رجل مثل شجرة الجميز
فى سيرتى الذاتية يوجد فصل عنوانه "اأشياء فكرت فيها بعد فوات الأوان". كتبت هذا الفصل عن أمى ، وعن كيف عاشت دون أن أعطيها ما كانت تستحقه .
تذكرت هذا وأنا سائر فى شارع "يوسف الجندى" باحثا عن العمارة رقم 5 . ظننت أن هذا الرقم قرب شارع "هدى شعراوى" لكن بعد السؤال اكتشفت أن الأرقام فى هذا الشارع الضيق الطويل تبدأ عند الطرف الآخر ، فسرت على المهل فوق الرصيف النحيل الملىء بالفجوات ، والحواجز التى خشيت أن أقع فوقها .
منذ ما يقرب من ستين سنة انضممت الى تنظيم يسارى . بعد أن مر وقت قليل قيل لى إن هناك تنظيمات أخرى غير التنظيم الذى أصبحت فيه ، وإنها جميعا منحرفة ، انتهازية يجب أن أشك فيها . ولأننى كنت صاحب خبرة قليلة ، ميالا الى الأحكام القاطعة والأفكار الأصولية اعتقدت أن كل من ليس منضما الى التنظيم الذى أنتمى اليه يجب أن أضع بينى وبينه مسافة ، ألا أسعى الى التعرف اليه ، وفهم وجهة نظره فى الأمور .
مرت عشرات السنين وفى يوم من الأيام قام أحد مراكز البحوث العربية بتنظيم سلسلة من الاجتماعات والورش كان هدفها تسجيل آراء عدد من اليساريين واليساريات فى مختلف القضايا المتعلقة بتطور الحركة اليسارية المصرية . فى إحدى هذه الاجتماعات التقيت برجل طويل القامة أشيب الشعر ، يستند الى عكاز أثناء السير . كان فى الأصل من المنضمين الى منظمة تدعى "طليعة العمال" . أما أنا فظللت عضوا فى "الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى" الى أن حلت نفسها سنة 1964 .
اكتشفت أثناء المناقشات التى دارت فى هذا اليوم وبعده أننا أقرب فى نظرتنا الى تاريخ اليسار ، بل وفى أمور تتعلق بالمجتمع ، والحياة من أشخاص آخرين كانوا ينتمون الى التنظيم الذى كنت أنا عضوا فيه .
كان الرجل الذى أتحدث عنه قليل الكلام ، يعبر عن نفسه بهدوء ، وتواضع الواثق من نفسه ، وفى الوقت نفسه بحيوية من لم يفقد إيمانه بالقضايا التى ارتبط بها ، وما زال ، وعلى استعداد لبذل الجهود فى سبيلها .
لم أنس هذا اللقاء . بين الحين والآخر كنت أتذكره ، وأشعر أنه لا بد من أن أسعى للقاء به مرة ثانية . لكن حال الانشغال بأمور كثيرة ، بعضها ربما كان ينبغى ألا أهتم بها ، دون أن أخطو هذه الخطوة . لكن جاء اليوم الذى رفعت فيه سماعة التليفون واتصلت به . جاءنى صوته ذو النبرة المتوترة قليلا ، الحادة قليلا وهو يتفق معى على موعد .
هكذا وجدت نفسى متجها الى العمارة التى يسكن فيها . وجدتها مثله عالية ، متينة البناء ، المساحات فيها واسعة ونظيفة رغم القدم البادى عليها . توحى بالبراح الذى أصبحنا نفتقده ، بأصالة الإنسان الذى استقبلنى وجهه مشرقا رغم المرض والشحوب الظاهر عليه ورغم هزال الجسم الجالس على المقعد .
حدثنى عن أربعة وتسعين سنة من العمر ، عن دراسته القانونية فى فرنسا ، عن لقائه برجل ألمانى هرب من النازية فتتلمذ عليه فى تعلم الماركسية ، عن عودته الى مصر ، وارتباطاته كمحام مع النقابات العمالية ، عن نضاله الطويل فى الحركة اليسارية ، وتعاونه مع الطلائع الوفدية ، عن جيل من أعضاء حزب الوفد آمنوا بالمواطنة ، والديمقراطية ، وحرية العقيدة ، والعدالة الاجتماعية والنضال ضد الاستعمار ، عن "محمد مندور" ، و"عزيز فهمى" ، و"مصطفى مشهور" والكثيرون غيرهم ، عن "احمد رشدى صالح" و"أبو سيف يوسف" ، و"صادق سعد" ودراساتهم للمجتمع المصرى والثقافة المصرية وحدثنى عن القيادات العمالية مثل "المدرك" و"محمود العسكرى" . أفاض فى الكلام عن القرائين اليهود الذين كان منهم قبل أن يسلم . كيف عاشوا فى مصر ، عن أسمائهم العربية ، وصلواتهم التى تشبه صلوات المسلمين ، وركعاتهم ، وطقوسهم فى العبادة ، عن جذوره الضاربة فى أرض مصر بقوة ، عن أحلام له وئدت وأحلام ما زالت كما هى حية . أهدانى بعض كتاباته ، وشرائط للفيديو سجلت فيها أحاديثه التليفزيونية ، وسقانى قهوته المحوجة فأنعشتنى .
وأنا عائد الى بيتنا فى شبرا جاءتنى صورة شجرة الجميز فى عزبة "الكوادى" . كنت أقف فى ظلها ، وآكل من ثمارها وأنا صبى صغير ، تلك الشجرة التى أراها حتى اليوم عندما أعود الى بلدتى ، ما زالت تعلو مكانها ، ويجلس النسوة فى ظلها لتغسلن الأوانى فى المياه التى تجرى تحتها . قلت لنفسى هذا الرجل مثل شجرة الجميز . عاش واقفا وسيموت واقفا .
ومنذ أيام علمت أنه رحل . اسمه "يوسف درويش" وجده "عبد الله" .