ديوان «فتافيت امرأة» لسعاد الصباح
ديوان «فتافيت امرأة» لسعاد الصباح من منظور نظرية التحليل النفسي عند جاك لاكان
لعل من أهم الظواهر المصاحبة للفكر الفلسفي والنفس تحليلي منذ النصف الثاني من القرن العشرين هي تلك العناية المتزايدة بـتأليف الأدلة والقواميس النقدية المواكبة لهذه المصطلحات والمذاهب الفكرية.
وعلى الرغم من كثرة المصطلحات المعاصرة، وزيادة عدد الدراسات الأدبية التي تناولتها من جوانب متعددة، إلا أنها ما زالت غريبة على كثير من المشرقيين المتخصصين في المجال الأدبي؛ وقد يعود ذلك إلى سببين: الأول يخص المصطلحات نفسها، حيث إنها فلسفية، توصف بأنها التفكير في التفكير، وتميل إلى الجدل، والتدقيق في كل شيء، وهذه الطبيعة لا تجذب عددًا من القراء، أو إنها غير دقيقة في ترجمتها، وما زالت مشوشة في عرضها الأكاديمي، وتسويقها العربي، والثاني أن هناك رأيًا نرجسيًّا ما زال مقاومًا فكريًا للحداثة والنظريات المغايرة لمعتقداته الراسخة، التي كوّنها عن ذاته وعن الآخر.
ومن الدراسات التي قدمت إضاءة لأكثر من سبعين تيارًا ومصطلحًا نقديًّا معاصرًا: (دليل الناقد الأدبي)، والدليل -كما قال المؤلفان في مقدمة الطبعة الثانية- يعدّ (تعبيرًا متواصلا عن الطموح إلى صورة أكثر إشراقا لنقد عربي معاصر)(1)، وهو مُوجّه: (إلى الحركة النقدية في العالم العربي)(2)، وهذا التوجيه يدفع الباحثين إلى مواكبة المصطحات النقدية المعاصرة.
ومن مصطلحات الدليل النقدية: الآخر، والكرنفالية، والغنوصية، والنقد الثقافي، والنص المتعالق، والتكرارية، وقلق التأثير، ومرحلة المرآة.
ويعد مصطلح (مرحلة المرآة) لجاك لاكان من أكثر المصطلحات النفس تحليلية إثارة وتداولا؛ لعلاقته المباشرة بمصطلحات أخرى كالتحديق، والآخر، والانحراف المعرفي، والنظام المتخيل، والنظام الرمزي.
جاك لاكان
ولد جاك لاكان في عام (1901) من أسرة بارسية كاثولوكية من الطبقة المتوسطة، وبعد أن أنهى المرحلة الثانوية عام (1919)، واصل دراسته في الطب النفسي حتى حصل عام (1932) على درجة الدكتوراه، التي كانت بعنوان: (عن ذهان البارانويا وعلاقته بالشخصية).
انضم جاك لاكان إلى جمعية باريس للتحليل النفسي كضو مرشح عام (1934)، وتدرج فيها إلى أن أصبح رئيسها عام (1953)، وفي هذه السنة حضر المؤتمر السادس عشر للمحللين النفسيين، وعرض بحثا بعنوان: (وظيفة الكلام واللغة ومجالهما في التحليل النفسي).(3)
قدم جاك لاكان بحثين عن (مرحلة المرآة) للرابطة الدولية للتحليل النفسي، الأول في المؤتمر الرابع عشر عام 1936، والثاني في المؤتمر السادس عشر عام 1949، وقال عنهما في المؤتمر الثاني: «إن مفهوم مرحلة المرآة الذي قدمته في مؤتمرنا الأخير، منذ ثلاثة عشر عامًا، والذي اندرج إلى حد كبير كمصطلح في استخدامات المجموعة الفرنسية، يبدو لي جديرًا بأن يتوجه إليه اهتمام حضراتكم، واليوم على وجه الخصوص، حيث إنه يلقي الضوء على وظيفة ضمير المتحدث (Je) في الخبرة التي يعطيها لنا التحليل النفسي».(4)
كان جاك لاكان في دراساته النفس تحليلية أكثر انشغالا بالنساء، وتعامل معهن في مرحلة المرآة كلغز أنثوي، يتطلب تفكيرًا منطقيًّا بخطابهن النرجسي اللامنتهي في الحب التودّدي التملقي.(5)
توفي جاك لاكان في العاشر من سبتمبر 1981، مخلفا تراثا نفسيًّا تحليليًّا مثيرًا للجدل.
مرحلة المرآة(6)
يذهب المهتمون بعلم النفس إلى أن (مصطلح المرآة) من أهم مصطلحات المنظر النفسي الفرنسي جاك لاكان، وهو مصطلح استعان به في التحليل النفسي السريري، وأعلن عن تجربته المرآوية في بحثه الموسوم بـ (مرحلة المرآة: بوصفها مكونة لوظيفة "الأنا" كما تتكشف في تجربة التحليل النفسي)، وذلك في المؤتمر العالمي السادس عشر لعلم النفس المعقود في زيورخ عام 1949م.
يقول جاك لاكان عن هذه المرحلة: "إن أهم ما يميز (مرحلة المرآة) هو اختفاؤها الفجائي في اللحظة التي يتغلب فيها الرمزي على الوظائف القائمة التي كانت تؤدى حتى تلك اللحظة إلى التعرف على الرغبة في الآخر".(7)
ومرحلة المرآة تُعنى بنمو الطفل وتكوين ذاته، حيث يعيش في بداية تكوينه مُنفصلا عن العالم، ولا يرى ذاته إلا من خلال صورة أمه (المرآة) الوهمية، وعندما ينظر إلى المرآة الحقيقية في سن مبكرة (بين الشهر السادس والشهر الثامن عشر)(8) يرى (الآخر) المُنعكس في المرآة؛ فيبدأ بتقليده، ولا يتصور وقتها أن هذا الآخر هو أناه، ثم يصل بعد مرحلة من التجربة المرآوية إلى قناعة أن الصورة في المرآة هي صورته، وخلال هذه التجربة النفسية يدرك وجود (الآخر) الحقيقي (المُحدّق) فيه، ثم يبدأ الصراع بين (الأنا) الحقيقية، وبين (الآخر) الحقيقي، الذي يحاول خلال هذا الصراع الوجودي أن يسرق الأنا؛ ممّا يدفعها خلال هذا الخلل في العلاقة الإنسانية إلى العودة إلى المُتخيل(9) (المرآة الأولى أو الوهم – الأم كسلطة متوهمة بديلة عن سلطة الآخر:الرجل، أو المجتمع، أو الدين)، وهذه العودة إلى الوراء المرآوي تحمل معها عند العودة إلى الواقع الاحتمالات الآتية: الانحراف المعرفي، أو الشذوذ الجنسي، أو الانتحار.
في (مرحلة المرآة) تصل (الأنا) في علاقتها مع (الآخر) بعد اصطدامها بالواقع إلى ثلاثة مسارات: الأول يعيد (الأنا) إلى النظام المُتخيّل؛ لتبقى في الماضي أو المتخيل، لا وجود لها (لغوي أو كمتكلمة) في الواقع الإنساني، ولا مستقبل لها ما دامت على هذه الحالة المرآوية.
وتبدو في المسار الثاني ملامح (الأنا) النرجسية بأسمى صورها، حيث (تحدّق) بعد عودتها المرآوية بذاتها المنعكسة؛ فترى الآخر (شبيها أو مثيلا) لا بد أن تنصهر فيه، أو تتماهى معه في الواقع الإنساني، هذا الواقع الذي يفرض عليها أن تتعامل معه بمنطقه اللغوي دون تصرف أو تغيير، ومستقبل هذه (الأنا) يحتمل ثلاثة اختيارات: (الانتحار، أو الشذوذ، أو القتل).
أما (الأنا) الثالثة فهي (الأنا الناضجة) في تجربتها المرآوية، حيث أدركت مسارها الإنساني اللغوي المستقل، وتعاملت بثقة مع واقعها الوجودي، ورسمت بتمردها مستقبلا يحترم ذاتها، وميزت صورتها الرمزية (اللغوية) المنعكسة في المرآة عن غيرها الحقيقية؛ فقاومت (الآخر) الذي يحاول تهميشها اللغوي.
فأي واحدة من هذه الأنوات ظهرت جلية في ديوان فتافيت امرأة لسعاد الصباح؟
انطلقت سعاد الصباح في ديوانها (فتافيت امرأة) انطلاقة مرآوية، تركز خلالها على سلوك (الأنا) بمسارتها الثلاثة، و(الآخر) الإيجابي أو السلبي، هذا السلوك المرآوي الذي يعكسه السياق اللغوي للنص، لا سيما سلوك الضمائر.
مرحلة المرآة في ديوان فتافيت امرأة
تتجلى (مرحلة المرآة) في ديوان (فتافيت امرأة) في تلك العلاقة بين (الأنا)، وبين (الآخر)، ومفهوم الآخر لا يتوقف عند الرجل في ديوان سعاد الصباح، بل هو كل آخر سلطوي، من مثل العائلة، أو العادات والتقاليد، أو المجتمع، أو الدين، ولكن (الآخر) الذي غزا ديوانها كان (الرجل)، وهو (الآخر) الذي يستمد سلطته من كل آخر لا يحاسبه خلال علاقته بغيره (أنا) المرأة في ديوان الشاعرة.
ظهرت مصطلحات جاك لاكان التحليلية المتعلقة بالمرحلة المرآوية في ديوان فتافيت امرأة خلال ثلاثة مصطلحات، الأول: (الحاجة)، وتكون بتلفظ حاجة (الأنا) في شكل طلب، والثاني: (الطلب)، ويتضمن طلب الحب من الآخر، أما المصطلح الثالث فهو (الرغبة) الذي يتشكل من فائض المرحلتين (الحاجة، والطلب)، وتتمثل (الرغبة) باعتراف الآخر.
بدأت سعاد الصباح تعاملها المرآوي في ديوان فتافيت امرأة خلال علاقتها بـ (الآخر/ الزوج): الشيخ عبد الله المبارك الصباح، الذي كتبت في يوم ذكراه قصيدة بعنوان: (أعرف رجلا)، وكتبت تحت عنوانها في هامش الصفحة الأولى: إلى عبد الله المبارك زوجي، ومعلمي، وصديق العمر الجميل، في يوم ذكراه،(10) هذه الذكرى التي لم تغب عنها في معظم أعمالها الشعرية، ومن وحي سيرته وذكراه كتبت قصائد كثيرة، ومنها قصيدة لـ (الزوج/المعلم/ الصديق) بعنوان:
(كويتية):(11)
يا صديقي
يالذي أعشقه حتى نخاعي
كل ما حولي
فقاعات من الصابون والقش
فكن أنت شراعي
واندمجت أناها متماهية مع الآخر (الزوج/ المعلم/ الصديق) في قصيدتها (العالم أنت): (12)
خذ الخريطة ورتبها كما تشاء
فالقارات أنت
والبحار أنت
وأنا أنت
هكذا ملك (الآخر) زمام أمرها، وتحكم بهويتها الإنسانية، واستحق أن يكون أميرًا تتماهى معه نرجسيا في مرحلتها المرآوية في قصيدتها كويتية:(13)
الكويتية سمتك أميرًا يا أميري
فتصرف بمقادير العصور
وتصرف بمصيري
و كذلك كانت (أناها) بصورتها المتماهية في ديوانها مع (الآخر – غير الزوج) عندما كتبت قصيدتها (من امرأة ناصرية إلى جمال عبد الناصر):(14)
كان على صورتنا
كنا على صورته
كان يرى التاريخ في نظرتنا
كنا نرى المستقبل الجميل في نظرته
هذا (الآخر) لم تستطع سعاد الصباح إلا أن تتماهى معه في واقعها الإنساني (المتكلم)، ولم تستطع مواجهته لغويًّا (رمزيا) في مرحلتها المرآوية المُتخيلة لعامل السلطة (العمودي) في مثلت علاقتها الإنسانية (الأفقية) مع الآخر، وهي على الرغم من مشروعها النسوي الذي ركز على أن تكون المرأة كائنا لغويا ناطقا متحكما بضميره (الأنا) إلا أنها لم تستطع في هذه المرحلة المرآوية إلا أن تكون ضميرًا غائبًا عن ذاتها، وحاضرًا في ضمير الآخر المرآوي.
وهذا الواقع المرآوي جعلها تشن حربًا كلامية على (آخر) قد لا يختلف عن (الزوج، أو الزعيم) كمخرج نفسي تحاول خلاله أن تصل في علاقتها المرآوية إلى (أنا) المرأة الناضجة، التي لم تستطع أن تدافع عن وجودها اللغوي جهرًا في المشهد المرآوي السابق (الزوج أو الزعيم)، كقولها في قصيدة (إلى تقدمي في العصور الوسطى): (15)
ما كان يخطر لي بأنك جاهلي
من غلاة الجاهلين
فكرت أنك طبعة أخرى
ولكني وجدتك
طبعة عادية كالآخرين!!
هذه الحالة اللاشعورية في التعامل مع (الآخر) جعل سعاد الصباح تبدو في ديوانها فتافيت امرأة كـ (أنا) منشطرة مسلوبة الإرادة، أوكما في عنوان الديوان (فتافيت امرأة)، هذه الفتافيت التي حاولت أن تجمع أناها بتكرار (أنا) التي تبحث عنها، أو التي شعرت بأن الآخر قد سلبها، فبدا خطابها هستيريا في قولها: (16)
أنا في حالة حب ليس لي منها شفاء
وأنا مقهورة في جسدي
كملايين النساء
وأنا مشدودة الأعصاب
لو تنفخ في داخل أذني
لتطايرت دخانا في الهواء
هذا الخطاب الهستيري الذي وصلت إليه (الأنا) في تعالمها المتماهي مع (الآخر) قد يدفعها في مرحلة من مراحلها المرآوية إلى الانتحار: (17)
يا صديقي
يا من يخرج من منديله ضوء النهار
يا الذي أتبعه حتى انتحاري
هكذا بدت (الأنا) في مرحلتها المتخيلة التابعة للآخر في ديوان (فتافيت امرأة)، وهي أنا تمثل حضورًا كبيرًا في الديوان، ولكن سعاد الصباح سعت في مشروعها النسوي أيضا في الديوان إلى حضور (الأنا) الناضجة المتكلمة الرافضة لواقع يُميز متكلمًا عن متكلم لجنسه، وهي تسعى بهذه (الأنا) المتكلمة أن تشارك أنا الآخر في صياغة مفردات المجتمع الذي تعيش فيه، هذا المجتمع الذي لا سيادة فيه إلا لسيادة اللغة التي تميز متكلم عن آخر دون النظر إلى جنسه أو نوعه، ولهذا واجهت الآخر باستعارة النفط (السلطة) الجديدة التي أزاحت سلطة المجتمع المتخلف: (18)
أيها السيد... إني امرأة نفطية
تطلع كالخنجر من تحت الرمال
تتحدى كتب التنجيم
والسحر
وإرهاب المماليك
وأشباه الرجال
هذا المجتمع التقليدي الذي لا يملك إلا أداة لغوية واحدة نحو كلام المرأة (لا)، وهو ما عبرت عنه سعاد الصباح في قصيدتها (فيتو على نون النسوة)، ومفردة (الفيتو) هي المفردة (لا) التي تمثل أداة السلطة في مصطلحات جاك لاكان التحليلة: (19)
يقولون:
إن الإنوثة ضعف
وخير النساء هي المرأة الراضية
وأن التحرر رأس الخطايا
وأحلى النساء هي المرأة الجارية
والراصد لـ (مرحلة المرآة) في ديوان (فتافيت امرأة) يجد المصطلحات اللاكانية في مواطن منها:
أولا: عنوان الديوان، فـالفتافيت: ما تساقط من الشّيء بعد المبالغة في تكسيره، وفيه إشارة إلى مرحلة المرآة.
ثانيا: وردت كلمة (المرآة) في سبع قصائد: (فتافيت امرأة، وتوسلات، وقهوة، والإقامة الدائمة، وأعقل المجانين، ومن امرأة ناصرية إلى جمال عبد الناصر، ووردة البحر).
ثالثا: تضمنت عناوين القصائد المفاهيم التي تبناها جاك لاكان خلال تحليله النفسي، من مثل: المجنونة، وتوسلات، والعالم أنت، والاتفاق، وأعقل المجانين.
رابعا: مرحلة المرآة محورها (الجسد)، وهذا الجسد لا يمكن إدراكه إلا بمرآة (الأنا) و (الآخر)، وهذا المحور لا تخلو منه قصيدة من قصائد الديوان: (20)
أتوسل إليك
أن لا تقف بين مرآتي ووجهي
بين قامتي وظلي
بين أصابعي وورقتي
بين فنجان القهوة وبين شفتي
خامسا: مقدمة الديوان، حيث خصصت الشاعرة لها ثلاث صفحات، احتوت كل صفحة على اقتباس احتل أسفلها، واستعارت الشاعرة في الصفحتين الأولى والثانية كلاما للشاعر الفرنسي أراغون، فمن الأولى: (وإن رجل المستقبل سيكون قد تعلم من المرأة ما يكفي ليقدم اعتذاره)، ومن الثانية: (يضاف إلى ذلك أن المرأة كشعب مقهور، ومضطهد سوف تصحح بصورة حتمية أخطاء الرجل الأساسية)، أما الصفحة الثالثة فكانت من كلام المخرج فريديريكو فلليني: (المرأة تعرف عن الرجل أكثر مما يعرف عنها؛ لأنها هي المحتوية، وهو المحتوى)، والشاعر والمخرج من معاصري جاك لاكان، لاسيما أن الشاعر فرنسي، بل يعد من أشهر شعراء المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي لبلاده، وكان لقصائده المنشورة تحت اسم (منشورات منتصف الليل) أثر كبير في نفوس مواطنيه، فهو (الأنا) المقاومة لـ (الآخر) المحتل، وعلى الرغم من أن فلليني سخر من الأطباء النفسيين في فيلمه ( جوليتا والأرواح- Juliet of the Spirits)، إلا أنه سار على طريقتهم النفس تحليلية، فالفيلم بين (الأنا/ الزوجة)، و(الآخر/ الزوج الخائن)، حيث تهرب (الأنا) من الواقع إلى الماضي (طفولتها)، وهذه الأسلوبية السينمائية السريالية التي تمزج بين الأحلام والخيالات والواقع، وتركز على العلاقة المرآوية بين الأنا وبين الآخر، هي ذات الأسلوبية اللاكانية في (مرحلة المرآة)، وديوان (فتافيت امرأة).
وخلال عملية إحصائية للآخر (الرجل/ رجل) نجد أن الكلمة وردت معرفة (تسع مرات)، ونكرة (ست مرات)، وعدد القصائد التي وردت فيها الكلمة معرفة (ست قصائد)، وعدد القصائد التي وردت فيها الكلمة نكرة (أربع قصائد).
وحملت النكرة (رجل) دلالتين في سياقها الشعري، الأولى تكررت ثلاث مرات في قصيدة (إلى رجل يخاف البحر)، وكان خطاب الشاعرة فيها ساخرًا تودديًّا لرجل نكرة مدلل لا يتقن الألم: (21)
لا أريد أن تفقد إصبعا واحدا
أو شعرة واحدة
أو جوهرة واحدة
من جواهر عرشك
أنت رجل متزن، ورصين
وأنا امرأة فوضوية
وكأنها تبحث خلال هذا الاستعمال اللغوي عن (رجل) إيجابي، أو عن (الآخر الكبير) عند لاكان،(22)الذي يدخل كوسيط لحل النزاع، أما القصائد الثلاثة، فقد اشتركت في دلالة النكرة مع قصيدة (إلى رجل يخاف البحر)، كقصيدة: (شاي الساعة الخامسة): (23)
كلما جلست على طاولة تتسع لشخصين
وطلبت فنجانين من الشاي
واحدا لي
وواحدا لرجل لا أعرف متى سيأتي
وتناولت بعدا دلاليا آخر يشير إلى مصطلحات جاك لاكان المرآوية: (الحاجة)، و(الطلب)، و(الرغبة)، والمتمثلة أيضا في اتجاهين لاكانيين هما: تبادل الأدوار، ومشاركة (الأنا) واقعها مع (الآخر)، ولا يتحقق ذلك إلا برغبة تأتي بعد الحاجة والطلب، ولا تكون مؤثرة إلى بتكرارها، كرغبتها في (تبادل الأدوار) التي أعلنت عنها في قصيدة (الاتفاق):(24)
تعال نجرب ولو ليوم واحد
هذه اللعبة المستحلية
فأطلب أنا في الهاتف رجلا لا يعني لي شيئا
وتدير أنت رقم امرأة لا تعني لك شيئا
والافت في قصيدة (إلى رجل يخاف البحر) أن الشاعرة استعملت كلمة (رجل) ثلاث مرات، و(الرجل) مرتين، وقدمت النكرة على المعرفة، حيث جعلت (المعرفة) في آخر مقطعين: (الخامس والسادس)، وألصقتها بكلمة (ابق)، التي كررتها خمس مرات، وفي المقابل كررت كلمة (مسافرة) أربع مرات؛ لتؤكد دلالة سلبية لزمن (المعرفة/الرجل) في ديوانها (فتافيت امرأة)، فالحلم رجل إيجابي (نكرة)، تستدعيه من الذاكرة، والواقع رجل سلبي (معرفة) ما زال ماضيا في عقدته، ولا يريد أن يتخلى عنها في مرآتها الواقعية؛ فتجاوزته بالسفر إلى عالمها المرآوي المتخيل لـ (آخر) يعترف بتفاصيلها: (25)
أيها الرجل المشنوق على حبال الوقت
ابق مطمورا تحت أرقامك وأوراقك
ابق واقفا على مرفأ الطمأنينة
أما أنا
فمسافرة مع البحر
ومسافرة مع الشعر
ومسافرة مع البرق
مسافرة في كل الأشياء
التي لا تعرف التوقيت
وعلى الرغم من تجاوزها واقع الآخر السلبي (الرجل) إلا أنه ما زال يحتل مساحة أكبر من الآخر الإيجابي (رجل) في ديوانها: (فتافيت امرأة)، حيث ورد (تسع مرات)، وفي (ست قصائد)، وما حدقت فيه الشاعرة؛ إلا لأنه مستعمر لمرآة (الأنوات) في الواقع، ومحدق فيهن، ولا يمكن مقاومته إلا بتسليط (الأنا) الناضجة عليه، التي ستنتزع بوعيها صك الاعتراف بمشاركتها الإنسانية.
وتكررت كلمة (الرجل) في قصيدة (فيتو على نون النسوة) ثلاث مرات، وفي القصيدة ذكرت الشاعرة كلمتي (الذكر، والذكور)؛ لتصبح القصيدة مرآة واقعية لصورة الرجل السلبية الذي يريد أن يصادر لغة المرأة، أو حقها في الكلام، هذا الكلام الذي يمثل النظام الرمزي في مصطلحات جاك لاكان التحليلية: (27)
يقولون :
إن الكلام امتياز الرجال
فلا تنطقي!!
وإن التغزل فن الرجال
فلا تعشقي!!
وتواصل سعاد الصباح في قصيدتها (فيتو على نون النسوة) مطاردة الآخر السلبي، وتؤكد إصرارها على هوية (الأنا) الناضجة ذات الوظيفة الديناميكية في مشروعها الشعري: (28)
وأعرف أن الرعود ستمضي
وأن الزوابع تمضي
وأن الخفافيش تمضي
وأعرف أنهم زائلون
وإني أنا الباقية
وبالعودة إلى بحث جاك لاكان عن مرحلة المرآة: (وظيفة الكلام واللغة ومجالهما في التحليل النفسي)، الذي يلقي الضوء على وظيفة ضمير المتحدث في التحليل النفسي، تتجلى دلالات أخرى لمرحلة المرآة في ديوان (فتافيت امرأة)، وهذه الدلالات تكمن في سلوك الضمائر العائدة إلى الذات المتكلمة، لا سيما ضمير المتكلم المنفصل (أنا)، وفي المقابل سلوك ضمير المخاطب (أنت/ أنتم) أو (الآخر).
ولأن مرحلة المرآة اللاكانية تركز على (الأنا) و (الآخر) في تحليلها النفسي، فلا بد من إحصاء للضمير المتكلم المنفصل (أنا)، وضمير المخاطب (أنت) في جدول؛ لتعرف المساحة التي يحتلها الضميران في الديوان، وأثر ذلك الاستعمال في رصد المشاعر، ومشروع سعاد الصباح النسوي.
يتبين من نتيجة هذا الجدول الإحصائي لضمير المتكلم (أنا)، وضمير المخاطب (أنت) أن مساحة الضمير (أنا) ضعف مساحة الضمير (أنت)، وهذه النتيجة تؤكد صدق عاطفة الشاعرة سعاد الصباح، وأصالة مطلبها بإنصاف المرأة، وتؤيد مشروعها الشعري في مسيرة الشعر النسوي المعاصر.
ومن جهة ثانية فإن نتيجة النصف تشيرعمليا إلى أهمية المرأة في المجتمع العربي، وهذه الرسالة قدمتها سعاد الصباح للآخر (المعرفة/ أنت) خلال عدد الضمائر في ديوانها، ولم يكشف هذه الرسالة المبطنة إلا التحليل النفسي للكلمات، لا سيما تحليل الضمائر، الذي أشار إليه جاك لاكان في بحثه عن مرحلة المرآة، وأكد وظيفته في التحليل النفسي.
الهوامش:
(1) ميجان الويلي، وسعد البازعي، دليل الناقد الأدبي ( الدار البيضاء، المغرب، المركز الثقافي العربي ،ط4/ 2005م)، ص15.
(2) ميجان الويلي، وسعد البازعي، صفحة الإهداء.
(3) عبد المقصود عبد الكريم، جاك لاكان وإغواء التحليل النفسي( المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة،1999)، ص7-11.
(4) جاك لاكان، مرحلة المرآة بوصفها مشكلة لوظيفة ضمير الذات، ترجمة نيفين زيور،أوراق فلسفية،العدد 16 (2007)،ص327.
(5) سيد بدوي، جاك لاكان تاريخ حياته، أوراق فلسفية، العدد16،(2007)،ص196.
(6) ميجان الويلي، وسعد البازعي، ص230-233
(7) جاك لاكان، إغواء التحليل النفسي،إعداد مترجمة عبد المقصود عبد الكريم (مصر، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، 1999) ص41.
(8) جاك لاكان، مرحلة المرآة، ص327.
(9) منال شحاته، مصطلحات لاكانية، أوراق فلسفية، العدد16،(2007)،ص302.
(10) سعاد الصباح، والورود تعرف الغضب، (الكويت، دار سعاد الصباح، ط2/2006)، ص15
(11) سعاد الصباح، فتافيت امرأة، (الكويت، دار سعاد الصباح، ط9/1997)، ص26
(12) سعاد الصباح، فتافيت امرأة، ص83
(13) سعاد الصباح، فتافيت امرأة، ص32
(14) سعاد الصباح، فتافيت امرأة، ص137
(15) سعاد الصباح، فتافيت امرأة، ص72
(16) سعاد الصباح، فتافيت امرأة، قصيدة (المجنونة)، ص22
(17) سعاد الصباح، فتافيت امرأة، قصيدة( كويتية)، ص34
(18) سعاد الصباح، فتافيت امرأة، ص35
(19) سعاد الصباح، فتافيت امرأة، ص20
(20) سعاد الصباح، فتافيت امرأة، ص60
(21) سعاد الصباح، فتافيت امرأة، ص79
(22) عدنان حب الله، التحليل النفسي للرجولة والأنوثة من فرويد إلى لاكان،( دار الفارابي، بيروت، لبنان، ط1/2004)،ص292
(23) سعاد الصباح، فتافيت امرأة، ص116
(24) سعاد الصباح، فتافيت امرأة، ص91
(25) سعاد الصباح، فتافيت امرأة، ص118
(26) سعاد الصباح، فتافيت امرأة، ص15
(27) سعاد الصباح، فتافيت امرأة، ص20