تداعيات الربوة المعتمة
(1) اللـــــوح المحفوظ
أعادني للوراء شهوراً... عندما قررت أن أكتب أشياءً أكثر دقة، فكتبتُ عن بطل يحرض الأحياء في مدن تدّعي إستنساخ الحضارة... بلا موروث فكري أو بنية تحتية... فكتبت قصتي (لم أكن وحدي) ولما لم يعرفه أحد كبطل يحرض بالصدفة... كانت شخصية الراوي تدل عليه... فتشاركنا خيبة لم يختلف عليها أحد... أنا وصديقي.
– هل هي حقاً معتمة؟
– أرى أن نقلب الصفحة... هذا أفضل...، بهذا الرد لخص لي صديقي نفوره من تلك الربوة.
ثم إرتدَّ على عقبيه ولم يضف، منحني صوتاً غير مسموع وكلمات لا تُقرأ واوراق بيضاء كثيرة ولم يعطني سوى كسرة قلم أسود، وقال بعد إنتظار طويل: الآن نكتب شيئاً عن بطل يحرض الأموات... فكتب قصة(المشجب) [1].
عانقني ثم إفترقنا على نية اللقاء، ولم نلتقِ... لم يكن ليمعن في الغياب دون عقاب كوني... هكذا قال لي يوماً إذا انا أفتقدته...
وحين لم يبقَ منه بعد زمن سوى مثول غيابه الدائم...، كنت أعترف للاموات بعدم جدوى تلك الحياة...
بحثتُ في أزقة المدن العتيقة فأغرتني الكتابة... لكنها لم تجدِ نفعاً في العثور عليه... كانت تفاقم غيابه بين الأحياء ليس إلاَ...
كانت أوراقاً صفراء مطبوعة، أشار باصبعه في غلظة تلقائية - تفرضها الحالة التنفيذية أحياناً- إلى خانة فارغة أمام ترويسة الأسم وقال: هنا ...
– لا أعرف له إسماً... ونظرت إلى جفاء عينيه في حذر ... إعتدل في جلسته خلف مكتبه ثم أشار للقائمة على الجدار المقابل : إنه البند الثامن بعد المائة يا سيدي ألم تقرأه؟ عكست نياشينه الرابضة على صدره ضوء الشمس في تلك اللحظة، فأعياني الجدار وأنا احاول الإمساك بحروفه...
– عليك أن تملأ هذه الإستمارة بكل البيانات الخاصة ببطل قصتك قبل ترحيله من هنا...
– ترحيله !؟ إلى أين؟
– إلى أين، ألا تدري ؟ هل انت جديد على عالم الكتابة؟
– نعم إنها قصتي الاولى... ولو كنت أعلم لما كتبتها...
– أرجوكَ لا تقل هذا، فهو ما ترنوا إليه تلك الشخصيات القصصية المخالفة لهذا
– الناموس الكوني... إنها تريد إسكات أقلامكم بأي ثمن.
– لكننا نحن من يرسم لها الــــ ..... فقاطعني وهو ينتفض في حرارة دلت عليها سبابته
المتوعدة...
– نعم يا سيدي هذا ما يدّعونه دوماً ضدكم... وضدنا، هل يريدوننا ان نخالف القانون ونحرمكم حرية التعبير!! هذا لن يكون أبداً ...
– لكن ...
– لكن... لكن ماذا؟ آه ... إذن أنت لم تقرأ البند الاول بعد المائة على القائمة... وقبل ان يشير إليها، كان هناك بصيص من ضوء الشمس يرتد عن كتفه المحاذي للنافذة لتعكس تلك النجوم النحاسية رُتباً تنفيذية عدة، لم تفلح مراوغتي للوهج... تنبه لذلك فأعتذر منّي، خلع سترته الزرقاء، تحرك نحو (مشجب) نحاسي ثقيل ينتصب في الركن المجاور، علقها هناك... لم يتنبه لذلك الثقل المعدني وهو يرتعد تحت سترته، كان يعود لمقعده عندما ترنح العامود لثوان قليلة ثم هوى على الجدار... فوق القائمة تماما ... فحطم اللوح المحفوظ .
بعد عدة شهور، كان (بالحبيب) يخرق غيابه برسالة رقمية عثرتُ عليها في بريدي، تنعى حتمية المصير لقصته (المشجب) برفقة ضحيتي....
(صديقي العزيز ...
لم يكن وحده بطل قصتك، رافقتهُ إلى أن أقتيد إلى تلك الأماكن المجهولة والتي أسميتها أنا... مناجم لإستخراج بقايا أرواح)
(بالحبيب)
تلقيتها بمزيد من التيه، في حينها... لكنها ذات يوم قادتني إلى هناك... إلى حيث الحقيقة عند (الربوة المعتمة) [2].
(2) خـازن الربـوة
على الرغم من علوّها الشاهق إلاّ أنها كانت مكاناً سفلياً يقبع تحت قشرة السطح، هواء ثقيل وحار يربض في الأجواء، لا ينتمى للإرتفاعات المعروفه على خارطة الأماكن، إستوقفني برداء طويل أبيض، أشار للبطاقة الممغنطة المثبته على صدري، رمقها بنظرة خاطفة وتمنى لي طيب الإقامة، طلبتُ منه ان يدلني على الزنزانة المسجلة، فرد مستهجناً: زنزانة!! ليس ثمة زنازين هنا أيها السيد... ربما تقصد عنابر النزلاء؟
حظيت بقليل من الإرتياح المشوب بالتوقعات المفاجئة، تكشفت أمامي ساحة (مسفلت) خلتها للتجمعات الصباحية، مستديرة تحول دون التنقل من مكان لآخر على هذه القمة إلا من خلالها، سارية مغروسة عند المنتصف تشكو غياب علم محتمل عند قمتها... ثلاثة مباني أفقية تمددت على حافة الربوة المسيجة بالأسلاك الشائكة، أحاطت بها مسطحات خضراء من كل الجهات.
رافقني رجل آخر ، بذل ما بوسعه ليظهر ببشاشةٍ المضيف... ولما لم يفلح قدم إعتذاراً عن يباس الملامح... ولم ينظر في وجهي، قادني لأحد المباني المسيجة باليافطات القماشية، كانت تلك اليافطات تسترخي في كسل مبهم على جسد الجدار تحت وطاة الركود الثقيل للرياح ... بينما تنعكس على صفحاتها إبتهالاتٍ منوعة ترحب بحضور غير مسبوق لجميع الكتاب من خلال روابطهم الاقليمية...
بدورها كانت الذاكرة تمطرني بالمزيد من الصور المختزنة تحت وطأة الهواجس لهذا المكان...
كان الرجل يستنفذ فرصته الأخيرة في تشكيل ملامح وجهه المتكلسة في آتون البشاشة ... لكن بلا جدوى، أفقت على وخزة من عصاه، فأعتذر مستدركاً وهو يقول: هناك... بطل قصتك هناك، واشار لحجرة مرصعة بالزجاج الواقي ولنهاية توحي بفراق مؤقت بيني وبينه...
كانت تلك، هي المرة الاولى التي أراه فيها بعد نشر قصتي، لم يعرفني للوهلة الأولى، ثم ادرك وجودي بغريزة التواصل المعدومة...
تقدم نحوي فأثار في داخلي حنيناً وشعوراً عميقا بالذنب، لم يكن على قدر كبير من الحيلة، لكن الاشهر الستة الماضية في هذا المكان بدت وكأنها قد أنضجته أكثر مما يجب.
– هذه الليلة الأخيرة لك هنا ... وغداً تعود معي
– لا أريد مرافقتك... يكفيني ما حدث...
– لك ما تريد... لكن عليك ان تظل أمام ناظري، فأنت تحت وصايتي..
– هل لي أن أعرف لم لبيتم الدعوة، لماذا وافقتم جميعكم على الحضور ؟؟
– أعتقد... أنه لأجلكم
إقترب مني حتى عانق اللوح الزجاجي، وقال بنبرة جادة تفوح منها رائحة التحدي: لأجلنا لا تعبثوا بتلك القصص ... أنا عني أريد أن أبقى كما أنا... وأيضاً رفاقي كذلك، صدقني لن نمنحكم تلك الفرصة.
وافقته دون أن أعي أي مبرر لما قاله، لا بل دهشت لتلك النبرة الجادة ولتأكيده الحديث نيابة عن الجميع، ثم أستوقفني قبل أن أغادر وهمس لي : فقط إمنحني اسماً... أرجوك. قالها في كبرياء وأسى... فتكبدتُ مرارة النظر والإستماع معاً.
لم احتمل تلك المرارة... فتمنيت لو أني أمحوه من ذاكرتي... عاد لسريره، تكوم فوق نفسه، دفن عقدين من عمره بين ساقيه، وبكى بالنيابة عني ...
تقاطر ملفت للحضور، حياة أخرى بدأت تدب فوق الربوة المهجورة، تزامنت مع إنارة المصابيح الضخمة فوق الأسلاك الشائكة، ومع لهاث آخر وهج للضوء كان يركض خلف الشمس، بعد قليل كان زحف العتمة يقف عند حدود القمة بعد أن اغرق المدينة تحتنا بأكملها ولم نعد نرى سوى خيالات باهته...
كنتُ قد تخلصتُ من ذلك التوتر الذي رافقني، حين لمستُ تحفظاً يقيد حركة الحضور واخذت ابحث عن صديقي بينهم، فلا بد له أن يأتي... لا أظنه قد تخلى عن بطل قصته الذي أقتيد بتهمة التحريض لعالم الأموات.
نشرَ الرجال مقاعداً خشبية تراصت في صفوف متقابلة فوق الساحة العامة والمسطحات الخضراء الجانبية، سرى شعور بالإنتعاش عندما تضوعت روائح مختلطة من القهوة والشاي الاخضر وبعض المشروبات الاخرى، كان هناك رجالٌ آخرون بوجوهم الصارمة ولباسهم الذي يشبه زي الممرضين قد تكفلوا بتقديم تلك المشروبات على اطباق نحاسية، لم يكن صديقي " بالحبيب" بين الحضور فخشيت النوائب وانتبذت مكانا منفرداً...
إرتياح عام جلل أمزجة الحضور، فأضفى ألقاً فاق التوقعات، حين تخلى البعض عن صمتهم المبيت مسبقاً، همس حذر ثنائي الاطراف أخذ ينمو ، سرعان ما تحول إلى حوارت علنية، لم تلبث تلك الحوارات أن غيرت مجرى الامسية برمتها... تطوع احد الحضور ليعلن أمام الجميع عن صدور روايته الجديدة التي تخطت حواجز التشريح بمهارة فائقة... ذلك أن أبطالها هم من الدرجة الثالثة في عالم الاحياء...
أيده العديد... ، تطوع آخر فألقى قصيدة حديثة حركت بإيقاعها العاصف ركود الهواء الجاثم فوق السطح... صفق كل الحضور للخاتمة باستثناء الوقوف ...رجال الربوة، كانت أيديهم تثقب العاصفة إجلالاً لحرمة المكان.
لم يطل بنا المساء... أعلنت مكبرات الصوت عن وصوله... تطاولنا لرؤيته... لكنه كان الأكثر تواضعاً بيننا... فلم نره لإنحناء قامته... سبقته الأوسمة المرصعة... كانت تختال وحدها بين إثنين من مرافقيه... توسط الحضور فأستدرنا نحوه، كنا بإنتظاره دون علم منّا، جثم هدوء آخر فوق المكان... ففرقه بعصا الشعر حين إبتسم مرحبا ... اطلق بيته الموزون في وجهنا ثم قال انه من شعره الموشى بأزهار الروابي، شرع احد المرافقين على الفور بتوزيع اوراق واقلامٍ ذهبية، بنصف إشاره تلقاها منه... فسر ذلك قائلاً : هذا من الذهب الخالص، وغير مُستَردْ... إنه للذكرى.
لاشيء يخيف أكثر من صفحة بيضاء...وقلم، هذا ما قلته لأحد الحضور... كان بجانبي، تبادل الجميع دهشة مماثلة ... فتذكرت صديقي " بالحبيب " ولم أزد فقد لفظتُ غصتي لأنسى غيابه... على الفور.
أخرج (خازن الربوة) ملفاً ثم وقف أمامنا مشيراً لمحتوياته، قال في أسى: هذه تقارير اللجنة المشرفه على إعادة التأهيل ... لأبطال قصصكم، توقف لوهلة جال ببصره بيننا ثم تابع: لكن ومع كل أسفي جاءت كلها سلبية... فقد ثبتَ لنا بما لا يدع مجالاً للشك ان لديهم نزعة راسخة للتمرد... حتى عليكم انتم أيها السادة.
كان خارج التوقعات الخارقة، وعلى الرغم من كل ذلك الهدوء...فقد غشيتنا الصرخة...
بادره أكثرنا حضوراً ذهنيا، مستفسراً: هل يعني هذا دورة تأهيلية أخرى؟ أم حكماً أبديا بالعزل؟
على غير ما توقعنا، جاء الرد مهذباً يطفح بشعور يرقى لمستوى الأوسمة : وهل يعقل هذا يا ولدي؟ هذا مخالف لكل الشرائع والقوانين بل وللإنسانية جمعاء... تهدج صوته، فبكينا تحت تأثير الظنون ... بصمت لائق.
ثم أردف: ولكنني بالمقابل أخشى على مجتمعاتنا الآمنه من هؤلاء... تفرس ملياً في وجوهنا حتى أدرك أننا نصغي بلهفة، فتابع: لهذا فهناك طريقةٌ واحدة... وواحدة فقط، علينا تنفيذها فوراً لحلٌ هذه المعضلة...
تسابقنا لشحن بارقة الأمل، بروح التفاؤل... أعربنا عن صمت المقابر أمامه بإنتظار لحظة الخلاص، فأشار لما بين يدينا من اوراق بيضاء وقال: أعيدوا كتابة تلك القصص و تلك الروايات مرة أخرى... إستبدلوا وقائعها القديمة بأخرى جديدة... فينتهي كل شيء.
بعد سنين طويلة لم اعد بعدها ملزماً بإجترار ما حدث، أصبحت بحاجة ملحّة لأحد ما ليؤكد لي صحة ما شاهدته وسمعته في تلك الأمسية، كدتُ أنسى قصتي تلك، مثلما نسيتُ بطلها تماما، بعد أن تفرقتْ ملامحه في دروب التيه، تحدث البعض عن تمرد واسع بين النزلاء ومحاولة فاشلة للفرار بعد أسبوع واحد من تلك الأمسية، وعن نهاية دامية ... أكد العديد تلك النهاية، قصصاً غريبة نسجتها المخيلة لسكان الجوار، عن ليلة كثر فيها نباح الكلاب، تواصل حتى مطلع الفجر وعن صراخ ظل يشتعل لفترة طويلة، حتى بعد أن اقفرت تلك الربوة ولم تعد تعني شيئاً لأحد...
ليست لأسطورة يتناقلها الشيوخ في ليالي الضجر أدين بفضل التخلص من حملي الثقيل، إنما لدلالة باتت اكيدة، فالكل يجمع بلا إستثناء على ان الربوة لم تكن مضاءة ولا ليوم واحد في تاريخها، ولا حتى في غضون تلك الأمسية الغابرة...
أشار بيد مثقلة لمكان الربوة بعد أن ترآءت لنا بوضوح، كان قد أعيانا المسير ، فاحجم عن التقدم وقال: هنا نجلس... كانت قد تغيرت تماماً... غرفة واحدة وعامود مشدود لأسلاك طاعنة في جسد الأرض... هذا كل ما هي عليه الآن... توقفنا عن المشي ولم اتوقف عن طرح أسئلتي، كان قد إعتراني حنين مذاب بوجع الماضي :
– هل هي حقاً معتمة؟
– أرى أن نقلب الصفحة... هذا أفضل...،
– كما تريد...
– ليست كما اريد... -رد في عصبية غير معهودة – كيف يجزم الجميع بحدوث ذلك التمرد؟ أيضاً لم يكن هناك أدنى محاولة للفرار...
– لكنك لم تكن بين الحضور في تلك الامسية ... انا بحثت عنك بينهم
أرخى حاجبيه حتى إستقرت ملامحه (الشمال أفريقية) على سجيتها ثم أردف:
– هل تذكر قصة (المشجب)
– نعم ... مابها؟
– هل تعلم ما حل ببطلها المسكين؟؟؟
– نعم...لقد أقتيد من على سريره... أذكر ذلك تماماً ... لكن ما الأمر؟
أطلق زفرةً مألوفة وهو يقول: ذلك الشخص...، لم يكن هو... أنا نمتُ في فراشه.