لقاء فى أثينا
كانت أضواء الفجر الأولى تتحسس طريقها فى ظلمة الليل عندما صعدت الطائرة فى السماء متخلصة من جاذبية الأرض . اخترق صوت المذيعة أذنى وهى تقول "الرحلة الى مطار "أثينا" ستستغرق ساعة وأربعين دقيقة . استمتعوا برحلتكم".
وأنا أسترخى فى مقعدى تذكرت آخر رحلة الى "اليونان" . كان هذا فى سنة 1988 أى منذ ثمانية عشر عاما . فى سفارة "اليونان" بالقاهرة كانت توجد ملحقة ثقافية تدعى "إكاتارينا يناكاكيس" . امرأة طويلة نحيلة فى عينيها العسليتين يتوارى حزن عميق . كانت تعشق الفن ، قارئة للروايات ، والقصص والشعر . زارت "نوال السعداوى" فى البيت وبعدها رتبت لنا رحلة الى اليونان . ففى ذلك الوقت كانت وزيرة الثقافة الفنانة "ميلينا ميركورى" المعروفة بأدوارها فى السينما والمسرح ، وبنضالها ضد الدكتاتورية العسكرية فى بلادها .
بينى وبين اليونان علاقة قديمة . ففى بلدتى "القضابة" جاء تاجر قطن يدعى "سكالاريديس" أقام أربعة محالج ، وابتاع قطعة أرض أمام ترعة "الباجورية" ثم بنى لنفسه فوقها بيت ليقيم فيه عندما يأتى لمباشرة أعماله . مرت الأيام وقرر الاستغناء عما يملكه فى قريتنا فباع الأرض والبيت لجدى "محمد" ، ومع تعاقب الأجيال أصبحت أنا مالك الأرض ، ولأنقاض البيت التى تناثرت عليها .
لكن اليونان هى أشياء أخرى أقرب الىّ . هى روايات مثل "زوربا" و"المسيح يصلب من جديد" . هى أشعار "كفافيس" ولد ومات فى الإسكندرية و"المدينة التائهة" التى كتبها "ريتوس" بوحى منها . هى موسيقى "ثيودوراكيس" تنتفض فى عروقى أو تسرى فيها هادئة . هى آلة "البوزوكى" تثير فىّ رغبة للرقص على وقع أوتارها .
"اليونان" هى الجبن الرومى و"الليمونادة الاسباتس" والبيرة "الاستلا" أشربها فى الصيف على شاطئ البحر الأزرق . هى قبلة العشق الأولى فى حياتى ، وأفكار اشتراكية جاءتنى عبر البحر مع بحارة تمردوا ضد حكامهم أثناء الحرب العالمية الثانية . هى كل هذا وأشياء أخرى يصعب تعدادها .
لكن "اليونان" فى هذه الرحلة اكتسبت معنى جديدا ترتبط بالمعركة التى تخوضها الشعوب ضد عولمة رأسمالية تصنع الحرب ، والبطالة ، والفقر . تعنى علاقة جديدة حميمة مع ناسها رغم اختلاف الأرض واللغة والوطن ، ورغم اختلاف الديانة التى ورثتها . تعنى أن مفهوم الهوية عندى تطور ، وتعمق . إنه لم يعد أساسا البلد الذى نشأت فيه ، والجنسية التى أحملها ، والديانة المكتوبة فى بطاقتى ، أو اللغة التى أكتب بها .
كل هذه الأشياء دخلت فى تكوينى ، فى هويتى ، فى الثقافة التى أنتمى اليها . مع ذلك أصبح أساس الهوية هى مواقف وقيم ، هى دفاعى عن الحرية ، والعدالة ، والمساواة . فإن فعلت أشعر أن لى هوية ، أن لى شخصية لها قوام وقاعدة ثابتة تقف عليها . وإن تخاذلت أشعر بأن هويتى ، بأن شخصيتى أصابها وهن .
فى أيامنا هذه أصبح الاهتمام بالهوية ، وإبرازها مسألة ملفتة للنظر . إنها رد فعل للعولمة الرأسمالية ومقاومة لها لأنها تريد أن تخضع السوق ، والعقول والبشر للمقاييس التى تخدم مصلحتها . لكن فى الوقت نفسه كثيرا ما تقود الرغبة فى تأكيدها الى التفرقة بين الناس على أساس القومية ، أو الوطن ، أو العرق ، أو الديانة ، أو الجنس رجل أو امرأة وهذه التفرقة كثيرا ما تمارس باسم هويتنا باسم الثقافة ، والخصوصية ، والأشياء التى تميزنا عن غيرنا حتى وإن كانت أشياء ضد التقدم ، وضد القيم الإنسانية التى يجب أن ندافع عنها . إنها فى كثير من الأحيان تؤدى الى التطاحن والانقسام بين الشعوب والجماعات والناس مما يخدم مصالح العولمة الرأسمالية وحكامها فهم يستفيدون من تقسيم صفوفنا . إنها تحول دون تضامن الشعوب عالميا ومحليا لمواجهة القوى المسيطرة .
فأنا لا أشعر مثلا أن الهوية التى تجمعنى مع حكامنا ، أو مع قيادة الإخوان المسلمين واحدة رغم أننا مصريون ، أن جنسيتنا مصرية ، وأننا نتحدث بلغة واحدة هى اللغة العربية . فهم فى رأيى لا يراعون سوى مصالحهم . هذا بينما يوجد أمريكيون ، أو إنجليز ، أو أتراك ، أو يونانيون ، أو إيطاليون ، أو عرب أقرب إلىّ لأنهم يدافعون عن الأهداف والقيم التى أومن بها ، وأحاول أن أعمل من أجلها .
شمال البحر الأبيض وجنوبه
لذلك أصبحت مشاركا فى نشاط "المنتدى الاجتماعى للبحر الأبيض المتوسط" . فهذا المنتدى يسعى الى تدعيم التضامن بين الحركات الاجتماعية المناهضة للعولمة الرأسمالية، بين شعوب شمال وجنوب البحر الأبيض المتوسط . أى المناهضة لسياسات الرأس مالية النيوليبرالية وشركاتها ، والمناهضة للحكومات الأوروبية التى تتحدث باسمها ، المناهضة لسياسات السوق الحرة ، والشراكة التى تم توقيع الاتفاقيات الخاصة بها سنة 1999 فى "بارشلونة" لتكرس الشكل الجديد للنهب الاستعمارى الذى تفرضه بقيادة الولايات المتحدة على البلاد العربية كلها .
لكن مهمة هذا المنتدى ليست سهلة فهو يسعى الى خلق تضامن بين شعوب البلاد التى كانت تستعمر بلادنا مثل فرنسا ، وإيطاليا ، وأسبانيا ، وبين شعوب المنطقة العربية التى كانت والتى ظلت مستعمرة حتى يومنا وهذا يتطلب التغلب على العديد من الرواسب ، والتحيزات ، والتناقضات القائمة بين شعوب البحر الأبيض المتوسط خصوصا بين شماله وجنوبه، يتطلب التغلب على العلاقات غير المتكافئة القائمة . إنها عملية تحتاج الى بعد نظر ، وصبر ، ومرونة، الى البحث عن القضايا التى تمثل وصلة مشتركة لكنها فى الوقت نفسه مثيرة لروح التحدى والإبداع ، للرغبة فى التطور العقلى والنفسى . إنها تبعث على تعميق قيم التضامن الإنسانى ، التى بدونها لا يمكن إحراز تقدم فى المعركة ضد الحرب وضد الظلم ، وضد الاستعمار الجديد ومؤامراته.
عن المدينة والناس
خارج مطار "أثينا" كان يقف الأوتوبيس 95 ليحملنى الى المدينة . صعدت اليه وجلست فى المقعد الأمامى حتى أستطيع الاستمتاع برؤية مناظر المدينة دون حاجز . بعد ما يقرب من 45 دقيقة وصلت الى ميدان "سنتاجما" . كان موعد الاجتماع فى المساء فقررت أن أواصل طريقى سيرا على قدمى فهبطت من الأوتوبيس وسرت فى اتجاه ميدان "فيكتوريا" وأنا أجر حقيبتى ورائى . استغرقت المسافة اليه ساعة وربع . لكن عندما بحثت عن مقر اتحاد نقابات العمال الذى كنت متجها اليه لم أهتد اليه فسألت أحد المارة ، رجلا طويل القامة أشيب الشعر يحمل بين ذراعيه كيسا كبيرا . أرشدنى ثم استأنف سيره لكنه عندما وصل الى ناصية الشارع توقف وانتظر حتى لحقت به ثم قال: "سأرافقك حتى المكان الذى تبحث عنه ." فسرنا جنبا الى جنب ونحن نتحدث . سألنى عن البلد الذى جئت منه وأبدى ترحابه عندما علم أننى من مصر ثم سألنى عن الغرض الذى من أجله حضرت الى "أثينا" . قلت له إنه لحضور اجتماع متعلق بالمنتدى الاجتماعى للبحر الأبيض المتوسط فعلق قائلا : "نحن جميعا ضد العولمة الرأسمالية فلم تترك شعبا إلا وخربت حياته" ، وعندما وصلنا الى مبنى اتحاد نقابات العمال أشار اليه ثم شد على يدى بحرارة قبل أن ينصرف فأحسست بأن ثقل التعب الذى حط علىّ تبخر .
أغلب سكان "أثينا" يتحدثون الإنجليزية لذلك لم أجد صعوبة فى التفاهم معهم . ولما دخلت مبنى الاتحاد الفخم استقبلتنى امرأة كانت تجلس خلف منضدة طويلة وضع عليها محول حديث للتليفونات وكانت تقرا فى مجلة "تايم" الأمريكية .
قادتنى الى حمام يشبه حمامات الفنادق الكبرى لأغتسل ، ولما عدت قدمت لى قدحا من القهوة مع بعض الفطائر أنعشتنى الى أن حضر رجل يدعى "يانيس توليوس" ليحملنى فى سيارته الى الفندق حتى أستريح الى أن يأتى موعد الاجتماع . و"يانيس توليوس" عضو فى التحالف اليسارى المكون من انشقاق فى الحزب الشيوعى وانشقاق آخر فى الحزب الاشتراكى الديمقراطى انفصل عن الحزب الأم لأنه جنح الى اليمين وأصبح يؤيد سياسات الولايات المتحدة . لكن الحزب الشيوعى يعتبر التحالف قوة سياسية مساومة لا يؤمن جانبها ولذلك يرفض أى تعاون معه .
"أثينا" أصبحت مدينة جميلة فى أجزاء كبيرة منها مقارنة بالحال التى كانت عليه سنة 1988 . التلوث الذى كان يميزها لم يعد خانقا . خطوط المترو ، قطاراتها ، وأنفاقها أصبحت كلها حديثة ونظيفة ، والتنقل عليها سريع وسهل . جميع الذين تحدثت اليهم عرضا كانوا فى منتهى الظرف . الطعام حتى فى الأماكن الشعبية معتنى به ، مقبول الطعم لكن الأسعار أصبحت شبيهة بما هو سائد فى دول الاتحاد الأوروبى الأخرى بعد أن أصبح "اليورو" هو العملة التى يتعامل بها الناس . وعلى طول شاطئ البحر توجد حدائق ، وأشجار ، وخط للترام عرباته من أحدث الأنواع ، والركوب فيه "فرجة" ومتعة للعين والروح .
اجتماع تحضيرى لمنتدى سنة 2008
عقد "المنتدى الاجتماعى للبحر الأبيض المتوسط" من 6-9 يونيو 2005 فى مدينة "بارشلونة" . حضره ما يزيد عن 6000 مشارك منهم عشرة من مصر . وقد جرت العادة فى التحضير للمنتدى على عقد عدة اجتماعات تحضيرية يتراوح عدد المشاركين فيها من مختلف بلاد البحر الأبيض مابين المائة والمائتين : أفراد ، وممثلون لهيئات وتنظيمات فى القطاع المدنى .
وفيما يتعلق بالمنتدى القادم المزمع عقده سنة 2008 اتفق على تنظيم أول اجتماعاته التحضيرية فى "أثينا" فى الفترة ما بين 2 و4 مايو 2006 .
عقدت جلسة أولى مساء يوم 2 مايو فى مقر اتحاد النقابات اليونانية . أما الجلسة الثانية والثالثة فقد تم عقدهما فى أحد مبانى المطار القديم فى ضاحية من ضواحى "أثينا" على مقربة من البحر وربما كانت ميزة هذا المكان من وجهة نظرى هو رحلة الترام التى أشرت اليها من قبل .
كان عدد الحاضرين فى هذا الاجتماع التحضيرى ما يقرب من أربعين مشاركا رجالا ونساءً مما يعكس تراجعا ملحوظا فى الزخم الذى اقترن باجتماعات سنة 2005 . وهذا يدل على أن المنتدى يواجه مشاكل ومصاعب أدت الى انصراف الكثيرين عنه . بعض هذه المشاكل مالى لكنى أعتقد أن السبب الرئيسى هو افتقار المشاركين والمشاركات لخبرة العمل العام خصوصا فى نشاط جديد مختلف عما تقوم به الأحزاب والنقابات وسائر تنظيمات القطاع المدنى . هذا من حيث الأهداف وأساليب العمل . فالمنتدى ليس إلا فضاءا يلتقى فيه المناهضون للعولمة بهدف النقاش والتفاعل وبهدف دراسة سبل التحرك الشعبى فى مختلف مجالات المجتمع ضد سياسات وآثار العولمة التى فرضتها الشركات المتعددة الجنسية . والتجربة حتى الآن أثبتت أن الفضاء يتحول فى أغلب الوقت الى "مكلمة" دون أن تتولد عنه تحركات اجتماعية تنفذ بالاتفاق بين الهيئات المشاركة فى المنتدى . كما أن الاعتماد على التوافق الحر واللامركزية المطلقة لا يسمح بتكوين أشكال تنظيمية تنفذ ما يتفق عليه . لذلك يوجد عدد متزايد من النشطاء تشككوا فى جدوى المنتدى ، وصاروا ينصرفون عنه .
فى هذا الاجتماع حدث خلاف بين الذين يؤمنون بضرورة تأكيد الدور الذى يلعبه المشاركون والمشاركات من بلاد جنوب البحر (أى من البلاد العربية) فى المنتدى وفى تحمل مسئولياته ، وبين بعض المشاركات من إيطاليا اللاتى بدا منهن رغبة فى فرض وصايتهن عليهم . فبدلا من تدعيم المنتدى الذى يسعى الى خلق مشاركة متوازنة من الشمال والجنوب باعتبارها قاعدة من قواعد العمل تقدمن باقتراح عقد اجتماع كبير فى إيطاليا لمناقشة قضايا العولمة ، ووسائل تدعيم الحركات المناهضة لها يدعى اليه مشاركون ومشاركات من الجنوب للاستماع الى آرائهم . وبالطبع لا مانع من عقد مثل هذه الاجتماعات لكنها لا يمكن أن تحل محل المنتدى .
فى الجلسة الختامية ألقيت كلمة اقترحت فيها القضايا الأساسية التى ينبغى أن تهتم بها الحركات الاجتماعية فى معركتها ضد العولمة الرأسمالية وآثارها وأن يتركز الاهتمام على المجالات التى تمس شعوب الشمال والجنوب معا حتى ندعم النضال المشترك وعلاقات التضامن بينهم .
فى هذا السياق اقترحت قضية الحرب ، والسلام ، والعسكرة, والقواعد العسكرية ، ومشكلة التسلح النووى ، وزحف حلف الأطلنطى فى اتجاه الجنوب . الهجرة التى تهدد حياة ومصالح الملايين من الناس فى شمال البحر وجنوبه ، والسياسات الكفيلة بمعالجة هذا الموضوع ، وإنقاذ ضحاياه . حقوق المرأة ومشكلة التفرقة الجنسية . خطر الأصولية الدينية والقومية ، والإرهاب ، ودور العولمة الرأسمالية فى تفاقم الاتجاهات الأصولية، والإرهابية وفى تدعيم إرهاب الدولة . الديمقراطية ، وحقوق الإنسان ، وحق التنقل الحر بين بلدان البحر الأبيض المتوسط . السياسات الزراعية التى تضر فلاحى جنوب وشمال البحر الأبيض المتوسط وتخدم مصالح الملاك الكبار وأغنياء المزارعين على حسابهم . السياسات الرأسمالية النيوليبرالية والسوق والتجارة الحرة ، مع التركيز على خصخصة الخدمات ومشكلة البطالة .
فى نهاية هذا الاجتماع التحضيرى اتفق على تدعيم اللجنة التنسيقية الدولية التى لم يحضر منها سوى أربعة أعضاء وذلك بإضافة ستة من المشاركين والمشاركات تم اختيارهم بالإجماع ووافقوا على المشاركة فى أعمالها . كما اتفق على عقد الاجتماع القادم للجنة خلال الأسبوع الأول من يوليو 2006 فى إيطاليا حتى نتمكن فى الوقت نفسه من مناقشة الأصدقاء فى إيطاليا حول سبب التراجع الملحوظ فى مدى مشاركتهم وتأييدهم لنشاط المنتدى .
فى الساعة الواحدة صباح يوم الجمعة 5 مايو صعدت الى طائرة شركة أوليمبيك اليونانية عائدا الى مصر .