الخميس ٥ آذار (مارس) ٢٠٢٠
بقلم رندة زريق صباغ

29 شباط فرصة للوقوف مع الذات

ها هو التاسع والعشرون من شباط يغادرنا على أمل الزيارة مجدداً بعد سنوات أربع تتمنى أن تكون خلالها بخير وسلامة لتستقبله باسماً سعيداً كونك حظيت بيوم إضافي في الحياة إنما هو بمثابة هدية ثمينة تقدمها لك الحياة والزمن الذي يهرب مسرعاً من أيّام البشريّة.

عقود مضت لم أُعِر بها هذا اليوم انتباهاً لكن لطالما فكرت بمواليد هذا التاريخ وكيف سيحتفلون بميلادهم؟ ولطالما استذكرت زميلي وابن صفي وقريتي عيلبون (المرحوم مدحت حنا سرور) من مواليد هذا التاريخ الذي كان يمطرنا بالنكات والأحاديث اللطيفة بخفة دمه المعهودة، ليزيد كمية النكات كل سنة اّواخر شباط ويطالبنا بالبحث عن يومه المفقود فنضحك معاً دون أن نعي أنّه كان يبحث عن عمره الذي فقده باكراً. ألف رحمة ونور لروحك زميلنا الغالي.

فكرة السنة الكبيسة واليوم "الزائد" بدأت منذ نشأة فكرة التقويم التي وضعها يوليوس قيصر للمرة الأولى عام 45 قبل الميلاد، بهدف إنهاء فوضى التقاويم التي يغيّرها ويتلاعب بها الزعماء والقياصرة والأباطرة.

وهنا أستذكر والدي أستاذ التاريخ والجغرافيا فضل زريق وطريقة شرحه المذهلة وكمية الطاقة التي بذلها على أمل أن نستوعب نحن تلاميذ الصف الثامن هذه الفكرة، وقد نجح بأسلوبه الذكي السلس أن يمرّر لنا فكرة ما كنّا لنفطن بها.

وجد أنّ دوران الأرض حول الشمس تستغرق 365 يوما و6 ساعات وبضع دقائق، لذا قرر القيصر يوليوس أن يصبح عدد أيام السنة 365 يوما فقط، ويتم إدراك الفارق كل أربع سنوات بزيادة يوم واحد لتصبح السنة الرابعة 366 يوما. وأذكر تماماً كيف جسّد لنا الفكرة كمسرحيّة كان بعض التلاميذ أبطالها وهو المخرج والمرشد.

حسب التقويم اليولياني (يوليوس قيصر) كانت السنة مكونة من 12 شهرا،

جعل الشهور الفردية 31 يوما، والشهور الزوجية 30 يوما، كما حمّل شهر شباط مسئولية اليوم الزائد ليصبح 29 يوما في السنوات العادية و30 يوما في السنة الكبيسة، وقد تمّ اختيار هذا الشهر تحديداً لكونه أقل الشهور أهمية كونه لا يحوي مناسبة دينية خاصة، ولا يرتبط بمواعيد المحاصيل الزراعية.

ظلّ شهر شباط على هذا الحال حتى العام 33 قبل الميلاد، حين قرّر الملك أوكتافيوس تغيير اسم الشهر الثامن ليحمل اسمه، وحينها غيّر ترتيب يوليوس قيصر ليصبح شهر أغسطس/آب 31 يوما آخذا يوما من شهر شباط، وأعقبه بتغيير في ترتيب الأشهر التي تليه.

في الواقع لم نفهم جميعنا حينها كل هذه اللخبطة ولم نعي أن الملوك والقياصرة يسيطرون حتى على الأشهر والأيام، لكن حفظ معظمنا المادة ونجحنا بالامتحانات مع الأستاذ فضل، وها أنا الاّن أعود بالذاكرة العظيمة إلى هناك.

رغم حيلة يوليوس قيصر باختراع السنة الكبيسة لإصلاح الخطأ الحسابي، ظلت هناك 11 دقيقة زائدة، وبتراكمها عبر السنين سببت مشاكل للكنيسة الكاثوليكية التي وجدت أن يوم الفصح تغيّر موعده على مر السنين بسبب هذه الدقائق القليلة.

وهذا ما دفع الأب غريغوري الثالث عشر في القرن 16 لإنشاء قانون جديد حافظ على السنوات الكبيسة كما هي، ولكن حين يكون رقم السنة مئويا لا يقبل القسمة على 400 تصبح السنة تقليدية لا كبيسة، وهو ما حدث للسنوات 1700 و1800 و1900، بينما كانت سنة 2000 على سبيل المثال كبيسة.

كانت اهتمامات التلاميذ المراهقين حينها (1982) لا تتوقف عند التاريخ والجغرافيا ولا عند قواعد اللغة وغيرها من المواضيع الدراسية وأحيانا استهزأ بعضهم حتى بقوانين الفيزياء والرياضيات وطبعا كره بعضهم المدرسة والدراسة بكل ما فيها غير مدركين أن العمر سيمضي سريعاً فنتمنى جميعاً يوماً واحداً على مقاعد المدرسة، أما أنا شبيهة أبي فقد كنت مولعة بالدراسة والمطالعة والثقافة منذ نعومة أظفاري ليستمر معي هذا الولع طيلة عقود عمري.
ها هو التاسع والعشرون من شباط يعود ويغادر دون أن يتذكر معظمنا بأية حلّة زارنا بالمرات السابقة ولا بأي شكل استقبلناه وحتى دون أن يلفت نظرنا مروره السريع مختزلا سنوات أربع من العمر.

اليوم وبعد كثير من السنين والتجارب، كثير من النجاحات والإحباطات، كثير من المحبة والخوف، من الفرح والغضب، تدرك أهمية يومٍ تهديك إياه الحياة بقصد أو بغير قصد، تدرك أنّ 24 ساعة إضافية عليك أن تعيشها بفرح وسعادة محاولاً الاستمتاع بالطبيعة، بلقاء الأصدقاء، التطوّع، تحضير وجبة لذيذة، الحوارات العائلية ، ممارسة الرياضة، القراءة، الرسم، الكتابة أو أية فعالية تسعدك، أو استثمار هذه الساعات بنشاط جديد تقوم به لأول مرة فيستمر معك للمستقبل بكل فرح...والأهم أن نستثمر وقوف الزمن أو الأرض هذا في محاولة لإصلاح ما دمّره هذا الشهر بقلوبنا كما بالطبيعة، شباط اللي ما في ع كلامه رباط، يوم حر ويوم برد، يوم شمس ويوم مطر، تكثر فيه النزلات البردية والأمراض وإن ننسى لا ننسى أن شباط أكثر الشهور حصداً للأرواح والنفوس خاصة من المسنين والعجزة الذين يحزننا غيابهم محمّلين بذاكرة تاريخية فرديّة وجمعيّة.

29 شباط يمنحنا فرصة لوداع البرد، الشتاء والكأبة لاستقبال الربيع، الدفء والبهجة، فإن اّذار قادم بفستانه المزركش وألوانه المذهلة كما أننا على مشارف اّذار المرأة والأم والأرض.
في مثل هذا اليوم عام 1288 تم سن قانون طريف في اسكتلندا يقضي بتغريم الرجل الأعزب إذا ما طلبت يده امرأة ورفض طلبها، وذلك اعتماداً على أنّ 29 شباط هو اليوم والتاريخ الوحيد الذي يمنح الفتاة امكانية التّقدّم لطلب يد من تحب، وهي فرصة لن تتكرّر إلا بعد أربع سنوات للجنسين، فإن رفض الشاب الطلب عليه أن يقدّم للفتاة الهدايا ومن ضمنها القفازات حتى تغطّي أصابعها غير المزيّنة بخاتم الخطوبة.

وضمن إطار مختلف بعيد عن الرومانسيّة - وكي لا ننسى قضيتنا حتى وإن رغبنا بذلك - ففي مثل هذا اليوم عام 1948 قامت عصابات صهيونية بقصف قطار مصري في طريقة من القاهرة إلى حيفا، ممّا ادى إلى وفاة أكثر من 35 جندياً بريطانياً.
وعلى سبيل المثال لا الحصر توفي في مثل هذا اليوم من العام 1996 الكاتب والمفكر المصري خالد محمد خالد.

نظرا لأنه يوم واحد يأتي كل أربع سنوات، فإن المولودين في هذا اليوم ليسوا كثيرين. وبحسب الإحصاءات، فإنه بين كل 1461 شخصا يولد واحد فقط في هذا اليوم، أي ما يساوي نحو 5 ملايين شخص فقط من أصل مليارات سكان العالم. يتم تسجيل المولود بهذا اليوم في الشهادات الرسمية حسب عادات وقوانين الدولة التي يسكنها، حتى إن الأمر يختلف من ولاية إلى أخرى في الولايات المتحدة، فأغلب الدول والحكومات تسجله من مواليد 1 آذار، بينما بعض الدول مثل نيوزيلندا تسجله من مواليد 28 شباط.

رغم ندرة مواليد هذا اليوم، فإن بعض العائلات تمكنت من إنجاب أكثر من طفل في هذا التاريخ، مثل عائلة هينركسن في النرويج التي وُثقت في موسوعة غينيس للأرقام القياسية، إذ أنجبت أبناءها الثلاثة في 29 شباط على التوالي في أعوام 1960 و1964 و1968.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى