السبت ٢٢ تموز (يوليو) ٢٠١٧
بقلم جورج سلوم

الهجرة القاتلة

الحزن أصبح سيّد الموقف..ووجوه الناس غدت كالحة..مقطّبة.. كسماء بلادي.. ونشرة الأحوال الجوية تكرّر عباراتها بأنّ الجوَّ غائمٌ جزئياً... والمطرُ هذا العام أقلّ من المعدّل...والبحرُ عالٍ ارتفاعُ الموج والرؤية ضعيفة... تليها النشرة الاقتصادية لتكرّسُ الوجومَ على الوجوه... فالليرة تراجعت أمام العملةِ الصعبة.... وأسعارُ الذهب في ارتفاع..ثم تأتي النشرة الرياضية.. لتفيد بأن منتخبنا الوطني قد خسر مجدّداً أمام فريق بني قريظة..

الحزن ينمو ويتكاثر كالسّرطان... ينذرُ بالبؤسِ القادم.... ويرفعُ راية الانكسار والإخفاق التي تلوحُ من بعيد كشراعِ القرصان في غيهب المحيط.ْ..

تأكّد يا صديقي من متانة زورقك... وتأكّد من أطواق النجاة...فلو كُتبت لك النجاة من القرصان فمن الصّعب أن تقاوم لجّة اليم.... بادرْ لتخفيف أحمالك وإلقاء مايثقلُ كاهلَ مركبك في رحلتك الطويلة...إرمِ صناديق الأمتعة وأكياس الهدايا... تخلّص من تاريخك فهذا المحيط الغاضب لن يفرّق بين عربي وأعجمي..... فرّغ جعبتك من المال لأن هذا البحر لن تغريه أموالُ البشر ومجوهراتهم بل سيرميها في قاعه ودركه الأسفل.... حطّم أمانيك وأحلامك بالمستقبل فمن المحتمل ألا تصل إليه... اخلع عنك كبرياءك و كرامتك لأنها ستعذبك عندما تركع بين يدي الموج أوتسجد طالبا الصّفح من القرصان..

مركبك تتقاذفه الامواج وقد ينقلبُ بأية لحظة.... وأسماك القرش تسنّ أسنانها للوليمة القادمة... وترفعُ زعانفها فوق الماء كالخوازيق.... وقد كُتب عليك أن تتابع مسيرتك نحو برّ الأمان الذي يغيبُ وراء الأفق... الأهل انكمشوا على بعضهم وتدثّروا اتقاءً للمطر وخشية من الرّيح التي قد تقلعهم من جذورهم وما انفكوا يتمتمون بصلاةٍ ما... الطفل التصق بأمه وقد بسطتْ فوقه جناحيها...والكلّ تسمّرتْ عيونهم عليك منتظرين معجزة ً ما....

قال ابني:

انظروا راية القرصان السوداء..وقد ارتسمت عليها الجمجمة والعظمتين المتصالبتين وكأننا في الأفلام...

ترنّح المركب من جديد وتطايرت منه بعض القطع..وازداد الصّياح والبكاء وتردّد اسم الله على ألسنة الاهل...

وقال الصبي مهللاً:

الآن سيطلق أبي مدافعه نحو سفينة القرصان ويغرقها...

وتراءى لي إله البحر وهو يقول:

إن كنت تنوي الاستمرار في مسيرتك فلا بدّ أن تضحّي..

نظرتُ إلى الجميع بحثاً عن قربانٍ أقدّمه فداءً للبقية...هذا أبي الذي أكل الزمان عليه وشرب....أطرق للأسفل وقد فهم معنى نظراتي...سحبتُ يده من يد أمي وقذفتُ به لتبتلعه الأمواجُ المتلاطمة....وقد أكلتني العيون المذهولة...قلت:

لا تعتبوا عليّ...لقد انتهت رسالته في الحياة..ولا بدّ أن يموتَ أحدنا ليحيا الجميعْ..
لكنّ القدر طلب مني المزيد..صحتُ:

رحمتك يا الله...ماذا أفعلْ

أغمضتْ أمّي عيناها وقد أحسّتْ بدنوّ الأجل... وأغمضتُ عينيّ وأنا أقذفُ بها إلى اليمّ...وعندما فتحتُ عيناي كان عكازها يطفو على الماء كشاهدةٍ فوق القبر الحزينْ...

لا تؤاخذني أيها البطنُ الذي حملني... وسامحني أيها الثديُ الذي أرضعني... ويلي من عذاب الدنيا والآخرة...

قال ابني:

أنا التالي..سأكونُ فداءً لكم...وشهيداً يضحّي بنفسه عن أحبائه...

وماذا أقول وقد سحقتني رياحُ اليأس... وجمدَ الدّمُ في عروقي...أمام إله الموت الذي يجرّدني من أحبائي.... لم أراهُ وهو يقفز لكني سمعتُ صوت انتكاستهِ في المياه الباردة... فأفقتُ من غفلتي ونظرتُ إلى الزّبد في نقطة سقوطه...لعلّه يطلّ برأسه فوق سطح الماء... ولكن هيهاتْ... وهل يقاومُ أحدٌ جبروت أسماك القرش التي تصولُ وتجول في مسرح الموت هذا... واصطبغتْ أطراف الموج باللون الدمويّ...صاحت زوجتي وقد تهدّج صوتها بعد أن خنقتها الدموع:

قتلتَه يا مُجرم...

وأمسكتْني من كتفي محاولةً أن تلقي بي.... ولكنّي قاومتُ وبحركةٍ دفاعية رميتُ بها خلف أحبائي وابتلعَتْها المياه مع صراخها الذي تجمّع كفقاقيع الصابون ثمّ تطاير وكأنه لم يكنْ...
الآن أصبحتُ وحيداً...تعال أيها القرصان ونازلني وجهاً لوجهْ...فلم يبقَ لديّ ما أخسره...
نزل القرصان على سطح مركبي... ولم يعبأ بصراخي وشتائمي ودعواتي له إلى القتال...انتزع مني هويتي وجواز سفري ورماهما في البحر...

قال:

 المطلوب فقط أن تكون بلا هوية!

بعد ذلك.. هدأ الموج وحلّت السكينةُ على المياه.....وبشّرت النشرة الجوية بانتهاء العاصفة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى