الصــــــــــــندل
الشاحنات متراصة خلف بعضها، السائقون بانتظار أدوار سياراتهم، خبراء مكتب الحبوب يتنقلون برشاقة بين السيارة والأخرى، أقلام التجريم في أيديهم تثقب الأكياس، يتسرب القمح عبر القلم، يحمل احدهم كيسا فارغاً ليملئ ما تسرب من القلم، العتالة في ضجيج، أشعة الشمس تلهب الوجوه، العرق متصبب من الجسد، الشمس حرنت في قبتها تحدياً لسرعة الإنسان، ارتفع صوت محمود:
– يا الله يا شباب أسرعوا لتفريغ الشاحنة، أمامنا ثلاثون شاحنة أخرى،
رد ابن عطية هذا العتال القوي:
– إن شاء الله ألف شاحنة، لسنا على الكهرباء أو على النار.
– صحيح ولكن غداً العيد وعلينا الإسراع لشراء حاجات البيت أما العتال علي مسح جبينه، تذكر ابنته وهي تطالبه بشراء صندل لها، ثلاثة أيام وهو ينتظر ليعمل مع ورشة، العتالة بازدحام حتى إنهم جاؤوا من بلاد بعيدة بعض الشيء صعد الحمالون ظهر الشاحنة الطويلة (اسكانيا)، وراح كل يحملوا على ظهره كيسا ويسرع به فرحا سعيداً، العمل لا يزيد عن ثلاث ساعات وتنتهي الأمور وتقف عجلة العمل ويذهب كل واحد لداره، لتناول الطعام والقيلولة، وعند العصر سيستمح الحمالة ثم يذهب برفقة عائلته إلى السوق التي ازدحمت في مثل هذه الأيام، أيام العيد، انزل الكيس عن ظهره، عاد لكيس الثاني، العتالة كالنمل على المصعد الخشبي، كل يحمل ويفرغ في موقع أخر على الأرض، حمل عليّ الكيس، عدا به، وارتفع غناء عتال عجوز لكنه يراوغ الحياة على لقمة عيشه، لم يستسلم للشيخوخة، روحه تقاوم التخاذل والكسل، حبات من القمح تتناثر من ثقب كيس. يصرخ أمر العتالة:
– انتبه الكيس مثقوب.
عليّ لا يلتفت إليه، انه يفكر في الخلاص وصندل ابنته الأحمر الذي يشتريه اليوم، العرق يزداد أكثر، يسري من رقبة العتالة حتى مؤخرتهم، ترى هل يعرق الحمار تحت حمل ثقيل..؟! لا ندري، لا يهم غدا العيد وسيتناول كل عتال أكثر من الأيام السابقة أجرته، عب علي كأسا من الماء البارد، صعد السلم لينحني ظهره باستقبال الكيس، حمله بهدوء مشى به سريعا، السلم الخشبي تحت رجليه يهتز، أحس بصداع يلف رأسه لا يهم، سيسقط الكيس بكل سهولة، الطبيب قال له:
– إن صداعك يا علي (شقيقة) حاول الاتزان أكثر فوق السلم، انه شمشون الجبار يحمل أكياس من الملح فوق ظهره، كل ما يسعى إليه الوصول إلى ارض السلم ليسقط الكيس، بيدا المسافة كانت بعيدة، غابت الرؤية أمام ناظريه، ترنح، اهتز مال عن طريق السلم الخشبي، سقط... و.. و سقط الكيس فوقه، اسكت آخر نفس لعلي، قال احد لرفاقه:
– انه لا يتناول أي وجبة، لقد اغميه عليه من الجوع.
رد أخر
– الطمع ضر وما نفع..
جاء مسؤول العتالة وبسخرية رفع رأس علي عن الأرض وقال:
– عيب يا رجل كل يوم لك فلم جديد، وأسلوب جديد.. قم.. قم.
علي لم يجب، وكانت عيناه جاحظتان تلعن الدنيا التي تحول الإنسان إلى حمار ولا يستطيع حتى الاعتراض على فحيح الجوع، حمل العتالة رفيقهم علي جثة حامدة وبدل أن يسيروا به إلى الطبيب ساروا به إلى البيت لأنه فارق الدنيا ومن عليها، والقي على وجهه غطاء ابيض، لكن ابنته حين اخبرها بعودة والدها، أسرعت بعمرها الوردي عشر سنوات وهي تكشف الغطاء عن وجه أبيها ناهرة باكية ساخرة آمرة:
– قم لا تدعي النوم غدا العيد واشتري لي الصندل.