السبت ٢٠ أيار (مايو) ٢٠٢٣
بقلم عارف محمد نجدت شهيد

واقع الطب النفسي في مجتمعاتنا

إذا أردت النظر إلى القاع الذي يفترشه الطب النفسي في مجتمعاتنا، أدعوك إلى المقارنة بين أي مريض يشكو ألماً في جسده وبين مريض يعاني من العذاب النفسي! فما إن يضع المرء راحة يده على قلبه حتى يفزع أهل بيته فيتصلون بالإسعاف، وتسابق سيارة الإسعاف الزمن لتصل به إلى المشفى وتنقذه من خطر الموت، أما المريض النفسي، فإذا استجتمع قواه ليعبر عن الآلام التي تزلزل روحه سيجد من حوله بين مستهزئ ومستنكر! ويُسمعونه من الكلام ما يكره، ويرمونه بأشنع التهم الباطلة، فهو في نظرهم عاجز، ضعيف، غير مؤمن، وأحمق، وقد بلغت حالة الصحة النفسية في مجتمعاتنا من السوء ما لا يمكن وصفه! فإذا رأى أحدهم في الآخر ما يسوءه أو ينكره يصفه بازدراء بـ "المريض النفسي" وكأنها سُبّة أو عار!

لست متخصصاً في الطب ولا بارعاً في علم النفس، وإنما أكتب انطلاقاً من رحلة طويلة بدأت بالقراءة في محاولات لفهم التجارب القاسية التي لا زال قلبي ينزف منها حتى لحظة كتابة هذه الكلمات، عرفت الكثير عن ذاتي، ومع ذلك، لم أتمكن من الوصول إلى نتائج مرضية، ولكنها هيئتني للبدء في رحلة أخرى، رحلة العلاج! وقبل أن أناقش أزمة التعامل مع المرض النفسي في عيادات الأطباء، سأتطرق إلى هذه الأزمة في مجتمع المريض. فغياب الوعي وتدني الثقافة الطبية، يعزز أزمة المريض، وفي هذا الصدد، أذكر حالة لمريض صرع وهو من عائلة صديق مقرّب لي. التقيت بصديقي منذ ثمانية سنوات ووجدته مهموماً، فسألته عن حاله فأجاب حزيناً: "تلبس جنيّ بابن عمي سعيد!" فقلت له بدهشة: "وكيف ذلك؟". صمت قليلاً ثم قال بصوت خافت: "حين يظهر الجنيّ، يرتجف سعيد، ويسيل الزبد من فمه، ويتحدث بصوت مغاير لصوته الحقيقي".

سألته ولا زلت مندهشاً: "إنه الصرع يا صديقي، هل ذهبتم إلى المشفى؟ أخبرني ماذا فعلتم؟". قال بحدّة: " لا وجود للصرع! لقد تلبسه هذا الجنيّ اللعين، فأحضرنا إلى المنزل شيخاً ليستخرج الجنيّ من جسده، دخل الشيخ إلى غرفة سعيد وطلب منا عدم الدخول إلى الغرفة حتى يفرغ من عمله، انتظرنا في الخارج ثم سمعنا أصوات استغاثة". صمت مجدداً للحظات ثم انفجر ضاحكاً وقال: "لقد ضرب سعيد الشيخ ضرباً مبرحاً، فخرج الشيخ على عجل وصبّ علينا اللعنات ثم غادر المنزل على الفور!". وقد عرفت لاحقاً أن سعيد كان يحب زوجته حباً عظيماً ولكنه طلقها قبل أيام من إصابته بالصرع، وهي الصدمة النفسية التي جعلته ضحية هذا المرض، أما الجنيّ فهو بريء من هذه التهمة، وأرجو أن يسامح الجنيّ صديقي لجهله!

أما مرضى الاكتئاب -مرض العصر- فأقسى ما يجدونه على أنفسهم من أقربائهم وأصدقائهم هو سيل الاتهامات بالابتعاد عن الله والتقصير في العبادة، ويغفل هؤلاء عن حقيقة أن المرض النفسي لا يفرق بين ومؤمن وغير مؤمن، فكلاهما عرضة لهذه الأمراض. وإن استطاع المريض تجاوز تلك العقبات التي يضعها الأقرباء والأصدقاء، والذهاب إلى عيادة الطبيب، سيخوض غالباً تجربة علاجية مخيبة للآمال!

يضع الطبيب المتمرس قائمة بالأمراض النفسية الشائعة في المجتمع استناداً لتكرر الحالات التي يتعامل معها في العيادة، ولمعرفته العميقة بطبيعة أفراد مجتمعه، ويسم مريضه بواحدة منها بعد محادثة قصيرة تتناول طفولة المريض وعلاقته بوالديه وعلاقة الوالدين ببعضهما البعض، ولا يعير الأحداث اللاحقة في حياة المريض أدنى اهتمام، وقد يوجّه المريض لإجراء بعض الفحوصات للتحقق من الأمراض العصبية وهي حالات ناردة نوعاً ما، ومن أبرز عناصر هذه القائمة: الوسواس القهري، والاكتئاب، والقلق، واضطرابات الشخصية بمختلف أنواعها، والفصام، والصرع.

ولا أعني تجاهل دور الوالدين في بناء شخصية الطفل وأثرهما الكبير على صحته النفسية، ولكن، أليس الأجدر بالطبيب أن يخرج من القوقعة الفرويدية، وأن يقيّم حالة مريضه وفقاً لظروفه الاجتماعية والمحيطين به عوضاً عن التفكير المقيد في حالته انطلاقاً من طفولته ومن رغباته الجنسية المكبوتة! لماذا ينظر الطبيب للأحداث اللاحقة كنتيجة لتجارب الطفولة، ولا ينظر لتجارب الطفولة كنتيجة للظروف الاجتماعية! فتجارب الطفولة ليست جذور الأمراض النفسية وإنما جذور هذه الأمراض هي الظروف الاجتماعية التي سمحت لتجارب الطفولة بالظهور في حياة الطفل! ما هو شعور المريض الذي يعيش تحت وطأة الحرب والفقر وقهر المجتمع أعواماً طويلة، وقد مزقته نوائب الدهر وفتكت به، يأتي مثقلاً إلى عيادة الطبيب ليعزو الأخير أسباب اضطراباته النفسية إلى غياب والده المتكرر عنه في فترات الطفولة أو إلى صرامة الأم!

لاحظت من خلال عملي وفي التجارب المهنية للكثيرين ممن أعرفهم أن جميع المهن لها خصوصية مكانية فلا يمكن ممارستها بطريقة موحدة في كل دول العالم ، إذ تحتاج إلى صياغتها بما يتوافق مع طبيعة المجتمع، وقد تحققت من ذلك بعملي مع الشركات المحلية والأجنبية، وهنا بيت القصيد، فلا يكفي أن يدرس الطبيب النفسي هذه النظريات والعلوم ويستخدمها معياراً للتشخيص وكأنها تصلح لكل زمان ومكان! فالمرأة في مجتمعاتنا على سبيل المثال تعاني من الاضطرابات النفسية بفعل الظروف الاجتماعية القاسية فهذه الظروف هي الجذر الأعمق للاضطرابات، على خلاف النساء في الدول الأوروبية اللواتي يعانين من ظروف اجتماعية مختلفة لا نجدها في مجتمعاتنا!

ناهيك عن التفكير في الأمراض النفسية من منظور بيولوجي، فالاكتئاب ينتج عن خلل في النواقل العصبية، فيلجئ الطبيب إلى استخدام العقاقير لتعديل إفرازات الدماغ، ثم يختم تشخصيه بالنصائح الشائعة: أكل الخضروات، تكوين العلاقات الاجتماعية، ممارسة الرياضة، والعبادة. ولنفترض أن العقاقير -وهي تحتاج شهوراً طويلة ليظهر مفعولها- نجحت في تعديل هذه الإفرازات، ستعود الظروف الاجتماعية وتهوي على المريض بضرباتها الموجعة ثم تقذفه في بحر الاكتئاب مجدداً.

أؤكد مجدداً أنني لست بموقع يمنحني الحق في تقييم عمل الأطباء، وما أود إيضاحه أن العلاج النفسي انطلاقاً من تجارب الطفولة والرغبات المكبوتة ومن منظور بيولوجي لا يكفي، بل يجب أن يتضمن العلاج فهماً للظروف الاجتماعية، ولا أطلب من الأطباء وضع الحلول للظروف الاجتماعية، فهي مسؤولية المجتمع ومؤسساته، ولكن، إن استطعنا الوصول إلى هذه المرحلة، يمكن للأطباء العمل مع المؤسسات لمواجهة هذه الظروف الاجتماعية بشكل فعال، فالطب النفسي في مجتمعاتنا لا يزال في مهده، فإذا لم ننتقل من مرحلة الجهود الفردية إلى مرحلة الجهود المجتمعية ستتفاقم أزمة الصحة النفسية في المجتمع وسنصل إلى ما لا يُحمد عقباه!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى