(نيقولاي فاسيلييفيتش غوغَل) في القدس
عندما أطلع بوشكِن على الفصول الأولى من ملحمة غوغَل الخالدة (النفوس الميتة) ما كان منه إلا أن قال بأسى بالغ: (يا إلهي، كم هي روسيا حزينة).
حقاً، إن هذه العبارة كافية للتأكيد على ثانوية الجانب الكوميدي في مسرحية غوغَل تلك وأن الضحِك في تقييم (النفوس الميتة) من الناحية الأدبية لا أهمية له.
تستعد روسيا على المستويين الرسمي والشعبي للاحتفال في شهر نيسان القادم بمناسبة مرور مائتي سنة على ميلاد واحدة من أعظم القامات الإبداعية في العالم، أحد أكبر أساتذة الفن السردي وإمام السخرية السوداء – نيكولاي فاسيلييفيتش غوغَل. فقبل مائتي عام، في الأول من نيسان عام 1809 ولد أديب روسيا الأول غوغَل في قضاء ميرغوردسكي من مقاطعة بولتافا، ذلك القضاء الذي سيصبح فيما بعد عنواناً لسلسلة من قصص الكاتب. كان والده مولعاً بالأدب عموماً وبالمسرح بوجه خاص وهذا ما سمح لمؤلف رواية (المفتش) أن ينمّي في نفسه مشاعر الجَمال والذوق الرفيع وهو يراقب المسرحيات التي كانت تعرض في دارة أحد أنسباء آل غوغَل والذي كان يمتلك إلى جانب ذلك مكتبة فاخرة.
كانت الرواية الشعرية (هانس كيوهيل هارتِن) أول ما كتبه غوغَل في عام 1827 وتمت طباعتها في عام 1829. لكنها لم تلقَ استحساناً عند الجمهور.. بل على العكس أثارت حملة من السخرية مما دفع بصاحبها الممتلئ بعزة النفس لأن يشتري ويتلف جميع النسخ.
في عام 1830 يتعرف غوغَل إلى اثنين من عمالقة الأدب الروسي جوكوفسكي وبوشكين.. ولاحقاً يقوم بنشر مجموعة قصصه (أمسيات...) التي ستشكّل فيما بعد المجلّد الأول والثاني من أعمال غوغَل الكاملة.
وفي عام 1842 اطلع جمهور بطرسبورغ على المجلد الثالث من أعمال غوغَل والذي كان يضم سلسلة (قصص من بطرسبورغ).
في 19 نيسان من عام 1836 تم أول عرض لمسرحية (المفتش) الكوميدية وذلك على خشبة المسرح الملكي وبحضور القيصر نيكولاي الأول الذي امتدح المسرحية قائلاً: (الجميع ملومون وأنا أولهم). ثمة مَن يعتقد أن بوشكِن هو الذي أوحى بفكرة المسرحية لغوغَل.
وخلال إقامته في الخارج أنجز غوغَل رواية (النفوس الميتة) التي اعتبرها الناقد الروسي المعروف بيلينسكي من أعظم ما كتب غوغَل. أما دَسْتَييفسكي فأطلق مقولته التي ستصبح مأثورة:(كلنا خرجنا من (معطف) غوغَل)...
وفي عام 1841 عاد غوغَل إلى روسيا وفي حوزته المجلد الأول من الرواية العظيمة (الملحمة).. وفي عام 1842 بدأ بكتابة المجلد الثاني من (الملحمة).. لكنه أحرق المخطوط بعد ثلاث سنوات.. ليعود بعد ثلاث سنوات أخرى ويبدأ (الملحمة) من جديد.. لكن ليعود ويحرقها قبل أيام من وفاته بعد أن أصبحت عملاً منجزاً كاملاً تماماً.
توفي غوغَل في 4 آذار من عام 1852 في فقر مدقع وبعد أن عانى الكثير من المرض.
غوغَل في القدس
لقد كُتِب الكثير عن الجانب الأدبي في إبداع الكاتب العظيم غوغَل الذي اعتبره النقاد عن حق بمثابة الأب الروحي للقصة الروسية - إذ من (معطف) خرجت إلى النور القصة القصيرة في روسيا.
لكنه لم يكتب إلا القليل جداً عن الخلفية الدينية لمؤلف (تأملات بخصوص القداس الإلهي)، أو أن الدارسين أشاروا بإيجاز إلى مناجاة غوغَل للسيد المسيح في الأعوام الأخيرة من حياته.
علماً أن غوغَل قام برحلة حج بكل ما للكلمة من معنى إلى الديار المقدسة وكان يعتبر هذا الحج ذروة النضج والتطهر الروحي لديه. وقد كانت الفكرة بزيارة الأراضي المقدسة وتحقيقها عند غوغَل مرتبطة بشكل وثيق مع توجهه الديني والأخلاقي. لهذا كان الكاتب ينظر إلى رحلته إلى فلسطين على أنها (الحدث الأهم في حياته). فمن خلال رسائله لأصدقائه يتضح أن رحلة الحج تلك كانت ضرورية بالنسبة له من الناحية الإبداعية والروحية. وقد اتحد هذا الجانب مع ذاك لدى الكاتب خصوصاً في سنواته العشر الأخيرة.
ليس معروفاً بالتحديد متى نشأت النية عند غوغَل لزيارة الأراضي المقدسة. لكن اللافت أن مصير اثنين من زملائه في المدرسة الدينية ارتبط بالقدس: (فيكتور كامينسكي) زار الأراضي المقدسة ثلاث مرات وتوفي في القدس، و(قسطنطين بازيلي) الذي شغل منصب القنصل الروسي العام في سوريا وفلسطين، وقد رافق غوغَل عام 1848 خلال زيارته إلى الأرض المقدسة.
إذا كان السفر إلى أوروبا يعتبر أمراً عادياً في ذلك الزمن بالنسبة للمجتمع النخبوي الروسي، فإن زيارة القدس كانت أمراً نادراً واستثنائياً في أوساط الطبقة العليا. وقد كان ذلك يعود إلى الصعوبات الكثيرة المتعلقة بالمسافة الكبيرة وبمشقة السفر. لذلك فإن رغبة كاتب محسوب على النخبة مثل غوغَل، خاصة وأن مؤلفاته لم تكن تعكس تديناً عميقاً لديه، بزيارة القدس قد أدهشت الكثير من الناس.
في البداية كان غوغَل قد قرر الانطلاق في رحلة الحج إلى القدس بعد انتهائه من (النفوس الميتة). لكن الانتظار ريثما يتلقى بعض المال لقاء عمله لم يكن السبب الوحيد وراء تأجيل رحلته، بل كانت ثمة أسباب روحية أيضاً لذلك. وبدءاً من منتصف عام 1843 يصبح السفر إلى القدس علامة لا الانتهاء من الرواية وإنما شرطاً ضرورياً للإبداع بحد ذاته، بمثابة تشجيع وإثارة للكاتب.
إلا أن رحلة الحج إلى الأرض المقدسة لم تتم سوى في عام 1848. قبل ذلك، في عام 1847 وبسبب التزايد الواضح في عدد الحجاج الروس إلى الأراضي المقدسة، تم تأسيس الإرسالية الروحية الروسية في القدس. وقد تم تعيين رئيساً لها الأسقف أوسبينسكي، الخبير بثقافة الشرق المسيحي. وكان من بين أعضائها القس بيتر سولَفْيوف الذي ترك لنا بعض الذكريات عن لقائه مع غوغَل في كانون الثاني من عام 1848 على سفينة (اسطمبول) المتجهة نحو شواطئ سوريا – حيث كانت المجموعة ستنتقل من بيروت إلى القدس. (كان يسافر على (اسطمبول) عدد كبير من الناس، أغلبهم متوجه لزيارة الأراضي المقدسة. لم يكن معروفاً لأية قوميات ينتمي هؤلاء. كانوا وكأنهم مواطنون من بلد واحد. وحدنا بقينا متميزين بين ذلك القوم من مختلف الأجناس، ولم نكن نشترك في شيء مع تلك الغوغاء من الناس. ولكن تبين أنه ثمة شخصين روسيين غيرنا... أحدهما طويل مكتنز، والآخر قصير القامة بأنف طويل وشاربين سوداوين وتسريحة شعر على طريقة a la Artist، كان محدودب الظهر قليلاً وعيناه تنظران نحو الأسفل بصورة دائمة. كل شيء في هندامه كان يشير إلى أنه فنان سائح. وبالفعل، لقد كان هذا الفنان هو كاتبنا العبقري نيقولاي فاسيلييفيتش غوغَل. أما مرافقه فهو الجنرال كروتوف).
وفي بيروت نزل غوغَل عند رفيق المدرسة القنصل الروسي العام في سوريا قسطنطين بازيلي. ومن هناك انطلق غوغَل والجنرال كروتوف برفقة بازيلي (عبر صيدون (صيدا) وصور القديمة نحو أورشليم).
فيما بعد، في 28 شباط من عام 1850 كتب غوغَل رسالة إلى جوكوفسكي يصف فيها الانطباعات التي تركتها رحلته تلك: (لقد رأيتُ هذه الأرض كما لو في الحلم. نهضنا من نومنا قبل شروق الشمس، ركبنا البغال والأحصنة ومعنا مرافقون راجلون وراكبون على الخيول، وببطء شديد اجتازت القافلة صحراء صغيرة لتسير تارة على الشاطئ وتارة تخوض في مياه البحر، فمن جهة كان البحر يحيط بحوافر الخيل ومن جهة أخرى كانت تمتد كثبان رملية أو صخور بيضاء نادراً ما كانت تنمو عليها أعشاب أرضية ؛ ولنصل عند منتصف النهار إلى بئر هي عبارة عن مكان مرصوف بالحجارة مخصص لتجميع مياه الأمطار محاط باثنتين أو ثلاث من أشجار الزيتون. هنا توقفنا لمدة نصف ساعة ثم انطلقنا في الطريق من جديد إلى أن بانت لنا في الأفق المسائي الذي لم يعد أزرق بل نحاسي اللون بفضل غروب الشمس، خمس – ست أشجار من النخيل ومعها مدينة صغيرة تخترق عتمة مشوبة بألوان قوس قزح، وقد كانت المدينة أشبه باللوحة من بعيد لكنها فقيرة بائسة عن كثب، ربما صيدون أو صور. وهكذا كانت الصورة طوال الطريق حتى أورشليم).
كما كتب عن تلك الرحلة في صحراء سوريا وذلك نقلاً عن بازيلي نفسه بانتيليمون كوليش - أول من كتب سيرة غوغَل: (كان بازيلي الذي يشغل منصباً رفيعاً في سوريا، يملك تأثيراً كبيراً على عقول الناس المحليين. ولكي يحافظ على هذا التأثير كان مضطراً لأن يلعب دور شخصية هامة وصاحب نفوذ فوق العادة لا يقيم أي اعتبار سوى لسلطة(بادِ شاه المعظّم (القيصر)). وكم كانت دهشة الناس المحليين عظيمة عندما رأوه في خضوع تام لمرافقه النحيف وغير الوسيم! كان غوغَل الذي هدّه قيظ الصحراء الرملية قد فَقَدَ صبره بسبب إزعاجات الطريق المختلفة والتي كانت تافهة، من وجهة نظره، ويمكن حلّها ببساطة – مما دفعه أكثر من مرة لأن يخرج عن طوره معبراً عن ذلك بحركات وإشارات كانت تبدو للناس المحليين برهاناً على وضاعة القنصل الرهيب. وقد كان ذلك مدعاة لعدم رضى صديقه، الذي كان يتخوف من انعكاس ذلك على سلامتهما الشخصية وهما يسافران عبر الصحراء.. إذ لم يكن يحرسهما سوى التقدير الرفيع لبازيلي باعتباره صاحب شأن عظيم في الدولة الروسية. لذلك فقد راح القنصل يرجو غوغَل أن يخبره بما يريد على انفراد.. وافق الكاتب على ذلك لكنه عند أول امتعاض نسي الشرط المتفق عليه مع صديقه وتحول إلى ما يشبه الطفل المدلل. فلم يبقَ أمام بازيلي إلا أن يتعامل مع صديقه كما لو مع أقل المرؤوسين شأناً.. فكان له ما أراد: اضطر الكاتب للصمت وتَيقَّن السكان المحليون من أن بازيلي بالفعل ذو شأن وأنه لا سلطة عليه سوى سلطة بادِ شاه المعظّم).
وصل الكاتب ورفيق دربه إلى القدس في منتصف شباط من عام 1848. وقد وردت في دفتر يوميات غوغَل الملاحظة التالية: (نيكولاي غوغَل في المدينة المقدسة). وثم (أقيمت الصلاة في أورشليم بمناسبة وصولنا بخير. يجب أن أعيد تذكّر كل ما أردت أن أستفسر عنه. ويجب شراء صلبان ومسابح صدفية وإيقونات من مختلف الأنواع وأن أطهّرها عند قبر الرب).
مما لا شك فيه أن فترة وجود غوغَل في الأراضي المقدسة وأثرها الروحي عليه لم تنل الدراسة الكافية بعد. لكن النتيجة الحقيقية لزيارته إلى الأرض المقدسة كانت اكتسابه السلام الروحي العميق وامتلائه بمشاعر المحبة تجاه جميع الناس. وهذا ما يجب أن نفهمه من رسالة غوغَل إلى الكاتب الروسي جوكوفسكي في نهاية عام 1850:(لقد قمت برحلتي إلى فلسطين بالضبط لكي أعرف شخصياً ولكي أدرك بنفسي كم كان قلبي ممتلئاً بالقسوة. كم كانت كبيرة تلك القسوة، يا صديقي ! لقد كان لي الشرف بأن أمضيتُ ليلة قرب قبر المخلِّص، كان لي الشرف بأن انضممتُ إلى تلك الأسرار العظيمة المقدسة القائمة فوق ذات الضريح، ورغم ذلك لم أصبح أكثر نقاء، في حين كان من الضروري أن يحترق كل ما هو أرضي عندي فلا يبقى سوى ما هو سماوي).