الخميس ٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم شريف حتاتة

أدراج الحياة المنسية

خلال السنوات الثلاث الماضية كتبت ثلاث روايات نُشرت واحدة منها في يوليو سنة 2006 بعنوان "عطر البرتقال الأخضر". لكن مازالت الروايتان الباقيتان تعانيان من عمليات الجذب والطرد السائدة في مجال النشر، والتي يُواجهها أغلب الكتاب، ماعدا تلك القلة التي رسخت أقدامها في أرض العلاقات الاجتماعية، أو المؤسسية العليا القادرة على فتح أبواب النشر، وفي كثير من الأحيان على "تصوير الفسيخ على أنه شربات لذيذ الطعم".

المهم أنني كنت سعيداً مستمتعاً بالجهد الذي أبذله. كنت أقضي الساعات الطويلة في التفكير، والتخيل، وسطر الكلمات أو تمزيق ما كتبته. فأنا ممن يكتبون ببطء زاد منه إصابتي بحالة يطلق عليها أطباء النفس " إعتقال الكاتب". وهذا منذ ان كنت طالباً في السنة النهائية لكلية الطب وإندمجت في حركة الطلبة والعمال فخشيت من السقوط في إمتحان التخرج بعد أن تعودت أن أقرأ اسمي على رأس قائمة النجاح المعلقة على لوحة في الحوش.

مع هذا أنجزت هذه الروايات الثلاث في مدة تعتبر قياسية بالنسبة إليّ فتساءلت : ترى لماذا هذه الطفرة المفاجئة التي حملتني فوق أمواجها ؟ هل هى إنتفاضة عند الجزء الأخير من العمر ؟ أم أنني أخيراً وصلت إلى قدر من النضوج بعد أربعة وثمانين سنة من الحياة في مصر تفعل في الإنسان الكثير مما يُؤجل هذا النضج؟

بعد أن انتهيت من هذا الجهد وجدت نفسي مواجهاً بسؤال : ما الذي يمكن أن أفعله الآن؟ فمع مرور الزمن قلت المؤلفات التي أستمتع بقراءتها. ربما العيب في، أو في الأوضاع الثقافية التي نعيشها، أو في الأثنين معاً. ليست لي شلة أستطيع أن أتسامر معها أو حتى صديق بعد أن رحل الذين كنت أحب الجلوس إليهم، ولا أشارك في جلسات المقاهي، أو كافتيريات النجوم الخمس. لا أحضر الندوات التي يتكرر إنعقادها أو المؤتمرات أو الإجتماعات السياسية أصبحت بالنسبة إليّ كالتمثيليات التي يلوكون فيها كلاماً سمعته من قبل, والتي تفرض عليّ شخصيات سئمت من رؤيتها.

إذا حركني شيء أكتب مقالاً غالباً ما ترفض الصحف أن تنشره، فلست قادراً على سطر الكلمات بعقل بارد يجيد الحسابات. أنا رجل رومانسي، "دون كيشوتي " إلى حد ما، وهذا لا يوائم زمن الخصخصة، والسوق الحرة والدولار، والسيوف المرسومة على زجاج السيارات. لم أتطور مع عصر التكنولوجيا، والحداثة، والبورصات. لم أتدرب على الكلمات الخاطفة الذكية، أو مسايرة تيارات الإعلام التي تخفي ما يجب إبرازه من حقائق، وأفكار في طوفان الأصوات الزاعقة.

قلت لنفسي مكانك وسط الغيطان، مع الجلاليب والدواب. ربما تجد ضالتك في المساحات الخضراء. فقدت سيارتي في الصباح الباكر على الطريق الزراعي سائراً نحو الشمال. توقفت في الطريق بعد كوبري "بنها" عند أحد المقاصف. تناولت إفطاراً من الفطير " المشلتت" و"المش" والشاي ضارباً عرض الحائط بنصائح الأطباء. وعند الساعة التاسعة صعدت السلالم إلى باب البيت الذي أقمته منذ عشرين سنة بعد عودتي من "الهند ".

في وقت من الأوقات كنت أواظب على المجيء إلى بلدتي " القضابة "، ففيها كتبت عدداً من الأعمال. لكن في السنين الأخيرة قلت زياراتي إليها. تمر الشهور دون أن أقطع مسافة المائة وثلاثين كيلو متراً التي تفصل بينها وبين العمارة التي أسكنها أمام جزيرة "الوراق ". لم أعد أقضي بعض الأيام في " الدوار " وهو الإسم الذي يطلقه على بيتي حارسها من باب المجاز. لم أعد أطل على الترعة ساعة الغروب، أو على صف الأشجار التي أشرفت على زراعتها عند الشاطيء، علت رؤوسها، وتشابكت أغصانها لتصنع مساحة من "الطراوة" في أشهر القيظ، أو على النيل يتعرج بين حقول الذرة والبرسيم. لم أعد أسير على " مدك" من "المدكات" الترابية إلى جوار مجرى للمياه هاديء، صغير تظلله أشجار الصفصاف فيتغلغل إليّ شعور بالسلام عميق.

ترتب على ذلك أنه في الشهور الأخيرة إنتهز بعض سكان القرية غيابي الطويل فأقاموا عششاً للطيور، وزرائب للدواب، وأدوات لصنع المراكب، ووضعوا أكواماً من ألواح الخشب على شاطيء الترعة الممتد أمام " الدوار". في وقت من الأوقات كان هذا الشاطيء يُستخدم "ملقفاً" للزبالة، فتُلقى عليه كل فضلات القرية وتتراكم عليه تلال من القذورات ترتفع منها الروائح الكريهة، وتطن حولها سحب الذباب السوداء، وتزحف منها جيوش من الصراصير، والخنافس والجرذان.

إزاء هذا قمت أنا بمعاونة شريكتي في الحياة "نوال"، وبمساعدة بعض شباب القرية بتنظيف الشاطيء. بذلنا في هذا جهداً مضنياً، ثم زرعنا الأشجار ليتحول الشارع إلى منتزه, ومكان يغسل فيه النساء الآواني، والملابس، والحصر، وأحياناً خزينهن من القمح.

لما وُجهت بما حدث أخيراً بحثت عن الإجراء الذي يُمكنني إتخاذه، فاتضح لي أنه وفقاً للقوانين والأعراف فإن حق الإنتفاع بشاطيء الترعة هو من نصيب أصحاب البيت المقام أمامها، أي من حقي أنا دون غيري من الناس. وأنه لا يجوز لأحد أن يحل محلي خصوصاً وأنني قمت بتنظيف الشاطيء وزراعة الأشجار عليه منذ عشرين سنة.

بناءً على هذا في الصباح التالي لوصولي توجهت إلى الغرفة التي خصصناها للكتابة، وفتحت أدراج مكتبي بحثاً عن رزمة من الورق الأبيض وضعتها في إحداها، حتى أقوم بكتابة شكوى لأولي الأمر وفقاً لنصائح أهل الخبرة في حل المعضلات التي دأب سكان القرية على إبتداعها كلما تغيبت عنها.

وأنا أبحث في الأدراج وقعت على أشياء لم أكن أدرك أنها موجودة داخلها. أولها رسومات للمنزل سُطرت على مناديل ورقية كبيرة فأعادت إليّ جلسة مع شريكتي "نوال" في مطعم على طريق العودة من زيارة قمنا بها إلى ضريح " التاج محل " يبعد عن " نيودلهي" عاصمة الهند مسافة مائة وثلاثين كيلو متر. فتذكرت أنه في ذلك اليوم من شهر سبتمبر 1974 تناولنا وجبة من العدس الهندي الحريف يسمونه "دال" ومن السبانخ بمكعبات الجبن الأبيض يسمونه "بالاك بانير". أننا تحدثنا عن فكرة بناء منزل في القرية نكتب فيه، ونقضي فيه بعض الأجازات، فأتى إلينا النادل بمناديل من الورق أخذنا نرسم عليها تصميماً للبيت. لكن أثناء النقاش كما يحدث أحياناً إختلفنا ودخلنا في نقاش حاد حول توزيع الغرف وإستخداماتها، وقد غاب عنا أن المسافة التي تفصلنا عن مصر سبعة آلاف كيلو متر، وأن هذا المشروع لن يتحقق إلا بعد سنوات، فأمامنا وقت طويل لإستئناف النقاش الحاد. وفجأة إنفجرنا بالضحك عندما أدركنا أننا كنا كالأطفال إنغمسنا في عالم من صنع الخيال.

في الدرج وجدت أيضاً خطابات مكتوبة على الكومبيتر وجهها ابني "عاطف" إلى محافظ الغربية، ومدير الأمن، ومأمور مركز "بسيون" يخبرهم فيها أنه سيقوم بالتصوير" في قريتي " القضابة" و"صالحجر"، مركز "بسيون" وهذا في إطار إخراج فيلمه "عروسة النيل" الذي حصل فيما بعد على جائزة أحسن فيلم، وأحسن إخراج، وأحسن سيناريو في مهرجان "مونبلييه". كان هذا الفيلم ثاني عمل له في مشواره الشاق عبر عالم السينما انتهى منه عام 1993.

تحت هذه الأوراق وجدت صورة لأمي في سن الشباب. شعرها الغزير الكستنائي اللون يلتف حول رأسها، وفي عينيها تلك النظرة الجادة الجميلة التي عرفتها فيها، وكأنها تسألني : وأنت، ماذا ستفعل بحياتك يا بني ؟

في الدرج الثاني وجدت أوراقا بخط يدي هى أجزاء من الكتب التي قمت بتأليفها، وقراراً صادراً من وزير الصحة سنة 1971 بنقل د/ "نوال السعداوي" من القاهرة إلى "أسوان" فرأيت نفسي خارجاً من مطار "القاهرة " القديم بعد رحلة عمل إلى "آسيا". على الرصيف الخارجي كانت واقفة تنتظرني وعلى وجهها ابتسامة مشرقة. احتضنتني ثم قالت في صوت ينبض بشيء كالتحدي الممتزج بالفرحة : " مش وزير الصحة نقلني "أسوان" !! ". أسقط قلبي ضربتين ثم واصل وقعه المنتظم. قلت " أسوان " ؟! لماذا يا "نوال" ؟ قالت : "عشان كتاب "المرأة والجنس". الأزهر ضغط عليه عشان اللي كتبته عن ختان الإناث وعن حاجات تانية "

جلست أتأمل ما عثرت عليه، ثم قربت مقعدي من المكتب وكتبت
" السيد مدير إدارة الضرائب العقارية بطنطا
مقدمه لسيادتكم الدكتور "شريف يوسف فتح الله محمد حتاتة " وعنوانه شارع الجلاء، قرية القضابة، مركز بسيون، الغربية "... ثم توقفت. بدا لي أن حياتي ليست سوى خيال.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى