المسافات الباردة - رواية زكريا شاهين - قسم 9 والأخيرة
نزل المرقط من السيارة، بينما أعطى الوالي إشارة إلى الجند الذين صعدوا إلى الشاحنات، ثم انطلق الركب باتجاه المدينة من جديد، فيما كانت عيون القوم تحدق في المرقط الذي التف حوله الرجال مستفسرين الأمر..
لم يكن الوالي مسعود بحاجة إلا إلى مثل هذه العاصفة التي اقتلعت بيوت الفقراء وشردت جموع الكادحين الذين لم يقووا على مقاومتها.. كان قد أدرك أن الوقت قد حان لبناء مدينته المميزة، مدينة مفتوحة للتجارة واللهو والسياحة، كان يسميها في أحلامه - جنة المدن- وعلى هذا الأساس، كان يخطط منذ زمن بعيد لطرد ما يسميهم بالغرباء إلى الخارج، ورغم إحساسه بأنه قد يحتاجهم في عملية إعادة البناء، إلا أن مستشاريه، أشاروا عليه أن يبعدهم عن المدينة، وحين يفرق شملهم، ويسقطون أسرى الحاجة، فإنهم سيتحولون إلى عمالة رخيصة من الجوعى والمحتاجين، والذين يمكن استخدامهم بأقل ما يمكن من الأجرة..
أقتنع بذلك، وحين القدر وقف إلى جانبه عندما تحالفت أفكار الوالي وعاصفة الأمس، أصبح الوقت مهيئاً لذلك..
الرحيل إلى المنافي
اقتعدوا الأرض، متلهفين لمعرفة ما حدث، فجأة، قال أحدهم:
كأنما هي إرادة الله أن نكون هنا ولا نشاهد ما حدث..
قال الشيخ الضرير:
لقد أنقدنا حتى برحيله..
لعله كان يحس بأن الإعصار قادم!
قالت صالحة:
ويلي عليه.. لقد كان متلهفا للرحيل..
قال الملتحي:
لم يتطلع إلى الخلف أبداً، كنت أراقبه، ولكنه لم يفعل ذلك!
تساءل الشيخ الضرير..
لماذا لم يعد راجح؟
ولما لم يسمع أية إجابة أردف قائلاً:
ربما كان في العاصفة، من يدري؟
بدأت خيوط الشمس بالتسلل، تكونت نتف من الضوء اقتحمت الضباب الذي خلفته العاصفة، رويداً رويداً وإذ بالجبل كأنما يستحم مع الشمس، ويستعيد حالته التي كانت تكاد أن تختفي وسط ما حدث.. حدق القوم في البعيد باتجاه المدينة، كانت ارتال من البشر تصعد المرتفع، وهي لا تكاد تعي وقع أقدامها.. مجموعات متفرقة ومتجمعة في آن، لكأنما هنالك دفع من الخلف، يلهب أقدامها للوصول إلى الجبل.. كانت الجموع تقترب، والمسافات تضيق، مسافات باردة جداً، فالمسيرة، ورغم اقترابها، بدت وكأنما تراوح المكان، عوت كلاب كانت تسير خلف الجموع، كان الصمت يلف القادمين إلا من بعض الهمهمات التي تنفس الصدور من التعب، أو صوت ارتطام الأقدام بصخور الجبل، وتدحرج بعض الحجارة باتجاه الوادي..
لم يخلفوا ورائهم سوى الخراب.. والعاصفة، التي استولت على أركان المدينة الأربع، كانت قد دفعت بغبارها وسرعة تحركها وما استقدمته من صخور وبقايا أشجار إلى كل الأنحاء، لم توفر بيتاً ولا زقاقاً ولا شجرة، تعاملت مع كل ما هو كائن هناك، كانت قسوتها بحجم غرابة الاحتفال الذي دشنه الوالي بالجثث، ومع ذلك، فهي لم تفعل فعلها سوى بالبيوت المتهدمة أصلاً بفعل الحفر في الأساسات بحثاً عن الثروة، والبيوت الطينية القديمة التي خلفتها بقايا الانتقال عبر القرية السابقة إلى تطور المدينة، بينما تضررت البيوت والنباتات الحديثة، لكنها لم تسقط، اعتصم سكانها بداخلها وهم الذين يصنفون أنفسهم من النخبة، ظلوا قابعين بداخلها حتى انتهاء العاصفة، أما سكان الأحياء والبيوت الفقيرة والمتداعية، فقد انطلقوا وجلين مذعورين باتجاه الجبل حيث كان الجمع الذي ودع الشافي يطل عليهم من هناك..
كان الرتل يقترب، والمسافة تضيق، عندما تبين للجمع، أن الآتون من المدينة، لا يستطيعون حتى الاستمرار ولو لمسافة أبعد مما وصلوا.. تغيرت الوجوه المألوفة، سكن الذهول على مساحات الألم المرتسمة على العيون، لكأنما هم أمواتاً بعثوا في لحظات الغيب، ثم فقدوا الذاكرة، لكن شيئاً ما يشدهم إلى التجمع، والانطلاق باتجاه واحد..
بضعة رجال، كانوا على رأس الرتل، وعند وصولهم حيث الجمع، انهار اثنان منهم على الأرض، بينما ظل آخرون يحدقون بالرتل القادم، الممتد دونما نهاية في الأفق..
كان الصمت يسكن القادمين والمستقبلين، أما غبش الصبح، فقد بدأ بالانقشاع، حيث خيوط الشمس الخجولة كانت تحاول الامتداد نحو المرتكزات الأفقية لتحيط الرتل ببعض الدفء.. أو ليصبح الدرب الذي خطته أقدام القادمين في الخروج المذهل المأساوي، طريقاً عرف فيما بعد باسم –طريق الألم-، لقد كان كذلك فعلاً..
قال الذي كسر دائرة الصمت..
لنتجه إلى الواحة، فهناك متسع للقادمين..
ودونما إجابة، كان الرتل قد التقط الإشارة، فاستمر في اتجاهه نزولاً من الجبل الذي يرسم الحدود النهائية لامتداد المدينة باتجاه الواحة.. تقدم الجمع الذي استقبل الرتل، تبعته أمواج القادمين من الإعصار، ومن بقايا مدينة كانت، وفي سكون الخطو، وغبار بعض الدواب المرافقة ونباح الكلاب، كان لابد للريح التي ظلت تراقب ما أحدثته، أن تأوي إلى السكون، ربما هي رهبة الجموع.. أو هو الاحترام الغير معلن للنحيب الصامت الذي اختزنته الصدور حين ودعت أركان الخرائب واتجهت إلى المجهول..
والواحة تقترب، تسارعت الخطى باتجاه الأشجار التي اقتربت هي أيضاً، أول الوافدين، حطوا الرحال قرب الشجرة الأولى التي بدت منهكة هي الأخرى بفعل عوامل الإعصار الذي مر من هنا.. ثم توالت الجموع، حتى امتلأت الواحة، بينما لم ينته الرتل من الانتهاء.. كأنما المدينة كلها قد خرجت إلى هنا، قال الرجل الملتحي:
في الأفق متسع آخر، فلنقتسم الأمكنة..
علق أحد الرجال:
وهل يمكن أن نصل إلى أكثر من هنا؟ ألا ترى الناس وقد فقدوا القدرة على الفعل؟
ولكن المكان يضيق بمن وصل، فكيف بالقادمين؟ انظر، مازال الكثيرون هناك!
قال الشيخ الضرير:
وماذا تقترح..
نجاور البحر، فهنالك متسع لمن تبقى..
ولكن المنطقة مكشوفة للريح والمطر والموج..
وماذا نفعل، نحتال على المكان حتى نعود إلى المدينة..
وهل تظن أن ذلك سيكون قريباً؟
ولم لا!
وافق البعض على الاستمرار، حزموا أمتعتهم من جديد، تحركت قافلة صغيرة سرعان ما اتسعت باتجاه البحر، انقسم الرتل إلى جناحين، كان الأول قد تمسك بالواحة مستقراً إلى حين، أما الثاني فقد واصل السير باتجاه البحر، ولم تمض ساعات حتى تشكلت بيوت من جريد النخيل وأغصانه في الواحة، بينما ارتفعت على مسيرة ساعات بيوت أخرى من أغصان الشجر وبقايا المتاع قرب البحر..
البحر يكتب الذاكرة!
استقر المرقط في الواحة، كان مازال يمسك بزمام الأمور، خاصة وأن القوم، لم يكونوا في حالة تسمح بالمشاكسة، وحيث أنه اكتسب سمعة حسنة من معركة الوادي، فإن القوم، رأوا فيه الرجل الذي يمكن أن يقودهم إلى بر الأمان، كانت هواجسه كبيرة، فإطعام وإيواء عدد كبير من العائلات، يفوق حجم التفكير العادي، وحيث أن القليل من الزاد الذي اصطحبه القوم من المدينة عشوائياً، تمكن من سد الأفواه لوجبة واحدة، كان على المرقط أن يتدبر أمر الاستمرار في تأمين الطعام، لكن عقله لم يكن ليستقر على تفكير مناسب، وهو يرى الكارثة التي تدب أمامه، ممثلة بالشيوخ والنساء والأطفال الذين أنهكهم الحدث، فاستلقوا كأنما جثث ترقد على سهل الواحة.. لكنه في نفس الوقت، رأى نفسه مجبراً على تجاوز محنته الخاصة باتجاه المساعدة على إيجاد حل ملائم، حدق في الاتجاهات، حدق في السكون، رأى أن يشرك معه من يستطيع من الرجال، دار في جولة بين الجموع الممدة في سكون المغيب، أختار حفنة من الرجال، وأتخذ من مكاناً قصياً اجتماعاً لهم.. قال:
أنتم تدركون حجم الكارثة، وها أنتم ترون حجم المسؤوليات، علينا أن نفعل شيئاً.
ماذا تريدنا أن نفعل؟
قال أحدهم:
لنتشاور في الأمر، لابد من مخرج، نريد طعاماً وكسوة وربما أمكنة للسكن..
ومن أين نأتي بكل هذا؟
لنفكر معاً..
قال آخر..
كنت دائماً تحمل أفكاراً عملية، فلماذا لا تشر علينا؟
قال المرقط:
حسناً، إليكم ما فكرت به..
أولاً: نرسل في طلب المساعدة من الشاطئ الآخر..
ثانياً: نتصل بالرعاة المحيطين بنا، خاصة الذين تجنبوا العاصفة ببقائهم في الكهوف القديمة، نشتري منهم ما يستطيعون بيعه..
علق رجل كان يضجع على جنبه الأيسر..
ومن أين نأتي بالنقود؟
قال المرقط:
لا عليك، سأتولى هذه المهمة..
كيف؟
سأتعهد لهم بالدفع في وقت لاحق، اليسوا هم أيضاً من أبناءنا، ألا يرون الكارثة.. ثم أنهم لم يبخلوا علينا بالأمر..
وماذا عن الذين جاوروا البحر..
لن نتركهم، سنتقاسم وإياهم كل شيء..
وماذا تريدنا أن نفعل؟
قالها نفس الرجل الأول:
نتقاسم المهمات.. ولكن.. علينا أن لا نختلف، وفي هذه الحالة، عليكم بإطاعتي..
كان متعطشاً للقيادة رغم المحنة، سبق وأن كان الرجل المناسب بسبب نجاحه في معركة الوادي ، بايعوه على القيادة، حيث شكل منهم مجلساً للشورى، كان بمثابة واجهة ليس إلا، أختار رجلاً رحل للتو إلى الشاطئ الآخر، محملاً برسالة إلى الوالي هناك، بينما أتجه برفقة آخرين، إلى موقع الكهوف، حيث عاد في صباح اليوم الثاني، برفقة بعض الرعاة الذين تبرعوا بالكثير من الطعام، واقتنعوا ببيع جزء من قطعانهم على عهدة المرقط، وهكذا، أقتسم الجموع الطعام الذي نظم توزيعه عبر المجلس الذي يشكله المرقط، بينما ذبحت بعض الخراف، وابتدأت النسوة بالطهو، فيما توجهت مجموعة تحمل طعاماً وخرافاً إلى الذين جاوروا البحر، واستطاع المرقط أن يحل المشكلة ولكن إلى حين!
كانت إمدادات المعونة قد تحركت من الشاطئ الآخر، حيث رست على شاطئ البحر سفن محملة بالمساعدات من مختلف أنواعها، ثم بدأت هذه السفن بإنزال حمولتها عبر قوارب كبيرة باتجاه الشاطئ، كان القوم الذين جاوروا البحر، يقفون على الشاطئ متلهفين لما سيصل، بينما أتجه أحد الرجال إلى الواحة لإخبار المرقط بالأمر، ولم تمض ساعات حتى تكدست المساعدات على الشاطئ، وفي نفس الوقت وصل المرقط وبرفقته أعضاء مجلسه لترتيب أمر المساعدات التي وصلت، حيث أستقبل استقبالا حافلاً بعد أن حسب القوم أنه كان وراء هذه المساعدات التي وصلت بفعل طلبه لها، مما زاد في تكريسه قائداً للخارجين خروجهم الأول من المدينة التي لعنها الريح، لقد أرتضى القوم به قائداً، وكان عليه أن يتحمل المسؤولية وهو الراغب بها، عبر ترتيبات ظل يتدارسها طيلة ليلة وصول المساعدات حتى مطلع الصبح.. وعندما استقرت هذه الترتيبات وآن الأوان للانتقال إلى التنفيذ، حدث ما لم يكن في الحسبان..
في الصباح الباكر، وبعد ليلة تعب فيها القوم، استفاقوا على ضجة غير عادية، كان رتل كبير من السيارات والشاحنات قد توقف قرب الشاطئ، وعندما اقترب الجمع للاستطلاع، وجدوا أن هذا الرتل محاط بقوة كبيرة من حرس الوالي مسعود..
جاء المرقط ورجاله على عجل، وعندما وصلوا، أفسح الجند لهم الطريق لمقابلة الوالي مسعود الذي كانت سيارته الكبيرة تتوسط الرتل، ولدى وصول المرقط إلى هناك، أمره الوالي بالصعود إلى السيارة، ولما لم يجد بداً من الرفض، فقد ترك رجاله وصعد إلى جانب الوالي..
قال الوالي مسعود:
تعرف ما حدث، ولا شك بأنني مشفق على هؤلاء القوم كما تفعل أنت، ولكن الذي حدث، كان إشارة من السماء..
وكيف؟
لو لم تأت العاصفة، ويرحل هؤلاء الرعاع، والذين لا ينتمون إلى المدينة أصلاً لرحّلتهم أنا..
ولماذا؟
كنت ولا زلت أريد أن أبني مملكتي من العرق الصافي الذي انحدر من سلالة أجدادي، لا أريد الغرباء، خاصة أولئك الذين يشكلون عالة على مجتمع أريده حضارياً متقدماً في علاقاته الاجتماعية، وتصرفاته الحياتية..
وهل تظن أن ما يجري في مدينتك يمت إلى الحضارة بصلة؟
تلك مشكلتي، لقد آن الأوان لنتفاهم..
نتفاهم! على ماذا..
عندما أعيد بناء مدينتي لا أريدهم فيها..
وأين سيذهبون؟
إنها مشكلتك، ألم ينصبوك قائداً عليهم؟
ولكنهم ولدوا هنا، وبيوتهم هناك، وأراضيهم وأحلامهم والذكريات و..
قاطعه الوالي:
لا داعي لمثل هذا الحديث، فليحملوا ذكرياتهم وأحلامهم وأوراق ميلادهم ويرحلوا بعيداً..
ولكن إلى أين، إنك هكذا تعقد المشكلة..
لا، أدري..
حسناً، لن يستطيعوا العودة في الوقت الحاضر على كل حال..
ولا في المستقبل، لقد جئت هنا لأناقش الأمر.. تأخذون المساعدات، وترحلون إلى أماكن بعيدة..
ولكنك ترى أن الوضع لا يسمح بذلك..
على كل حال، لقد فكرت بالأمر جيداً، بإمكانهم أن يعودوا إلى الواحة مؤقتاً..
مؤقتاً.. ماذا تقصد؟
أقصد أن الواحة، ستصبح جزءاً من المشاريع المستقبلية للمدينة، سنبني مشروعاً سياحياً خططت له منذ زمن بعيد..
وإذا لم يرحلوا؟
قهقه الوالي، نظر حوله.. وقال:
ألا ترى الجند الذين يستطيعون أن يرغموكم على الرحيل..
فكر المرقط، تطلع حوله.. جمع لا يقوى حتى على الحركة، رجال مذهولين وقد فقدوا كل شيء، فكر أنه إذا ما استقر في الواحة واستقرت الأمور لفترة قصيرة، فلعل ذلك سيساعد على العودة.. أطرق برأسه حين قطع الوالي صمته قائلاً:
على كل حال، عندما سأعود في الغد، لا أريد أن أرى هؤلاء الرعاع هنا، أتفهم ذلك؟
هيا.. بإمكانك تدبر الأمر...
ربما كان على الجموع أن لا ترحل..
ربما كان عليهم أن يتشبثوا بالأرض ولو على الحال التي تركتهم بها العاصفة..
ربما.. من يدري، ولكن الذي حدث كان قد حدث، واضطر المرقط ورجاله، أن يحزموا قوافل الجموع التي عادت باتجاه الواحة، في الرحيل الثاني والذي لم يمض على سابقه سوى أيام.
زعموا..
أن رجلاً كان يعيش في سفح جبل، لكنه كان كلما نظر إلى أعلى، استهوته شهوة الصعود نحو القمة.
تضيف الحكاية:
أن حطاباً فقيراً، كان يجاور هذا الرجل، فتمنى الأول أن يصنع له الحطاب سلماً طويلاً يصعد من خلاله، أو أن يستعين به على الصعود في أقل الأحوال، لكن رجلاً آخر، كان لابد من الاستعانة به، ألا وهو صانع الحبال..
عقد الرجل صداقة مع بائع الحبال، قال له أن الحطاب، إذا ما صنع الأخشاب اللازمة للسلم، فإن كلاهما سيصلان إلى هناك، أما الحطاب، فيمكنهما التخلص منه بكل سهولة..
وعندما سأله بائع الحبال عن الوسيلة قال ببساطة..
ننفخ فيه الغرور، وعندما يصاب بهذا المرض، نسقطه من علٍ
وفي نفس الوقت:
اجتمع الرجل مع الحطاب، قال له:
نستعين ببائع الحبال، ثم يكون له شأن آخر..
وعندما سأله عن الوسيلة قال:
نلقي به بالبئر!
هل تعرفون حكاية الوطواط؟
قال البعض، أنه حيوان، بينما اختلف آخرون، حيث نسبوه إلى فصيلة الطيور..
لكنه في مملكة الغابة، واشٍ كاذب، يخضع لعقوبة أبدية جزاء ما كان يفعل، لذلك، فهو يختبئ بالنهار، ليخرج في الليل بعد أن لفظته الطيور، وتبرأت من انتسابه، كذا الحيوانات.. ولكن، كيف تم هذا الأمر؟ ولماذا؟
زعموا، أنه ومنذ زمن بعيد، احتدم الصراع في الغابة حول من يتولى قيادة الأمور هناك، قالت الطيور:
إنها تحلق في الأعالي، تستطيع مراقبة كل شيء، كل ما يحدث على الأرض، لذلك، فإن مسألة السيطرة على الغابة، ستكون يسيرة عليها..
احتجت الحيوانات.. رفضت ذلك..
قالت إنها تعيش على الأرض مباشرة، وبها من هو ضخم الجثة، وبها من هو خفيف الحركة، ثم إنها أقوى وأشجع في المواجهة، لذلك، فالقيادة، يجب أن تكون من نصيبها..
واحتدم الصراع..
وحين كانت الغلبة تميل إلى الحيوانات، كان الوطواط يدعي بنسبه إليها محرضاً أيها على الطيور..
وحين كان يحدث العكس، ينتسب الوطواط إلى الطيور، مدعياً أنه قادر على مساعدتها لقهر الحيوانات، والاستئثار بالسلطة، يحرض عليها، وينقل تحركاتها..
واستمر الصراع، لكن التعب ألم بالفريقين، فأتفق حكمائهم أن يلجأوا إلى العقل، فالمسألة لم تعد تحتمل استمرار المعارك.. ولابد من جلسة مكاشفة للوصول إلى مشاركة معقولة في الحكم لكلا الفريقين، هكذا أتفق الحمار الحكيم، والبومة التي تأملت الحال الذي آلت إليه الطيور..
وهكذا تشكلت وفود من الطرفين، يجتمعان، يتعاتبان، حتى اكتشفا ما كان من أمر الوطواط..
لكن الوطواط، لم يكن ليستسلم بسهولة، ظل يحاول افتعال المشاكل للطرفين، لكنها كانت مشاكل جانبية لم تكن تؤثر على سير المفاوضات بشكل عام، وعندما تمادى الوطواط في أعماله.. قرر الطرفان أنه انتهازي متلون، تداولا في الأمر، خلعاه من نسبهما، فالطيور، رفضت ادعاءاته بالنسبة لانتمائه إليها، وكذلك فعلت الحيوانات، طرداه من الغابة، فالتجأ إلى الكهوف، يعيش هناك، يبحث عن طعامه حين تنام الحيوانات والطيور، وهكذا يبدو أن الأمر تطور إلى هذا الحد..
المهم:
أن بائع الحبال، أعجب بعمل الحطاب بعد أن تمت الصفقة، فتقاربا على حساب الرجل، وجدا أنهما أبعد من أن يغدرا ببعضهما، تصارحا بالأمر، لكنهما كانا من السذاجة بأن صارحا الرجل بهواجسهما، طالبين منه أن يكون شريكاً نزيهاً في المستقبل، فوعدهما خيراً..
تقول الحكاية:
لم يتحمل الرجل فكرة صعودهما معه على القمة.. قرر أن يعمل على زرع الخلاف بينهما، ولما وجد أن العمل يسير على ما يرام.. استسلم إلى حين..
انتهى صنع السلم.. كان السلم مكوناً من قسمين، قسم خشبي يستخدم للصعود، ثم قسم آخر مكون من الحبال والأخشاب العرضية التي اشتبكت عليه، وذلك لاستخدامه للمراحل الثانية من بدء العمل..
كان الثلاثة يقفون في السفح، أحضر الحطاب القطعة الأولى من السلم، وكان على أحدهم أن يصعد فوقها حاملاً سلم الحبال، ليجد له مكاناً بين الصخور، يتدلى من هناك حيث يصعد الاثنان، قال الرجل:
ليس أفضل من الحطاب أن يصعد، فهو خبير بما فعل، وهو اقوانا حتماً، وهكذا صعد الحطاب، وعندما وصل إلى المرحلة الأولى، أدلى بسلم الحبال، فصعد الاثنان، وهكذا حتى انتهت مراحل الصعود، لكن الرجل وفي المرحلة الأخيرة، صعد إلى القمة، ثم تبعه صانع الحبال، وعندما حاول الحطاب الصعود، رفع الرجل بالسلم الخشبي إلى أسفل، فإنهار وقد أخذ الحطاب معه، هوى إلى السفح متحطماً..
قال أن ذلك من صنع القدر، وعلى كل حال، لقد تخلصت منه إكراماً لك..
وكيف كان ذلك؟
لقد أسر لي في الليلة الفائتة عن ضرورة التخلص منك، وها أنت ترى نتائج فعلته، إن توبته عن تفكيره القديم حين اتهمني بأنني سأتخلص منك بعد صنع الحبال، لم تكن توبة صادقة..
تأسف صانع الحبال على الحطاب، لعن الطمع والطامعين، قضيا المساء في قمة الجبل، وقبل مغيب الشمس انحدرا إلى السفح، كان لابد من إعداد الطعام، فالنهار كان شاقاً، إضافة إلى أن التعب ألم بهما بعد أن قاما بدفن جثة الحطاب، تقاسما العمل، ذهب صانع الحبال لجلب الماء من البئر، بينما تظاهر الرجل بأنه يقطع الخضار وبعدها للطهو، ثم تسلل الرجل خلف صانع الحبال الذي لم يكن يدري بما ينوي أن يفعل به الرجل، وما أن ألقى بدلوه في البئر، حتى دفعه الرجل إليها، فسقط إلى القاع، دون أن يستطيع حتى أن يصرخ من هول المفاجأة..
كان ذلك هو الحال، عندما خطط الوالي، وفكر المرقط، وارتحل القوم مجدداً باتجاه الواحة.
كان الرتل مختلفاً في هذه المرة، فقد كان أكثر نشاطاً وحركة، وأكثر تفاؤلاً، فالمساعدات التي وصلت من المدن البعيدة، كانت كفيلة بترتيب الأمور لوقت يصيح فيه بالإمكان إعادة النظر بالوضع برمته، ثم أن الواحة يمكن أن تتسع فيما لو تمددت الجموع حولها، فقد احتوت المساعدات على خيام تساعد على البقاء، وحيث أن الفصل كان ملائماً رغم العاصفة التي أتت في غير وقتها..
وصلت الجموع، كان الاستقبال كبيراً، فالكل متلهف على التلاقي، لكن الوضع كاد وإن يتطور إلى ما لم يحمد عقباه عندما نصبت الخيام، وبدأ المرقط ورجاله في توزيعها على العائلات، فقد كان الجميع يود لو يكون قريباً من مصادر الماء في الواحة، إذ أن الأطراف كانت معرضة للريح والعواصف والبرد الليلي، لكن ذلك حسم في النهاية، وانتهى الأمر على وعود المرقط الذي وقف خطيباً في القوم: قال:
لن يطول الأمر..
قال أيضاً:
لا يظن الوالي ورجاله أنهم يستطيعون منعنا من العودة، سنعود بالقوة، إن الأيام القادمة ستثبت ما سأقول..
وعدهم باتصالات مع أولي الأمر، ولاة المدن والأصدقاء، وأولئك الرجال الذين ساعدوهم في معركة الوادي، والذين مازالوا يقاتلون في أكثر من مكان.
وهكذا، كان لابد من الاستسلام لهذه الوعود، والحياة هناك، بدأت تأخذ نسقها الطبيعي رغم غرابته، لكن المسألة بدأت تنذر بالخطر، عندما تململ الرجال، فالوعود لم تتحقق، إضافة إلى الشبان الذين رأوا في المرقط، رجلاً من الطراز القديم الغير مؤهل لقيادة القوم، كانت أحلامهم أكبر من أن تدفن في الواحة، خاصة بعد أن رحل الكثيرون بحثاً عن عمل، ورغم أن طريق القوافل كانت تمر من الواحة، وأن التجارة ازدهرت بين الجموع، إلا أن الأمر كان مختلفاً عن الأمنيات.. والمرقط، كان يراقب ما يحدث بقلق، فلا الأمور يمكن أن تهدأ، ولا الرجال الذين حوله، يمكن أن يكونوا عثرة في طريق الشبان الذين أصبحوا يجاهرون بالتمرد.. إضافة إلى أن الكثيرين من الأصدقاء القدامى كالشيخ الضرير وحارس المقبرة وآخرون، كانوا يتجنبونه في الفترة الأخيرة، بينما يقضون وقتاً أطول لدى التجمع المضاد.
كان راجح قد ظهر بالواحة فجأة، بعد أن حسب القوم، إنه قد ضاع في الصحراء بعد تلك الليلة التي إصابة فيها الهذيان حسب ما اعتقدوا حين ذهب ليجمع الحطب بعد وداع الشافي...
لكنه عاد شارد الذهن، بطيء الحركة، تحول هذيانه إلى صمت يقطعه في لحظات ما، ليتحدث بكلام غير مفهوم..
كان يقتعد ظل نخلة قديمة قرب البئر، يراقب ما يحدث، بينما يتفقده القوم بين حين وآخر بالطعام، بدا وكأنه حالة من حال الدراويش، لكن كلامه الغامض، كان يثير الرهبة في نفوس القوم، خاصة المرقط، إذ أنه كان كلما يشاهده يصرخ في وجهه، وذات يوم، وبينما المرقط يمر بقرب راجح، استوقفه الأخير معترضا طريقه بعصاه التي لم تفارقه منذ أن عاد إلى الواحة، قال:
إلى أين تريد أن تصل.. أنا لن أعطيك عصا الحكمة، وأنت لن تأخذها..
مرة أخرى وفي ظروف مشابهة قال راجح للمرقط:
ما أنت إلا عابر وحيد..
أما في المرة الثالثة، فقد صرخ بوجه المرقط بقوة حين قال:
ستموت من الظمأ حتى ولو جاورت البئر..
عندها، التجأ المرقط للشيخ الضرير، شاكياً راجح إليه، لكن الشيخ اكتفى بالقول:
هي لغة الدراويش..، ولم يزد عن ذلك حرفاً، وإنما أشاح بوجهه ومضى، تاركاً المرقط في حيرة لا يعرف منشأها..
الليل أرخى سدوله، واختفى القمر الذي كان بدراً خلف سحابة سوداء عظيمة..
ارتفعت نسبة الرطوبة في الجو الصحراوي الذي سيطر على الواحة بشكل مرتفع.. شعر حارس المقبرة بأن قدمه الخشبية تضغط عليه بألم شديد، تقدم نحو ركن بعيد من الواحة، حيث بقايا بيت قديم متهدم يقع قريباً من الماء، كان يود أن يخلع القدم الخشبية ليريح جسده، ويغسل فخذه الذي لم يعد يتحمل ثقل القدم الخشبية على إثر زيادة الرطوبة الصحراوية..
أقتعد حجرا كبيرا، نزع ساقه الخشبية، خلع قميصه وبلله بالماء، ثم أخذ يمسح مكان ارتباط القدم بالفخذ، وبعد أن انتهى من ذلك حمل قدمه وبدأ في مسحها بالماء من الداخل، فجأة، انتصب أمامه هيكل شبح يعبر المكان، صرخ الشبح وهو يتطلع إلى الحارس الذي حمل القدم، بينما صرح الحارس بدوره وقد أصيب بالدهشة، اصطدما دون أن يستطيع أي منهما تحاشي الآخر، وقع الحارس على الأرض، بينما وقع الثاني على شجيرة نخل صغيرة كانت تنمو في المكان، حيث اختفى رأسه بداخلها، بينما ظل جسده ممداً خارج الشجيرة على الأرض.. نهض الحارس ببطء، كانت الصدمة قوية، نظر إلى الرجل، ثم صرخ بدهشة..
المرقط!
هزه هزة خفيفة فلم يتحرك، هرول بعد أن أعاد ساقه الخشبية إلى مكانها باتجاه الجموع، وصل إلى الخيمة التي يشغلها المرقط ورجاله، أخبرهم بما حدث، فهبوا جميعاً باتجاه البيت القديم المتهدم..
كان المرقط غائبا عن وعيه ليس إلا، رأى فرسانا يقتربون وهم يشهرون حرابهم باتجاهه ، أحاطوه من كل جانب، وضعوا الحراب على أماكن مختلفة حول رأسه، صرخ كبيرهم:
لماذا تصر على التفرد؟
قال آخر:
نريد أن نأخذك إلى مكان لا ترى فيه سوى ما صنعت يداك..
صرخ المرقط:
لكنني لم أفعل شيئاً..
فجأة، أحس بأنهم يرفعونه إلى أعلى، فتح عينيه، كان رجاله يمسحون وجهه بالماء، ويحاولون اجلاسه على الأرض بشكل مناسب، تطلع حوله، اختفى الفرسان الذين يحملون الحراب، كان الحارس مازال منتصبا أمامه وقد انكشف نصفه الأعلى عاريا.. تذكر المرقط ما حدث، قال متسائلاً:
أهو أنت..
قال الحارس: لقد فاجأتني..
أبتسم المرقط، ثم نهض متجهاً إلى خيمته، وعندما وصل، قال للرجال، أحس ببعض التعب، دعوني أنام قليلاً..
بلغ التذمر أقصاه في الواحة، فالحالة التي وصل إليها القوم، خاصة الشبان منهم، لم تعد تطاق، عقدوا اجتماعاً فيما بينهم، قرروا مواجهة المرقط، تجمعوا في طابور طويل واتجهوا إلى خيمته، كان ما زال نائماً عندما استفاق على صوت عراكهم مع الرجال الذين حاولوا منعهم من الاقتراب من الخيمة، خرج إليهم، نظر بكل اتجاه، كانوا جمعاً كبيراً، قال:
ما الأمر؟
نريد أن نعود إلى المدينة..
ولكن ذلك مستحيل في هذا الوقت، دعونا ننتظر..
لقد انتظرنا طويلاً..
سنبقى هنا حتى نرتب الأمور، إن رجال الوالي سيمنعوننا من العودة..
سنقاتلهم..
لن نستطيع ذلك الآن.. دعوني أرتب الأمر..
لا نريدك في هذا الأمر، لدينا مشاريعنا، ونحن قادرون على تنفيذها دونك..
أنصحكم بعدم اللجوء إلى التسرع..
لقد مرت أيام طويلة ونحن هنا، هل هنالك صفقة ما؟
أنفعل المرقط، نظر إلى رجاله، كان لابد من حسم الأمر، قال بصوت عالٍ
عودوا الآن إلى أماكنكم، وفي الصباح يمكننا أن نتفاهم..
لن نعود قبل أن نعرف كل شيء..
تطلع المرقط مرة أخرى إلى الرجال، نظر إلى الشبان، ستضيع هيبته إذا لم يحسم الأمر..
قال:
اطردوهم من هنا..
هجم الرجال على الجمع، تعاركوا.. سقط البعض، استخدموا العصي والسكاكين وكل ما توفر من أسلحة بدائية كانت في المكان وحوله، تطور الأمر بتدفق الجموع إلى المكان، تدخل الشيوخ والنساء، هدأت الأمور قليلا، ولكن المسألة لم تكن لتنتهي على هذا الشكل بأي حال..
عاد الشبان إلى اجتماعهم، وعاد المرقط مع رجاله إلى خيمته للتباحث الأمر، فجأة، قال المرقط:
أريد رجلاً لمهمة دقيقة.
تقدم رجل منهم واستعد قائلاً:
أنا جاهز لذلك..
قال المرقط:
أسمعوا.. ماحدث، يمكن أن يتكرر مرة أخرى، وهذا يعني أننا سنفقد زمام الأمور هنا..
وماذا تريدنا أن نفعل..
قبل أيام، جاءني موفد من الوالي..
ارتفعت همهمات القوم الذين فوجئوا بالخبر... ساد الصمت للحظات عندما أكمل المرقط..
لقد عرض علي عرضاً يمكن أن يخرجنا من ورطتنا هذه..
ما الذي عرضه هذا الطاغية..
لقد تعهد بفتح باب العمل للشبان في المدينة التي يعيدون بناؤها.. إنهم بحاجة إلى البنائين والحطابين والوراقين وكل القادرين على العمل..
أبعد أن يطردوننا من مدينتنا، نعود لنعمل لصالحهم؟
لا عليك، إنها الخطوة الأولى..
أية خطوة تلك التي تتحدث عنها..
لا مجال لأي منافسة، نحن لن نتغلب عليهم، أما فيما لو عمل رجالنا هناك، عندها نستطيع أن نبني أنفسنا بعيداً عنهم، وعندما يحين الوقت، نعود بقوة..
وهل تظنهم بهذه السذاجة..
دعونا نقلب الأمر على كافة الوجوه، يذهب الرجال إلى العمل، يعودون بالإمكانيات، تزدهر الأمور، ننشأ مدينتنا هنا..
ولكن مدينتنا هناك!
لا بأس، لابد من الوصول إلى حل..
تقدم أحد الرجال المسنين، والذين يكنون ولاء مطلقاً للمرقط، خاطب الرجال قائلاً:
لا فائدة من الجدال، لقد ارتضيناه قائداً، وسنفعل ما يريد، هل تظنون أنه يمكن أن يفرط بمستقبلنا..
تقدم الصمت مرة أخرى.. أستغل المرقط دقائق الصمت تلك، استدعى الرجل الذي قبل المهمة، وقال:
أذهب إلى المدينة، في الصباح الباكر تكون هناك، عليك بإخبار الوالي مسعود، أنني سألتقيه الليلة عند حدود الواحة الشرقية، هيا..
وأنطلق الرجل، وسط همهمات البعض، واحتجاج البعض الآخر دون جدوى، وأنفض الاجتماع بعد أن طلب المرقط من الحضور كتمان الأمر حتى ولو إلى الغد بعد مقابلة الوالي.. واعداً إياهم بالمشورة..
حضر الوالي مسعود وبضعة من الرجال إلى مكان الاجتماع، بينما كان المرقط منتظراً إياه بمصاحبة صديقه الرجل المسن.. وعندما التقيا، كان الوالي قد أعد كل شيء، وما كان على المرقط إلا الجلوس والاستماع.. قال الوالي:
لقد أحسنت صنعاً بالمجيء إلى هنا، بلغني أنك تعاني من الصعوبات، نحن نستطيع المساعدة، ذلك لأننا نود فتح صفحة جديدة، نشاركك الحكم فيها..
تهللت أسارير المرقط، فاجأته المسألة، تساءل:
كيف وأين؟
تمضي بقومك إلى منطقة الكهوف، أنت تعلم أن الواحة تدخل ضمن مشاريع المدينة المستقبلية.
ولكن الأمر، لن يكون بالسهولة التي نرجوها..
دعني أكمل..
نساعدك في بناء سلطتك هناك، سوف نمدك بالإمكانات اللازمة، فقط، على الرجال أن يعملوا معنا، ستكون رجلنا هناك..
سوف أعرض الأمر على رجالي و....
قاطعه الوالي:
لا داعي لذلك، فمنذ اللحظة، على الرجال الطاعة، وعليك الأمر، وإذا ما حدث أي شيء، فنحن كفيلون بالأمر..
لكن الأمر يحتاج إلى بعض الوقت..
تصرف، إنك تواجه منافسين، إنني أعلم كل شيء، تصرف وبسرعة..
حسناً اتفقنا..
نظر المرقط إلى صاحبه، كان موافقاً هو أيضاً، وانتهى الاجتماع على تثبيت هذا الاتفاق، وافترق الجانبان على....
كان على المرقط أن يواجه رجاله، ومن ثم عليه أن يواجه الجموع التي يمكن أن ترفض الرحيل خاصة أولئك الشبان الذين تكتلوا في تجمع يرفض سلطة المرقط، ويصر على العودة إلى المدينة، وعندما عاد المرقط إلى الواحة، جمع رجاله، حدثهم بما دار بينه وبين الوالي..
زين لهم الحل الوحيد، وعدهم بالمشاركة في السلطة بعد بناء المدينة الجديدة، وعدهم بالخير وبالثراء.. تغلب الطمع على الفضيلة، انحسرت المبادئ أمام الإغراءات، وافق الرجال.. تدارسوا خطة جديدة أعدها المرقط للبدء في حملة إقناع للجموع بالاتجاه نحو الكهوف، وفي اليوم التالي، بدت الحملة تؤتي أوكلها، فالجموع المنهكة، انهارت أمام الوعود، وضع جدول زمني للرحيل، لكن التجمع الآخر رفض الأمر، وبدأ بحملة مضادة تهدف إلى إبقاء الجموع بالواحة، عند ذلك حدث ما كان متوقعاً، فقد اشتبك رجال المرقط مع شبان التجمع، ولم تهدأ الأمور إلا بعد أن حل الليل، وأنفصل الفريقان كل إلى موقعه، لكن المرقط، والذي لم يقبل بما حدث، أرسل بطلب رجال الوالي الذين وصلوا إلى الواحة، أطبقوا عليها الحصار، خاصة في المواقع التي تواجد فيها الرافضون لسلطة المرقط، وبعد أن تمكنوا من تطويق الجموع دخل الفرسان بيهم وهم يطلقون النار، ويستخدمون الهراوات إلى داخل الواحة، وبدأوا بطرد الجموع نحو الطريق المؤدي إلى الكهوف، وعندما حاول الشبان المقاومة، وجدوا أنهم يقاومون دون جدوى، فانسحبوا إلى الصحراء، تاركين الأمر لجولة قادمة، وما أن مضى نهار الحصار، حتى كان رتل يتحرك من جديد، الرتل الذي ضربته العاصفة في خروجه الأول، تضربه السياط في خروجه الثاني، كان المرقط يتقدم الرتل، يحيط به الرجال.. أما الشمس، فقد كانت قد أكملت دورتها واتجهت نحو الغرب.. وانتصر الليل في دورته المتعاقبة..
حافة الأمل:
حين بدأت أول خيوط الشمس تسقط على الواحة بعد ليل طويل.. فتح راجح عينيه.. كان قد قضى الليل متوسداً جذع النخلة التي أعتاد السكن بالقرب منها.. فجأة، لاح له جبل لم يكن موجوداً في الأصل، كان جبلاً مرتفعاً تكاد قمته تلامس السماء، وإذ تطلع نحو الجبل، رأى شاباً طويلاً مشرق الوجه، يصعد من سفح الجبل، في طريق مرسوم نحو القمة وعندما جاور منتصف الجبل في صعوده، إذ به يواجه كهفاً ممعناً في القدم، توقف هناك، وإذ بامرأة ممشوقة القوام، مضيئة الوجه والعينان، تبرز إليه من فوهة الكهف.. فوجئ الشباب بالمرأة، لكنه تمالك نفسه وانحنى ليتكأ على ركبته اليسرى، بينما ظلت ركبته اليمنى منتصبه، أما جسده، فقد انثنى أمام المرأة، قال الشاب:
أي عناة.. لم أكن أتوقعك هنا..
لمست المرأة شعره المنسدل على كتفيه وقالت بصوت ملائكي:
أي كنعان.. ولدي، انهض ولا تتعبك المسيرة..
أريك القمة..
ستنالها، وبعد ذلك إليك بالسهل والوادي والجموع..
وكيف لي أن أحقق ذلك..
التقطت عناة قطعة من الحديد، كانت ملقاة على الأرض وقالت:
عليك أن تصنع سيفك بيديك..
علميني!
خذ هذه القطعة ، وعندما تصل القمة، ضعها في مواجهة الشمس، وعندما يصيبها التوهج أطرقها بصخر الجبل، وعندها تملك سيفك..
كان يتطلع إلى قطعة الحديد حين رفع رأسه فلم يجد المرأة، لقد توارت داخل الكهف، بينما أنساب نبع بالقرب من الفوهة، غسل كنعان وجهه بالماء، ثم عاود الصعود، كان يصعد كأنما يسير فوق سهل منبسط، رغم العوائق والنتوآت الجبلية، إلا أنه كان يجتازها بسرعة، وعندما وصل القمة، أدار رأسه نحو الشرق، رفع بيديه قطعة الحديد، أخذت من الشمس وهجها حتى أصيبت بالأحمرار، حلق شاهين بالقرب منه، دار دورتين، ثم حط بقربه على صخرة بارزة فوق نتوء ضخم، تناول صخرة وبدأ بالطرق على قطعة الحديد، ظل يطرق فوقها حتى استحالت إلى سيف مصقول، أدار القطعة من أسفلها، ثم رفعها مجدداً باتجاه الشمس، استعاد الخيوط الذهبية، وعندما أحمر أسفل القطعة، أدخلها بتجويف بالصخر، وأمالها عدة مرات حتى تشكلت مقبضاً لسيف حقيقي، نظر إلى ما صنع، انتابته الفرحة.. قال:
يا له من سيف..
هبط مجدداً نحو السفح، وعندما جاور الكهف، برزت له المرأة مرة أخرى، ركع على ركبتيه وهو يحمل السيف، قالت عناة:
أي كنعان، أذهب بسيفك إلى الوادي حيث تسكن الوصيفات، أسق سيفك بزيت الزيتون، وبحليب أمك، وعندها، يصبح سيفاً يقودك في أول الخطر نحو تاريخك القادم..
ثم اختفت مجدداً..
نزل الجبل مجدداً، ثمة كوخ كان بالجوار، كانت أمه تمشط جدائلها على الجدول كأنما تقطف النجوم، قال:
أي أمي، أريد حليباً لأسقي به سيفي..
أي كنعان، إنه العرق الذي يتصبب منك، والعنفوان الذي تحمل، وصلابة العقيدة في صدرك، أذهب إلى الوصيفات..
وهل كنت تعلمين؟
كنت انتظر، لا تنسى أن تعود إليّ..
تحرك كنعان باتجاه الفتيات اللواتي برزن فجأة على أطراف الوادي، كن يحملن جرار زيت الزيتون، يصببنها في وعاء بدأ يغلي بفعل النار التي أوقدت تحته، وصل كنعان إلى هناك، رفع سيفه واستعاد خيوط الشمس، وعندما سكن الاحمرار في السيف، أسقطه في زيت الزيتون، كان الشاهين يراقب المكان، وعندما لامس السيف زيت الزيتون، خرج بخار رمادي، تشكل على هيئة طائر العنقاء ثم اتجه نحو الشرق يتبعه الشاهين، الذي كان يطلق صيحات الفرح، كانت قطرات العرق تسقط على السيف من جبين كنعان، وعندما انتهى، انحنى نحو الوصيفات ثم غادر المكان متجها نحو أمه، كانت تحمل بيديها غمداً للسيف مصنوعا من جدائل قالت:
إنه من جدائل أمك..
وضع السيف في الغمد، رآه وكأنه صنع له تماماً، قبّل أمه في جبينها، رأى دمعة تنحدر على خدها.. مسحها بيديه، قالت:
أي كنعان، أمضي ولا تتعبك المسافات الباردة، لن يفني نسلك أبداً حتى تفني الخليقة، نظر إليها مرة أخرى، رفعت رأسها باتجاه كهف الجبل، نظر إلى حيث رفعت أمه رأسها، كانت عناة تقف هناك، بينما حط الصقر على ذراعها..
فرك راجح عينيه، فتحهما مجدداً، لقد اختفى كل شيء، توكأ على عصاه، راقب آثار أقدام الراحلين، مضى وراء الرتل، وعندما تجاوز الخطوات قليلاً، رأى غباراً يرتفع عن بعد، كان الغبار يتقدم باتجاهه، حث الخطى، وعندما وصل إلى حيث الغبار، رأى وليد، الشافي، عبد الرحمن، وشبان الواحة، كان ألرشيدي هناك أيضا، الأسعد كذلك، وهم يحملون بنادق على أكتافهم وخلفهم جموع كبيرة تنشد الأرض والوطن..
صهل حصان متقدم، فاندفعت الخيول تحاوره، وصل أحد الشبان إلى حيث يقف راجح، كان يحمل بندقية في يد، بينما كانت اليد الأخرى تسحب حصاناً شامخاً يسير بكبرياء، ناول مقود الحصان إلى راجح، ناوله البندقية، تطلع راجح إلى ما يحمل، صرخ في بكاء!
إنها عصا الحكمة..
انتهت