الثلاثاء ٢٥ أيار (مايو) ٢٠٢١
بقلم محمد زكريا توفيق

عن الأصل دور

ليس الهدف من حديثي عن التطور، هو تشكيك الناس في أديانها. إنما الهدف أن يعرف الناس ما يقوله العلم الحديث. إن حدث تعارض، فمن واجبنا إعادة تفسيراتنا وفهمنا للدين، في ضوء العلوم الحديثة، وما يستجد فيها من نظريات. هذا أجدى وأنفع للبشرية من المناطحة وأسلوب التكفير والرفض الذي ينتهجه مشايخنا الكرام وتجار العلم وأنصاف المتعلمين.

الأديان عزيزة على قلوبنا ونرجو أن تكون كلها صحيحة. فهي عادة تدعوا للخير، وتعد بالخلود، وتجعل للوجود معنى ومبنى. لكن لا يجب أن تكون سببا في محاربة العلم والبحث عن الحقيقة، وإعاقة تقدم الإنسان ورقيه.

الأديان يجب أن تكون دافعا للحضارة، لا سببا في التخلف وبؤس الإنسان. تصالح الأديان مع العلوم، سوف يعطي البشرية دفعة عظيمة نحو الرقي والتقدم، وإسعاد الناس وتخفيف آلامها وبؤسها. الحل بسيط، إعادة التفسير والتأويل، وترك العلوم تعمل في سلام. صعبة دي؟

مكان نقد العلوم وتكذيبها، ليست المنابر والقنوات الفضائية، للتغرير بالبسطاء والسذج من المستمعين والمشاهدين. للأسف القانون لا يعاقب على ذلك. مجال نقد العلوم هو الأكاديميات والجامعات والمحافل العلمية. وهي بدون شك، مؤسسات ترحب بأي نقد بناء، وقد تكافئك على ذلك بدرجة ولقب علمي. فليس من مصلحتها إخفاء الحقيقة مهما كانت مؤلمة.

المناطحة لن تجدي. وكما يقول الأعشى:

كناطح صخرة يوما ليوهنها – فما ضرها وأوهى قرنه الوعل.

المعركة غير متكافئة. العلوم لها منطقها القوي وشواهدها الدامغة البادية للحواس والعيون. الأديان ليس لديها سوى الإيمان والنوايا الطيبة والأمل في الجنة أو الخوف من عذاب النار.

المعركة محسومة منذ البداية لصالح العلوم. بالرغم مما لاقاه العلماء من اضطهاد وتعذيب وقتل على مر العصور والأزمان. رجاء قراءة مقالي عن حروب رجال الدين للعلم والعلماء.

محاولات إخضاع العلوم للأديان وإظهار ما بها من إعجاز علمي، هي محاولات يائسة تضر بالأديان والعلوم في نفس الوقت. لأنها مبنية على التلفيق والدجل والتزوير للحقائق، ولا تخضع لمنهج علمي رصين. مركزية الأرض أو تسطحها، لا يمكن أن تكون نظرية علمية صحيحة، ولا يمكن إثباتها بالإيمان وحده.

نعود إلى موضوعنا عن أصل الإنسان، وهل هو من سلالة كائنات بحرية، قد غزت اليابسة منذ 375 مليون سنة؟ هل أصل الإنسان سمكة؟ لقد وجدت بقايا حجرية لكائن، نصف سمكة ونصف حيوان أرضي في منطقة كويبك التي تقع شمال كندا.

الحفرية التي وجدها العلماء، تجمع بين صفات الأسماك والحيوانات الأرضية. لها قشر يغطي ظهرها، وزعانف مثل الأسماك، ولها في نفس الوقت رأس مفلطحة، أعلاها عينان ورقبة. لها أيضا كتفان وذراعان ومعصمان.

هذا الكائن يمكن وصفه، من الناحية التشريحية، نصف سمكة ونصف حيوان برمائي. الاسم العلمي لهذه الحفرية هو تيكتاليك (Tiktaalik)، عمرها 375 مليون سنة.

تركيبة عظام يد الإنسان، تدل على ما نستطيع عمله بأيدينا. قدرتنا على القبض على الأشياء وعلى البناء ومسك القلم والكتابة، وعلى لكم الأعداء واستخدام السيوف وإلقاء الرمح وغزل الشباك، إلخ. شكل وتركيبة أيدينا، لها علاقة بقدرتنا العقلية والعصبية.

تركيبة معصم الإنسان بها ثمان عظمات تتحرك مع بعض. حركة إصبع أو معصم يترتب عليها حركة عضلات وعظام كثيرة مكدسة في حيز ضيق في اليد أو المعصم.

علاقة تركيبة اليد المعقدة، وكوننا بشر، حيرت العلماء منذ مدة طويلة. ففي عام 1822م، نشر تشارلز بل، الجراح الإسكتلندي، كتابا عن اليد. قال فيه أن تركيبة اليد المعقدة، تناسب تماما أسلوبنا في المعيشة. هذا التصميم الكامل، يدل فقط على أنه تصميم إلهي.

عالم التشريح السير ريتشارد أوين، في منتصف القرن التاسع عشر، كان أحد العلماء الذين يبحثون عن الخالق في تركيبة المخلوقات الحية. ومع اكتشاف جزر وأماكن جديدة وكائنات غير معروفة من قبل، بدأ العلماء دراسات تشريحية، لمقارنة تركيبة عظام هذه الكائنات المختلفة الشكل.

اكتشف أوين أن تركيبة عظام الذراع واليد والساق والرجل في الإنسان، تشبه بقية الحيوانات، بما فيها الخفافيش والضفادع، إلى حد التطابق، مع اختلاف بسيط. لذلك، أعلن أوين أن كل المخلوقات التي لها أطراف، أذرع أو أرجل أو أجنحة، أتت من تصميم ذكي واحد.

أعلى الذراع أو الساق أو الجناح، توجد عظمة واحدة بالطول. أسفل الذراع أو الرجل أو الجناح، توجد عظمتان طوليتان. ينتهيان بأصابع اليد أو القدم. هذا التصميم هو نفسه، بالنسبة لأي طرف من أطراف الحيوانات، التي عاشت أو تعيش الآن.

إذا أردنا جناح خفاش، ما علينا سوى إطالة الأصابع جدا. وإذا أردنا رجل حصان، علينا إطالة الأصابع الوسطى وضمور الأصابع الخارجية. رجل بطة، كفاية ثلاثة أصابع وسطى، وضمور إصبعين خارجيين. وهكذا. الخلاف بين كائن وآخر، هو في شكل وحجم العظام والأصابع. لكن الرسم الهندسي للأطراف واحد.

عندما فحص أوين جمجمة الرأس والعمود الفقري للحيوانات المختلفة، توصل إلى نفس النتيجة. سواء كان الحيوان ضفدعة أو خفاش أو إنسان أو سحلية، كلها تنويعات في نغمة موسيقية واحدة. هذه النغمة الموسيقية أو الرسم الهندسي، بالنسبة لأوين، هو تصميم ذكي يدل على وحدة الخالق.

لكن داروين أعطانا فيما بعد، تفسيرا أكثر ذكاء لهذا التشابه. السبب في أن جناح الخفاش وهيكله العظمي يشبهان ذراع الإنسان وهيكله العظمي، هو أنهما قد أتيا من صلب جد مشترك.

سبحان الله. الناس موش قادرة تصدق إن الإنسان والشمبانزي أهل وأقارب، وأنت تقول لي الإنسان والخفاش أقارب؟ نعم. الحقيقة المرة هي كذلك. ليس هذا فقط، وإنما الإنسان والأسماك أيضا أقارب، رغم أنف زعماء الإعجاز العلمي والدجل الغيبي.

هناك فرق جوهري كبير بين نظرية أوين في التصميم الذكي، لتشابه التركيب العظمي للكائنات، وبين نظرية داروين في التطور. نظرية داروين تجعلنا نتنبأ بمنتهى الدقة، بعكس نظرية أوين التي لا ينتج عنها أي تنبؤ.

نظرية داروين جعلتنا نتنبأ بأن الحيوانات الأرضية جاءت من الماء، منذ 375 مليون سنة. مما جعل العلماء تبحث عن إثبات ذلك في مناطق شمال كندا. هذا بدوره، تسبب في اكتشاف الحلقة المفقودة. تيكتاليك، الكائن نصف سمكة ونصف حيوان أرضي.

أيام أوين وداروين، الفرق كبير بين شكل ذراع أو ساق الحيوان البري وشكل زعنفة السمكة. وجه الشبه تقريبا غير موجود. في منتصف القرن التاسع عشر، تم اكتشاف نوع محير من السمك اسمه العلمي (Lepidosiren paradoxa).

له قشر سمك وزعانف، وفي نفس الوقت له رئة يتنفس بها الهواء. ثم بدأ اكتشاف أنواع عديدة من الأسماك لها رئة (lungfish)، ووجد توماس هكسلي وغيره من العلماء أنها حلقة وصل بين الأسماك والبرمائيات.

لقد وجدت أيضا، أسماكا تسمى(zebrafish)، الزعنفة بها تنتهي بعدة عظمات موضوعة بالعرض. الأسماك ذات الرئة، تنتهي زعانفها بعظمة واحدة مثل عظمة أعلى الذراع. بقايا أسماك متحجرة وجدت في صخور عمرها 380 مليون سنة في منطقة كويبك بكندا، تركيبة زعانفها تشبه ذراع الإنسان.

اكتشف "جونار سيف سودربرج" وفريقه، ما بين عامي 1920-1936م، حفرية كائن له رأس وذيل سمكة، وله في نفس الوقت أطراف لها أصابع. في عام 1995م، وجد "تيد داشلر" و"نيل شوبين" بقايا زعنفة في صخور عمرها 365 مليون سنة. أعلى الزعنفة، توجد عظمة واحدة مثل عظمة الذراع، متصلة بعظمتين أسفل الذراع، ثم عظام رسغ عددها ثمانية كما في الإنسان.

تماما كما تخبرنا نظرية التطور لداروين، في الوقت المناسب والمكان المناسب، يمكن أن تجد حلقة الوصل بين نوعين من الحيوانات، مختلفان تمام الاختلاف.

الحفرية تيتاليك، وجد أن لها كتفان وكوع ومعصم وتركيبة ذراعيها ورجليها تشبه الإنسان تماما. هذا يساعدها على الحياة والحركة في قاع الأنهار والبرك الضحلة. حيث يكثر الطمي وتقل المياه. هذا ما تؤكده طبيعة الصخور الرسوبية التي وجدت بها تيتاليك.

لماذا هربت تيتاليك من الحياة في الماء مثل باقي الأسماك، وفضلت الحياة في الطمي والمياه الضحلة؟ السبب هو أن المياه كانت مليئة بالأسماك المتوحشة الضخمة التي تأكل بعضها البعض.

حينما لا يكون هناك سلام في المنطقة، يكون الحل هو، أن تكون وحشا كاسرا مثل باقي الوحوش، أو قطة مثل باقي القطط السمان، أو مفتري مثل باقي الحكام المفتريين. فإن لم تستطع، عليك بالهجرة. يا عزيزي، فأرض الله واسعة.

هذا ما فعلته تيتاليك. لقد هاجرت إلى أماكن أقل خطرا وأكثر أمنا. كان عليها أن تتأقلم على الحياة الجديدة، أو تفنى مثل باقي الكائنات التي فنيت. ربما كان هذا سر هجرة الأسماك إلى اليابسة. الهرب من الظلم ومن تحكم الطغاة.

من تيتاليك إلى البرمائيات، ثم إلى الثدييات ومنها الإنسان، توجد عظمة واحدة أعلى الذراع وعظمتان أسفله، ينتهيان بمعصم وأصابع. تستطيع تيتاليك أن تسير وترفع جسدها إلى أعلى من الأرض، لكنها لا تستطيع أن تلعب كرة السلة وتقود السيارة. لا يزال أمامها ملايين السنين لكي تفعل ذلك.

أول أصابع حقيقية ظهرت في البرمائيات منذ 365 مليون سنة (Acanthostega). المعصم والكاحل ظهرا في الزواحف منذ 250 مليون سنة. تركيبة عظام اليدين في الإنسان ظهرت أولا في الأسماك، ثم البرمائيات ثم الزواحف ثم الثدييات.

لاحظ أننا يمكننا تحريك اليد في كل الاتجاهات. السبب هو وجود عظمتي أسفل الذراع بالطول. أحدهما تدور حول الأخرى، حول عظمة كروية عند الكوع. هذه خاصية تشترك فيها معظم الثدييات. بداية ظهور كرة الكوع موجودة في تيتاليك.

بخلاف الأسماك والبرمائيات، الكوع والركبة ينثنيان في اتجاهين مختلفين. في الأسماك والبرمائيات تنثني المفاصل في نفس الاتجاه. الجنين في بطن أمه، تبدأ مفاصله في نفس الاتجاه مثل الأسماك، ثم تبدأ في الاستدارة إلى أن تصبح في وضع معاكس. حتى يسهل المشي واستخدام اليدين. هل يمكن لمولانا زغلول النجار تفسير ذلك بإعجازه العلمي؟

الحقيقة التي لا يمكن إخفاؤها، هي أننا ننتمي لهذه الكائنات، ولسنا بمعزل عنها. عظمة بعظمة وجين بجين. نحن جزء من هذا الكون وهذه الحياة، شئنا أم أبينا. هل هذا ينقص من قدر الإنسان قيد أنملة؟ أبدا.

من يرفض هذا، هو في الواقع لم يستمع من قبل لطائر يغرد، ولم يتأمل زهرة قط في حياته، ولم يراقب أبدا فراشة تطير، ولم ير قطرات الندى في الصباح الباكر وهي تنتظم كعقد من الدر على خيوط بيت العنكبوت.

وكما يقول هكسلي ردا على تهكمات أحد رجال الدين، عندما تساءل بسخرية عن جدوده، وهل هم ينتمون إلى فصيلة الشمبانزي، أجاب هكسلي:

"لم يقل الأسقف شيئا جديدا، فيما عدا سؤاله عن أجدادي. وإذا سألني شخص ما عما إذا كنت أفضل أن يكون جدي من سلالة بائسة من القرود، أو يكون جدي رجلا موهوبا بالفطرة، يمتلك الكثير من الأموال والنفوذ، إلا أنه يستخدم هذه الملكات لإقحام التهكم والسخرية في مناقشات علمية جادة. أقول للسائل أنني أفضل، بدون أي تردد، أن يكون جدي من القرود."


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى