الاثنين ٢١ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم أوس داوود يعقوب

جبرا إبراهيم جبرا .. ظل الغياب

موسوعة في رجل متعدد الصنائع .. قضى العمر قابضاً على جمرة الإبداع.
كان روائياً وقاصاً وشاعراً وناقداً ومترجماً وفناناً تشكيلياً.
نوري الراوي: «لم تذهب إلى عالم الغيب شخصيّة ألطف وأسمّى وأنبل منه».

يصادف يوم الحادي عشر من شهر كانون الأول (ديسمبر) 2010م، الذكرى السادسة عشرة لرحيل المبدع الفلسطيني، متعدد الصنائع، جبرا إبراهيم جبرا (1920م – 1994م)، الروائي والقاص والشاعر والناقد والمترجم والفنان التشكيلي..

وجبرا إبراهيم جبرا أكثر من اسم غاوىٍ وآسر، اسمه (جبرا) آرامي الأصل ويعني القوة والشدة، وقد عُـرف في الأوساط الفلسطينية والعراقية بكنية «أبي سدير» التي استخدمها في الكثير من مقالاته سواء بالانجليزية أو بالعربية.

ولد جبرا (ابن مسعود التلحمي)، يوم 28 آب (أغسطس)1920م، في مدينة بيت لحم،
وفيها تلقى علومه الأولية. في مدرسة «طائفة السريان الأرثودكس» في بيت لحم (المرحلة الابتدائية)، ثم في مدرسة بيت لحم الوطنية، فالمدرسة الرشيدية في القدس، التي أتاحت له التعرف على أساتذة كبار مثل إبراهيم طوقان وأبى سلمى (عبد الكريم الكرمي) ومحمد العدناني واسحق موسى الحسيني، ثم التحق بالكلية العربية في القدس عام 1935م. وخلال هذه الفترة كان قد تمكن من اللغتين العربية والإنجليزية بشكل ممتاز، إضافة إلى لغة السريان التي هي طائفة أسرته.

في سنة 1939م سافر جبرا إلى بريطانيا في بعثة علمية على نفقة إدارة المعارف العامة لحكومة فلسطين، فدخل جامعة «إكستر» ثم جامعة «كمبردج». ولكنه كان قد بدأ قبل ذلك كتابة القصة القصيرة في فلسطين، ونشر بعض نتاجه المبكر في مجلات مثل «الرسالة» و«الهلال» المصريتين، و«الأمالي» اللبنانية. ولكن أهم ما أنجزه في تلك المرحلة المبكرة، هي الرواية التي كتبها باللغة الإنجليزية عام 1946م بعنوان «باسج إن ذا سايلنت نايت» وقد حملها معه إلى كامبردج مطبوعة على الآلة الكاتبة، ووزع نسخاً منها على زملائه في الجامعة. ولم تصدر طبعتها الأولى بالعربية إلا عام 1955م، وكان قد أعاد كتابتها بالعربية وهو يدرس في جامعة هارفارد. وقد أعطى الرواية بالعربية اسمها الشهير «صراخ في ليل طويل».

عاد إلى فلسطين سنة 1944 يحمل الماجستير في الأدب الإنجليزي، وعين أستاذاً للأدب الإنجليزي في الكلية الرشيدية في القدس، وظل في منصبه حتى عام النكبة (1948م).

وفي عام النكبة هُجِّرَ قسراً خارج البلاد فاختار العراق مقاماً له، وفيها اعتنق الديانة الإسلامية ليتسنى له الزواج من محبوبته العراقية "لميعة البدري" .

وفي بغداد عين أستاذاً للأدب الإنجليزي في كلية الآداب جامعة بغداد واستمر في عمله عدة سنوات، ثم سافر إلى الولايات المتحدة والتحق بجامعة "هارفارد" في زمالة دراسية للنقد الأدبي.

عاد إلى بغداد سنة 1954م وعمل في شركة نفط العراق بمنصب إداري بالإضافة لاحتفاظه بعمله كمحاضر في كلية الآداب والعلوم وكلية الملكة عالية في جامعة بغداد حتى 1964م.

تفرغ بعد ذلك للكتابة والإبداع في حقول القصة، والرواية، والشعر، والنقد، والترجمة، والفن التشكيلي، وأسهم في تأسيس "جماعة بغداد للفن الحديث".وكان رئيس رابطة نقاد الفن في العراق.

وقد كان جبرا مثالاً للأديب المثقف واسع الاطلاع، غزير الثقافة، الذي استطاع الإحاطة بالأدب الغربي، والاطلاع على نزعاته ومدارسه واتجاهاته المعاصرة، وكانت له نظرات عميقة في النقد الأدبي، كما شارك بفاعلية في حركة التجديد في الفكر والإبداع العربي المعاصر خاصة قضايا الشعر والقصة.

وقد صدر له في مجال الشعر: (تموز في المدينة، 1959م )، و(المدار المغلق- شعر، 1964م)، و (لوعة الشمس - شعر، 1978م)، و(سبع قصائد، 1990م). وقد صدرت أعماله الشعرية الكاملة عن دار الريس ـ بيروت، 1990م.

ومن أعماله الروائية: (صراخ في ليل طويل، 1955م)، و(السفينة، 1970م)، و(البحث عن وليد مسعود، 1978م)، و(عالم بلا خرائط 1982م – كتبها بالاشتراك مع الروائي العربي الراحل عبد الرحمن منيف)، و(الغرف الأخرى، 1986م)، و (يوميات سراب عفان، 1991م). وكانت باكورة أعماله الأدبية باللغة الإنكليزية رواية كتبها عام 1960م عنوانها "هنتر إن ذا نارو ستريت" التي نشرت عام 1974م تحت عنوان (صيادون في شارع ضيق)، وقد قام بنقلها إلى العربية الدكتور محمد عصفور.

وقد عبر جبرا في رواياته عن همومه الأدبية وهموم البشر جميعاً، ولا سيما أزمة الإنسان العربي، والقضية الفلسطينية التي تبرز بوضوح في أكثر أعماله الأدبية فوليد مسعود ما هو إلا رمز حي للإنسان العربي المقهور الحائر الممزق في كل مكان...

جبرا القاص والناقد والمترجم

كذلك كان جبرا قاصاً، فقد أصدر عام 1956م، مجموعة قصصية عنوانها (عرق وقصص أخرى)، أهداه إلى زوجته "لميعة البدري"وقدم لها توفيق صايغ، وقد نشرت أيضاً تحت عنوان (المغنون في الظلال).ط2 مطابع ألف باء، دمشق 1974م. وقد ضمت المجموعة إحدى عشرة قصة منها: (المغنون في الظلام، ملتقى الأحلام، نوافذ مغلقة، الشجار، أصوات الليل، النهر العميق، نيران الكتب وحفنتان من تراب...)، كتبت في أمكنة وأجوء مختلفة في القدس وبغداد ولندن وبوسطن.. وفي أزمان متفاوتة... ومسرحها هو المدينة، وأبطالها في أغلبهم قرويون فقراء يهجرون قراهم إلى المدن التي تطحنهم وتجردهم من براءتهم وعفويتهم.
ولجبرا في السيرة كتابان هما: ("البئر الأولى"، دار الريس، لندن، 1989م) و ("شارع الأميرات"، المؤسسة العربية، بيروت، 1999م).

ومن كتبه النقدية نذكر: ( "الحرية والطوفان، 1960م" و"الرحلة الثامنة، 1967م" و"النار والجوهر، 1975م" و"ينابيع الرؤيا، 1979م" و"معايشة النمرة وأوراق أخرى، 1992م" و"أقنعة الحقيقة وأقنعة الخيال، 1992م" و"الاكتشاف والدهشة، 1993م" ).

وثمة بعد آخر في سيرة جبرا الثقافية يوازي تلك الجوانب الإبداعية، وينجدل معها بصورة باهرة، فقد تشرب اللغة والثقافة الإنجليزيتين فكتب بالإنجليزية شعراً ورواية ونقداً. وعندما عاد إلى العالم العربي من رحلة الدراسة أخذ على عاتقه نقل أمهات الكتب من الإنجليزية إلى العربية، فكان واحداً من المترجمين البارزين في العالم العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وترقى ترجماته إلى مصاف الأعمال الإبداعية الكبيرة، سواء ما ترجمه من كلاسيكيات الأدب العالمي، كمسرحيات شكسبير، ومنها: («هاملت» و «عطيل» و «ماكبث» و «العاصفة» و «الملك لير»، إضافة إلى ترجمة أربعين من سونيتات شكسبير).

أو ترجمته لعددٍ لا يستهان به من المؤلفات الأدبية الإنجليزية والأمريكية، نذكر منها على سبيل المثال: (قصص من الأدب الإنجليزي المعاصر)، و(ما قبل الفلسفة) لـ "فرانكفورت"، و(الأديب وصناعته لعشرة من النقاد)، و(آفاق الفن) لـ "ألكسندر إليوت"، و(الصخب والعنف) لـ "وليم فوكنر"، و(في انتظار غودو) لـ "صموئيل بيكيت"، و(الغصن الذهبي) لـ "جيمس فريزر"، الذي يتناول الأساطير القديمة، وقد أثرت هذه الترجمة المميزة تأثيراً عميقاً في تطور القصيدة العربية المعاصرة، خصوصاً في أعمال بدر شاكر السياب ومعاصريه.

أما أعمال جبرا الأدبية فقد تُرجمت إلى أكثر من اثنتي عشرة لغة، منها الإنجليزية، والفرنسية، والأسبانية، والإيطالية، والسلوفاكية، والصربية.

وهناك جانب غير منظور من جوانب إبداع جبرا، يتمثل في كتابته لسيناريوهات عدد من الأفلام التسجيلية سيما فلم (جذور الفن العراقي المعاصر) الذي أخرجه صبيح عبد الكريم. كما كتب سيناريو روائي عنوانه "الملك الشمس"، يتناول شخصية الملك الآشوري نبوخذ نصر. وله أيضاً سيناريو روائي بعنوان "أيام العُقاب". يتناول معركة اليرموك وعبقرية القائد خالد بن الوليد. كما كتب حوار فيلم "عمر المختار" للمخرج السوري الشهيد مصطفى العقاد.

في أيامه الأخيرة، كان جبرا يشكو، من طنين حاد في الأذنين. وقد أصيب بدوار ووقع أرضاً. ثم دخل العناية المركزة. ويوم الأحد 11/12/1994م أغمض عينيه إلى الأبد. ودفن في وطنه الثاني بغداد. تاركاً أكثر من ستين كتاباً بين مؤلف ومترجم.

دمار بيته البغدادي .. نكبة ثانية

بعد نكبة فلسطين عام 1948م، حمل جبرا معه إلى بغداد، روح مدينة بيت لحم «مهد السيد المسيح عليه السلام» والقدس «مدينة الأنبياء» ليندمج فيها ويبدع ويعيش بمخيّلة أقامت مع المدن الثلاثة صلة تجلّت في إصداريه «البئر الأولى» (سيرة ذاتيّة عن حياته في بيت لحم) و«شارع الأميرات» (حياته في شارع الأميرات حي المنصور الشهير في بغداد).

وقد امتدت أواصر المحبّة التي أقامها جبرا مع المكان للإنسان أيضاً. فكان صديقاً للسياب والبياتي والصايغ، وكبار الفنانين التشكيليين أمثال شاكر حسن آل سعيد وجواد سليم وضياء العزاوي وعلاء بشير وياسين شاكر ومحمد غني حكمت. وقد وصفه الفنان الرائد نوري الراوي بأنّه صديق عمره. يقول الراوي: «لم تذهب إلى عالم الغيب شخصيّة ألطف وأسمّى وأنبل منه»، ويضيف: «هو كان كالراهب في عبادته لبغداد».

وقد كان البيت الذي تركه بعد رحيله متحفاً، صغيراً للحياة الأدبية والفنية في بغداد خلال القرن الماضي. راكم فيه الرجل الموسوعي كمية نادرة من الأعمال الفنية والمراجع والكتب والوثائق، وفيه كانت محطته الأخيرة في عام 1994م. أما اليوم دُمّر بالكامل ولم يبق منه شيئاً يذكر، بعد أن زعزعته مؤخراً عاصفة الحقد والجنون في زمن الاحتلال "الأنجلوسكسوني"، فحولت "الدار الأسطوريّة"، التي تختزن ذاكرة الزمن السعيد وتاريخ العراق الحديث إلى خراب ودمار.

ففي صباح يوم الأحد الرابع من شهر نيسان / أبريل الماضي تناقلت وسائل الإعلام العراقية والعالمية خبراً مفاده أن دار جبرا، في حي المنصور في بغداد تحولت إلى ركام جرّاء التفجير الذي استهدف مبنى القنصلية المصرية المجاورة للدار، فطال الدمار حيّزا ثريًّا وجميلاً من الذاكرة الثقافية العربية، والذاكرتيْن الفلسطينية والعراقية بخاصّة، ذلك أن دار جبرا كانت تحتوي على نفائس من المخطوطات والكتب والتراثيات والمنحوتات واللوحات الفنية التشكيلية لكبار الفنانين التشكيليين العراقيين والفلسطينيين، بالإضافة إلى صور شخصية وتسجيلات صوتية وأشرطة فيديو لندوات ولقاءات ومحاضرات كان يلقيها ويشارك فيها الراحل ، وتمثل جزءاً من تراثه الأدبي والفني والنقدي.

ورداً على هذا الحادث التفجيري تساءل الكاتب العراقي ماجد السامرائي: " فأي تراث شخصي وتاريخي ثقافي قد دمر بفعل هذا الانتحاري ، لحظة تفجر بما يقود ويحمل ليدمر ويحرق كل شيء في الدار التي من بابها دخل، من البشر إلى الفن، إلى الثقافة، وما هنالك من وثائق مهمة تمثل عقل ذاكرة مرحلة من أهم مراحل الثقافة الحديثة؟!!

حقاً، إن نسف وتدمير دار الأديب والروائي الفلسطيني الكبير جبرا إبراهيم جبرا بحي المنصورة في بغداد، لهو كارثة ثقافية أخرى تضاف إلى سلسلة كوارث حلت بالشعب العراقي وفي مقدمتها حرق بغداد الرشيد وسرقة المتحف العراقي وإحراق التماثيل وتدمير المعالم التاريخية العراقية الحضارية ، إبان الغزو الامبريالي الاستعماري الأجنبي للعراق . وهذا التدمير هو ضربة قوية للثقافة والفكر وللمثقفين العراقيين والفلسطينيين والعرب أجمعين، وهو يذكرني بما فعلته قوات الغزو (الإسرائيلي) خلال اجتياح بيروت الصمود، بيروت خليل حاوي، والجنوب اللبناني، بضرب المكتبة العربية ونهب وتدمير مركز الأبحاث الفلسطيني مستهدفة من وراء ذلك اغتيال الذاكرة التاريخية الفلسطينية وهزم المثقف اللبناني والفلسطيني والعربي وشل دماغه وتفكيره وتدمير العقل المفكر والإبداعي. فشلت اليد التي أقدمت على تفجير دار جبرا إبراهيم جبرا وحولت الأوراق والمخطوطات النادرة إلى رماد ، وسيظل جبرا حاضراً فينا مبدعاً وإنساناً معطاءً."


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى