك تحرق عصا الشيخ.. إنها دليلي..
اقترب محاولاً إنقاذ بعض من العصا التي اشتعلت بسرعة غريبة، تصاعد الدخان حتى غطى عينيه، لم تعد الرؤية تساعده على التبين، ارتفعت طقطقة حادة تشابهت مع صوت الشيخ الذي كان يتلاشى في لحظات اللقاء الأخيرة، اندفع بالصراخ مجدداً.
لا تحرقوها.. إنها عصا الشيخ، وهي دليلي إلى الحكمة، دليلي إلى الشرق، لاتحرقوا الحكمة، لا تدمروا ما قد يضيء لنا الطريق..
اندفع خارجاً وسط ذهول القوم، أما دخان العصا، فقد تجمع على بوابة الكهف، ثم تجمع على هيئة طائر رمادي، صفق بجناحيه ثم، انطلق نحو الأفق.
يا لهذا الليل.. لسنا سوى في البداية.. قالها الملتحي الذي أشعل الهشيم، نظر محدقاً بالرماد.. وإذ بريح قوية تتسلل عنوة إلى الكهف على هيئة تيار عمودي، تبعد رماد العصا ثم تخرج، كان صوت راجح مازال يتردد صدى في الصحراء الواسعة وعلى ضفاف الواحة..
إنكم تحرقون الحكمة، عد إليّ يا سيدي، لقد أضعت طريقي، كذلك عصاك..
حتى غاب الصوت، وبشكل غير اعتيادي، بينما لف السكون المكان، حتى الطفل، فقد سكت عن الصراخ، كانت عيناه تنتقل محدقة بالحضور، وابتعدت المسافات من جديد.
مساحة لاتقاء الحزن!
"ثمة وادٍ دائم بين جبلين"
وحدها المرأة التي كانت تحمل الطفل، لم تحاول الاقتراب من النار كما فعل الجميع، انزوت بعيدة تراقب ما يحدث، أما الطفل الذي كان يحدق في الوجوه ، فقد أصبح صراخه متقطعاً، يسكن قليلاً، ليندفع مجدداً بالصراخ، والجمع، استسلم لصراخه، لم يعد هنالك اعتراضات على حالة فرضت نفسها، لم يعد أحد يلتفت إلى المرأة ليحثها على إسكات الطفل، أصبح بكاؤه أمراً واقعاً ضمن الحالة العامة، الحالة التي تزداد سوءاً، فالريح في تصاعد غاضب وهيجان مستمر، والمطر يزداد مطراً، ثم يتكون إلى سيول صغيرة، تتجمع عند نقطة محددة، كأنما هنالك اتفاق مسبق، ثم تنحدر نحو تجمع المياه، لتتشكل بحيرة صغيرة في واحة منقطعة.
اقترب المرقط من المرأة، -المرقط- الذي جاء ضمن الجمع، لوداع الشافي، أما اسمه الحقيقي فهو – نمر- يكاد أن يكون كذلك بالفعل، باستثناء النظرات التي يخيل إليك عندما ترقبهما بتمعن، أنهما تخفيان قلقاً وخبثاً في آن، متحفزتان دائماً، يحمل وجهه الكثير من النمش، نمش غير عادي، واسع ومنتشر على جميع أنحاء وجهه، لونه يميل إلى البني، أكثر منه إلى اللون الأبيض أو الأسود، منذ صغره، ينادونه المرقط، لبسه هذا اللقب والتصق به حتى نسي أهل القرية اسمه الحقيقي، كذلك فعل، فلم يعد يذكر اسما غير ما ينادونه به.
المرقط، لم يستمر أبداً في عمل واحد، دائم التنقل من عمل إلى آخر، عمل حداداً عند صانع حدوات الخيل، وراعياً للأغنام، مزارعاً في الحقول، لكن العمل الذي تميز به، أنه كان نجماً متألقاً في ليالي السمر، كان مهرجا، ، حالته في الأعراس والمآتم سواء، يضحك الناس هنا، ويشارك في حلقات الذكر هناك..
في حياته ومنذ أن وجد قصة غريبة، لا أحد يذكر أن له أبا أو أما، وإذا ما جاء ذكره، فإنه ينسب إلى المجهول بحذر، عاش في القرية ربيبا لأسرة متوسطة الحال، فقد وجد في مكان غريب، وفي زمان أغرب.
قال صاحبي:
منذ زمن بعيد، وليل البلدة كلما هبت الريح بشكل غير اعتيادي، وهي غالباً ما تهب ليلا، يشهد حدثا يتكرر باستمرار، كأنه يقع بفعل هجوم وحش مفترس على البلدة، لا أحد يعرف سر هذا الوحش ولا نوعه ولا حتى شكله، لم يره أحد، كان يأتي ليلا، يسطو على الدجاج، يسحب أحيانا في طريقه حملا صغيراً، يعود من حيث أتى دون أن يترك أثراً، إذ تختفي أثاره بعد خطوات قليلة عن البلدة، حتى الرعاة، الذين باتوا يسهرون على قطعانهم، لم يروه أبداً، ورغم أنهم فقدوا بعضا من الخراف الصغيرة في ليالي مختلفة ، إلا أنها لم تتجاوز بضعة خراف على مدى شهر أو ما يزيد، يحدد المهاجم هدفه كلما هبت الريح، يتسلل مع الرمال، ويعود تاركاً آثاراً غريبة حول المكان، سرعان ما تختفي، لقد حار أهل البلدة في أمر هذه الآثار..
كيف يمكن القضاء على هذا المجهول، اتعب السؤال أهل البلدة، كمنوا له في كل الزوايا وفي الطرقات تناوبوا على حراسة الأمكنة التي ظنوا أنه سيهاجمها، لكنه كان دائماً يأتي في المكان الذي لم يحدده الأهالي ، كان يأتي من أماكن مختلفة، يأخذ ما يريد، ثم يمضي دون أن يراه أحد، أما آثاره، فكانت تستمر حتى الطرف الغربي للبلدة، ثم تختفي فجأة، لكأنما تبتلع الأرض، ذلك المجهول.
نسجت حوله الحكايات ، قيل عنه الكثير، فمن قال أنه يأتي طائراً من السماء، يهبط في أطراف البلدة، ثم يتجه نحو هدفه، ويعود إلى نفس المكان الذي هبط فيه، لتختفي آثاره هناك، ومن قال عكس ذلك.. اختلفت الروايات.. قال أحد الرعاة..
كنت ساهرا في حراسة القطيع، فإذا بي أنام فجأة، كأنما أغلقت عيناي بفعل فاعل، عندما صحوت وبالكاد كانت غفوتي لدقائق، وجدت أنني فقدت حملا صغيراً.
قال آخر:
ذات ليلة، وأنا أتطلع نحو الأفق، لمحت وميضاً يلتمع فجأة، كأنما هو كوكب يسقط نحو الأرض، بسملت وسبحت الله على قدرته، فإذ بصوت ارتطام جسم صلب بالأرض، كأنما أصابني بعدها دوار غبت فيه عن وعيي، والأمر لم يستغرق إلا بضع دقائق صحوت بعدها لأجد أن دجاجتين قد اختفتا من ألقن رغم أنني بقربه.
قالت امرأة:
حدثني زوجي ذات ليلة عندما تأخر في العودة على غير عادته، أنه شارك جارنا في حراسة قطيعه، سهرا حتى بعد منتصف الليل. وفجأة خطر على بال جارنا أن يتفقد قطيعه، ويا للهول، وجدا أن حملا صغيراً قد اختفى، ثم وجدا آثاراً ضخمة وغريبة في الجوار، لم يغمض لهما جفن، كيف حدث ذلك، لا أعلم، شككت بالأمر، أحسست أن زوجي يحاول تبرير تأخره، سألت زوجة جارنا فأخبرتني تماما عن ما حدث.. شيء ما.. غريب.. ماذا يحدث هنا؟
قال الشيخ الضرير:
تلك علامات الساعة، ولم يعقب حينها أحد، وإنما سكن الوجوم الوجوه، واتسعت الرهبة بالنفوس، ولم يكسر الصمت سوى شيخ المسجد الذي بدأ بتلاوة بعض آيات الذكر الحكيم، الآثار التي كانت ترتسم في مكان الجريمة، كانت تشبه الآثار البشرية ولكن بشكل ضخم، لكنها خالية من الأصابع على ما يبدو، راقب أهل البلدة مقبرة القرية بعد أن قال أحدهم:
ربما يخرج من جوف الأرض، ويعود إليها.
فتشوا زوايا المقابر ولكن دون جدوى، أما قصاص الأثر الذي اعتاد أن يعمل دليلا للقوافل، فقد كان له رأي مخالف تماما لكل الآثار، لقد أكد ذات مرة، أنه رأى آثاراً مشابهة لما يرى القوم منذ زمن ليس ببعيد، قال أنها آثار وحش ضخم من فصيلة النمور، هذه الفصيلة، كانت تعيش في الصحراء قرب الواحة قبل أن تختفي بفعل الصيد، لعل بقاياها مازال يعيش قريبا منا! هكذا قال.. ورغم غرابة القصة، فقد أراحت نفوس البعض الذين كانوا يخشون وجود العفاريت والجان في المنطقة.. خاصة وبها من الأماكن القديمة المهجورة الكثير.
اجتهد الجميع في وضع الكمائن للمجهول لكن دون جدوى، اكتشف أحدهم، أن آثاره تتجمع تحت شجرة كافور ضخمة هجرها جالسوها بعد أن أصبحت مرقداً للخراف بفعل ظلها الوافر، وكذلك الرعاة، ذات ليلة، وبعد اجتماع رجال البلدة في بيت الشيخ الكبير، تناقشوا ملياً في هذه المصيبة التي حلت بهم، اقترح الرجل الضرير، أن يصنعوا شباكا يضعونها فوق شجرة الكافور، بينما توزع الفخاخ حول الشجرة وفي أسفلها، فما أن يطأها ذلك القادم المفترس، حتى يسقط في الشباك حين تسقط عليه، وينتهي الأمر.
كانت الفكرة مقبولة، فالوحش، يترك آثاره بكثرة تحت تلك الشجرة، وإذا ما احكم الأمر، تمكنوا منه، هكذا استقر رأي القوم.
ينهمك الرجال في صنع الشباك، بينما شرع آخرون بتهيأة الفخاخ، وما أن أذن غروب الشمس، حتى احكم كل شيء كما اقترح الرجل الضرير، توزع الرجال في مجموعات كمنت حول المكان، تسلحوا بالفؤوس والخناجر بانتظار لحظة الانقضاض على الآتي.
كانوا يترقبون، لقد كانت السماء مهيأة لهبوب الريح، ملبدة لكأنما تعاني هي الأخرى من حمى الانتظار، لقد انتظروا أياما، وها هي ليلة تهب فيها الريح بقوة، لقد خبروا الوقت والحالة منذ القدم، هكذا قالت وملامح السماء في تلك الليلة، كان الليل طويلا.. والمسافات، فسحة ضيقة بين الآتي والمنتظر، فسحة باردة جداً، خيم التوتر على الجميع، الأعصاب مشدودة دونما حراك، هبت الريح فجأة، ثم انطلقت أصوات الفخاخ، سقطت الشباك عن الشجرة، متواكبة مع صراخ طفل صغير، طفل حديثة الولادة، لا يزيد عمره عن شهر على الأكثر، توجه الجميع إلى حيث شجرة الكافور تلك، لقد وقع الصيد، أضاءوا ما يحملون من مشاعل، فأضيء المكان برمته، تقدموا من كل الاتجاهات، متحفزون ووجلون في آن، فجأة، توقف الجميع، لقد عقدت الدهشة الألسن، والذهول، ألم بالقوم، لقد كان الصيد طفلاً التفت الشباك حوله، كان يتخبط دون أن يتحرك، لكن الغرابة في الأمر، أنه لم يكن يبكي أو يصرخ رغم ألم الموقف.
يا صاحبي:
لقد كان هذا الطفل.. هو المرقط.
حمل الرجال الطفل، وسط ذهول أطبق على الجميع، ودونما تعليقات إلا ما ندر، اتجهوا إلى بيت الشيخ الكبير، سرى الأمر في القرية مترافقا مع خيال الرواة! انطلقت الألسن تحيك الروايات الغريبة عن هذا الأمر الغريب فعلاً، اما كان من شأن المرقط، فقد تبنته إحدى العائلات، متوسطة الحال، بينما اطلق الشيخ الكبير اسم – النمر- عليه، أما ذلك الوحش الذي أرهب القرية، فقد زعموا أنه لم يعد موجوداً، وأنه اختفى منذ ظهور هذا الطفل، رغم أن البعض، يقسم أنه وكلما هبت الريح بقوة، يسمع همهمة وصراخا قرب شجرة الكافور القديمة، هذا الأمر، زاد من نسج الأساطير حول المرقط، والحالة التي وجد بها.
وحده – الشافي- الرجل الذي ذهب ليستطلع مكمن الشمس، يعرف سر مولد المرقط، وسر وجوده في ذلك المكان الغريب، والزمن الأغرب، لكنه آثر أن يحتفظ بالسر، لم يبح لأحد من سكان القرية بالأمر، والمرقط نفسه لم يكلف نفسه يوما، عناء البحث عن سر مولده، وكيف أتى إلى هذه الدنيا، كان يسخر من الآخرين عندما يحدثونه عن قصة الوحش والشجرة وكيفية العثور عليه، لم يقتنع بهذه القصة رغم إنها رويت له من أكثر من مصدر، لم تدخل حتى إلى مخيلته، والعائلة التي تعهدته، انتقلت إلى المدينة بعد أن توسعت أعمال رجلها، تاركة البيت للمرقط حيث رفض مغادرة البلدة، كان بيتاً كبيراً لم يستخدم منه المرقط سوى غرفة واحدة، أمامه تقبع كومة كبيرة من الحطب القديم، لا يعطي المرقط منها لأحد قط، رغم حبه لمساعدة الآخرين، كان يردد دائما، أنه لن يرفع هذه الكومة من أمام البيت ليوزعها إلا عندما يتزوج.
ازدادت عتمة الكهف، ارتفع عويل الريح بقوة، اقترب المرقط من المرأة، ابتعدت...، أشاحت بوجهها إلى الجهة الأخرى، بدأت تهدهد ظهر الطفل الذي أصر على عدم السكوت.. قال المرقط:
لو كان هنالك ضوء، لقرأت للطفل من كتاب معي.. هل تريدين أن أغني له؟ أعرف أغنية تعجبكما معاً..
لكن المرأة لم تجب، حتى أنها لم تتطلع إليه وهو يحادثها.. ارتفع صوت الشايب مستدعيا المرقط.
هلا أتيت وجلست بجانبي؟ أشعر برغبة في الحديث، الجمع هنا ليس كما أنت، هيا تعال!
نهض المرقط متثاقلاً، اقتعد أرض الكهف مجاوراً الشايب.
الوادي،، والغريب
"وحين نستريح إلى الخرافة،، تتسع مسافات الجهل فنيا"!
بين فترة وأخرى، كانت البلدة تواجه مشكلة ما.. لكنها سرعان ما تتغلب عليها، لكنها في هذه المرة، واجهت مشكلة لم يسبق وأن حدثت من قبل، فقد نزل في الوادي القريب، جيش مدجج بالسلاح، آتيا من الشاطئ الآخر، تمترس هناك، هكذا قال أحد الشبان الذين شاهدوا الجنود، وقد فهم الشاب، الذي تظاهر بأنه أحد الرعاة، بأنهم أقاموا معسكرا للتدريب، فالمنطقة جيدة، وتقع في طريق القوافل، إضافة إلى وفرة الماء الذي لا ينقطع طيلة العام، بسبب مرور جدول يعبر الوادي، وقد قال الشاب أيضا، إن المشكلة قادمة لا محالة، فقد سمع من أحد الجنود، أنهم سيعتمدون على البلدة وسكانها في تأمين حاجياتهم من الزاد وخلافه..
ومنذ اليوم الأول لوصولهم، ساد التوتر القرية، فلكل شيء حساب، توجه الرجال للاجتماع في بيت الشيخ الكبير، إلا أن الشيخ، طمأنهم قائلا:
لا يمكن معرفة نواياهم إلا بعد حين..
وحين أزف موعد الحين تلك، فوجئ أهل البلدة وفي اليوم الثاني بضابط كبير، يرافقه اثنان من العساكر يدخلون ساحة البلدة، كانوا في كامل هيئتهم العسكرية، وفيما كان الضابط يمتطي حصانا، كان العسكريان، يهرولان إلى جانبه وهما يحملان البنادق.
تبعهم الرجال، ركض الصبية ورائهم، بينما توجه أحدهم ليخبر الشيخ بقدومهم، والضابط، لم يلق بالا للتجمع الذي التف حول حصانه، وحين وصل إلى مدخل الشيخ الكبير، كان الأخير يقف بقامته المديدة مرحباً بالضيوف، وإلى يمينه، يقف ولده مسعود الذي يتهيأ لخلافة والده، بينما يقف إلى اليسار خادمه العجوز الذي يرافقه باستمرار، فيما يقال أنه يعمل مستشارا له.
تقدم الضابط بعد أن ترجل عن حصانه، وقف في مواجهة الشيخ دون أن تبدو على قسماته أية علامات ودية، انحبست أنفاس الحاضرين، فالضابط لم يقبل يد الشيخ حين مدها باتجاهه، حتى أنه لم يصافحه، وضع يده على مقبض سيف مرصع كان يتدلى من وسطه، وتصادمت الكلمات والنظرات وما تفاعل داخل الرجلان اللذان أصبحا ومن أول وهلة كأنما هم في حالة مواجهة.
– إننا نقيم معسكراً قريباً.. نود أن نتعاون معاً..
ابتسم الشيخ أمام دهشة الحاضرين، الدهشة التي ارتسمت على وجوه القوم الذين خبروا طبع الشيخ، خاصة وأن الضابط لم يقبل يده كما جرت العادة، والشيخ لا يمكن أن ينسى ما يعتبره إساءة له، فلماذا الابتسام إذاً؟ إن العسكري الغريب لم يقبل يد الشيخ، إنها المرة الأولى ربما في حياة أهل القرية، لكن الشيخ دعاهم إلى الجلوس مشيراً إلى ركن في الساحة، لا يستخدم عادة إلا لجلوسه أو لجلوس ولده الشيخ الصغير.
– نحن كثيروا العدد..
استرسل الضابط بالكلام دون أن يتوجه للجلوس في المكان الذي أشار إليه الشيخ.
– وبحاجة إلى تموين يومي، الخبز واللبن واللحم والخضار وخلاف ذلك، نريد ذلك صباح كل يوم، سيأتي عساكري هؤلاء – مشيراًُ إلى من معه- ليأخذوا ما جهزتهم، يجب أن يكون التموين كافياً، هل فهمتم..
توتر المكان، كانت الأنظار تتجه نحو الشيخ، إلا أنه عاود الابتسام، فيما أكمل الضابط:
– إننا نعد بالمئات، وبالمناسبة، إن أي تأخير في ذلك، يجعلنا نتصرف بشكل آخر، أيها الشيخ لا تنسى ذلك:
استدار الضابط، وامتطى حصانه، لكنه قبل أن يتحرك، بدا عليه وقد تذكر شيئاً، التفت إلى حيث يقف الشيخ، ثم فرقع الهواء بسوط كان يحمله وقال:
– نحن بحاجة لبضعة خراف كل أسبوع، ترسلونها لنا كل نهاية يوم السبت، لنقل عشرة خراف على الأقل.
لكن حصانه بقدميه، ...... السوط وهو يضرب الهواء مرة أخرى، لوى عنق الحصان حيث الوادي، ثم سار على مهل، كأنما هو عائد من معركة انتصر بها، يهرول العسكريان اللذان معه إلى جانب الحصان.
كانت عيون القوم – تتابع حوافز الحصان التي ترسل خلفها ذرات التراب، وحين اختفى عند الأفق، استبدلت العيون اتجاهها باتجاه الشيخ الكبير، دون أن يتحرك أحد، كأنما الناس تسمرت في المكان، والكل، كان يغالب الرغبة في الحديث، لكن أحداً لم يكن ليجرؤ على هذا الفعل أمام صمت الشيخ الكبير، والشيخ الكبير، ظل هو أيضا في المكان يحدق نحو البعيد، لحظات، ثم اتجه إلى مكانه المعتاد دون أن يتكلم، وجلس هناك، قدم له الخادم العجوز كوباً من الشاي الذي سبق وأن أعد للضيوف، لكنه لم يمدد يده لتناوله، نظر إلى الخادم نظرة أرجعته إلى الخلف.. والحاضرون، جلسوا هم أيضاً في مساحة المكان، ينتظرون رأي الشيخ، وعندما لم يتحدث، ...... أحدهم قائلا:
– ماذا سنفعل؟
خيم الوجل على بعض الوجوه، فالمتحدث وعلى غير العادة لم يستأذن.
– وهل لديكم اقتراحات تخرجنا من هذه الورطة؟ ألا ترون أسلحتهم؟ إنهم جادون بالطلب كما رأيتم وسمعتم، أرى أن نقوم بتلبية طلباتهم، بينما سأرسل إلى والي المدينة من يعلمه بالأمر، ربما سنجد حلا سريعاً، إنني متأكد أن الأمر لن يطول، قال الشيخ ذلك ثم التفت إلى ولده مسعود، كان إلى جانبه، وبصوت أمر قال له:
– جهز نفسك للتوجه إلى المدينة ومقابلة الوالي..
همهم الجمع في تذمر، ثم ساد الصمت، فيما تابع الشيخ:
– وبانتظار عودة ولدنا بعد مقابلة الوالي، علينا أن نرتب أمورنا على أساس تقديم ما يحتاجونه، أعتقد أنها أيام ليس إلا، فالوالي، لم يسمح بهذه الأمور، سأضع قائمة بطلبات العسكر موزعة على أهل القرية، يجب أن يشارك الجميع ويتعاون، ستوزع المصيبة كل حسب تحمله، وسأدون نصيب كل واحد من هذا العبء، عليكم بالعودة إلى أعمالكم الآن، سنلتقي في المساء، لنرتب أمورنا في ظل ما حدث.
في تلك الليلة، سهرت البلدة حتى الصباح، ولا حديث سوى ما جرى في الساحة، وكيف جرؤ الضابط على كسر الطقوس بعدم تقبيل يد الشيخ الكبير، وفي نفس الوقت، كان الجميع يفكر في كيفية تأمين ما فرض عليه من أتاوة ليحملها إلى الساحة فجر الغد، فالمصيبة مشتركة، والحمل ثقيل.
على غير عادته، كان الشيخ قد بكرّ إلى الساحة يراقب التجهيزات التي سترسل للعساكر، امتلأت الساحة بالرجال الذين حضروا وهم يحملون ما فرض عليهم لكي يقتطعوه من قوت عيالهم، لا مجال للعبث، فكلام الضابط كان واضحاً، يجب تأمين كل شيء، والمرقط كان يراقب ما يحدث دون تدخل، حتى ان اسمه لم يرد في قائمة من كلف بالعمل، أسر في نفسه شيئاً كان واضحاً على محياه، تقدم إلى الشيخ مخاطباً إياه..
– دعني احملها لهم، فأنا أعرف جيداً، ثم لا داعي لحضور العسكر إلى هنا كل يوم.
ومرة أخرى، تتكسر الطقوس المتبعة في مخاطبة الشيخ الكبير، وفي أقل من يومين، بان الغضب على وجه الشيخ، هذا الغضب لم يكن بسبب ما اقترحه المرقط، بل لأن المرقط لم يقبل يد الشيخ الذي تذكر أن الضابط فعلها أيضاً، لقد كسرت هيبته أمام القوم، وهاهو المرقط، هذا اللقيط، يكرر العملية نفسها، من يدري!! ربما سيفعلها آخرون، كان الشيخ يحادث نفسه، لكنه تمالك مشاعره حين غرق في التفكير، لحظات ورفع رأسه قائلاً:
إنها فكرة طيبة، أذهب إلى الإسطبل، وأختر من البغال اثنين، أعتقد أنهما يكفيان للحمولة، أذهب واحضرهما، سيكون كل شيء معد عند عودتك.
انطلق المرقط إلى الإسطبل، احضر البغال التي حملت على الفور، ثم انطلق بها باتجاه الوادي، بينما كانت نظرات الجمع ترمقه بدهشة بالغة، أطال النظر بهم جميعا قبل أن يتحرك، كانت عيناه تدوران في كل اتجاه، كأنما يحصي عدد الحضور، تابعه الجمع حتى غاب عن الأنظار، اختفى حين وصل بحمولته المنحدر القريب من الساحة، والمسافات أصبحت غائبة ومعقدة بفعل ما حدث.
رجل الظل.. فوق حبل التوازن!
ليس هناك أخيار وأشرار..
هناك بشر!
يحتل الوادي الذي خيم فيه العسكر، مساحة صغيرة بين جبلين، لكنها مساحة متسعة في عرضها، قليلة الطول، امتلأ على جانبيه الشمالي والجنوبي بالكهوف، بينما ترتفع صخور ضخمة من ناحيته الشرقية، تكاد تسد الوادي لولا ممر بدا وكأنه منحوت بفعل آدمي.
ليس بالوادي أشجار ذو قيمة، لكنه مليء بشجيرات العليق الصغيرة، وببعض الأنواع الأخرى التي تنبت عادة في مثل هذه الأماكن، يسمى أحياناً بوادي الأرانب لكثرة الأرانب فيه، وأحياناً أخرى بوادي الأفاعي، لكن التسمية الأولى هي المستخدمة في غالب الأحيان، ترتاده حيوانات الصحراء أحياناً، يصادف أن يأتيه قطيع من الغزلان طلباً للماء، يقول أهل القرية:
إن ما به من أفاع يفوق عدد حجارته، ولو هاجمت هذه الإفاعي البلدة ذات يوم، لما أبقت حياً فيها، لكنها لن تهاجم البلدة بالتأكيد، يروون:
منذ زمن بعيد، سكن الجبل شيخ عجوز، أقام صداقة مع أفاعي الوادي، ولما كان أهل البلدة قد تكفلوا بمعيشته تبركاً به، فإنه أمر الأفاعي بعدم الاقتراب من البلدة، لكنه كان يردد:
سيأتي يوم، وسيفلت الأمر من يدي، إن هذا متوقف على فعل البشر.
وبالرغم من الحديث عن الأفاعي، فلم يسبق لأحد أن شاهد أفعى أو ثعبان، حتى ولا رعاة المواشي الذين يترددون على الوادي بشكل متواصل.
القطط لها مكانها أيضاً في الوادي، ولهذا قصة أخرى، يقولون:
إن جد الشيخ الكبير كان محباً للقطط، وقد أحضر زوجين منها إلى بيته في البلدة، كان يعاملهما معاملة خاصة، وما أن فارق الحياة، حتى رفضت القطط البقاء في البيت، فرت إلى الوادي، ويبدو أنهما تناسلا هناك، حيث أنجبا مجتمعاً برياً خاصاً ملأ الوادي.
يقولون أيضاً:
إن هذه القطط، كان لها فضل كبير على أهل البلدة، لقد كان الشيخ الجد، فطناً حين أحضرها فالبلدة منذ ذلك الحين، خالية من الفئران، لقد كانت الفئران قبل أن يأتي الشيخ الجد بقطيه، تعبث فساداً في المحاصيل، خاصة في مواسم الحصاد.
بالوادي جدول يتكون من عدة ينابيع صغيرة، متناثرة بين شقوق الجبل، تتجمع في أسفله عبر طريق خطته منذ زمن بعيد، لتشكل ممراً حفر بدقة بين الصخور، يبدأ قوياً بفعل تكوينه كشلال صغير يقع فوق المنحدر الذي يشكل التقاء الينابيع، ثم ينطلق ضيقاً، يتسع في الوسط، مكونة بركة واسعة، ثم يخرج منها ليضيق مرة أخرى حتى يصل إلى طرف الجبل الغربي، حين يختفي هناك بين الصخور، يغور في الأرض، يسير مسافة طويلة في باطنها قبل أن يعود مرة أخرى للظهور على أطراف الواحة، هكذا يتحدثون رغم أن الواحة لا تقع في طريقه، بل تقع باتجاه مغاير تماماً.
الطيور بأنواع متعددة تحط هناك، خاصة تلك التي تستخدم الوادي طريقاً في هجرتها، وفي رحلة الذهاب والإياب. تستريح قرب الجدول، الوادي محطة استراحة وعبور، أما أكثر أصنافها فهو الأوز البري، ويقال أن بعضه استقر بالوادي، وقد قيل أن سبب ذلك، يعود لأول زوجين حطا هناك بعد أن تركا سربهما المهاجر، كان ذلك عندما أصيبت الأنثى من قبل صياد عابر، ظلت تحاول الطيران دون جدوى، فقد اعيتها الإصابة، حطت على الجبل حيث حط الذكر معها هناك، ويبدو أنهما استقرا وتكاثرا، ورغم الصيادين، فقد بقي الأوز مقيماً في الوادي، يزداد كل موسم.
العساكر،، نصبت خيامها بشكل أفقي قرب الجدول من ناحيتيه، كانت الخيام جميعاً متساوية في الطول والعرض والارتفاع، باستثناء اثنيتين، أحداها للضابط، والثانية لاستخدامها كمستودع للتخزين، يدل على ذلك اسراب الطيور التي تدخل إليها وتخرج، بل إن بعضها قد استقر هناك لوفرة الطعام، أما المطبخ، فقد خصص له كهف يقع في أسفل الجبل، يبعد مسافة لا بأس بها عن الخيام، رصت أمامه في السفح المنبسط، موائد ومقاعد تستخدم للراحة وفي أوقات الطعام، كما نصبت بجانبه أيضاً عدة مواقد، اتجه المرقط بحمولته إلى حيث الكهف، أنزل الحمولة أمامه، لم يتقدم أحد لمساعدته، بل إن أحداً من الجند لم يلتفت إليه، عبر متعمداً مدخل الوادي ليمر على صفي الخيام المنصوبة على جانبي الجدول، كان يمكنه أن يختصر الطريق، فهنالك ممر منفرد يفضي إلى الكهف مباشرة دون المرور بالخيام.
كان الكل مشغولا بترتيب مكان إقامته، البعض يجمع الحجارة من الأطراف لتثبيت الخيام من حوافها حتى لا تتعامل معها الريح بقسوة، آخرون كانوا يهيئون قناديل الزيت للإضاءة، والجنديان اللذان رافقا الضابط بالأمس، شاهدا المرقط، استغربا مجيئه، تحادثا بصوت هامس، فقد كانا يتهيأن للذهاب إلى القرية وإحضار الحمولة التي جاء بها المرقط، ومع ذلك، فقد بدا عليهما السرور لقد وفر عليهما المرقط مؤونة التعب ومشقة المسافة، كانوا يخافون الصدام الذي قد يحدث ربما!! مع الأهالي، كان أمراً محتملاً..
قال الذي يجيد لغة أهل المكان..
حسنا فعلت، أفعل ذلك يومياً..
سمع الضابط الحديث، كان قد نهض من نومه للتو، خرج مستغرباً، فاللغة التي سمعها لا يتحدث بها سوى جندي واحد، وهي لغة أهل القرية، فمع من يتحدث؟ تساءل في نفسه، لكنه حين رأى الحمولة والمرقط، فهم الأمر.. هز رأسه استحساناً وقال بصوت مسموع:
لقد أحسن الشيخ صنعاً، يبدو أن الرجل متفهم للأمر بشكل جيد، إنه لا يريد أن يرانا في قريته تحسباً لوقوع المشاكل.. حسناً.. نحن كذلك لا نود رؤيته..!
أمسك بكتفي المرقط، ثم أدار وجهه إلى ناحيته، نظر إليه نظرة فاحصة، تقابل الرجلان، كان المرقط يبتسم دونما وجل، بينما علت الحيرة وجه الضابط..
قال مخاطباً الجندي:
هذا جيد، قل له أن يفعل ذلك يومياً، يبدو أبلهاً، لكن لا بأس.. إنه لطيف.. ردد الجندي ما أمره الضابط أن يقول.. ثم سأل المرقط عن اسمه..
اسمي المرقط..
لقط الجندي الاسم كما سمعه، لكن عاد وترجم المعنى للاسم.. نظر الجميع إلى بعضهم، ثم أصابتهم نوبة من الضحك.. كانوا يشيرون إلى وجه المرقط وهم يضحكون..
فهمت!!
حين بدأ الجنود بإنزال الحمولة التي أحضرها المرقط، جلس الضابط معه محاولاً سبر أغواره واكتشاف الهدف من مجيئه، قدم له شراباً ما أن تناوله المرقط حتى أصيب بنوبة من السعال الحاد، ذلك أنه لم يكن متعوداً على تناول المسكرات.. قال المرقط:
يا له من شراب غريب، إنه قوي رغم حلاوته.
هكذا في المرة الأولى دائماً، ولكن لنجرب مرة أخرى.
صب له كأساً أخرى، تناولها المرقط على دفعات، مرت دونما سعال، تناول المرقط كاسا ثالثاً، أحس بالنار تكاد تخرج من وجهه، تلمس وجنتيه، تألقت عيناه تألقاً غريباً، فجأة انفجر بضحك متواصل، استغرب الضابط الأمر، لكنه تجاوب مع ضحكات المرقط، وعندما سكن قليلاً بادره السؤال:
ماذا تعمل؟
أغني!
فقط.. أسمعنا إذن ما تعرف.
كانت الخمرة قد بدأت تأخذ مفعولها ببطء، أحس المرقط بدوار خفيف، تماسك حين ارتفعت عقيرته بالغناء، فيما كان الجندي الذي يعرف لغته يترجم كل ما يقوله للضابط.. ناوله أحد الجنود طبلاً فبدأ بالتعامل معه حيث أجاد استخدامه، رقص الجميع، شربوا، تبادلوا الأنخاب، قال الضابط حين تعب الجمع:
يا لك من مسلٍ، يمكنك البقاء بيننا، ما عليك سوى الذهاب إلى القرية صباحاً لإحضار الحمولة، استخدم هذه الخيمة لإقامتك، وستنام هناك برفقة صاحبك، مشيراً إلى المترجم.
سر المرقط بهذه الثقة السريعة، معتبراً أنه قطع نصف المسافة ليصل إلى ما يريد.
أيام مضت، والمرقط يقوم بعمله خير قيام، أما في ليالي المعسكر، فقد أصبح لا غنى عنه، فهو النديم المفضل لدى الضابط، والمطرب صاحب الصوت الذي أحبه الجميع، وفي الخيمة التي أقام بها مع المترجم، دأب بجهد كبير يلتقط لغة القوم، قراءة وحديثاً، وبسهولة وبسرعة، أجتاز المراحل الأولى من تعلمه للغتهم، ثم بدأ باستخدام اللغة مع الجميع، كانوا يضحكون عليه حين تخرج ألفاظه مختلفة، لكنه كان دؤوباً، سبر أغوار اللغة بكل جوانبها، وهكذا وبأقل من شهر وبضعة أيام، كان المرقط يقترب كثيراً من إجادة لغة الأغراب الذين وفدوا إلى أرضه دونما إنذار مسبق.
ازداد تعلق الضابط به، خاصة حين غنى ذات ليلة بلغتهم، أغنية اسمعه إياها المترجم الذي يقيم معه، كانت أغنية تحمل في طياتها شجون الغربة والغياب، مليئة بالعواطف، لقد دفعتهم إلى حيز الذكريات، والمرقط، أغدق عليها من صوته الكثير، حتى أصبحت مطلباً تغنى كل ليلة، وهكذا كان شأن المرقط في المعسكر، أما في القرية، فقد كان الأمر مختلفاً، فالجميع يتجنب لقاء المرقط حين كان يأتي كل صباح لأخذ حمولة بغال التموين للمعسكر، يبدأ الهمس حوله بمجرد وصوله، ولا ينتهي حتى بعد مغادرته للقرية، يستكمل في الأزقة والبيوت، يلاحق المرقط بالنظرات الغاضبة، والجميع يتجنب الاقتراب منه، محاصر باستمرار، اعتبره أهل القرية جاسوساً للضابط وللأغراب، حتى الأطفال الذين تعودا على مداعباته، ابتعدوا عنه، لكنه كان يتحمل كل ذلك دونما إشارة إلى تذمر أو غضب.
ثقيلة جداً مضت الأيام، لقد كبرت بها الهموم، والحمل الذي فرض على القرية، حمل لا طاقة لها به، ولكن ما العمل؟ إنهم لا يملكون سوى الطاعة والإذعان، تذمروا بادئ الأمر، شكوا معاناتهم للشيخ الكبير ثم استكانوا تدريجياً، أصبحت عادة اقتطاع جزء من حاجياتهم بشكل يومي، عادة لابد منها، لقد أدركوا أنه لا فائدة من التذمر، وأنهم لن يستطيعوا فعل أي شيء إزاء ما يحدث، لذلك، فقد صبوا جسام غضبهم على المرقط، وحتى الوالي الذي قابله ابن الشيخ الكبير في المدينة، وعد خيراً، لكن الخير لم يأت، والحال، كانت تزداد من سيء إلى أسوأ، أيقنوا أن لا أمل بوعد الوالي، صبوا لعناتهم على لقيط القرية، تذكروا حكايته، نعتوه بشتى الألقاب السيئة، اقترح أحدهم أن يحرقوا له بيته بكومة الحطب التي ترقد أمامه، لكن خوفهم من عواقب الأمر، منعهم من ذلك.
استشاروا الشافي بالأمر، أشار عليهم بالتريث، قال أن المرقط من أصل طيب ولاشك، إنه يخطط لشيء ما، ربما لا يريد أن يأتي العسكر إلى هنا، فيتحرشوا بالنساء، ويسيئوا معاملة الرجال، لكنهم لم يقتنعوا بالأمر، وبالمقابل، لم يفعلوا شيئاً، فالمسألة صعبة، لابد وأن المرقط سيحرض الجنود على الانتقام منهم فيما لو فعلوا ضده أي شيء، إنه صديق للضابط، لقد قرروا الانتظار، تاركين للزمن ما..... التي تجدي أحياناً.
أسابيع طويلة مضت، والحالة تزداد سوءاً، لقد عم الضيق القرية بعد أن شحت الموارد، وأصبح ما يتبقى لأهل القرية بعد تلبية طلبات العسكر، يكاد أن يسد الرمق بالكاد، هذه الحالة عمقت حالة التضامن القائمة أصلاً، تقاسم الجميع ما تنتج الأرض، لم يعد للسهر في ساحة القرية طعم الفرح، حتى الشبان الذين تواعدوا على الزواج في موسم الحصاد، صرفوا النظر عن الموضوع، كانت الأسابيع تلك كفيلة لان تقلب حياة القرية رأسا على عقب، ما العمل إذن؟
سؤال كان يلح على الجميع، يضايقهم، يستفزهم، والوالي لم يتحرك بعد، فهموا ان اضطرابات كبيرة تحدث في المدينة، والناس هناك في ضيق شديد، حتى ان الوالي فرض حصارا تحسبا للاضطرابات، أعلن حالة الطوارئ، العساكر تملأ الساحات، ربما يسحب الوالي العساكر من الوادي!!، لكن ذلك لم يحدث، لا أمل إذن!!
شيخ القرية ترك عادة السهر، انزوى في منزله بعد ان أصيب بحالة من الاكتئاب، تنتابه نوبات عصبية بين الحين والآخر، أصبح سريع الغضب، يثور لأتفه الأسباب، آثر الابتعاد عن الناس، تاركا لولده مهمة تصريف أمور القرية ومن فيها.. لقد خذله الوالي، رغم أنه كان يظن غير ذلك، لكنه لم يعرف، أن في البلدة البعيدة هناك، كانت تجري أحداث أخرى أشد هولا وقسوة مما جرى في قريته.
ذات ليلة وقبل أن ينتصف الليل بقليل، سمع الشيخ طرقا على باب البيت، استغرب ذلك، فأهل القرية ومنذ تلك المصيبة التي حلت بهم، ينامون باكرا، ليس هنالك سبب مباشر لذلك سوى ما حدث، ومع ذلك، فما ان تأذن الشمس بالمغيب حتى تغلق أبواب البيوت بالمزاليج، وهي التي لم تكن تستخدم من قبل، ينزوي الرجال في بيوتهم، لا بل ان بعضهم وزيادة في الحرص، انشأ سياجا حول البيت، والبعض الآخر أقام سورا من الحجارة، ولأول مرة في تاريخ القرية، تستخدم الكلاب للحراسة بعد ان اقتصرت مهمتها في السابق لمرافقة قطعان المواشي، أما الرعاة، فقد أصبحوا ينامون مع قطعانهم.
– من يا ترى الطارق في هذه الساعة من الليل؟
قالها الشيخ بصوت مسموع، واتجه بنفسه إلى الباب الخارجي، فتح الباب بحذر شديد، أطل من الفرجة، بانت الدهشة على وجهه، يا للعجب، انه المرقط !.
– أنت.! ماذا تريد؟، هيا اذهب من هنا.
قالها الشيخ في غضب وتوتر لكن المرقط أجاب:
– أريدك في أمر هام.
– ماذا؟ هل أصبحت رسولا للعسكر؟.
– لا، ليس هذا، دعني ادخل، لا أريد ان براني احد.
– بالطبع، ولكنني أريد ان يراك الجميع وأنا القي بك خارج هذا الباب، لا بل خارج القرية.
– اسمع، لست بحاجة إلى أية مشكلة، اسمعني قبل ان تفعل أي شئ، إنني لست كما تظن!
– ومن تكون سوى مجرد جاسوس باع نفسه للشيطان؟
– بربك لن تخسر شيئا إذا سمعتني، انظر، لم يرني احد وأنا قادم إليك، لقد توخيت الحذر تماما، فالأمر كما قلت لك، لا يحتمل غضبك، ثم انظر الي جيدا، هل يبدو علي إنني أريد بك شرا؟ هل تخافني؟
استفزت الكلمات الأخيرة الشيخ الكبير، أشار للمرقط بالدخول قائلا:
– أنا لا أخشى إلا الله، من أنت حتى أخشاك؟ ادخل وسنرى ماذا تريد، لكن لا تطل، فلست ممن يعشقون سماع صوتك الجميل.
كانت نبرات صوت الشيخ تميل إلى السخرية، لكن المرقط الذي رسم خطته، اضطر إلى التحمل، ولج إلى داخل الدار، كانت ساحة البيت فارغة، والمواقد قد خلت من النار والحطب، استقر الرماد فيها لقلة الاستخدام..
– اخلع نعليك، أنسيت أين أنت؟ لقد أنسوك ذلك قالها الشيخ بغضب، تمالك المرقط نفسه، خلع نعليه وهو يردد:
– لا تؤاخذني، تعودت ان أنام بها أحيانا.
جلس المرقط على البساط، لم يقدم له الشيخ أريكة كما اعتاد مع ضيوفه، ومع ذلك، فقد جلس المرقط معتدلا واثقا من نفسه قائلا:
– اسمع أيها الشيخ الطيب، أنا اعرف انك تختلف عن الآخرين، فأنت تزن الأمور جيدا، ولذلك ستفهمني جيدا، إن التجربة علمتك الكثير فلا تظلمني..
كانت الريبة تملأ نظرات الشيخ الكبير الذي آثر الاستماع دونما تعليق، اكتفى بهز رأسه أحيانا، لكن المرقط، ورغم عدم تجاوب الشيخ الكبير استرسل قائلا:
– لقد فعلت كل ذلك لمصلحتنا جميعا، إذ لا يمكن أن نقهر عدوا لنا ما لم نعرف عنه كل شئ، صحيح أنني استفدت بعض الشئ هناك، تعلمت لغة جديدة، حصلت على بعض القطع الذهبية، لكن ذلك لم يكن هدفي..
ضحك الشيخ ساخرا وقال:
– وما هدفك إذا؟
– الأحاديث التي تروى عن الممالك البعيدة، الجيوش التي تحارب، المنتصرة منها والمهزومة، تغير أقدار الحاكمين، كل ذلك علمني ان النتيجة النهائية يقررها من يملك الإرادة والصبر، خاصة إذا كان صاحب حق، الشعب يا سيدي انه إذا امتلك إرادة القتال، فان جيوشا مثل تلك التي في الوادي، تفر هاربة أمامه، صدقني، أنهم مجرد مرتزقة، نحن أبناء هذه الأرض..
الوطن يا سيدي، أصدقك القول، إننا نستطيع فعل الكثير.
بانت أسنان الشيخ الصفراء، حين ارتسمت على شفتاه ابتسامة ساخرة، قال في نفسه:
– أية تمثيلية هذه التي يود المرقط تمريرها عليه.. ربما يريد توريطه بشئ ما، ربما يسعى لمنصب شيخ القرية بمساعدة العساكر الذين قدموا من بعيد، تنهد وقال:
– لقد أصبح المنصب حقيرا..
لم يفهم المرقط ماذا يعني ذلك، حاول أن يتكلم، لكن الشيخ أكمل قائلا:
– حسنا.. ثم ماذا بعد؟
– إن في الوادي تسع وتسعون رجلا فقط، هم يدعون أنهم أكثر من ذلك، يملكون سبعون بندقية فقط، يحملها سبعون عسكريا، بينما الباقي هم مجموعة تقوم على خدمتهم، أنهم من أسرى الحروب السابقة لا يمتون إلى العساكر بصلة وهؤلاء لا يحسب لهم حساب، بل على العكس من ذلك، لقد استطعت استمالتهم إلى جانبي، وهم على أتم الاستعداد لعمل أي شئ حتى يتخلصوا منهم جميعا، الإرادة ما نحتاج، أقسم لك أنني صادق، لقد خططت لذلك منذ البداية، كنت غير واثق من النجاح، لكن ما رأيته هناك، أعطاني أملا لتحقيق ما أفكر به، أنت تعرف أنني أدخل وأخرج متى أشاء، أشاركهم الطعام والشراب، أعرف تفاصيل حياتهم اليومية، أحصي عليهم أنفاسهم، مواعيد الحراسة، جدول المناوبات، والتبديل، الأماكن، مخازن الذخيرة، متى ينامون، أعرف كل شئ..
كان المرقط مسترسلا بكلامه، وقد بانت عليه الانفعالات، لكن الشيخ، كان يخشى العاقبة، لقد قرر عدم التسرع، قال:
– حسنا، أتمنى لو تكون صادقا، دعني أفكر بالأمر، إن ما تريده يتعلق بحياة أهل القرية كلها ثم إن عواقب الفشل، لا يعلمها إلا الله..
– لن نفشل!.
قال المرقط، لكن الشيخ تابع قائلا:
– إنهم مسلحون، ونحن لا نملك من السلاح شيئا، بضعة بنادق قديمة لا تفي بالمطلوب، لك أحلام أيها النمر ليس لها حدود، رأيتها تلك الليلة حين نظرت إلى عينيك، ما رأيته يوم التقطناك من تحت تلك الشجرة، أنا لن أنسى تلك الليلة، إنني لا أستطيع تفسير ذلك، أشعر بأن على أن أصدقك، أمهلني ثلاثة أيام، عد إلى بعدها، وسنرى ما يكون..
– حسنا الأمر بيدك الآن.
– ما أن أشعر بأنك تخدعني، حتى أقتلك بيدي هاتين..
فتح الشيخ كفيه، أمسك بهما المرقط، قبلهما شعر الشيخ بمرارة عواطف المرقط، أفلتت دمعة من عينيه، أشاح بوجهه جانبا حتى لا يحس المرقط بضعفه، بينما انطلق الأخير عائدا من حيث أتى، كان ساهم الفكر شارد البال، استذكر اللقاء، لفت نظره أن الشيخ يناديه باسمه لأول مرة منذ زمن بعيد، أحس بصوته يعلو وحيدا..
أجل قال أيها النمر.. مرتين..