الاثنين ٩ آب (أغسطس) ٢٠١٠
بقلم محمد زكريا توفيق

تداعيات نظرية التطور لداروين (3)

ما هي علاقة الأخلاق بمبدأ الاختيار الطبيعي؟ هل يمكن أن يكون لهذا المبدأ دور في بناء الأخلاق؟ الأخلاق كما نعرفها، تأتي كتعاليم إلهية من السماء. بدونها ينتشر الفسق والفجور وعظائم الأمور.

الأخلاق في الأديان تستلزم وجود الله والشيطان والخلود وانتصار الخير على الشر والجنة والنار. عدم وجود الثواب والعقاب، لا يدفع الناس إلى التضحية اللازمة لكي تعمل القيم الخلقية كما يجب.

لكن دارون يقول: إن بداية الأخلاق لم تأت أصلا تطوعا، أو كأعمال مجيدة نادي بها الحكماء والأنبياء من فراغ. لقد أتت كضرورة بيولوجية تساعد على بقاء النوع.

جدودنا الأولون كانوا يعرفون الأنانية والشفقة على الضعيف. اندمجت هاتان الخصلتان المتعارضتان مع بعضهما وتحولتا إلى رغبة في مساعدة الغير. على أمل أن يقوم الغير بمساعدتنا بالمثل.

عندما يستضيف أعرابي في خيمته بدويا تائها في الصحراء، ويقدم له الماء والغذاء، نسمي هذا كرما. لكنه في الواقع أكثر من مجرد كرم. إنه بوليصة تأمين ضد خطر الموت جوعا وعطشا.

ماحدث للبدوي يمكنه أن يحدث للأعرابي. الكرم في الصحراء ليست خصلة نفتخر بها فقط بين القبائل ويتحدث بها الركبان، إنما هي ضرورة وصندوق ضمان اجتماعي. يجب أن يشترك فيه الجميع.

من لا يكرم الضيف في الصحراء، يصبح خارجا عن الجماعة ومساهما في تدميرها. المجتمعات التي تكثر فيها القيم الخلقية، تنمو وتزدهر ويزداد عددها. هذا ما نعنيه بمبدأ الإختيار الطبيعي والبقاء للأصلح الذي يعمل وراء الأخلاق.

للفيلسوف الألماني عمانويل كانط (1724-1804م) رأي في الأخلاق. فهو يقول أنه ليست الأديان فقط، وإنما العقل أيضا يفرض على الناس واجبات أخلاقية.

الأخلاق عمل منطقي، وليست مجرد أوامر إلهية فقط. لهذا وُضع كانط بين مفكري عصر التنوير. إنه يقول، إن سبب الأخلاق علمي لا ديني، " شئ كده بالعقل". ومن قبله، ألف أرسطو كتابا في الأخلاق، لم يذكر فيه كلمة واحدة عن الجنة، أو عذاب القبر والحرق بالنار.

القيم الخلقية يمكن استنتاجها بالعقل فقط. يقول كانط، علينا أن نتصرف كما لو كانت الحكمة من تصرفاتنا، هي عمل قوانين عالمية لكل الناس، بدون أن تتعارض مع المصلحة العامة.

نحن كمخلوقات عقلانية، من واجبنا طاعة العقل. وسوف أبسط فكرة كانط هذه في الأمثلة الآتية:

لنفرض أنك استلفت من صديقك مبلغا كبيرا من المال. لنفترض أيضا أن الصديق لم يراع أصول الصداقة، وقام بالمطالبة بالمبلغ وملاحقتك ومضايقتك. مما جعلك تقول فى نفسك، لو قمت بقتل هذا الصديق الرزل، فسوف يكف عن ملاحقتي، وأفوز بالمال دون مطالبة.

لكن كمعجب بفلسفة كانط وملتزم بأفكاره، سوف تختبر تعميم مبدأ القتل عالميا. وتسأل نفسك، ماذا يحدث لو لجأ كل واحد منا إلى قتل الآخرين لتحقيق أغراضه؟ طبعا هذا سوف يكون من الجنون. لأنه لن يُبقي أحدا يمكن أن نطبق عليه القانون الأخلاقي.

ماذا بالنسبة لنقيصة "الكذب"؟ هل يمكن أن أعمم مبدأ الكذب، وأن أجعل منه مبدأ عالميا؟ كيف يستقيم أي شئ، لو كانت كل الناس شيمتها الكذب؟ الأخبار في الصحف ومحطات التليفزيون والراديو، كلها كذب في كذب. تصريحات المسؤولين كلها كذب. نصائح المحامي أو الطبيب، كلها كذب. هل يستقيم أي شئ؟

وإذا كان القانون العالمي هو "كل واحد يقوم بالسرقة". هذا أيضا غير ممكن. لأنه سوف يخل بمبدأ الملكية الخاصة. ويصبح كل واحد، قادرا على الإحتفاظ بما في يده طالما يستطيع الحفاظ علي المسروق وحمايته. هذا يجعلنا نعود إلى قانون الغاب.

يقول كانط، علينا أن نعامل الناس كما نحب أن يعاملونا به. تعاملنا يجب أن يكون غايات وليس وسائل. مبدأ ميكافيللي "الغاية تبرر الوسيلة" مرفوض تماما. لا تستغل الآخرين لما فيه مصلحتك. الأخلاق تشمل إحترام كرامة وآدمية كل فرد كإنسان.

كانت المبادئ الأخلاقية لكانط، لها تأثير عملي كبير على قضايا المساواة والتفرقة بسبب الجنس أو الدين أو العرق. وكان كانط، حريصا على أن يجعل التمسك بالأخلاق القويمة، نوع من الواجب الإنساني. لكي أنتمي للإنسانية، يجب أن ألتزم بالأخلاق. وعندما يفعل أحدنا شيئا مشينا، نصفه حقا بأنه "ليس بني آدم".

لكي تنتمي إلى هذا الجنس البشري، يجب أن تتمسك بالأخلاق. لأن هذا في مصلحتك كفرد، ومصلحة الجنس البشري ككل. فعل الصواب كواجب في رأي كانط، أفضل بكثير من فعل الصواب تحت تأثير الشفقة والعطف. أو طمعا في الجنة وخوفا من عذاب النار.

المعرفة الإنسانية محدودة كما يقول كانط. لذلك، يجب أن تتعدى الأخلاق النظرة الضيقة التي تنحصر في المنفعة الشخصية المؤقتة للفرد. الإنسان كائن إجتماعي لا يستطيع أن يعيش بمفرده بمعزل عن باقي الأفراد. ومن هنا تصبح الأخلاق ضرورة للعيش في المجتمعات.

هناك فلسفة أخلاق أخرى ظهرت في القرن التاسع عشر، وكانت تنافس فلسفة كانط الأخلاقية. هي الفلسفة النفعية (Utilitarianism). كان من روادها الإنجليزيان: "جيريمي بنتام" (1748-1832م)، و "جون ستيوارت ميل" (1808-1873م).

النفعية مدرسة أخلاقية تقول أن القيمة الأخلاقية للفعل تتحدد بمقدار إسهامه في النفع العام. الأخلاق ليست مبنية على العقلانية كما يقول كانط، إنما مبنية على العواطف، على الشعور والهوى. بهدف الحصول على السعادة لأكبر قدر من الناس.

الفيلسوف جيريمي بنتام يقول بأن الهدف الأساسي والوحيد للوجود البشري على هذه الأرض هو الاستمتاع بالحياة واللذة. وكل ما عدا ذلك سراب في سراب. المقصود بذلك لذة الأكل والشرب والجنس والسعادة الأرضية عموماً.

إذا أمضيت حياتي في الحزن والهم دون اقتناص المتع والشهوات، أو دون التمتع بأطايب الحياة، فهذا يعني أني لم أستفد شيئا ولم أعش أصلا. هذه هي نظرية "بنتام" في إيجاز.

لكن جون ستيوارت ميل أضاف إلي فلسفة بنتام في الأخلاق بعدا جديدا هو الضمير الداخلي. وكان يقصد بذلك أن المتعة لا تكفي كفلسفة للحياة وإن كانت ضرورية، إنما ينبغي أن نضيف إليها الإحساس الداخلي بالواجب تجاه الآخرين وآلامهم.

بالرغم من أن بنتام يحاول تحقيق سعادة البشر عن طريق المطابقة بين مصالح الفرد ومصالح المجتمع ككل. إلا أن ستيوارت ميل يضيف: أننا لن نجد السعادة الشخصية إلا إذا بذلنا كل جهدنا لتحقيق سعادة الآخرين. هذا يعني رفضه للأنانية الفردية السائدة في بعض مجتمعات الغرب.

بالتالي لا ينبغي أن نفهم كلمة الفلسفة النفعية هنا على أساس أنها فلسفة مصلحية للفرد، إنما على أساس أنها تحقق المنفعة والمصلحة للآخرين كأنها مصلحتنا الشخصية

لكن داروين يقول: إن الإختيار الطبيعي متمثلا في الغريزة والعادة هو المصدر الحقيقي للأخلاق. نمارسها بدون وعي وبدون شعور بالسعادة في كثير من الأحيان. أي أن السبب بيولوجي.

الإختيار الطبيعي وراء كل القيم الخلقية، سواء جاءت في الأديان أو عند كانط أو النفعيين. لكن أتباع داروين قاموا باشتقاق قيم خلقية واقتصادية منحرفة من نظريته تختلف عن القيم التي يعنيها داروين نفسه.

أشهرها جاء في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تحت عنوان "الدارونية الإجتماعية". التي تقول أن التقدم الإجتماعي يحدث فقط عندما لا تعوق الحكومات أو القيم الخلقية، القوي وتمنعه من تسلق الهرم الإجتماعي لكي يصل إلى القمة.

الدارونية الإجتماعية جاءت من مبدأ البقاء للأصلح لداروين. مؤسسها هو أحد معاصري داروين، الإنجليزي "هيربيرت سبينسر" (1820-103م).

قام سبينسر باستبدال التأثير البيولوجي في نظرية دارون بالتأثير الإجتماعي في نظريته. ومبدأ البقاء للأصلح بالنسبة للأفراد، بمبدأ البقاء للأصلح للقيم الإجتماعية. لقد تأثر داروين ب "سبينسر"، وسبينسر بداروين. تعبير "البقاء للأصلح"، استعاره داروين من سبينسر. وجاء بمعنى النضال من أجل البقاء.

الذين ينجحون في البقاء أحياء، هم الأفضل والأحسن والأقدر على البقاء. هذا المبدأ، كما يقول سبينسر، ينطبق على أشياء أخرى منها الأخلاق والمؤسسات.

لكن سبينسر قام بتحريف أفكار دارون. فهو يقول أن الصراع من أجل البقاء، ينتج عنه تميز الذين نجحوا في البقاء أحياء عن الذين لم ينجحوا. أي أنهم أفضل. ويساوي التطور للأفضل بالتقدم في اتجاه هدف مرسوم.

لم يقل دارون البقاء للأفضل. وإنما قال البقاء للأصلح. الأصلح للحياة في هذه البيئة الجديدة. قد تكون الحيوانات المنقرضة أفضل وأجمل وأقوى من الحيوانات التي استطاعت البقاء على قيد الحياة. لكنها لم تستطع لسبب أو لآخر مواءمة الحياة الجديدة.

بالنسبة للولايات المتحدة، نجد الدارونية الإجتماعية تنطبق مع أفكار الحزب الجمهوري، وهو يمثل المحافظين وعتاة الرأسمالية والعولمة.

الدولة يجب أن ترفع يدها عن الإنتاج وتتركه للقطاع الخاص. الإقتصاد يجب أن يُترك للمنتصر لكي يحصد ثمار انتصاره. الضحايا هم مجرد ضحايا بالضرورة. لا يجب مساعدتهم حتى من الحكومة.

لا يؤيد سبينسر مساعدة الحكومة للفقراء، وهو مع رفع الدعم عن رغيف العيش وعن المحروقات والإسكان والتعليم والصحة. الفقراء أثبتوا فشلهم وعدم قدرتهم على المواءمة. فيجب تركهم وشأنهم، لكي يتغيروا أو يموتوا. مثل الأحياء التي تنقرض بسبب عدم مواءمتها للبيئة.

رجل البترول الأمريكي الشهير "جون روكفيلر" في أحد خطبه قال ما يلي: "نمو المؤسسات الضخمة، يمثل البقاء للأصلح. الورود الأمريكية يمكنها أن تنتج الألوان الزاهية والأريج العاطر الذي ينعش الفؤاد، إذا قمنا بالتضحية بالبراعم والنباتات الصغيرة التي تنمو حولها. ليست هذه أعمالا شريرة. إنما هي طبيعة الأشياء. قوانين الطبيعة وقوانين السماء."

من ينظر إلى بلادنا اليوم ويراقب ما يحدث بها، يرى أننا نستعير من الأمريكان مبدأ الدارونية الإجتماعية وتداعياتها الإجتماعية والإقتصادية. البقاء للأصلح للشركات العملاقة والعولمة. وليذهب الدعم والفقراء والضعفاء إلى الجحيم. ونحن نقول: الأصلح لا يعني بالضرورة الأفضل. من قال أن الذباب والبعوض والصراصير أفضل من أحياء أخرى انقرضت في الماضي.
وللحديث بقية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى