السبت ٢٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم محمد زكريا توفيق

تداعيات نظرية التطور لداروين (4)

محمد زكريا توفيق

نظرية التطور لداروين اُستخدمت استخداما خاطئا في بداية القرن العشرين، لتبرير مفاهيم العنصرية البغيضة والامبريالية الظالمة. مبدأ "الاختيار الطبيعي"، تم توظيفه لكي يعطي مبررا شرعيا وأخلاقيا لاستعمار الشعوب ونهب ثروات الأمم الضعيفة والمغلوبة على أمرها.

الأخطر من ذلك، هو ظهور فكرة إمكان تطور الجنس البشري أو بعض الأمم إلى جنس أرقى، عن طريق تنظيم عملية التزاوج وقصرها على الأقوياء والأصحاء والأذكياء فقط من جنس معين. النازية في ألمانيا، والسوبرمان بين البشر.

هذا ما نفعله بالنسبة للخيول والكلاب والحمام وبعض المحاصيل الزراعية. التهجين وانتقاء السلالات. أما الضعفاء والعجزة والمشوهين من البشر، فيجب تعقيمهم وجعلهم غير صالحين للإنجاب.

هل يمكن أن نلوم داروين على ذلك؟ ومن هو المسؤول عما اسماه أشلي مونتاج ب"الاستخدام المتطرف والغبي والشرير" لنظرية داروين؟

جاء في كتاب "فكرة داروين الخطرة" للفيلسوف الأمريكي المعاصر دانيال دنيت ، أن داروين له قدرة خارقة على جذب معجبين غير مرغوب فيهم. معجبون مصابون بأمراض نفسية، كارهون للبشر، وغيرهم ممن لا يفهمون فكرة داروين الخطرة على حقيقتها، ويستخدمونها استخداما بشعا.

دنيت نفسه، كما يقول عالم البيولوجيا الأمريكي ستيفن جولد، قام باستخدام نظرية داروين استخداما خاطئا في كتابه "فكرة دارون الخطرة"، عندما افترض دنيت أن كل شئ يخص وجود الإنسان يمكن أن نفسره بنظرية التطور لداروين ومبدا البقاء للأصلح. أي يمكن أن نفسره تفسيرا ميكانيكيا بحتا.

دانيال دنيت يرى أن نظرية التطور لداروين، تقودنا إلى نظرية الذكاء الطبيعي للكمبيوتر. هذا يعني تحويل عمل مخ الإنسان، ومفهومي النفس والوعي إلى مجموعة موديلات أو برامج كمبيوتر. الإنسان عبارة عن إنسان آلي تتحكم فيه مجموعة برامج كمبيوتر، موروثة أو مكتسبة. شئ مخيف.

باختصار، يحاول دنيت إخضاع برامج الكمبيوتر إلى نظرية التطور لداروين، وبالعكس. بخلاف "ستيفن جولد"، الذي يرى أن التطور يحتاج إلى أشياء أخرى بجانب مبدأ "البقاء للأصلح". مثل ضغوط المجتمع والعوامل النفسية، إلخ.

يأتي بعد ذلك علم الأحياء الإجتماعي، "سيسيوبيولوجي". وهو أحد العلوم الحديثة التي أثارت جدلا وخلافا شديدا بين العلماء. أحد رواد هذا العلم هو الأمريكي إدوارد ويلسون.

يقوم علم السيسيوبيولوجي بدراسة السلوك الإجتماعي للحيوانات والإنسان والحشرات التي تعيش في مجتمعات مثل النمل. ويثبت أن السلوك في هذه المجتمعات له جذور بيولوجية، أي موروث. من ثم، يخضع السلوك عند الحيوانات والإنسان والحشرات لنظرية التطور لداروين ومبدأ البقاء للأصلح.

علم السيسيوبيولوجي، يفسر لنا أسباب النزعة العدوانيةا والشذوذ الجنسي ، وحب الملكية عند الإنسان والحيوان والحشرات. وكذلك كره الأجانب، ونقاب المرأة، واغتصابها وحبسها في المنزل. السبب بيولوجي موروث.

على سبيل المثال: من أين أتت ظاهرة الايثار عند الإنسان والحيوان؟ الايثار بمعنى أنك تفضل غيرك على نفسك. وما الذي يجعل الأم تضحي بنفسها لكي تحمي أولادها؟ ومن الذي يجعلنا ندافع عمن ينتمون إلينا بصلة القرابة ضد الغرباء، "أنا واخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب"؟

السبب أيضا بيولوجي محض. وهو: لكي أضمن استمرار جينات ابني وجينات ابن عمي، التي هي تشبه إلى حد كبير جيناتي، وانتقالها إلى أجيال جديدة.

مكرمة الايثار هذه ليست فضيلة يمتاز بها أهل الصعيد وحدهم، وإنما هي غريزة بيولوجية. لم تأت عن تعاليم دينية أو إجتماعية موروثة. لقد جاءت عن طريق مبدأ البقاء للأصلح، لكي تساعد في حفظ الجينات. من ثم، جاءت لحفظ النوع.

بعد نشر ويلسون نظريته في السيسيوبيولوجي عام 1975م، واجه معارضة شديدة، بحجة أن هذا يعني حرمان الإنسان من حرية الإرادة، وتجعله مسير لا مخير مئة في المئة، بذلك يكون غير مسؤول عن أعماله بالمرة. لكن سلوك الإنسان، كما يقول المعارضون، أكثر تعقيدا من أن تفسرة نظرية واحدة.

لكن، اكتشف العلماء حديثا نوعا من الديدان له جين واحد، يعتبر مسؤولا عن السلوك الإجتماعي للدودة عند تناولها الغذاء. مما يعطي لعلم السيسيوبيولوجي، الذي يعتمد على نظرية داروين، دفعة كبيرة إلى الأمام.

هل التطور، خصوصا بالنسبة للإنسان، عملية بيولوجية ميكانيكية محضة؟ أم عملية تتأثر أيضا بالمجتمع والثقافة والحضارة والعوامل النفسية وقانون الطوارئ؟ في كلتا الحالتين، البيئة عامل أساسي للتطور. من لا يستطيع أن يتكيف مع التغيرات الجديدة للبيئة ينقرض ويطويه النسيان ويذهب في خبر كان، ومن يستطيع أن يبقى، يتكاثر وينتشر.

هذا يجعل قضية الحفاظ على البيئة سليمة نظيفة، ومحاربة القذارة والتلوث، أكثر من قضية أخلاقية. حماية البيئة مسألة حياة أو موت بالنسبة للجنس البشري، وليس لنا خيار آخر يا أولي الألباب.

بالنسبة لعلاقة نظرية التطور لداروين بالأديان، فنظرية الخلق التي أتت في الأديان الكتابية الثلاث، لا يعتبرها العلماء نظرية علمية. العلوم لها قواعدها وأصولها التي لا تنطبق عليها نظرية الخلق في الأديان السماوية.

العلوم ليس لها دين أو وطن. وليست لها أيديولوجية أو عواطف. ولا تعرف معنى للحق والعدل، أو الشفقة والرحمة. إنما هى مجموعة بديهيات وقوانين منطقية تحاول اكتشاف أسرار الكون حسب المفهوم الإنسانى.

تحاول العلوم اكتشاف طبيعة الأشياء. فهي محايدة فى بحثها الدؤوب عن الحقيقة. تحكمها فى ذلك التجربة والمشاهدة وعدم التعارض المنطقي بين قوانينها وبديهياتها.

يمكن تلخيص الأسلوب العلمي المتفق عليه فى الخطوات التالية:
1- الملاحظة

2- الفروض (ناتجة من الملاحظة)

3- التنبؤ (باستخدام الفروض)

4- التجربة (لاختبار صحة التنبؤ)

5- تكرار 3 و 4 حتى تتفق التجربة مع التنبؤ.

العلم الذي يعتمد على الغيبيات والمعجزات، لا يمكن أن يكون علما. إنما هو دين، لا أكثر ولا أقل. ليس هذا عيب في العلوم أو الأديان، إنما مجرد إختلاف في طبييعة الأشياء.

من ثم تصبح بدعة الإعجاز العلمي لما جاء في الكتب السماوية، مجرد دجل وخرافة. الإعجاز العلمي، لا هو علم يمكن أن يمدنا بنظرية جديدة تنفعنا وتشفي أمراضنا، ولا هو دين يضيف شيئا نبيلا إلى قيمنا الخلقية.

حتي لو كان الهدف من بدعة الإعجاز العلمي هو إثبات صحة الأديان، ونفض غبار الشك عن مصداقيتها، فالاثبات هنا لا يخضع للمنطق المتعارف عليه. المنطق السليم، هو الآخر له أصوله وقواعده المعروفة.

لنظرية التطور لداروين تأثير كبير على الفلسفة والفلاسفة. في الماضي البعيد، نجد الفيلسوف اليوناني القديم هيرقليطس (540-470 ق م)، يقول بأنه لاشئ يبقى على حاله. كل الأشياء في حركة مستمرة، بما فيها عملية الخلق. ويمكن القول هنا أن داروين قد تأثر بفلسفة هيرقليطس.

الفيلسوف الأمريكي البرجماتي جون ديوي (1859-1952م)، يشتق الكثير من داروين. مذهب الفلسفة الوجودية يقول: "الوجود سابق على الماهية". أي أن الوجود لم يسبق تصوره في عقل الخالق قبل وجوده. الفلسفة الوجودية هي أيضا فلسفة تنطبق على فكرة الخلق الميكانيكي في نظرية التطور.

هذه تداعيات نظرية التطور لداروين باختصار شديد. كتبتها في أربع مقالات لفتح شهية القارئ العربي لطلب المزيد. فهل نظرية التطور لدارون نظرية علمية أم دين؟ وهل هي تثبت وجود الخالق أم تنفيه؟

معظم العلماء والفلاسفة المعاصرين تؤمن بالنظرية، وتختلف فقط في تداعياتها وكيفية حدوث التطور وبعض التفاصيل التي لا تهم سوى المتخصصين. فوائدها لا يستطيع أن ينكرها أحد.

صناعة العقاقير التي تستخدم هندسة الجينات، تعتمد علي نظرية التطور. المضادات الحيوية التي تتجدد وفقا لتغير جينات الباكتيريا والفيروسات القاتلة، هي الأخرى تعتمد على نظرية التطور. كذلك مقاومتنا للآفات، وزيادة إنتاج المنتجات الزراعية.

لكن رجال الدين، تقف منها موقف العداء الشديد دون أن يكلفوا خاطرهم بدراستها وتفنيدها. إذا أرد رجال الدين أن يثبتوا خطأ نظرية التطور من الناحية العلمية، فما عليهم إلا أن يكتبوا بحثا يوضح من الناحية العلمية خطؤها. وينشروا هذا البحث في المحافل العلمية وبين المتخصصين، ولن يمنعهم أحد.

أما أن يقفوا على المنابر وفي القناوات الفضائية، ليسبوا ويلعنوا داروين ووالدي داروين. وينعتوه بالكفر ويتوعدوه بعذاب الآخرة، فهذا ليس الطريق السليم للدفاع عن أدياننا.

إذا كانت نظرية داروين صحيحة، فهذه الحقيقة لن نستطيع إخفاءها مهما حاولنا وعلا صوتنا فوق المنابر أو عبر الأثير. وإن كانت خاطئة، فعلينا إثبات ذلك.

نظرية التطور لداروين جعلتنا نفهم بطريقة أفضل أنفسنا وعملية الخلق. ساهمت في إنقاذ أرواح لا تعد، وساعدت في توفير الغذاء للملايين. فكيف تكون خاطئة أو من عمل الشياطين؟

محمد زكريا توفيق

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى