الفصل الثامن عشر
خرج من باب مكتبه منتصب القامة. على رأسه ارتدى قبعة الضباط وعلى كتفيه لمعت القطع النحاسية. السترة الطويلة تهبط على جسمه كالقفاز. انتقلت عيناه بحركة بطيئة على الملامح الجامدة للجند. حمل الريح نداء البروجى يتردد فى الصحراء فارتفعت الأيدى فى حركة تحية عسكرية سريعة، ودكت الأحذية الميرى الثقيلة سطح الرمال بصوت مكتوم.
عند الإستراحة هبط من السيارة”اللاندروفر”واختفى فى الداخل فزحفت ببطء مثل الحشرة الدكناء ثم انطلقت كأنها تستعجل الإبتعاد، وبدت على ملامح السائق علامات الإرتياح.
الشتاء السادس منذ أن نقلوه قومنداناً”لمعهد التهذيب والإصلاح". أصبح الزمن كالبحر الممتد بلا أمواج. حتى ساعات المتعة المجنونة التى يترك لها العنان فى الليالى الدامسة الظلام، حتى أحلام المخدر تزحف عليه بالصور الغريبة، والألوان، حتى العينين الزرقاوتين، والأرداف المرتعشة تحت اللحاف، حتى علوم المخابرات يستمدها من الكتب المرصوصة فوق الرفوف ترتفع عالية قرب الجدران، حتى صوت الكمان يناجيه فى بعض الأوقات، حتى كل هذا أصبح كالرمال بلا رائحة، بلاطعم، بلاقوام. أصبح زحفا بطيئا متكررا للأيام.
هناك فى القاهرة توجد الأنوار، توجد الحياة، توجد متعة المطاردة والإصطياد، وحملات الليل لا يعرف ما الذى قد تصطاده فى الشباك. هناك نشوة الانتصار، والشهرة، والصور فى الجرائد، وأحاديث التليفزيون، والمال يصب فى الحسابات. هناك الأوامر، والسلطة، والبنادق يحركها بإشارة، والخوف يطل من العيون، والرؤوس التى تنحنى أمامه، والصرخات ترتقع من أقفاص الإستجواب.
لكن هنا كل شئ هادئ. هنا الرتابة المميتة. ربما من حسن حظه أنه أبعد فى هذه الفترة بالذات فالبلد على كف عفريت. سيحتاجون إليه عندما تقع الفأس فى الرأس فيستطيع أن يملى شروطه. ما عليه إلا الانتظار. لكن لماذا يساوره القلق؟ الولد”حمدان"؟ أبيات من الشعر؟ كأنه كشف جهنمه الخاص. كأنه تقمص شخصية”مصطفى الحناوى”وعاش ظلماتها المختبئة فى الأعماق كالخفاش يرى بالأشعات تحت الحمراء.
صعد السلالم الى غرفة النوم. ترى من أين جاء هذا الرخام الأسبانى البديع؟ قيل أن الاستراحة أقيمت سكنا لمدير الشركة الفرنسية التى جاءت لحفر الآبار. خلع القبعة والسترة واتجه إلى الحمام. تطلع إلى ملامحه فى المرآة بارتياح. رغم كل ما جرى لم يصبها تغير ما عدا تلك الخطوط السوداء أسفل العينين، وبعض التجاعيد. إنه جبل. لوكان شخصاً غيره لانهد من حياة الليل التى عاشها. أحيانا تضطرب ضربات قلبه لمدة لحظات. عندما يهبط إلى الوادى فى المرة القادمة سيذهب لاستشارة طبيبه الخاص.
عبر الصالة وخرج من النافذة إلى الشرفة. المائدة معدة للإفطار والزهور تطل برؤوسها أعلى الآنية الكريستال. استنشق الهواء بأنفاس عميقة ومال فوق الحاجز ليفحص الحديقة. لولا”كريمة”لكانت الحياة هنا جحيم. تترك لمساتها الأنثوية على كل الأشياء. ترى لماذا تأخرت اليوم؟ عندما يعود يجدها تنتظره جالسة على الأريكة تقرأ فى كتاب أو تقلب فى كراسات الموسيقى. ربما جاءتها الدورة الشهرية. فى مثل هذه الأوقات تتلكأ فى السرير. ترى ماذا تفعل فى حياتها الجنسية؟ إنها تعيش مثل الراهبة فى الدير. ما زال قوامها رفيع لكن.... أخذ يستعيد صورتها أمام عينيه. هناك تغيير، كأن جسمها نضج. نعم كأنه نضج. فقد زواياه الحادة واستدارت خطوطه. أصبح يتحرك بحرية فيها انطلاق. والموسيقى التى يسمعها أحيانا فى الليل. راحت أنغام الشوق القديمة. أذناه المدربتان تلتقطان ألحانا جديدة توحى بالارتواء وتعبر عن صخب الحياة. غريبة. قطب جبينه. أحيانا عندما ينظر فى عينيها يلمح شيئا كاللهب الكسول. ابنته لم تعد فتاة غضة. أصبحت امرأة. فى أعماقه تتحرك إرهاصة شبق عندما يدخل إلى غرفتها صدفة فيلمح قميصا للنوم، أو سروالا ملقى على السرير. تذكره بأمها. كانت علاقتهما غريبة فيها خليط من النفور والانجذاب.
جلس على مقعد من الخيزران ينتظر. تأخرت كثيرا. الساعة التاسعة والنصف ولم تحضر بعد. قام واتجه إلى حجرتها. نقر على الباب فلم يسمع شيئا. فتحه وأطل برأسه. دارت عيناه حول الحجرة. السرير منكوش والأغطية تتدلى أطرافها حتى السجاد كأنها كانت على عجلة من أمرها. على الأريكة حقيبة يد ومجلات. أما هى فلا أثر لها. أغلق الباب ثم جاءه خاطر فعاد. دار بعينيه مرة أخرى. نظراته تفحص كل الأركان. فتح الدولاب الصغير تضع فيه الكمان عندما تأوى إلى الفراش كأنها لا تطمئن إلا إذا ظل إلى جوارها عندما تنام. لم يجد الكمان فى مكانه.
أغلق الباب وهبط إلى الصالة. ضغط على جرس الخدم. بعد لحظة طويلة سمع صوت خف يتحرك فوق البلاط. توقفت الشغالة فى فتحة الباب. المنديل المزخرف يحيط برأسها مطلقا خصلة من الشعر تتدلى على ناحية. استقرت عيناه لحظة على صدرها الناهد ثم سألها.
"أين ستك”كريمة”؟”
أطلت عيناها إليه فى وجل.
“لا أعرف يابك. لم أرها اليوم."
"أين كنت؟ ألم تعدى مائدة الإفطار؟"
"نعم أعددتها. ظننت أن الست”كريمة”فى حجرتها، ولا تريد أن يزعجها أحد"
"أين العسكر الذين ينظفون الأستراحة؟”
"لم يحضروا بعد".
"وحرسها الخاص؟"
"لا أعرف يابك".
نفخ فى ضيق. لوح لها بيد آمرة فاختفت. اتجه الى جهاز اللالسلكى. جاءته خروشة ثم صوت يتردد فى الجهاز بنبرة عالية فيها يقظة مفتعلة.
"تحت أمرك يا فندم.”
عرف الصوت لكنه تجاهل.
"من أنت”؟
"العريف”على عبد الموجود”يافندم”
"يا"على”أين حراس الآنسة”كريمة”؟"
ساد صمت طويل ثم جاء الرد.
"كنت أظن أنهم فى الاستراحة يا فندم".
"لا.. لايوجد أحد منهم هنا. إبحث الموضوع حالا ورد على”
حمل معه الجهاز وصعد إلى غرفة النوم. إحساس ما يمنعه من خلع ملابسه أو حتى الحذاء ليريح قدميه. أشعل سيجارة ونفث خيطا من الدخان. نظر إلى ساعته. قاربت على الحادية عشر. سمع صوت خروشة فى الجهاز.
"أنا”على عبد الموجود”يا فندم، بحثت الأمر مع رئيس الحرس فوجدت أن الحراس لم يذهبوا إلى الإستراحة منذ الأمس".
"ولماذا؟”
"قالوا أن الآنسة”كريمة”أبلغتهم أنها لن تغادر الإستراحة وأنه لا داعى لحضورهم فى الصباح".
"هكذا تنفذ الأوامر التى أصدرتها؟! أطلب من رئيس الإتحاد أن ينتظرنى فى مكتبى فى الساعة الرابعة بعد الظهر واطلب من السائق أن يحضر بسيارتى فوراً. ونبه على كل أفراد القوة أن يكونوا فى وضع الإستعداد".
كان النزلاء موزعين فى مختلف أجزاء المعهد عندما سمعوا البروجى يتردد متوتراً ملحاً مثل نداء للقتال. بالتدريج تجمعوا ونظراتهم متجهة إلى البوابة. خرج رئيس الإتحاد من خيمته وشعر رأسه منكوش، ويداه تتعثران وهو يحكم أزرار البنطلون، ومن خلفه هرول المشرف العام، ونائباه أحدهما يرتدى روباً أحمر اللون، والآخر بنطالاً أخضر للتدريب كأنه كان يمارس تمريناته الرياضية. جاءهم صوت الميكروفون.
"كل واحد يلزم خيمته حالاً. لا نريد أحدا فى الصوان أو فى الحوش".
تردد البروجى من جديد بنبرات نحاسية سريعة كأنه يعلن عن هجوم وشيك. انتشر جنزير من حرس الحدود على بعد قليل من السور، وعلى أرض الحوش توقف العسكر فى ثلاث صفوف. توجه إليهم القومندان قائلاً
"كل اتنين خيمة".
تفرق الجنود بخطوة سريعة. أحذيتهم تثير غباراً من الرمل مثل قطيع من الدواب. فى داخل الخيم صارت حركة محمومة أوراق، وكتب، وأجهزة راديو، وصور، ونقود تختفى فى حفر مبطنة بسرعة البرق. وفى المكتب جلس”مصطفى الحناوى”يدخن فى هدوء.
دخل الجنود فى الخيم وأخذوا يعدون مرة واثنتين، وثلاثة خوفاً من الخطأ. أخيراً إنتهى التعداد ودخل المشرف العام وعلى وجهه علامات الإنتصار. أدى التحية وقال:
"تمام يا فندم. العدد ألفان وخمسمائة وستة وثلاثون.”
حملق القومندان فيه طويلاً. ثم قال
"أعد التعداد من جديد".
"أعدناه مرتين يافندم".
"أعده مرة ثالثة".
تردد المشرف العام لحظة. نقاط العرق تلمع على جبينه. كم يبغض هذا الرجل. لا يلين أياً كانت الظروف. ما الذى يجعله مصراً على إثارة زوبعة فى فنجان؟ أبعدوه إلى هذا المنفى السحيق لكنه ظل كما هو.
"ولكن"... ماتت الجملة على شفتيه. عينان كالخرز الأسود لا تتحركان إنغرستا فى وجهه. أحس برعدة عميقة تخترقه. قال :
"حاضر يافندم".
بدل القومندان مكان قدميه تحت المكتب. أمسك بسجل أرقام التليفونات وفتحه. توقف عند إحدى الصفحات. أخرج نوتة صغيرة من درج المكتب وكتب رقماً فيها ثم أغلق السجل. فتح مجلة البوليس واستغرق فى القراءة. سمع صوت حذاء يحتك بالأرض الخشبية. رفع رأسه. تأمل وجه المشرف العام أصبح شاحباً. خرج صوته مبحوحاً.
"التمام ناقص واحد يافندم. خيمة 19 سرير رقم 3”
نظر إليه ملياً ثم سأل:
"اسمه"؟
"مازلنا نبحث فى الكشوف".
"ما زلت تبحث فى الكشوف والهارب ربما يضع بينك وبينه نصف كيلو متراً فى كل دقيقة".
"لن يصل بعيداً يافندم. أين سيذهب فى الصحراء؟ حتى إن كان قد هرب من أول النهار لن يكون بعيداً. ست أو سبع ساعات على قدميه أو حتى على جمل”....
نظر القومندان إليه كأنه يتفقد حشرة. قال
“فعلاً.. ست أو سبع ساعات على قدميه أو حتى على جمل بسيطة ولا داعى للإنزعاج. لكن هناك زاوية ربما لم تفكر فيها. هذا إن كان فى رأسك شئ قادر على التفكير. فما العمل مثلاً إن كان قد هرب منذ الأمس؟"
"منذ.... الأمس؟"
"نعم. بالتحديد منذ ساعة غروب الشمس. فلو كنت مكانه لاخترت هذا الموعد لأستفيد من ظلام الليل. لا يوجد قمر هذه الأيام فنحن إن كنت لا تعرف فى نهاية الشهر العربى".
"فعلاً... فعلاً ياسعادة البيك نحن فى نهاية الشهر العربى".
نظر إليه القومندان فى ضيق.
"ثم الهرب على قدميه أو بالجمل غير مطروح بالمرة. الهارب يعرف أننا فى زمن الطيارة، والهليكوبتر، والإتصالات الألكترونية".
"أتقصد يا فندم أنه استأجر طائرة أو هيليكوبتر”؟
نظر إليه وقال:
"ما أصعب أن يحيا الإنسان بين الحمير".
ثم أضاف:
"أطلب لى هذا الرقم فى”نجع حمادى”حالاً. وقبل أن أنسى... فى الخزينة يوجد مظروف مكتوب عليه”سرى للغاية". خذ هذا المفتاح لتفتحها. أخرجه واقرأ التعليمات الموجودة فيه ونفذها بحذافيرها. فاهم”؟