الأحد ٥ آب (أغسطس) ٢٠١٨
بقلم عادل عامر

تجديد الخطاب الديني وبناء الدولة

وقد خاض المجتمع المصري أهم هذه التحولات في القرن العشرين بعد سقوط الخلافة العثمانية في 1924؛ فقد سعت مصر، كدولة وكشعب، إلى الاستقلال وإنشاء دستور مستقل، وكان لابد في هذه اللحظة تحديد العلاقة مع الدين؛ لذلك ظهرت عدة محاولات كان أشهرها المشروع التجديدي للإمام محمد عبده، ومحاولات رشيد رضا وحسن البنا.

وكان أكثر هذه المحاولات تقدمية هي محاولة الإمام محمد عبده، فقد كان ينادى بضرورة إنشاء دولة مدنية ونفي السلطة الدينية عن الحاكم، وتحرير حرية الفكر والتعبير من القيود، واعتبار الحريات المدنية والسياسية حقوق مقدسة. مع بناء الدولة الحديثة ظهر فاعلين جدد في إطار الأجهزة الجديدة، أولها: الجيش الحديث وثانيها: البيروقراطي ورجل الدولة، وثالثها: المثقف ابن البعثات إلى أوروبا والتعليم المدني، وذلك كأحد أهم بناتها، ومن هنا كانت علاقته بالدولة أحد أبرز خصوصيات نشأة المثقف الحداثي – والأحرى شبه الحداثي-في علاقته بالسلطة والسياسة والدولة على خلاف مسارات تاريخية أخرى في العالم والمنطقة. ترتب على ذلك استعارة الهندسات القانونية والاجتماعية – وبعض الاجتماعية الحدثية – من المرجع التاريخي اللاتيني – الإيطالي والفرنسي – ومن خلالها نشأت وتكونت الجماعة القانونية ودورها القيادي التاريخي في بناء الدولة الحديثة والنظام شبه الليبرالي، على نحو أدى إلى تراجع دور رجل الدين في السياسة والقانون وفي دائرة الدولة إلا بوصف الأزهر أحد أجهزة هذه الدولة ويعتمد عليها في تمويل أنشطته الدينية. لا شك أن عمليات التحديث السلطوي للقيم وأجهزة الدولة والقوانين والتعليم ساهمت في إحلال المؤسسات الحديثة، واعتمادها على المرجع الأوروبي الحديث والحداثوي المبتسر على نحو أدى إلى بروزها في صدارة الدولة.

وتشكلت عبر عمليات البناء والهدم لبعض الأبنية والقيم القديمة مما أدى إلى تكرس الازدواجية في التعليم الديني والمدني إلى جانب التعليم العسكري، وإلى تطور التعليم الحديث ومناهجه ومواده، بينما استمر التعليم الديني الأزهري حول الأزهر الشريف، يعاد إنتاج القديم والموروث والنقلي الفقهي والكلامي والتفسيري والإفتائي، كأحد قلاع الدفاع عن المؤسسة ورجال الدين ومكانتهم الاجتماعية وتصوراتهم عن الهوية الإسلامية، وعن القيم والثقافة الإسلامية الموروثة. من هنا كان الجمود والحفاظ على الموروث في بعض إدراك شاع لدى رجال الدين، هو دفاع عن الدين والمقدس.

من هنا يبدو لي أن المقاربة التاريخية لأزمة العقل والفكر الإسلامي هي المدخل – ضمن مداخل أخرى – لفهم وتفسير حالة الجمود والمحافظة التي اعترت هذا العقل. إن وراء هذا الجمود التاريخي عديد العوامل والأسباب يمكن لنا رصد بعضها فيما يلي:

يبدو أن أحد آثار أزمة الفكر الديني تاريخياً تعود إلى ما اتفق عليه العلماء في منتصف القرن الرابع الهجري على سد باب الاجتهاد وذلك بعد أن "دبَّ الضعف في جسم الدولة الإسلامية، وأخذت عوامل التفرقة والانهيار تسري في كيان الدولة، فتفككت، وأصبحت دولاً متفرقة داخل دولة هرمت وهزلت والخلفاء وقعوا تحت سيطرة الأتراك حيناً، وتحت سيطرة الديلم حينا ومن بني بوية حينا آخر وأتت بعد ذلك غارة التتار فقضت على البقية الباقية. وتبع هذا الانحلال السياسي أن مات في نفوس الفقهاء تدريجياً الاستقلال الفكري وركنوا إلى التقليد وبعدوا عن الاجتهاد شيئاً فشيئاً حتى قفل باب الاجتهاد وأصبح الفقيه يلزم مذهباً معيناً بل أفتوا بمنع انتقال المقلدين من مذهب إلى مذهب". (انظر مؤلفه المدخل للفقه الإسلامي، تاريخه ومصادره ط4 دار النهضة العربية بالقاهرة 1969).

استهدف قفل باب الاجتهاد مواجهة ظاهرة الوضع للأحاديث، ومحاولة الوقوف أمام آثارها السلبية والخطيرة، ومن ثم سعي بعضهم بالباطل لا يجاد سند في المصدر السنوي للشريعة دعماً لآرائه ومصالحه.

بعض الأثر السلبي تمثل في تمدد الجمود الفقهي، وإعادة إنتاج الموروث والأخطر شيوع النزعة النقلية على النزعة العقلية في التعامل مع تاريخ وإنتاج المذاهب الفقهية السنية، على نحو أدى إلى ظاهرة تبجيل الآباء / الفقهاء العظام المؤسسين للمذاهب والتابعين وتابعي التابعين لهم، ووصل التقدير لهذا الإبداع الفقهي في زمانه وأمكنته وأسئلته إلى درجة ما من درجات الاحترام الممسوس بالقداسة، والذي حجب لدى بعض رجال الدين ممن هم أقل درجة وعلماً وتكويناً إلى الانصياع النسبي إلى هذا الميراث، وعدم مساءلته لديهم في ضوء تغيرات الزمان والمكان والبشر وثقافتهم وقيمهم الوضعية المتغيرة، ومشكلاتهم. يبدو أننا في مسارات تاريخنا الفقهي والمذهبي تناسى بعض أجدادنا وأسلافنا في مصر – وبقية البلدان العربية والإسلامية – أن الإسلام دين بلا واسطة، بين الإنسان المسلم وبين الله سبحانه وتعالى
الطغيان يولد القمع المادي والفكري والفقهي ويؤدي إلى تماهي بعض الفقه والإفتاء والمفتيين مع السلطان، ويميل معه حيث يميل أياً كانت وجهته أو تناقضه.

إن بعض رجال الدين يتناسى هذا البُعد الهام في تدهور الإنتاج الفقهي وجموده بادعاء أن قفل باب الاجتهاد، كان أكذوبة تاريخية، وأن المجامع الفقهية الحديثة حاولت أن تجتهد في إبداء الآراء حول قضايا معاصرة.

هذا الرأي يخلط بين الأثر التاريخي السلبي على العقل الفقهي وعملياته الذهنية وإنتاجه، والفجوة الكبرى بين حيوية العمليات الاجتهادية، وبين الجمود والركود التاريخي، وأثره العقلي وعدم مواكبة أسئلة ومشكلات المسلمين ومجتمعاتهم بعد إغلاق هذا الباب الرحب. من ناحية أخرى، لا يزال إنتاج هذه المجامع الفقهية دون المطلوب.

من ناحية أخرى لم يستطع هذا الإنتاج الأفتائي للمجامع الفقهية، أن يواجه فقه القاعدة الراديكالي، ولا أيديولوجيا التوحش والتطرف.

وقد ظهر تأثير المحاولات التقدمية التي قدمها محمد عبده وتلاميذه، في دستور 1930؛ فبعدما نص دستور 1923 على أن “الإسلام دين الدولة”، تم إلغاء هذا النص في الدستور الجديد في 1930، وأكتفى على النص بأن “المصريون متساوون في الحقوق والواجبات ولا تمييز بينهم بسبب الأصل، أو اللغة، أو الدين“، ولكن لأن الفترة لم تكن كافية لترسيخ قيم الدولة المدنية، وخاصة بعد ظهور جماعة الاخوان المسلمين كقوة اجتماعية ودينية؛ لها نظرة رجعية فيما يخص علاقة الدين بالدولة، حيث أن فكرة الخلافة الإسلامية وضرورة تحول الدول العربية إلى دول إسلامية أو على الاقل دول مدنية بمرجعية إسلامية على رأس أولوياتهم.

وعلى أثر توغل جماعة الاخوان في المجتمع المصري، أصبحت لأفكار الجماعة صدى ليس فقط في الأوساط الريفية بل في القاهرة أيضًا وباقي المدن الكبرى، ولذلك أعاد النظام الناصري نص المادة التي تنص على أن الاسلام دين الدولة، مرة أخرى في دستور 1964. وبمرور الوقت ومع حدوث عدة تغييرات في نسيج المجتمع المصري، وخاصة بعد نكسة 1967 والشعور العام بأن “الهزيمة سببها البعد عن الدين“

من هنا نستطيع وضع مفهوم ومطلب تجديد الخطاب الديني الإسلامي تحديداً بوصفه رد فعل على الأعمال الإرهابية والوحشية التي تمارس تحت مظلة السند الديني الفقهي والتأويلى "المتشدد والمتطرف"، وأحد مداخل الحل والمواجهة السلطوية لهذه الجماعات وذلك بهدف تجفيف المنابع الإيديولوجية التي يستمد منها أيديولوجيو ومنظرو هذه الجماعات مئونتهم وعدتهم الفقهية، التي تبرر هذا العنف الوحشي المفتوح في المنطقة والعالم بكل الآثار السلبية على صورة الإسلام العظيم الديانة والعقيدة والثقافة والقيم الفضلى السمحاء.
عنف وحشي إعادة إنتاج الصور التاريخية القرو وسطية والاستشراقية السلبية عن الإسلام والمسلمين. وأن الدين لابد أن يحظى بمكانة أكبر ومع نمو تيارات الإسلام السياسي، حدث تطور نوعي في العلاقة بين الدين والدولة،

فقد ظهرت مصطلحات مثل ”الرئيس المؤمن” على الرئيس أنور السادات، كما نص دستور 1971 ولأول مرة ليس فقط بأن الدين الإسلامي هو دين الدولة، بل بأن الشريعة الاسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع، وبذلك تحولت الدولة من مجرد، أن لها دين يمثل دين الاغلبية إلى دولة متدينة ولها دين مفضل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى