الأربعاء ١٩ شباط (فبراير) ٢٠٢٠
قراءة في المجموعة القصصية
بقلم عبد الرحيم حمدان حمدان

يفقد الرجال أشياءهم وقصص أخرى

يمثل الأديب الدكتور عون أبو صفية بأعماله الأدبية الإبداعية صوتاً مبدعاً من الأصوات التي يزخر بها المشهد الأدبي والثقافي في غزة.

إن أهم ما يتسم به هذا المبدع هو غزارة إنتاجه القصصي وتنوعه، فقد أصدر ما يزيد على عشرين عملاً أدبياً، ما بين رواية، وقصة قصيرة، ونص مسرحي، ويلمس المتلقي في العديد من تلك القصص مقاربة صادقة لمعاناة شعبنا الفلسطيني في ظل الاحتلال الصهيوني.

ومن الروايات التي أبدعها: الشيخ والذئب، الشاهد، التائهة، الأبلة، فجر آت، المتصعلك، المهاجر، نغم وزنزانة، الجنية وأنا، الأصدقاء الثلاثة.

ومن القصص القصيرة: نزف الذاكرة، وآه يا بلد، الرجال يفقدون أشياءهم.

صدَّر المؤلف مجموعته القصصية بإهداء إلى رفاق الطفولة، ومما جاء في إهدائه:"... إلى رفاق تلك الحقبة من العمر الضائع،...إلى الذين لا يزالون في هامش الذاكرة، ولكنهم موجودون في صميم القلب... إلى كل هؤلاء وغيرهم مما تختزنهم الذاكرة أهدي هذا العمل".

يرتبط هذا الإهداء بمحتوى القصص وأفكارها، ويجد القارئ هذه المضامين متشظية في حنايا تلك القصص؛ الأمر الذي ينم على تجربة ذاتية معيشة حية وحيوية.

تلقيتُ نسخة من هذه المجموعة القصصية في أثناء مشاركتي في مؤتمر القصة القصيرة بغزة، وتسنّى لي الحصول على توقيع الكاتب عليها، ولكن للأسف لم أبدأ بقراءتها إلا بالأمس، إذ شغلتني عن قراءتها مشاغل عديدة.

لقد تبين لي أن هذه المجموعة القصصية تعد تجربة إبداعية جيدة، إضافة قصصية متميزة، تفترق عن بعض المجموعات القصصية الأخرى التي قرأتها سابقا، وهي عبارة عن مجموعة قصصية متنوعة الثيمات صادرة عن دار(الكلمة للنشر والتوزيع بغزة)، طبعة أولى سنة ٢٠١٥م.
تقع المجموعة القصصية في(١١٣) صفحة من القطع المتوسط، بين غلافين أنيقين في التصميم والطبعة، وهي علامة مائزة، وسمة سائدة في أغلب أعمال دار (الكلمة)،
والغلاف الأمامي ذو تصميم يميل للخضرة الفاتحة، ويحمل صورة تشكيلية بلون أسود لإنسان يشي بأنه يعاني، وهو غلاف جذاب، ألوانه وصوره موحية بالطابع العام لقصص المجموعة، وقد صمَّم غلافها الفنان التشكيلي: (رفيدة سحويل).

ويحمل الغلاف الخلفي صورةً شخصيةً للكاتب ومعلومات مختصرة عن سيرة حياته، لقد منحني شكل الغلافين انطباعاً عاماً عن هذا العمل القصصي، وهو أنه ذو قالب جاد، وربما كئيب نوعاً ما، وربما احتوت صفحات المجموعة على خطوط كتابةٍ متوسطة نوعاً ما، لكنها مريحة تماماً في القراءة.

تشتمل المجموعة القصصية على (٩) قصص قصيرة تناقش قضايا اجتماعية متنوعة، عناوينها على الترتيب: الرجل الذي فقد صوته، والرجل الذي فقد عينه، والرجل الذي فقد أنفه، والرجل الذي فقد عضوه، والرجل الذي فقد أطفاله، والرجل الذي فقد أطفاله، والرجل الذي فقد حياته، والرجل الذي فقد خوفه، وحمار الحديد، وأبو طنوس والممر الأمن.

وفي السطور التالية أقدم للمتلقي عرضاً مختصراً لإحدى تلك القصص، وهي قصة"طنوس والممر الآمن"، وقد وقع الاختيار عليها؛ لأنها من أكثر القصص تعبيراً عن واقع الإنسان الفلسطيني المعيش في ظل الاحتلال الصهيوني، وبرزت فيها قدرة الكاتب على استخدام آليات الفن القصصي ببراعة وقدرة من خلال المضمون الذي تقاربه؛ لذا تستحق مجموعته القصصية الأخيرة القراءة، وإعادة القراءة مرات ومرات، وتستأهل - أيضا - أن تستكشف كنوزها ومغزاها.

فالقصة تُروي من منظور الكاتب معاناة أسرة فلسطينية من غزة تحاول زيارة الأهل في الضفة الغربية عن طريق الممر الآمن، ولكنها تخفق في ذلك، وتظل عالقة في الممر؛ لأن الزوجة أنجبت طفلاً في أثناء الرحلة.

وتبدو القصة من القراءة الأولى تجربة إنسانية حقيقية معيشة، يتجلى فيها تأثر الكاتب بالواقع في تمكنه من إيصال الصورة العامة للمشهد بشكل جيد، ومن أجمل ما في القصة براعة الكاتب في تصوير الحالات النفسية للشخصيات من التوتر والصراع القائم بين الفلسطيني والصهيوني، ونجاحه في إيصال ثيمة المعاناة الفلسطينية بمهارة واقتدار.

اتكأ الكاتب في هذه القصة على السرد المباشر، متخذاً من السارد بضمير الغائب وسيلة فنية لنقل أفكاره، فهو يمثل واقعية الحدث وصدقه، يقول الكاتب على لسان السارد:"بدأ يتابع نشرة الأخبار في التلفاز، وهو الذي لم يحب في حياته أي نشرة إخبارية" (المجموعة:١٠٧ ).

يصف السارد حالة الزوج الفكرية المتناقضة، هذه الحالة تشي بأن أمراً مهماً دفعه إلى هذا الفعل، وهنا يتجلى عنصر التشويق واللهفة؛ لمعرفة السبب الكامن وراء هذه المتابعة.
يقول السارد عن الزوج بعد ما لاقته الأسرة من معاناة":أسرع في العودة غير عابئ برجاء زوجته، فقد أستمع لكلامها في الذهاب، وها هي النتيجة!!" (ص ١١٣).

صور الكاتب في قصته الصراع المحتدم بين الزوج ورفضه السفر إلى الضفة الغربية، وبين زوجته ورغبتها الجامحة في أن تسافر؛ لتزور أهلها، وتلد عندهم هناك في الضفة الغربية، جسّد ذلك مستثمراً إمكانات السرد والحوار الدرامي:

فقد صور رؤية الزوج وموقفه مستغلا آلية السرد المباشر بضمير الغائب:"حاول مرارا التهرب من عمل البطاقات، متعللا بحمل زوجته التي أصبحت على وشك الولادة"(المجموعة: ص ١٠٧ ).
أما رؤية الزوجة وموقفها، فقد وظف في نقلها أداة الحوار الدرامي الخارجي:"سألدأ عند أهلي، لا تقلق من هذه الناحية، كل الأعذار لن تفيدك"(المجموعة: ص ١.٧)

جاء الحوار السابق موجزاً مكثفاً يحمل طاقات درامية تعكس الصراع الذي يدور بين الزوج والزوجة، بين الرفض والقبول.

وفي موضع آخر استثمر الكاتب تقنية المونولوج الداخلي؛ ليكشف عن المعاناة النفسية للزوجة قرب الميلاد:"تمالكت الزوجة نفسها؛ حتى لا يشعر زوجها بما تعانيه: - المسافة قريبة، وسنصل سريعا، هكذا حدثت نفسها"(المجموعة: ص ١.٧).

أما لغة القصة فهي لغة بسيطة سلسة، متدفقة، لغة واقعية بعيدة عن استعمال اللغة الشعرية ذات المجازات والانزياحات والدلالات الإيحائية؛ لأن الموقف والسياق والقضية التي تعالجها لا يستدعي ذلك، هذه اللغة السهلة الميسرة مكَّنت الكاتب في مواضع كثيرة من توظيفها في زيادة تعمق المعاني وإبراز جمالها.

استعان الكاتب في لغته بالأمثال العربية؛ لما تحمل من دلالات غنية بالمعاني والأحاسيس. يقول السارد:"للضرورة أحكام"(ص ١٠٧(،هذا المثل العربي ورد في عبارة موجزة ومكثفة ومختصرة الدلالة.

وقد تأتي عباراته تحمل دلالات رحبة من المعاني والإيحاءات يقول السارد:"لا شيء يمنعه من الحصول على تلك البطاقة"( ص١٠٧)، يريد الكاتب هنا أن يشير إلى أن الشخص الذي عليه موانع أمنية من جهة العدو لا يمنح البتة أي بطاقة للعبور.

ويلحظ القارئ سلامة لغة المؤلف من الأخطاء اللغويَّة نحوًا وإملاءً في وقتٍ أصبحت هذه الأخطاء قاسمًا مشتركًا يشوِّه كتابات عدد غير قليل من الأدباء.

تصور القصة بدقة متناهية، الحالة النفسية للمرأة الفلسطينية وما يعتريها من القلق والخوف الذي تعانيه حين يجيئها المخاض، وهي على المعابر أو الممر الآمن، بلا عناية طبية ولا رعاية.يقول السارد:

"بدأ الجنين يتحرك، متهيئا للخروج، صدرت عن زوجته آهات مكتومة، بدأ العرق يتصبب منها، لم تعد تحتمل، فأفلتت واحدة أخرى قوية:

 توقف!! إنني ألد!!.... وفجأة سمع صوت بكاء طفل، شعر براحة وسكينة، واتبع تعليماتها لرعاية المولود الجديد"(ص ١١١)

اجتهد الكاتب في استغلال عنصر الزمن مستثمراً في ذلك عنصر الاستباق فالزوج يرفض السفر عن طريق الممر الآمن؛ لأنه يتوقع الأسوأ، يقول السارد واصفا حال الزوج:"في اليوم الموعود أحضر البطاقات، ولم يكن سعيدا بها بالرغم من تظاهره بذلك"(المجموعة:ص ١٠٨)، وعدم السعادة هذه توحى بأن أموراً ستحدث تعكر صفو الرحلة.

استغل الكاتب من أدوات التعبير تقنية الانتظار، وهي لون فني يرسم معاناة الإنسان الفلسطيني على المعابر يقول السارد:"أخذ دوره في الانتظار، وبالرغم من وصوله باكرا، فإن كثيرين كانوا قد سبقوه، لم يتحرك الطابور أمامه لأكثر من ساعتين"( ص: ١٠٩).

جسد الكاتب المعاناة الإنسانية التي تلقاها الزوج من الجنود الذين أخذوا في التفتيش الدقيق دون مراعاة لظروف الأطفال والزوجة الحامل ص١٠٩).

جعل الكاتب للقصة ذروة وصلت فيها الأحداث إلى نهايتها وتطورها وتعقدها. قال الجندي للزوج سائق السيارة:"أمامك ساعة ونصف للوصول إلى الجهة الأخرى، وإذا تأخرت فسوف تبحث عنك الشرطة"( ص ١١٠).

ولدت الزوجة في منتصف الممر الآمن، فلم يلتزم الزوج بالوصول في الوقت المحدد، لا سيما أن عدد المسافرين زاد واحداً، ونقصت بطاقات الدخول بطاقة، فلا يسمح للطفل المولود بالدخول، ولا بالعودة إلى غزة؛ لأنه الزوج دخل بأربعة أفراد والآن معه خمسة.

قال الجندي موجها الحديث للزوج السائق:"أين كنت طول هذه المدة؟؟ لماذا تأخرت؟؟.... أين ذهبت؟؟ أسئلة مثل زخات رصاص بدأت تنهال عليه".

وتابع جندي آخر الاستجواب مستفسراً:"أين بطاقة هذا الطفل؟ ابتسم أبو طنوس للجندي: لقد ولد في الطريق. رد الجندي: - هذا ليس من شأني... فلا يمكن لكم المرور"(ص ١١٣ )، وفي الوقت نفسه لم يسمح للزوج بالعودة إلى منزله في غزة.

تلخص القصة مأساة الإنسان الفلسطيني، يقول السارد"..وإلى الآن ما زال أبو طنوس يقطع الممر جيئة وذهابا انتظارا لصدور قرار دولي لحل مشكلته غير الأمنية"( ص113 ).

في الحل النهائي الفني للقصة اعتمد الكاتب على أسلوب الكوميديا السوداء، وهو لذلك يسخر من كل الحلول التي طرحت لحل الصراع الفلسطيني الصهيوني، والتي منها حل الممر الآمن الذي يصل غزة بالضفة بحجة التواصل الإنساني؛ فما زالت القضية الفلسطينية بلا حل.

جاءت نهاية قصته من النوع المفتوح؛ ليجعل القارئ يشارك في تأويل ما سيجري لتلك الأسرة الفلسطينية من حلول. وبذلك يمنح قصته تأويلات منفتحة على دلالات عدة تعمق من مغزاها الكامن، والذي يرمي الكاتب إلى إيصاله للمتلقين؛ بقصد تحقيق المشاركة الوجدانية والفكرية معهم.

توسل الكاتب التفاصيل الدقيقة في وصف الأحداث متأثراً في ذلك بالنزعة الواقعية التي تميل عادة إلى ذكر الجزئيات والتفاصيل في حين أن القصة القصيرة يستدعي بناؤها الفني التكثيف والإيجاز، ومن أمثلة ذكر الجزئيات قول السارد واصفاً:

"ركبت زوجته إلى جواره، وأجلس طفليه في الموقع الخلفي، بينما امتلأت حقيبة السيارة بما حشر بداخلها من هدايا وخلافه"(ص: ١٠٨ ).

لم تسلم القصة القصيرة هذه من الوقوع في بعض الهنات الفنية البنائية مثل اعتمادها الكبير على السرد التقليدي، وعدم إعطائها الحوار بنوعيه دوراً أكبر، ويمكن تعليل ذلك بأن القصة؛ لكونها مركزة مكثفة، ولكونها تعالج مضموناً وطنياً واقعياً تتطلب مثل هذا الأسلوب السردي
وخلاصة القول: تعد قصة"طنوس الممر الآمن"بحق متميزة جداً في الكثير من عناصر بنائها: الموضوعية والفنية، وربما كانت من أفضل قصص المجموعة بأسرها.

وتمثل هذه القصة وثيقة تاريخية صادقة ترصد ما مرت به القضية الفلسطينية من تطورات وأحداث وحلول مثل حل:"الممر الآمن"العقيم الذي لا يوفر الآمن إلا للأعداء الصهاينة، ويحرم منه الإنسان الفلسطيني

وتُبرز القصة أن الكاتب مسكون بالهم الوطني الفلسطيني، فهو جزء فاعل من هذا الهم، عايشه وتفاعل معه بكل ذرات حواسه؛ لذا يجد المتلقي تماهياً عنده بين الهم الذاتي والهم العام.

ويبدو أن الدكتور أبو صفية كاتبٌ متمكنٌ تماماً من الكتابة في القوالب الجادة، وربما الكئيبة أحياناً، فهو يمتلك البراعة التي تمكنه من تجسيد الحالات النفسية لشخصيات قصصه وأفكارها، وهو يتجه نحو النزعة الواقعية في التعبير، ويبرز اهتمامه جلياً بقضايا بلده ووطنه، إنه يمتاح قضاياه من الواقع الفلسطيني المعيش؛ لكونه أرضا خصبة للكتابة والإبداع، وهذه نقطة مهمة جداً تتسم بها أعماله بأسرها.

لقد وفق الكاتب كذلك في استغلال أسلوب السرد، والحوار بنوعيه، والوصف القصصي؛ الأمر الذي جعل المتلقي يذهب إلى أن الكاتب في هذه القصة القصيرة يحاول تقديم أساليب متنوعة ومختلفة من أساليب الكتابة وطرقها وموضوعات القصة القصيرة وأشكالها، وهذه ميزة جيدة، لكن المتلقي يدرك أن الكاتب بارع في القصص المركزة القصيرة جداً، بيد أن براعته هذه تقل في القصص الأكثر طولاً.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى