الثلاثاء ١٨ آب (أغسطس) ٢٠٢٠
بقلم عبد الرحيم حمدان حمدان

تجليات الشخصية في رواية «زمن الشيطنة»

تعد رواية "زمن الشيطنة" هي النتاج الروائي الثاني للكاتب شفيق التلولي، والتي صدرت عام ٢٠١٨ م، وهي تنبئ عن مولد كاتب ذي مواهب روائية غنية.

تمتد الرواية عبر (١٩١) صفحة من الحجم المتوسط، موزعة على عشرة فصول، يحمل كل فصل منها رقماً ولا يحمل عنواناً معيناً هكذا: (1)، (2 ). والقارئ لهذا العمل الأدبي، يكتشف أن هذه الفصول نامية متطورة الأحداث، متلاحمة، مترابطة عضوياً، يستحيل فصل أحدها عن الآخر، يلفلها جميعاً وشاح شعوري وفكري واحد، يجسد فيه الكاتب رؤيته الذاتية، وتجربته الإنسانية، إنه عمل أدبي ناضج، امتلك مبدعه وسائل الإبداع الروائي، ووظفها بجدارة فائقة.

يلتقي المتلقي في رواية "زمن الشيطنة" علامة إجناسية هي عبارة "رواية" تصاحب العنوان موجهة القارئ منذ البدء على تلقيها؛ بوصفها "رواية"، غير أن القارئ العارف بحياة الكاتب يجد نفسه أمام نص من تلك النصوص التي لا يَعثر فيها على التشابهات، ولا على تطابق بين المؤلف والشخصية، ذلك أن التطابق بين الكاتب والراوي والشخصية يكشف السيرة الذاتية عن نفسها. إذ إن الغالب على السير الذاتية أنها تكتب بضمير المتكلّم المفرد "أنا" الذي يصهر كلاً من الراوي والشخصية والكاتب في بوتقة واحدة. فالروائي " شفيق التلولي" تعمّد استعمال ضمير المتكلم؛ ليُوهم القارئ بأن نصّه سيرة ذاتية، ويؤكدّ الاندغام بين من عاش الرواية (الشخص)، ومن يسردها (الراوي).

تمثل الشخصية الروائية مكوناً مهماً من المكونات الفنية للرواية، وهي عنصر جوهري في تطور السرد، إذ يلعب هذا المكون أدواراً عدة في بناء الرواية وتكاملها وطريقة عرضها للأحداث، ومن خلال مواقفها يمكن تبين المضمون الأخلاقي أو الفلسفي للرواية، فالكثير من أفكار الكاتب ومقاصده ورؤاه ومواقفه من القضايا المتعددة تصورها الشخصيات، فهي المسئولة بدرجة أكبر من سائر المكونات الأخرى عن طريق عرض الأفكار والتحكم بخط سير الأحداث أو مواجهتها.

رواية (زمن الشيطنة) هي عمل روائي للكاتب الفلسطيني شفيق التلولي التي صدرت عن (مكتبة كل شئ) بحيفا سنة٢٠١٨م، وقد جاءت ثمرة لنشاطاته في عالم المعرفة والثقافة، وعكست مواقفه ووعيه السياسي والفكري والاجتماعي، وجسدت انتماءه لجذوره الزمانية والمكانية.

تحفل هذه الرواية بالقضايا الوطنية مشتبكة بالقضايا الاجتماعية والسياسية في ظل نضال الشعب في فلسطين، إنها رواية ذات قدرة كبيرة على طرح ما تسكت عنه أقلام كثيرة. فهي تعالج قضية الحصار والغربة وقعها في المجتمع الفلسطيني، وما يتعرض له المنفي من ظلم في ظل الظروف السائدة في ذلك المجتمع، والتي تداخلت مع واقع الحصار المرير الذي تمثل في الرواية محوراً موازياً ومهماً، وتظهر من خلالها مواقف أفراد المجتمع، وتباين آرائهم واختلافها.

انتخبت الرواية حقبة ملائمة لطرح هموم الإنسان الفلسطينية متماهية بهموم الوطن، وهي حقبة (الحصار) من سنة ٢٠٠٦ م حتى سنة ٢٠١٨م تاريخ الانتهاء من كتابة الرواية، وهي حقبة خصبة حافلة بالأحداث التي تشير إلى الصراع المرير بين الشعب الفلسطيني وأعدائه الصهاينة ومواجهتهم بالكفاح والتضحيات، وفيها جرت تغيرات كبيرة للمجتمع الفلسطيني أصابت بنيته الأساسية من خلال الشرائح الاجتماعية التي تمثل قاعدة ذلك المجتمع.

تشير القراءة المتمعنة لرواية (زمن الشيطنة) إلى أن من أهم مكونات رواية (زمن الشيطنة) ومرتكزاتها الأساسية صورة الشخصية الروائية التي تتضافر مع مكونات روائية أخرى: كالفضاء والإيقاع والامتداد والتلقي؛ لتكون عملاً روائياً يمكن نعته برواية (الشخصية)، إذ تهيمن شخصيات الرواية على الأحداث؛ الأمر الذي جعل من تلك الشخصيات العنصر الأقوى، إذا ما قورنت بسائر العناصر الروائية الأخرى.

استعان الكاتب بعناصر الفن الروائيّ في تصوير الوقائع والأحداث التي ذكرها في روايته، مع ما يضيفه من مكون الخيال الضروريّ؛ لتكوين أو استكمال النسيج الفني للرواية بالمكونات المطلوبة، وكذلك شهد النص تطابقًا فكريًا حول قضايا عديدة بين السارد والمؤلف ومنها: رحلة التغريب والنفي والتشرد والمعاناة التي يلقاها الفلسطيني النازح والمشرد خارج وطنه.

تمكن الكاتب من خلال هذا العمل الروائي من أن يقدم تجربة روائية ذاتية خاصة، تجلى فيها الصدق الفني، مع رهافة الموضوع، وهذا أمر طبعي؛ ذلك أن التحام الكاتب بالهموم الفلسطينية، وهموم أبناء أمته، إنما يجيء عبر عالمه الخاص، فمن خلال الخاص يتكشف العام، مع توافر عنصري الصدق والانتماء من ناحية، والوعي الموضوعي والفني من ناحية أخرى.

منذ الفصل الأول يتولى الراوي مهمة الحكي، ليمتد ذلك على كامل الرواية، غير أنه تتخلل هذا السرد حوارات مطولة بين الشخصيات.

رصدت الرواية الشخصيات بدقة على النحو التالي:

أولا - الشخصيات المركزية والشخصيات الثانوية:

قسم الروائي الشخصيات قسمين شخصيات رئيسة وهما شخصية خالد المبعد، وشخصية زميلته روزيت، أما الشخصيات الثانوية فهي كثيرة ومتنوعة، وقد ساندت الشخصيات المركزية وعاونتها في البناء الفني للرواية.

ثانيا - تسمية الشخصيات:

حملت كثير من أسماء الشخصيات دلالات رحبة، تشي ببعض الملامح والأبعاد التي تتسم بها الشخصيات في تركيبها وسلوكياتها، فخالد المالح مبعد من كنيسة المهد ببيت لحم يلقب بالمالح، ولفظة المالح ترمز للمعاناة والألم والغربة والضياع والتشرد.
روزيت توحي بالجمال والفتنة فهي تحمل معنى الوردة، محمود تدل على الحمد والشكر، وعلاء وشريف اسمان يشيان بالعلو والشرف والرفعة، واسم صابر تشي بالصبر والتحمل والجلد، جدتي وداد ترمز للود والمحبة، ترمز للود والمحبة، سارة تشي بالسرور والفرح والحبور، أبو شرار، يرمز للشر والبطش والقوة، أبو الذهب، يرمز للغنى والثراء. وهكذا استثمر الكاتب سيميائية الأسماء؛ لتحمل إيحاءات وطاقات وأبعاداً دلالية رحبة، وتعبر عن أفكاره ورؤاه وأحاسيسه.

ثالثا - أبعاد الشخصيات

إن رسم الشخصيات القصصية وتصويرها عملية ليست هينة سهلة, لذا يلجأ الكاتب إلى وسائل وأدوات لرسم شخصياته بدقة وعناية منها تصوير الشخصية من خلال سلوكها وتصرفاتها بلمسات خفيفة في أثناء السرد والحوار والصياغة الفنية. ومن مجموع هذه اللمسات الدقيقة يتبين للمتلقي أبعاد رسم الشخصية وهي أربعة أبعاد:

خارجية ونفسية وفكرية واجتماعية:

البعد الخارجي المادي: ويراد به البعد الجسمي الجسدي, والملامح والقسمات, مثل: طول الشخصية, ولونها, وزيها, وملامح وجهها, وحركة العينين. ويرمي البعد المادي إلى دلالات اجتماعية أو اقتصادية من وراء هذا الرسم ، كما أن القوة الجسدية تسند الحق، وتحقق العدل بعيدا عن الظلم، فضلاً عن لهذا البعد تأثيراً عميقاً في نفس المتلقي وأفكاره إلى الدرجة التي تجعله يؤمن بأنه يساعده على طاعة الله، والدعوة إليه.

ويبرز السارد الملامح الخارجية للشخصيات وذلك عن طريق تقنية الوصف؛ ليبين ملامح الشخصية التخيلية ويقترب بها أكثر من واقعيتها. فجاءت شخصياته مقبولة وكأنها شخصيات واقعية اكتسبت الواقعية ويرى السارد ضرورة تحديد ملامح بعض الشخصيات الخارجية ويدرك المتلقي أن السارد وحده هو الذي يحدد تلك الملامح وأحيانا تقدم الملامح عن طريق الحكي "يقال إن" يقول خالد واصفاً ملامح شخصية روزيت الخارجية:
"روزيت ذات العينين اللوزيتين الزرقاوين اللتين تموجان كالبحر تحت سماء صافية"( الرواية : ص ١٧).

البعد النفسي: ويقصد به اللوحة النفسية للشخصيات أو ما يدور في أعماقها من مشاعر وانفعالات وتكشف ملامحها النفسية إن كانت قلقة متوترة, أو مطمئنة هادئة مستقرة, إيجابية متفائلة أو شريرة سالبة، متشائمة.

ومن أمثلة ذلك الوصف الداخلي الشخصية خالد الذي جاء مباشرة على لسان السارد: "كان محمود شجاعا جزئيا لا يقف عند حدود عمله المجتمعي والنقابي فقط"(الرواية : ٣٠).

البعد الفكري: ويراد به الانتماء الفكري للشخصية أو عقيدتها الدينية, وهو ما يؤثر في سلوكها وتصرفاتها ورؤيتها ومواقفها من قضايا عديدة.

البعد الاجتماعي: ويعني انتماء الشخصية إلى فئة معينة أو طبقة اجتماعية, لهذا البعد صلة قوية بالقيم السائدة في المجتمع, وبصورة النظام السياسي والاقتصادي فيه.

إن هذه الأبعاد هي أساس البناء الفني لرسم الشخصية, ويرجع هذا الاهتمام إلى مدى وجود الشخصية داخل النص وتحركها تبعاَ للعلاقات التي تربطها بالشخصيات الأخرى, وتميزها عن بعضها. يقوم رسم شخصيةٍ ما أساساً على فهم هذه الشخصية وقدرتها على أداء تصرفاتها في ظروف محددة ومعينة، والكشف عن هذه الملامح له دوره الفاعل في تحبيب هذه الشخصيات إلى المتلقين, أو تعميق أثرها في نفوسهم، فمع وضوح الملامح والقسمات تتهيأ في النفس أرضية القبول أو الرفض, هذه الأرضية هي التي تشكل العامل الأساسي في رسم معالم هذه الشخصيات. إن تكرار ملامح الشخصيات في رواية زمن الشيطنة يفضي إلى انطباع معالم هذه الشخصيات في ذهن المتلقي انطباعا قويا لا ينفك عنه, هذه الانطباعات تصل إلى حد تكوين صورة مكتملة المعالم والملامح عن الشخصية الروائية
.
رابعا - وظائف الشخصية:

اجتهد السارد في الكشف عن الأمور الآتية:

١ - معاناة شخصية المبعد، والتعبير عن الغربة والنفي، والحنين والشوق الى مسقط رأس المبدع مدينته بيت لحم.

٢ - تعرية الممارسات اللاأخلاقية واللاوطنية لبعض الشخصيات.

٣- تقديم صور مشرقة عن الأفعال الوطنية الشريفة.

٤ - تعرية صور الصراع الطبقي بين الأغنياء والفقراء.

٥ - كشف مساوئ الفلتان الأمني.

ومن هنا تعد الرواية وثيقة صادقة تسجل أوضاع تلك الفترة وظروفها.

خامسا - لغة الرواية:

يتحدث السارد في الرواية بلغة تصويرية سردية ميسرة، لغة مترعة بالمتناصات الأدبية والتاريخية والشعبية.

ولغة الرواية لغة مأنوسة منتقاة موحية صافية بعيدة عن الأخطاء اللغوية والمطبعية (النحوية والإملائية) إلا قليلا من الهنات ندت من المؤلف . استخدم الروائي تقنية الحوار بنوعيه الخارجي والداخلي.

لغة الرواية لغة شاعرية موحية تحتوي على مجازات واستعارات قريبة من شواطئ الشعر لا سيما في مقدمات الفصول. واستخدم الكاتب كذلك لغة الوصف وصف الأحداث والشخصيات.

يقول الكاتب بلغة شاعرية موحية فيها الألوان والمجازات "قبل الفضاء الأزرق الوسيع كانت أصابعنا خشنة تجيد الإمساك بالحجارة كما تجيد العرافة التنجيم بالرمل" (الرواية : ص ١٥٦ . (وفي موضع آخر من الرواية يلتقي القارئ اللغة الموحية التي تلامس شواطئ الشعر بتكثيفه وإشعاعاته المجازية يقول الكاتب:

"في زمن الشيطنة، شقي يصطاد غيمة عابرة، ودراويش ترفع المظلات لمطر من وهم! وفي زمن المدن المنسية، مقامر يمتطي صهوة أدهم بلا سرج! توبوا عن ركوب خيول غيرية لا تحيل في عصر الظلام، لاتستتيبوا الأدهم قبل أن يخرج إبليس من سروجكم. لن يصلح العطار ما أفسده أشباه الفرسان( الغلاف الخلفي للرواية).

بيد أنه في مواضع نادرة في الرواية يتحول الخطاب الروائي إلى النبرة التقريرية الخطابية، ويتحول فيها السارد إلى خطيب، ولعل السر في ذلك يعود إلى اندفاع شخصيات الرواية الثوري وغضبها من الظواهر السالبة في المجتمع، فخرجت اللغة عن طبيعتها التي تتسم بالبوح والبث والإيحاء بالمعاني والمشاعر (ينظر الرواية :ص ص ١١٨ ، ١١٩ ، ١٥٦).

وخلاصة القول: إن رواية زمن الشيطنة للكاتب شفيق التلولي قد نجحت في توصيل رسالتها، وأدت وظيفتها الفنية في تصوير الشخصيات؛ بوصفها عنصراً مهماً من عناصر البناء الروائي، وأن الكاتب نجح في استثمار أدواته ووسائله وآلياته الفنية في التعبير عن تجربته الفكرية والشعورية بجدارة واقتدار كبيرين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى