ثقافة تحرير أم ثقافة تخدير
(أنطونيو جرانشي) مثقف إيطالي عاش في الفترة ما بين 1891 – 1937. قضى سنين طويلة من عمره القصير في السجن، ومات فيه. أثناء هذه السنين انكب على الكتابة وأَّلَف ما جعل منه أحد المؤلفين المرموقين في العالم، وترك في رأي الكثيرين أثراً في النظرة إلى الثقافة مهماً. كان يرى أن الحكام يفرضون حكمهم عن طريق النظم الإقتصادية والإجتماعية، عن طريق القوانين والمؤسسات السياسية والقهر السلطوي، لكنه في الوقت نفسه أوضح أن الهيمنة الثقافية، أن السيطرة على العقول وما أسماه بالإيدولوجية تقوم بدور أساسي في تثبيت الحكم وفي السيطرة على جماهير الشعب.
منذ ما يقرب من سنة ونصف سادت في العالم أزمة إقتصادية خطيرة نتجت عن السياسات المالية التي اتبعتها الفئات العُليا للرأسمالية. إنها أزمة تُنذر بحدوث صراعات، وإضطرابات إجتماعية أوسع نطاقاً وأكثر عمقاً مما حدث في أية مرحلة سابقة بسبب ما ترتب عليها من بطالة، وجوع، وتدهور في حياة مئات الملايين من البشر. في مصر لسنا بمنآي عن وقوع هذه الإضطرابات، والدوائر المسيطرة على إقتصاد العالم وعلى مساره لا يعنيها أن تُنقذ سكان الجنوب من ويلات الأزمة إلا في حدود ما هو ضروري لحماية النظام الذي تُهيمن عليه. إنها على استعداد للتضحية بهم، لتهميشهم أكثر مما هم مهمشين الآن.
في ظل المخاطر الإجتماعية التي تُواجهها القيادات المسئولة في مختلف المجالات من الطبيعي أن تُفكر في السياسات التي ينبغي اتباعها للحيلولة دون وقوع هذه الإضطرابات، أو على الأقل لحصر نطاقها أو تأجيلها. ربما تسير كثير من الأمور في بلادنا بطريقة عشوائية، لكن في ظل الأزمة الحالية واحتمالاتها لابد أن الجهات التي تملك السلطة والمال والإمكانيات تُفكر في وسائل لحماية الاستقرار الإجتماعي والحفاظ على مصالحها. لكن كما يحدث كثيراً يبدو أن تفكيرها عاجز عن رؤية ما هو مهم، أي ضرورة إرساء قدر أكبر من العدالة الإجتماعية ومراعاة احتياجات المحرومين من أساسيات الحياة.
عندما تتدهور الظروف الإقتصادية والإجتماعية وتُنذر بوقوع هزات خطيرة تزداد أهمية الثقافة والفكر فهما يُؤثران على عقول الناس وتفكيرهم، وبالتالي على ردود أفعالهم والتحركات التي قد يقومون بها. لذلك ليس من باب الصدفة أن نشاهد في هذه الأيام استشراء وتفاقم ظواهر تُساعد على إلهاء الناس عن المسار الذي تتجه إليه الأمور، ومن شأنها صُنع ثقافة طابعها التجهيل بدلاً من التنوير.
الظواهر الدالة على هذا متعددة لكن في نطاق هذا المقال يصعب رصدها وتحليلها، ولابد من الإكتفاء بالتعرض لعدد منها بُغيَّة توضيح الاتجاهات الثقافية التي نشأت مع الإنفتاح والسوق الحرة، وتأكدت على نحو خاص في الفترة الأخيرة. أول هذه المظاهر هو الاهتمام البارز بإقامة قنوات تليفزيونية متطورة تُمولها وتُشرف عليها دوائر عُليا ذات نفوذ لها إمكانيات مالية كبيرة، في السنين القريبة زادت هذه القنوات عدداً وشارك في إنشائها دوائر نفوذ جديدة محلية، وعربية وأجنبية تُذيع باللغة العربية. المسألة بالطبع ليست عدد القنوات حتى وإن كان كبيراً. المهم هو ما تُذيعه. البرامج السياسية كثيرة وهى بالبداهة تُعبر عن مصالح مموليها والقائمين عليها. لكن بعيداً عن هذا المجال يطغى على البرامج الآخرى طابع الترفيه السطحي بل والعبثي، والاهتمام بالجنس المبتذل الفاضح أو المستتر، وطبعاً بالرياضة وأساساً الكرة. الاتجاهات الفكرية السائدة في هذه البرامج تتسم بالقدريَّة، بالمعتقدات الخرافية، بعقلية الحظ والصدف والجوائز. الفلسفة التي تُشاع فيها فردية، وعصاميَّة، مضادة للجهد والعمل الجماعي. القيم يغلب عليها الجنوح نحو الإستهلاك تُشجعها الإعلانات ومناظر الرفاهية الإستفزازية. من كل هذا يبدو أن الهدف هو تسطيح تفكير ملايين الناس ووعيهم عن طريق البث المستمر الذي يصل إليهم في بيوتهم، وإبعادهم عن التفكير في الوسائل التي يُمكن أن تُخرجهم من الظروف السيئة والشقاء، والقحط المادي والمعنوي الذي يُعانون منه.
ما ينطبق على القنوات لتليفزيونية نجده في الزيادة المطردة لعدد الصحف التي تُصدرها دوائر مالية مؤثرة في المجتمع تُروَّج للاتجاهات نفسها التي تروَّج لها القنوات التليفزيونية، مضافاً إليها النميمة، والأخبار المثيرة، والفضائح، والجرائم، ومختلف أنواع الفساد. قد يُقال أن كل هذا مهم لكشف واقع المجتمع وما يحدث فيها، لكن الملاحظ أن جميع هذه الصحف تُشير إلى هذه الأشياء وتكتب عنها كمظواهر منعزلة عن بعضها متفادية تحليل أسبابها أو الإشارة إلى وسائل مقاومتها فيما عدا الكلام المكرر عن صناديق الإقتراع، أو الإنتخابات، أو تداول السلطة بين المجموعات المتناحرة والتي ثبت فشلها في حل أي مشكلة من المشاكل حتى الآن.
قد يُقال أيضاً أن المشاريع الإعلامية سواء المتعلقة بالتليفزيون أو بالصحف هى مشاريع استثمارية، لكن لماذا تُوظف فيها هذه المبالغ الضخمة من المال بينما أصحابها يحجمون عن استثمار أموالهم في نشاطات أكثر فائدة للإقتصاد ولحياة الناس؟ هل لأن مكاسبها أكبر، ربما، لكن يبدو أن الغرض منها ليس مالياً فحسب. الغرض منها تشكيل الرأي العام والثقافة بما يتفق مع مصالح الفئات الإجتماعية القائمة عليها، والهيمنة على عقول الناس تزداد أهميتها في مرحلة تفاقمت فيها الأزمة التي يُعانون منها.
حدث في السنة الأخيرة ما يُمكن وصفه بالإنتفاضة السينمائية. عدد الأفلام السينمائية التي هبطت على السوق فاق كل ما حدث في السنين السابقة هذا فضلاً عن التوسع في الإعلان عنها والترويج لها عن طريق مقالات الصحفيين والنقاد. إنها أفلام تطلبت في كثير من الأحوال ميزانيات ضخمة لإنتاجها تكفل بها عدد من الممولين ظهروا في السوق في فترة قريبة نسبياً، والأرجح أن لهم نشاط في مجالات آخرى. كرسوا هذه الأموال الضخمة في فترة الأزمة رغم أن هناك مئات المؤسسات والمنشآت المالية والإنتاجية التي اضطرت إلى إغلاق أبوابها. إن إنتاج هذه الأفلام فيه مجازفة كان يُمكن أن تُضيف للثقافة والفن دفعة في بلادنا. اقترن عرضها بنشر صفحات المديح تطوع بكتابتها النقاد والصحفيون وجهودهم في إظهار جوانب الفن، والمعنى العميق الذي ميزها. قرأت أغلب ما كُتب عنها فذهبت لمشاهدتها لكني فُوجئت بمدى إنخفاض المستوى الفني والثقافي الذي تميزت به ما عدا فيلم واحد كان أفضل نسبياً. صورت هذه الأفلام ما اعتبرته ظاهرة في مجتمعنا تستحق الاهتمام، ظاهرة سكان المناطق العشوائية التي أصبحت موضة في الأفلام المصرية. مع ذلك بدا لي عندما شاهداتها أن صانعيها لم يروا في المناطق العشوائية وسكانها سوى ما كانوا يُريدون أن يروه، وليس ما هو موجود بالفعل، هذا بالطبع رغم كل الشرور التي ربما تتسم بها المناطق العشوائية. إن مدى القبح والإنحطاط الذي انعكس في هذه الأفلام لم يُخفف منه بعض الأحداث الرومانسية، أو الإنسانية المفتعلة، والميلودرامية التي أُقحمت في القصة، ولا الوعظ الديني الذي تخللها أو جاء في آخرها. إن الوعظ الديني كانت نتيجته الوحيدة الإيحاء بقبول ما كُتب علينا، والاستسلام له ليصب في دعاوي التيارات الدينية التي شاعت في مجتمعنا. ويبدو أن الجمهور بدأ يتنبه وينصرف تدريجياً عن الأفلام العشوائية التي تكرر عرضها عليه.
شهدت الفترة الأخيرة أيضاً زيادة كبيرة في عدد المؤلفات الروائية والقصص التي يتم نشرها من كتاب وكاتبات ينتمي أغلبهم إلى أجيال الشباب. شهدت في الوقت نفسه زيادة موازية في عدد دور النشر التي تنشط في إصدار هذه الكتب وغيرها صاحبها إفتتاح مكتبات جديدة تقوم بتوزيعها مع كتب آخرى. يُوحي هذا التطور بحدوث صحوة إبداعية في هذا المجال، ربما نتيجة للظروف الصعبة التي يمر بها المجتمع، والتي أدت إلى تقلص إمكانيات الإبداع في الإقتصاد، والسياسة، في العلم، والإنتاج، وفي العمل بمختلف أنواعه ومهنه. فإزاء الإنكماش الذي حدث في مختلف مجالات النشاط ربما جنح جزء من الشباب إلى تحويل طاقاته لمجال لا يحتاج فيه إلى أكثر من ورقة وقلم، وإلى شحذ خياله وذاكرته وقدراته على الإبداع. مع الإعتراف بأن هذا الإزدهار مبشر إلى حد ما، وبأن هناك جديد في بعض هذه الكتابات فإن الملاحظ هو الميل الذي يُوجد فيها نحو الاهتمام بتفاصيل الواقع والحياة والإنصراف عن تناول القضايا العامة المتعلقة بالمجتمع والناس، عن المخاطر والكوارث الجماعية التي من المتوقع أن تسوء في مستقبل ليس بالبعيد، ومع الإعتراف أن الكاتب هو الذي يختار موضوعه وأن الجزء أو التفصيل أحياناً يستطيع أن يجسد ما يفلت من بين أيدي العام، فإن هذا الإنصراف عن تناول القضايا العامة في وقت تفاقمت فيه الأزمة واتسع نطاقها يصب في صالح من يُريحهم هذا الاستسلام، وينزع عن الإبداع دوراً كان يلعبه في إلهام الناس وشحذ وجدانهم وإصرارهم على نيل الحريّة والعدالة والكرامة في الحياة، فالأدب هو صانع من صُناع الوجدان.
في الوقت نفسه جنح بعض الكتاب المنتمين إلى أجيال سابقة نحو مسايرة هذا الإتجاه، كما جنح البعض الآخر إلى كتابة روايات وقصص تتعلق بالتاريخ. التاريخ لا شك غني ومُوحي للمبدع، لكن في أوقات الشدة التي نعيشها قد يكون الرجوع للتاريخ يُوحي بميل للهروب من الكتابة عما نعيشه الآن، عن تناول التغيير الثقافي والفكري والقيمي الحادث في المجتمع.
إذا أُضيف إلى هذه الظاوهر في الكتابة الإبداعية التكاثر السرطاني لعدد الجوائز التي تُمنح للكتاب في الأدب والعلم والفكر، وفي فروع آخرى من المعرفة، قد يعني تطوير أشكال عصرية من الإستقطاب للمفكرين والمثقفين من الكتاب الغرض منه كسبهم إلى صفوف الواقع القائم، أو تحيدهم، أو إسكاتهم، وهذا ركن من أركان تعزيز الهيمنة الأيدولوجية للنظام الذي أشار إليها "جرانتشي"، ذلك النظام العالمي والمحلي الذي توالدت فيه كل الأدران والكوارث التي تُهدد ما تبقى للانسان في بلادنا من إمكانيات الوجود الآدمي.
قد تبدو هذه المظاهر مجرد صدف عشوائية لا رابط بينها لكن قد يتضح إذا تعمقنا فيها وتأملناها أنها جزء من صيرورة ثقافية عامة تُؤدي إلى تشكيل عقول الشعب بما يُحافظ على النظام ويدفع المثقفين في اتجاه الإستسلام للأزمة، وأثارها التي يُعاني منها ملايين الناس في بلادنا.
ربما سيقول البعض ها هى نظرية المؤامرة تُطل برأسها من جديد، لكن المجتمع كائن مليء بالخفايا والأسرار التي تُفصح عن نفسها أحياناً بطريقة تلقائية، او التي نكتشفها أحياناً بالجهد والتفكير. الحياة هكذا تتفاعل فيها عوامل مختلفة متغيرة باستمرار لتُنتج ظواهر تُلبي في أغلب الأحيان احتياجات من يسيطرون على شئون المجتمع ويسعون إلى استمرار تحكمهم فيه.