الأحد ١٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩
بقلم أوس داوود يعقوب

حكاية شاعر فلسطيني أعار إيقاعه لمأساة شعبه

فبقي يرصد رحيل الشهداء ويحرسهم

خمسة وعشرون عاماً هي المسافة الزمنية الفاصلة بين إصابة محمود درويش بالذبحة القلبية الأولى وبين مواراته الثرى في تراب رام الله إثر العملية الجراحية التي أودت بحياته.

وقد كان درويش في عامه الأخير، يدرك أن مواجهته مع الموت قد دنت. وكان كمن يريد تأجيل مواجة يشعر أنها قد تكون نهائية وقد تكون خاسرة، أو كان كمن يريد أن يستعد لهذه المواجهة، وهو مدجج بمزيد من الشعر.

وفي عمله الأخير الذي ظهر إلى العلن بعد رحيله (لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي)، تطالعنا وقائع اللحظات الأكثر قساوة من حياة درويش، فهو يكمل ما بدأته (الجدارية) من تفاصيل المواجهة الضارية بين الشاعر والموت.

وإذا كانت رائعة محمود درويش الجارحة المودعة (لاعب النرد) المكتوبة في الأصل تحت هاجس كونها القصيدة الأخيرة، هي أقرب ما تكون إلى البيان الشعري الختامي وبخاصة من خلال خاتمتها المؤثرة التي بدا سطرها الأخير (مَنْ أنا لأخيب ظن العدم) تراجعاً واضحاً عن صرخته السابقة (هزمتك يا موت الفنون جميعها).

ورغم أن البعض رأى أن درويش لم يعلن اليأس في هذه القصيدة، لأنه لم يتكلّم عن الموت بل عن العدم. وبحكم معرفته بأن للنصوص حياة خاصة، تستمر بعد أصحابها، وأن الكينونة بالمعنى الفيزيائي مرشحة للعدم، ولا أحد يمكنه التحايل على ما هو عكس الوجود. وفي ظل كينونة مرشحة لعدم لم يعد من الممكن تأجيله، حتى عن طريق صدفة غير متوّقعة. وأن درويش لا يستعيد في النص المفارقات الصغيرة، والمصادفات الكثيرة في حياته، في ظل ما يشبه النشيد الجنائزي، بل ينظر إليها بقدر كبير من حس الفكاهة كأنها تخص شخصاً آخر.

ففي مطلع القصيدة يتكلّم محمود درويش عمّا ورثه من العائلة، فيعدد ست صفات من بينها أمراض القلب. وهي حقيقة يعرفها كل من عرفه عن قرب. فإلى جانب معاناته الخاصة مع أمراض القلب، عانى اثنان من أخوته من مشاكل في القلب، ويبدو أن المشكلة جينية بالفعل. أما المصادفات الأخرى، فتتعلّق بما يحدث للفرد، الذي يجد نفسه، فجأة، ضحية تحوّلات تاريخية، غالبا ما تصنع المصائر الفردية، بطريقة لا تنسجم بالضرورة مع ما يريده في الأحوال العادية. وبقدر ما يتعلّق الأمر بالطفل الذي كان في السابعة من عمره في العام 1948، فإن ما حدث آنذاك يمثل اللحظة التي تغيّرت فيها حياته مرّة واحدة وإلى الأبد.

ولكن اللافت في هذا السياق هو أن إحساس الشاعر بالموت لم يكن يقينياً بما يكفي لكي يحصر قصائده الأخيرة بفكرة العدم وحدها، لذلك فقد وسّع شبكة اهتماماته ليقارب أموراً مختلفة تتعلق بالحب والهوية والمكان والعلاقة بالآخر، كما برثاء الأحبة والأصدقاء مثل إميل حبيبي ونزار قباني.

• كتب أجمل قصائده ومقالاته في رثاء أحبته من شهداء فلسطين والأمة العربية

توقف محمود درويش عند لحظة الموت منذ بداياته الشعرية، حيث أعار إيقاعه لمأساة شعبه فبقي يرصد رحيل الشهداء وظل يحرسهم من هواة الرثاء.
و لم يستطع أصدقاء درويش والمقربون منه، أن يتمالكوا أنفسهم، ويكتمون خوفهم ورهبتهم حين تداولوا ديوان (أثر الفراشة)، إنتاجه قبل الأخير، كان الجو العام الذي تركته النصوص في هذا الديوان وكأن شاعرنا ؛ بوصلة إحساسنا الوطني ؛ يرثي نفسه وبذلك يرثي قضيتنا الفلسطينية ويدخل حقبة جديدة من اليأس.

وشعر المقربون منه بعد قراءة نصوص (أثر الفراشة) بالقلق حين تمعنوا في قصيدته (أنت منذ الآن أنت) التي تختم الديوان وتصف رحلته إلى الكرمل في قوله:

(لم أَرَ جنرالاً لأسأله: في أي ّ عامٍ قَتَلتَنِي؟
لكني رأيت جنوداً يكرعون البيرة على الأرصفة.
وينتظرون انتهاء الحرب القادمة، ليذهبوا إلى
الجامعة لدراسة الشعر العربي الذي كتبه موتى
لم يموتوا. وأنا واحد منهم!)

ولعل قصيدة (أثر الفراشة) هي القصيدة التي يريدنا محمود أن نتذكر تجربة حياته بواسطتها، فهو أخ الفراشة وتلميذها، وهو اللاجئ الذي يتنقل من زهرة إلى أخرى ليبقى أثره هناك ويساهم في عملية استمرار الحياة لغيره بمساعدة الأزهار على عملية اللقاح. فرغم أننا نجد في جميع نصوصه بأن ما يكتبه إنما هو فكر يلخص تجربة شعب لاجئ. والفكر لا يرى ولكنه لا يزول.

و يرى الناقد فخري صالح أن في شعر درويش (تعبيراً عن الروح الفلسطينية المعذبة الباحثة عن خلاص فردي ـ جماعي من ضغط التاريخ والجغرافيا).

مضيفاً:(إن درويش ربط حكايته الشخصية مع الموت بأرض فلسطين، حيث يدور بينه وبين السجان حوار عن الحاضر المسكون بالماضي وعن السجان السجين)، ويتابع صالح:(إن شبح الموت لا يستطيع محو الحكاية المركزية.. حكاية الشاعر الفلسطيني المقيم في سفره الطويل).

وقد حاول درويش في رحلة حياته أن يرسم في كثير من شعره ونثره صوراً قلمية للأحبة ورفاق الدرب والأصدقاء.. كما حدثنا في مراثيه عن حكايات الأيام، مع الوجوه التي عرفها وآنسه وجودها، ورافقته دروب النضال والعطاء والإبداع، تلك الحكايات التي تثير في النفوس أشجان الحزن على فراق شهداء فلسطين الكبار، وفراق أحبته من صناع التاريخ العربي المعاصر.

شهداء فلسطين والأمة العربية الذين كانوا أحبته، وكتب أجمل قصائده ومقالاته فيهم بدءاً من غسان كنفاني مروراً بكمال ناصر وراشد حسين وماجد أبو شرار وعز الدين قلق وخليل الوزير ومعين بسيسو وإميل حبيبي وإبراهيم أبو لغد وفدوى طوقان وادوارد سعيد وإسماعيل شموط وتوفيق زياد وسليمان النجاب وياسر عرفات. وصولاً إلى الكبار من أبناء أمتنا العربية من قادة وشعراء وكتاب ومفكرين أمثال الزعيم جمال عبد الناصر والشعراء أمل دنقل وصلاح جاهين وعاصي الرحباني ومحمد الماغوط وممدوح عدوان والمفكر اللبناني الشيخ حسين مروة والدبلوماسي التونسي حمّادي الصيد والكاتب الصحفي جوزيف سماحة وشهيد الكلمة الحرة سمير قصير.

وقد كتب درويش عن ميتات محبيه وأصدقائه، الذين سبقوه، كما لم يكتب أحد، وسألهم أن لا يموتوا وان ينتظروا سنة واحدة فقط: (سنة أخرى فقط تكفي لكي اعشق عشرين امرأة وثلاثين مدينة).

وكان وهو يكتب قصيدته هذه كأنه يرسم صورة للموت المرتبط بالمقاومة والأرض والهوية ويربي الأمل للوصول إلى الحياة الأجمل.

كما كان مؤمناً أن (الموت ضربٌ من الغدر)، قال مرة في رثاء له للدبلوماسي والمثقف التونسي حمّادي الصيد، وكونه لاعبًّ الموت وتهربًّ منه مرًّتين، قال: (أما الموت فلا شيء يهينه كالغدر: اختصاصه المجرّب).

هل طلب محمود (سنة أخرى فقط) في حجرة العمليات التي أقلّته إلى موعده كما قال في كتابه (في حضرة الغياب): (فلأذهب إلى موعدي فور عثوري عل قبرلا ينازعني عليه أحدٌ من أسلافي).

• في مرحلة الطفولة علّمه اضطهاد الصهاينة بأنّ الشعر قد يكون سلاحاً

يوم السبت 9 آب (أغسطس) 2008، رحل كاتب الملحمة الفلسطينية الأكبر التي رافقته منذ تهجيره من قريته في شمال فلسطين وعودته إليها، ثم أوديسته الطويلة بين البلدان والعواصم. نعم رحل سيد الكلام، نجم فلسطين وزينة شبابها، بعد رحلة طويلة من النضال والعطاء والإبداع، بدأت في 13 آذار (مارس) 1941، يوم ولد محمود درويش في قرية (البروة)، التي تقع مسافة 9 كيلومترات شرق عكا، وكان الابن الثاني في أسرة فلاّحية تتكون من ثمانية أفراد، خمسة أولاد وثلاث بنات. وقد عاش طفولة بريئة في أحضان هذه القرية الوادعة الواقعة على هضبة خضراء ينبسط أمامها سهل عكا.
في سنّ السابعة، توقفت ألعاب الطفولة، كما يعبّر درويش في وصف ليلة النزوح من قريته، تحت ضغط العدوان الصهيوني التي شنتها، عصابات النازيين الجدد، بهدف تفريغ قرى الجليل من الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين. ونراه يخبرنا عن تفاصيل تلك الليلة التي لا تنسى قائلاً: (إني أذكر كيف حدث ذلك... أذكر ذلك تماماً: في إحدى ليالي الصيف، التي اعتاد فيها القرويون أن يناموا على سطوح المنازل، أيقظتني أمّي من نومي فجأة، فوجدت نفسي مع مئات من سكان القرية أعدّو في الغابة. كان الرصاص يتطاير من على رؤوسنا، ولم أفهم شيئاً مما يجري. بعد ليلة من التشرّد والهروب وصلت مع أقاربي الضائعين في كلّ الجهات، إلى قرية غريبة ذات أطفال آخرين. تساءلت بسذاجة: أين أنا ؟ وسمعت للمرّة الأولى كلمة (لبنان).

يخيلّ إليّ أنّ تلك الليلة وضعت حدّاً لطفولتي بمنتهى العنف.
فالطفولة الخالية من المتاعب انتهت. وأحسست فجأة أنني أنتمي إلى الكبار. توقفت مطالبي وفُرضت عليّ المتاعب. منذ تلك الأيّام التي عشت فيها في لبنان لم أنس، ولن أنسى إلى الأبد، تعرّفي على كلمة الوطن. فلأوّل مرّة، وبدون استعداد سابق، كنت أقف في طابور طويل لأحصل على الغذاء الذي توزعه وكالة الغوث. كانت الوجبة الرئيسية هي الجبنة الصفراء. وهنا استمعت، لأوّل مرّة، إلى كلمات جديدة فتحت أمامي نافذة إلى عالم جديد: الوطن، الحرب، الأخبار، اللاجئون، الجيش، الحدود... وبواسطة هذه الكلمات بدأت أدرس وأفهم وأتعرّف على عالم جديد، على وضع جديد حرمني طفولتي).

بعد عام تسلّل درويش، برفقة عمّه والدليل الذي يعرف مجاهل الدروب في الجبال والوديان، عائداً إلى فلسطين ليستقرّ في قرية (دير الأسد)، لأنّ قريته الأصلية (البروة) كانت قد هُدمت تماماً وأقيمت بدلاً عنها مستوطنة صهيونية. ولم يطل الوقت حتى فهم الفتى أنه فقد أرض الأحلام الأولى نهائياً: (كلّ ما في الأمر هو أنّ اللاجىء قد استبدل عنوانه بعنوان جديد. كنتُ لاجئاً في لبنان، وأنا الآن لاجىء في بلادي (...) وإذا أجرينا مقارنة بين أن تكون لاجئاً في المنفى، وأن تكون لاجئاً في الوطن، وقد خبرت النوعين من اللجوء، فإننا نجد أن اللجوء في الوطن أكثر وحشية. العذاب في المنفى، والأشواق وانتظار يوم العودة الموعود، شيء له ما يبرره.. شيء طبيعي. ولكن أن تكون لاجئاً في وطنك، فلا مبرر لذلك، ولا منطق فيه).

وفي مدرسة القرية كان المدير والأساتذة يحبّون هذا الفتى المتفوّق في الدراسة والرسم، والذي كان يحاول كتابة الشعر الموزون على غرار قصائد الشعر العربي القديم، وكانوا يخبئونه كلما كانت الشرطة الصهيونية تأتي إلى القرية لأنه يُعتبر في حكم (المتسلل)، وكانوا يحذّرونه من الاعتراف بأنه كان في لبنان، ويعلّمونه أن يقول إنه كان مع إحدى القبائل البدوية في الشمال.

وكان اللجوء إلى الشعر هو أحد أشكال بحث محمود درويش عن (وطن لغوي)، يخفّف من حدّة النفي داخل الوطن الحاضر والغائب معاً.

وفي وصف ذلك يقول درويش: (بدأت علاقتي بالشعر عن طريق علاقتي مع المغنّين الفلاحين، المنفيين من قبل الشرطة. كانوا يقولون أشياء غريبة على درجة من الجمال بحيث أنني لم أكن أفهمها، ولكني كنت أشعر بها (...) وهكذا وجدت نفسي قريباً من أصوات الشعراء الجوّالين المغنّين، وفيما بعد أخذت أستمع إلى الشعر العربي الكلاسيكي الذي يروي مغامرات عنترة وسواه من الفرسان، فاجتذبني هذا العالم وصرت أقلّد تلك الأصوات، وأخترع لنفسي خيولاً وفتيات، وأحلم في سنّ مبكرة أن أتحوّل إلى شاعر (...) وقد مررت بتجربة مبكرة علمّتني أنّ ما أفعله، وما ألعبه، هو أخطر بكثير مما أتصوّر. ذات يوم دُعيت لإلقاء قصيدة في المدرسة، ومن الغرابة أنّ المناسبة كانت ذكرى (استقلال إسرائيل). وكنت وقتها في الثانية عشرة من عمري، وكتبت شيئاً سمّوه قصيدة، تحدثت فيها عن عذاب الطفل الذي كان فيّ، والذي شُرّد وعاد ليجد (الآخر) يقيم في بيته، ويحرث حقل أبيه. قلت ذلك كلّه ببراءة شديدة. وفي اليوم التالي استدعاني الحاكم العسكري، وهدّدني بشيء خطير جداً. ليس بسجني، بل بمنع أبي من العمل. وإذا مُنع أبي من العمل، فإنني لن أتمكن من شراء الأقلام والأوراق لكي أكتب. ساعتها فهمت أنّ الشعر حكاية أكثر جدّية مما كنت أعتقد، وكان عليّ أن أختار بين أن أواصل هذه اللعبة الأكثر جدّية مما أتصوّر، أو أن أتوقف عنها. وهكذا علّمني الاضطهاد بأنّ الشعر قد يكون سلاحاً).

• كان صوت فلسطين الحضاري المتواصل بآلامه وأحزانه وطموحاته

تمر السنين ويواصل محمود درويش اللعبة ! بين سنتي 1961) و1967(سُجن خمس مرّات. كانت الأسرة قد انتقلت من قرية (دير الأسد) إلى قرية (الجديدة)، أمّا محمود فقد استقرّ في مدينة حيفا، وانتسب إلى الحزب الشيوعي هناك، وعمل في صحيفتي (الاتحاد والجديد) اللتين كانتا المنفذ الإعلامي الشرعي الوحيد للمثقفين الفلسطينيين في الوطن المحتل.

وفي عام 1971 قطع درويش دورة دراسية في موسكو وظهر فجأة في القاهرة، فأثار خروجه ضجة كبرى. وبعد إقامة في القاهرة استغرقت سنتين، انتقل بعدها إلى العاصمة اللبنانية بيروت، وعمل رئيساً لتحرير فصلية (شؤون فلسطينية)، ثمّ أسّس الفصلية الثقافية (الكرمل) التي ستصبح أهمّ دورية ثقافية عربية. وفي عام 1982، إثر الاجتياح الصهيوني للبنان، غادر درويش إلى تونس ثمّ إلى باريس التي بقي فيها حتى عام 1995 حين عاد إلى مدينة رام الله، واستأنف فيها إصدار (الكرمل).

ومحمود درويش شاعر المنفى واللجوء، لم يتوقف عن دفع الشعر العربي إلى مراتب نسيها منذ أزمان. وبين مجموعة شعرية وأخرى أخذت سلطة درويش الأدبية تتعاظم وتترسخ، فأدرك أن موقع الشاعر الناطق باسم الوجدان الجمعي للأمة يقتضي قبل أي شيء آخر تطوير الموضوعات والأدوات والأساليب التي تضمن للشعر أن يواصل الحياة تحت اسم وحيد هو الشعر، وأن لا ينقلب إلى تعاقد سكوني شبه إيديولوجي بين الشاعر الذي ارتقى إلى القمة، وبين الوجدان الجمعي الذي أسلم للشاعر قسطاً كبيراً من الحق في تكييف الميول وردود الأفعال. ومنذ هذا الطور واصل درويش وفاءه لتعاقد ثنائي ـ شاقّ وخلاّق ـ مع موقعه كشاعر: تعاقد مع مشروع شعري لا بدّ له من أن يتطور ويتكامل وفق دينامية متصاعدة، وتعاقد مع قارىء واع ٍ يتشبث بالطور الراهن من خطاب شاعره لأنه يجد فيه الملاذ.

و لقد تجاوز درويش بشعره وحضوره الثقافي والإنساني المميز كل الحدود محطماً قيود الوطنية الضيقة والانتماءات الصغرى ليكون بحق صوت فلسطين الحضاري المتواصل بآلامه وأحزانه وطموحاته مع روح العصر والفكر الإنساني العالمي المبدع.
وتكمن عظمة درويش الأساسية في البلورة الشاعرية الثاقبة للذاكرة التاريخية الفلسطينية خصوصاً في قضية اللاجئين.

وقد قسم الناقد السوري الأستاذ صبحي حديدي تطوّر تجربة محمود درويش الشعرية إلى تسعة مراحل هي:

1 ـ مرحلة (الطفولة الشعرية): وتمثّلها مجموعة (عصافير بلا أجنحة) عام 1960 التي سيتخلّى عنها درويش سريعاً لأنها، بالفعل، كانت تمثّل محاولات مبكّرة لا تعكس صوته الخاصّ بقدر ما تردّد أصداء تأثّره بالشعر العربي الكلاسيكي والحديث الرومانتيكي.

2 ـ المرحلة (الثورية): وتمثّلها مجموعته (أوراق الزيتون) عام 1964، حين انتقل درويش من الهمّ الذاتي إلى الهواجس الجماعية، والحلم الثوري، والتغنّي بالوطن، وتثبيت الهويّة (كما في قصيدته الشهيرة ـ بطاقة هوية ـ، التي ستشتهر باسم آخر هو السطر الاستهلالي فيها: ـ سجّل أنا عربي ـ والتي تحوّلت إلى أيقونة لأفكار المقاومة والصمود والإعلان عن الهويّة، في الشارع العربي العريض أكثر بكثير من الشارع الفلسطيني نفسه)، وحسّ الالتزام الثوري، والتضامن الإنساني والأممي، كما في قصائده (عن إنسان، وعن الأمنيات، ولوركا.

3 ـ المرحلة (الثورية ـ الوطنية): وتمثلها مجموعاته (عاشق من فلسطين) عام 1966، و(آخر الليل) عام 1967، و(العصافير تموت في الجليل) عام 1969، و(حبيبتي تنهض من نومها) عام 1970. وفي هذه المرحلة كان شعر درويش قد أصبح جزءاً أساسياً من الحركة التي عُرفت في العالم العربي باسم (شعر المقاومة)، وضمّت شعراء من أمثال توفيق زياد وسميح القاسم. وكان شعره يتطوّر ضمن المنطق ذاته، والموضوعات ذاتها، ولكنه امتاز عن أقرانه في خصائص عديدة من بينها غزارة إنتاجه، والأفق الإنساني الأعرض لموضوعات قصائده، وحُسن توظيفه للأسطورة والرموز الحضارية الشرق أوسطية والهيللينية، وبراعته في أسطَرة الحدث اليومي والارتقاء به إلى مستوى ملحمي في الآن ذاته، ورهافة ترميزه للمرأة بالأرض، ومزجه بين الرومانتيكية الغنائية والتبشير الثوري، وسلاسة خياراته الموسيقية والإيقاعية، وحرارة قاموسه اللغوي، وميله إجمالاً إلى الصورة الحسية بدل الذهنية.

4 ـ مرحلة (البحث الجمالي): وهي التي تبدأ مع خروج درويش إلى العالم العربي وانتقاله من القاهرة إلى بيروت. لقد أراد البرهنة على أنّه شاعر صاحب مشروع جمالي منذ البداية وقبل أيّ تصنيف آخر، وأنّ اقتران تجربته بـ (شعر المقاومة) لا يعني أنه لم يكن يسعى إلى تطوير موضوعاته وأدواته ولغته الشعرية على نحو يتفاعل مباشرة مع حركة الحداثة الشعرية العربية ويغني تيّاراتها. في عبارة أخرى هذه هي مرحلة (صراع) محمود درويش مع قارئه العربي الذي أحبّه وأراد أن يسجنه في صورة (شاعر المقاومة) فقط، في حين أنّ درويش كان يعاند في البرهنة على أنّ شاعر المقاومة ينبغي أن يكون شاعراً حقيقياً أوّلاً، وشاعراً جيّداً ثانياً وأساساً.

ومنذ عام 1972، حين صدرت مجموعته (أحبّك أو لا أحبّك)، وهي الأولى له خارج فلسطين، واصل محمود درويش تطوير مشروعه الشعري على نحو منتظم وعنيد، بحيث كانت كلّ مجموعة جديدة تشكّل نقلة أسلوبية عن المجموعة التي سبقتها: (محاولة رقم 7) عام 1973، تضمنت مزجاً بين الموضوع الغنائي والاستعادة التاريخية ـ الأسطورية للمكان الفلسطيني ـ الكنعاني، (كما في قصائد النزول من الكرمل، والخروج من ساحل المتوسط، وطريق دمشق)؛ ومجموعة (تلك صورتها وهذا انتحار العاشق) عام 1975 مثّلت نقلة أكثر وضوحاً نحو القصيدة الطويلة التي تمزج بين التأمّل الغنائي والسرد الملحمي؛ ومجموعة (أعراس) التي تعود إلى الموضوع الوطني ولكن ضمن صياغات إنسانية ـ ملحمية أوسع، وأخرى تسجيلية ذات ارتباط بوقائع محدّدة في الزمان الفلسطيني (كما في قصائد كان ما سوف يكون، وأحمد الزعتر، وقصيدة الأرض).

5 ـ المرحلة (الملحمية): وهي التي تعقب الاجتياح الصهيوني لبيروت عام 1982 وخروج الفلسطينيين من لبنان إلى بحر جديد وتيه جديد. وفي هذه المرحلة كتب درويش قصيدته الطويلة الشهيرة (مديح الظلّ العالي) عام 1983، التي صنّفها في ما بعد تحت تسمية (قصيدة تسجيلية) لأنها تصف أجواء مقاومة الاجتياح، ومعنى مدينة بيروت، ومجزرة صبرا وشاتيلا، وأسئلة الوجود الفلسطيني بعد الخروج إلى أوديسة جديدة. وإلى هذه المرحلة تنتمي أيضاً مجموعة (حصار لمدائح البحر) عام1984، التي احتوت على (قصيدة بيروت) بوصفها العمل الشعري الطويل الثاني الذي يكمل ملحمة الخروج الفلسطيني من لبنان.

6 ـ المرحلة (الغنائية): وهي تشمل القصائد التي كتبها درويش في باريس، وظهرت بعدئذ في مجموعتَيه (هي أغنية، هي أغنية) عام 1986، و(وردٌ أقلّ) عام 1986.
وفي هذه القصائد استمرّ البحث الجمالي الذي بدأ في بيروت وانقطع فجأة مع الاجتياح الصهيوني وخروج الفلسطينيين من لبنان، وبدا أنّ درويش يتفرّغ أكثر من ذي قبل لهواجس الذات والتأمّل الميتافيزيقي، والمحاورة الغنائية بين الشاعر والعالم. وهي أيضاً مرحلة استكشاف مسائل الشكل والبنية الموسيقية للقصيدة، إذْ كتب درويش الرباعيات، وحاول محاكاة إيقاع العزف المنفرد في الموسيقى، وكتب القصيدة القصيرة المعتمدة على (الفقرة) الشعرية المتصلة بدل السطور، أو القصيدة الطويلة المعتمدة على قصائد قصيرة من عشرة سطور (كما في مجموعته ورد أقلّ). ولعلّ هذه الفترة هي أكثر مراحل تجربة درويش قلقاً وتجريباً وتطويراً وخصوبة.

7 ـ المرحلة (الملحمية ــ الغنائية): وتمثلها قصائد مجموعتَيه (أرى ما أريد) عام 1990 و(أحد عشر كوكباً) عام 1992. وهذه هي المرحلة التي شهدت عودة درويش إلى القصائد الطويلة والمشهد الملحمي العريض الذي لا يقهر النبرة الغنائية حتى وهو يستعيد الموضوع التاريخي، والذي ينفتح على تجارب إنسانية تراجيدية كبرى (المغول، الهنود الحمر، الأندلس، طروادة) ويبحث للفلسطيني عن موقع فيها، للفلسطيني ذاته أوّلاً ثمّ للإنسانية بعدئذ. وفي هذه المرحلة كان درويش يستكمل الفصل الأنضج من تجربته في مصالحة الموضوع الملحمي مع الموضوع الغنائي، وكان يقدّم صياغة فذّة لمراوحة الفلسطيني بين صورة البطل الملحمي الملتَقط على هيئة ضحية، وصورة الفلسطيني العادي الواقف أمام منعطف السلام واستحقاقات اتفاقية أوسلو. وكان درويش يرسم صورة شعرية رفيعة لآلام وآمال هذه المراوحة.

8 ـ مرحلة (الموضوعات المستقلّة): وتشمل مجموعتَي (لماذا تركتَ الحصان وحيداً) عام 1995،التي تدور حول موضوعة السيرة الذاتية للشاعر منذ الطفولة وحتى الآن، كما تدوّن سيرة المكان حين تحتويه الجغرافيا وينبسط فيه التاريخ، وسيرة دلالات المكان حين تنقلب إلى محطات للجسد وعلامات للروح؛ ومجموعة (سرير الغريبة) عام 1999، التي تدور حول موضوعة قصيدة الحبّ إجمالاً، و(اغتراب الرجل في المرأة والمرأة في الرجل ودمجهما معاً) كما يقول درويش.

هذه هي مرحلة التفات درويش إلى شؤون نفسه كشاعر وإنسان، وإلى شؤون الفلسطيني بعد أن غادر مرحلة (البطولة) وانتقل إلى مرحلة (اليوميّ والعاديّ.(

وضمن مرحلة الموضوعات المستقلة هذه يمكن احتساب مجموعتين صدرتا ضمن سياقات خاصة، شخصية ذاتية تخصّ الشاعر، وأخرى وطنية عامة تخصّ الأوضاع في فلسطين.
وهكذا صدرت)جدارية) عام 2000، وهي قصيدة طويلة تقارب الـ 1000 سطر، لكي تسجّل سلسلة تأملات ملحمية كثيفة في موضوعة الموت على خلفية رمزية وأسطورية وتاريخية محتاشة بتوتر الوجود ومقاومة العدم وموقع الشعر والفنون في هذا الخضمّ كلّه، وذلك من وحي تجربة شخصية عاشها الشاعر حين خضع لعملية جراحية دقيقة في القلب عام 1998. كما صدرت (حالة حصار) عام 2000، لتدوّن يوميات الفلسطيني في سنوات استشراس آلة الاحتلال العسكرية والأمنية الصهيونية قبل وبعد مجزرة جنين وأعمال النسف والتصفيات الجسدية وبناء الجدار العنصري العازل. ولكنّ اليوميات لم تكن تسجيلاً حزيناً أو محزناً لعذابات الفلسطيني، بل أرادت أساساً القول إنه باق على قيد الحياة، يقاوم في صيغة آدمي من لحم ودمّ وليس في صيغة أسطورة ملحمية ورمز بطولي.

9 ـ المرحلة الراهنة في شعر درويش تستأنف برنامج البحث الجمالي والفنّي الذي بدأه الشاعر في بيروت مطلع السبعينيات وفي باريس مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، ولكن في نطاق محدد أكثر هذه المرّة، هو تطوير شكل القصيدة العربية المعاصرة وجَسْر الهوّة بين الشكلين الرئيسيين السائدين في الكتابة الشعرية الراهنة، أي قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر. ولأنّ درويش يؤمن بثراء البنية الإيقاعية للشعر العربي، وأنها ما تزال غنية وخصبة وقابلة للكثير من التطوير والتجريب، فإنّ هاجسه في المجموعات اللاحقة انصبّ على التطوير المرن والحيوي للتفعيلة عبر تطويعها ضمن تشكيلات موسيقية سلسة الوقع وخافتة الصوت تكفل تقريب المسافة بين الوزن والنثر. هذه هي السمة الكبرى في مجموعتَي (لا تعتذر عمّا فعلت) عام 2004، و(كزهر اللوز أو أبعد) عام 2005، وكانت النماذج المبكرة لهذا البحث الجمالي والفنّي قد تبدّت كذلك في)سرير الغريبة(عام 1999، لكنها لا ريب تبلغ ذروة دراماتيكية في كتاب درويش (في حضرة الغياب) عام 2006، الذي شاء الشاعر أن يطلق عليه صفة (نصّ) لأنه في الواقع يستكشف أرحب آفاق شعرية النثر، وينجز صيغة فريدة وفذّة من امتزاج الشعر والنثر في قول ينفكّ عنهما معاً ويشكّل جنساً مستقلاً جبّار الإيحاء وعبقريّ التأثير. وأمّا عمله الشعري قبل الأخير (أثر الفراشة) عام 2008، الذي يجمع بين التفعيلة والنصوص النثرية، فقد كان أكثر أعمال درويش اقتراباً من قصيدة النثر، خصوصاً وأنّ الشاعر تعمّد إنصاف الوزن حين أعاد إنتاج تشكيلات إيقاعية عالية تذكّر بتقنيات قصيدته في أواسط السبعينيات،

كما أنصف النثر حين تلمّس شعريته على نحو جمالي ولغوي غير مسبوق في نتاجه. وإلى جانب الأعمال الشعرية، (وهي 23 حتى الآن) و(يعد ديوان [لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي] العمل الشعري الـ [24])، كان درويش قد اعتاد كتابة المقال السياسي والثقافي منذ أيّام عمله في صحيفتَي (الاتحاد" و"الجديد) في الداخل، وخلال رئاسته لتحرير الشهرية الثقافية (شؤون فلسطينية) في بيروت خلال السبعينيات، وتأسيسيه لمجلة (الكرمل)، الفصلية الثقافية الأشهر في العالم العربي، التي صدرت في بيروت، ثم انتقلت بعدئذ إلى نيقوسيا، وعادت مؤخراً إلى رام الله. ومقالات درويش جُمعت في الكتب التالية: "شيء عن الوطن"، "وداعاً أيتها الحرب، وداعاً أيها السلام"، "يوميات الحزن العادي"، "في وصف حالتنا"، "عابرون في كلام عابر"، مجموعة "الرسائل" المتبادلة مع الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، و"حيرة العائد" الذي ضمّ منتخبات من مقالاته على امتداد عقدين.

غير أنّ كتابه النثري الأشهر يظلّ "ذاكرة للنسيان"، وهو عمل شبه روائي يصوّر فيه درويش تفاصيل العيش اليومي تحت الحصار الصهيوني لبيروت عام 1982 على نحو مذهل في بساطته وعمقه وشاعريته العالية. وقد اشتهر كثيراً ذلك المقطع الذي يصف فيه درويش نضاله من أجل الانتقال تحت القصف من صالون البيت إلى المطبخ لصنع فنجان قهوة، وكيف تحوّل غلي القهوة إلى طقس إنساني فريد واستثنائي.

وإذا كان مشروع محمود درويش الشعري هو مشروع تراجيدي في الجوهر، لأنّ (وعي الفلسطيني بالتراجيديا عالٍ بدرجة تكفي لكي يتماهى مع أي تراجيديا منذ الإغريق وحتى الآن) حسب تعبيره، فإن الملحمية الغنائية هي السمة المركزية في هذا المشروع.
لقد حاول درويش (إطلاق اللغة الشعرية في أفق ملحمي يكون فيه التاريخ مسرحاً لمناطق شعرية فسيحة تتسع لتجوال غير محدود للشعوب والحضارات والثقافات، ولبحث عن عناصر الهوية الذاتية ضمن اختلاط وتصادم وتعايش الهويات)، كما يقول الشاعر عن نفسه.

• صدّقت أنّي متُّ يومَ السبت، وأريد جنازة هادئة، وتابوتاً أنيق الصنع

وفي السنة الأخيرة من حياته شعر أصدقاء درويش المقربون، أنه أصبح مشدودا أكثر من أي وقت مضى لفكرة الموت والرحيل. فقد مثل اقتران الموت بالحياة عنده وبخاصة في السنوات الأخيرة ظاهرة كبيرة في شعره لا ترتبط بمرضه بل تعود إلى الإطار الذي عاش فيه وعاينه، وتجلت فيه صور الموت في حالات مرعبة متجددة بدءا من الاقتلاع من الأرض والبيت مرورا بالمنافي ورحلة العودة إلى الوطن الحلم.
وقد أظهرت هذه المراوحة بين تأمل الموت الفردي والجماعي الرؤية التي ينطلق منها درويش ليصوغ أفكاره وتأملاته في قصائده ونصوصه.
والغريب أن درويش كتب موته شعراً، مقرراً أن الكتابة حياة وأن سلطة الحياة تأخذ الشاعر وتترك قصائد في ضيافة الحياة. وتشاء الأقدار أن يكون رحيل محمود يوم السبت كما توقع في قصيدته (إجازة قصيرة)، في ديوان (أثر الفراشة) إذ قال:

صدّقت أنّي متُّ يومَ السبت
قلتُ عليَّ أن أوصّي بشيءٍ ما
فلم أعثر على شيء
وقلتُ: عليّ أن أدعو صديقاً ما
لأخبره بأني مت
لكن لم أجد أحداً...
وقلتُ: عليّ أن أمضي إلى قبري
لأملأه فلم أجد الطريق
وظلّ قبري خالياً منّي
وقلتُ / عليّ واجبً أن أؤدي واجبي:
أن أكتبَ السطر الأخير على الظلال
فسال منها الماء فوق الحرف..
قلتُ / عليّ أن آتي بفعل ٍ ما
هنا، والآن
لكن لم أجد عملاً يليق بميّت
فصرختُ / هذا الموت لا معنى له
عبثٌ وفوضى في الحواس
ولن أصدّق أني قد متُّ موتاً كاملاً
فلربما أن بين بين
وربما أنا ميّت متقاعد
يقضي إجازته القصيرة في الحياة..

ودرويش الذي تأهب للرحيل بعدما ذاق مرارة الإخفاق الفلسطيني، يبدو أنه لم يرغب في أن يترك لنا أية وصية مكتوبة، وكأنه اكتفى بما أوصانا به في كتابه النثري، شبه الروائي، (ذاكرة للنسيان) عن أيام حصار بيروت 82، والتي جاء فيها:

(أريد جنازة حسنة التنظيم، يضعون فيها الجثمان السليم، لا المشوّه، في تابوت خشبي ملفوف بعلم واضح الألوان الأربعة، ولو كانت مقتبسة من بيت شعر لا تدل ألفاظه على معانيه، محمول على أكتاف أصدقائي، وأصدقائي - الأعداء. وأريد أكاليل من الورد الأحمر والورد الأصفر، لا أريد اللون الوردي الرخيص، ولا أريد البنفسج لأنه يذيع رائحة الموت. وأريد مذيعاً قليل الثرثرة، قليل البحة، قادراً على ادعاء حزن مُقنع، يتناوب مع أشرطة تحمل صوتي بعض الكلام. أريد جنازة هادئة، واضحة، وكبيرة ليكون الوداع جميلاً وعكس اللقاء. فما أجمل حظ الموتى الجدد، في اليوم الأول من الوداع، حين يتبارى المودعون في مدائحهم.

فرسان ليوم واحد، محبوبون ليوم واحد، أبرياء ليوم واحد.. لا نميمة ولا شتيمة ولا حسد. حسناً، وأنا بلا زوجة وبلا ولد، فذلك يوفر على بعض الأصدقاء جهد التمثيل الطويل لدور حزين لا ينتهي إلا بحنو الأرملة على المعزّي. وذلك يوفر على الولد مذلة الوقوف على أبواب المؤسسات ذات البيروقراطية البدوية.

حسنٌ أني وحيد.. وحيد.. وحيد.. لذلك ستكون جنازتي مجانية وبلا حساب مجاملة، ينصرف بعدها المشيعون إلى شؤونهم اليومية. أريد جنازة وتابوتاً أنيق الصنع أطل منه على المشيعين، أسترق النظر إلى طريقتهم في الوقوف، وفي المشي وفي التأفف، وفي تحويل اللعاب إلى دموع، وأستمع إلى التعليقات الساخرة: كان يحب النساء، وكان يبذخ في اختيار الثياب. وكان سجاد بيته يصل إلى الركبتين، وكان له قصر على الساحل الفرنسي اللازوردي، وفيلا في إسبانيا، وحساب سرّيٌ في زيوريخ، وكانت له طائرة سرية خاصة، وخمس سيارات فخمة في مرآب بيته في بيروت.

ولا نعرف إذا كان له يخت خاص في اليونان. ولكن في بيته من أصداف البحر ما يكفي لبناء مخيم. كان يكذب على النساء. مات الشاعر ومات شعره معه. ماذا يبقى منه؟ لقد انتهت مرحلته وانتهينا من خرافته.

أخذ شعره معه ورحل. كان طويل الأنف واللسان.. وسأستمع إلى ما هو أقسى عندما تتحرر المخيلة من كل شيء. سأبتسم في التابوت، سأبذل جهداً لأن أقول: كفى! سأحاول العودة فلا أستطيع).

ويوم ودّع النسر قمته في الأعالي، عالياً، حراً... كان لسيد الكلام ما أراد فعلاً.. جنازة حسنة التنظيم، هادئة، وكان وداعه جميلاً، كما أراد، وكما كان حضوره دوماً بيننا هادئاً، جميلاً.

فبقي يرصد رحيل الشهداء ويحرسهم

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى