ابحث في بطن الإعلام
في عالمنا مابعد الحديث أصبح الإعلام سلاحاً خطيراً في التأثير على الرأي العام. تلعب الإذاعة والتليفزيون، والصحف والمجلات دوراً كبيراً في تشكيل آراء الناس وإتجاهاتهم, وفي تكوين القناعات والقيم التي يسايرون بها حياتهم الخاصة، والعامة.
إنه سلاح يُستخدم في المعارك السياسية التي تخوضها القوى المسيطرة في المجتمع دفاعاً عن مصالحها وفي التمهيد للخطوات التي تُقرر الإقدام عليها حتى تُعد الرأي العام على قبولها.
يظهر هذا بوضوح في المعارك الإنتخابية التي يُحاول فيها الأفراد، والجماعات، والأحزاب نيل أصوات الناخبين بغية الوصول إلى المجالس التشريعية والتنفيذية المهمة في الدولة. ويظهر هذا يومياً في حملات تسويق السلع، وإقناع ملايين الناس بشرائها، في الترويج لقيم ورغبات استهلاكية متزايدة. كما يتضح بقوة عندما تُقرر دولة من الدول العظمى شن الحرب على بلد من البلدان بهدف إخضاعها والإستيلاء على ثرواتها. فقد قامت الولايات المتحدة مثلاً بحملة إعلامية ضخمة تمهيداً للهجوم العدواني العسكري الذي شنته على العراق. تعددت الحجج التي قدمتها لتبرير هذا الهجوم أمام شعوب العالم، وأمام الشعب الأمريكي. كانت الحجة في البداية وجود أسلحة للدمار الشامل في العراق، فلما اتضح كذب هذا الإدعاء تحول الهدف المعلن بالتدريج إلى السعي لإقامة نظام ديموقراطي على أنقاض النظام الديكتاتوري الدموي الذي فرضه "صدام حسين" في البلاد. أما الآن فإن الحجة التي تُقدم هى أن الإنسحاب من العراق سيُؤدي إلى انتشار الفوضى، وإلى إندلاع حرب أهلية مدمرة. هذا بعد أن نجح الإحتلال الأمريكي في إذكاء نيران الفتنة الطائفية، وفي تدعيم القوى الدينية الأصولية، والإرهابية على نحو لم يسبق له مثيل.
المشكلة التي يُواجهها الناس العاديين في مجال الإعلام هو أنهم ضحايا لا يملكون في الأمر شيئاً، مستهلكين سلبيين يتلقون ما يُعرض عليهم. فهم لا يملكون أي وسيلة من وسائل الإعلام. ليس لديهم المال أو الوسائل اللازمة لذلك. ذلك أن إقامة أي مؤسسة من مؤسسات الإعلام الحديثة تحتاج إلى رؤوس أموال كبيرة، وإلى نفقات يومية مستمرة، خصوصاً بعد أن أصبحت تعتمد على وسائل تكنولوجية مكلفة للغاية. لذلك في عصرنا هذا أصبح المحتكرون لوسائل الإعلام رأسماليين كبار، وشركات ضخمة متعددة الجنسيات.
إذا ألقينا نظرة متأنية على أغلب الصحف والمجلات وقنوات التليفزيون التي تعمل في الساحة الإعلامية عندنا، سنجد أن وراءها في أغلب الأحوال إما جهاز الدولة البيروقراطي الخادم للطبقات الرأسمالية العليا، أو أفراد وجماعات من أصحاب الأموال المصريين والعرب غزوا هذا الميدان في العقود الأخيرة. لذلك من الطبيعي أن يكون توجهها بشكل عام خدمة المصالح الممولة لها، والمسيطرة عليها حتى وإن فعلت هذا بقدر من الذكاء يُخفي أهدافها.
قد يقول قائل، لكن في السنين الأخيرة لعبت بعض الصحف والمجلات، والقنوات التليفزيونية التي تأسست في ظل عهد "مبارك" دوراً في كشف فساد النظام، وعجزه وإنحيازه لمصالح المسيطرين فيه على حساب الفقراء. فالقائمون عليها يصفون أنفسهم "بالليبرالية " التي تُعارض سيطرة الدولة وبقايا القطاع العام، وتسعى إلى تحقيق نظام أكثر ديموقراطية يُتيح لمختلف القوى الإجتماعية أن تتحرك بحرية وأن تُعبر عن رأيها دون قيود. وهذا صحيح إلى حد ما. لكن ما يسعون إليه أساساً هو رفع القيود عن تغلغل رأس المال الأجنبي ووكلائه في السوق وسيطرتهم عليها بصرف النظر عن أثر هذا على حياة الملايين من الناس. أما الكلام عن الحرية والديموقراطية فقد يتضح إذا ما تمكنوا من تحقيق أهدافهم أنه كان مجرد "كلام " أي "إعلام " يُخفي ما وراءه، وأن المهم هو خصخصة كل ما يُمكن الإستيلاء عليه لصالح الشركات الدولية ووكلائها المحليين.
صرخة العطش
في الأسابيع الأخيرة قامت حملة ملفتة للنظر في حجمها، وفي صخبها تناولت مشكلة حرمان قطاعات كبيرة من الناس من المياه اللازمة لمواصلة حياتهم اليومية. وهذه بالطبع مشكلة خطيرة يُعاني منها مئات الآلاف بل ربما الملايين من السكان في مصر. لكن السؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن هو لماذا قامت هذه الحملة الصارخة الآن ؟ إن مشكلة نقصان المياه ليست وليدة اليوم. إنها موجودة منذ سنوات طويلة ولم تُثر كل هذه الضوضاء رغم المعاناة المستمرة التي سببتها للمواطنين والمواطنات المحدودي الإمكانيات. لم تُثر كل هذه الصور المؤثرة التي انتشرت في الصحف والمجلات. لم نقرأ كل هذه الأرقام والتحليلات المخيفة التي تنبئنا بكارثة ستقع لامحالة. لم نسمع كل هذه الأصوات الزاعقة تغلغلت حتى في الإعلام الحكومي. لم نطلع على تقارير للخبراء تعرض حقائق علمية وأرقام مفزعة حقاً. فجأة استيقظ مارد الإعلام من سباته، وفي مقدمته عدد من الصحف المعروفة إرتباطاتها بمصالح مالية عليا لتصرخ "العطش" "العطش " في طوفان من العاطفة الإنسانية والدموع انسكبت على الغلابة من الناس.
لا شك أن هناك في الصحافة رجال ونساء تهمهم مصالح الناس لكن هذه الحملة العاتية أثارت عندي، وربما عند غيري تساؤل : تُرى هل هى مرتبطة بقضية خصخصة المياه ؟ هل هذه الحملة المثيرة، والبريئة في مظهرها تمهيد إعلامي لإنقضاض الشركات الأجنبية أو العربية ومعها بعض الشركات المصرية على مصادر المياه بعد أن رُفعت أسعارها في السنوات الماضية ؟
في هذه الفترة أيضاً نشرت بعض الصحف تفاصيل خطيرة عن القروض التي منحتها أهم البنوك المصرية إلى نفر قليل من كبار الرأسماليين. من بين هؤلاء عدد من المضاربين الذين توقفوا عن التسديد يُطلق عليهم "تأدباً" أو "تستراً " لفظ " المتعثرين". يتضح من هذه التفاصيل أنه في البنك الأهلي الذي يُعتبر عمود النظام المصرفي في مصر خُصصت نسبة 5,33% من القروض الممنوحة أي ثلثها لثمانية وعشرين عميلاً، وأنه حدث توسع في القروض التي لا تُوجد لها ضمانات. أنه في بنك القاهرة " المرحوم " حصل تسعة وعشرون عميلاً في القطاع الخاص يُمثلون شركات "متعثرة" على نسبة 8,56% من إجمالي قروض البنك أي على أكثر من نصفها. أما في بنك مصر فإن تسعة وثلاثين في المائة أي خمسي القروض تقريباً استولى عليها عشرون عميلاً.
وصل إجمالي هذه القروض في البنوك الثلاثة إلى ما يقرب من مائة وعشرين ملياراً من الجنيهات، ولا تُوجد ضمانات لإسترداد جزء كبير منها في القريب العاجل، أو حتى في المدى الطويل. هذا فضلاً عن وجود مشاكل آخرى تتعلق بسوء الإدارة، او بالمكافآت الكبيرة الممنوحة لبعض المسئولين، أو بتسديد قروض العملة الأجنبية بالجنيه المصري، أو بالمصروفات الإدارية الكبيرة.
إن المسيطرين على هذه البنوك يتصرفون في أموال المودعين الصغار والمتوسطين من أفراد الشعب على هواهم. يتصرفون في أموالنا نحن المصريين بالأسلوب الفاسد الشائع في بلادنا، وإن كان التقرير الذي نشره جهاز المحاسبات عن الفترة التي كان فيها "عاطف عبيد" رئيساً للوزراء. مع ذلك لم يُحاسب أحد على كل هذا مما يُوحي بأنه مستمر بل وسيستمر في المستقبل دون حساب أو عقاب.
من هنا السؤال الآخر الذي يتبادر إلى الذهن فيما يتعلق بهذه المسألة. لماذا نُشرت هذه المعلومات في الأيام التي تجري فيه معركة حول تخصيص البنوك المصرية المتبقية ؟ هل الهدف هو الإصلاح بعد أن تم تخصيص بنك الأسكندرية ثم بنك القاهرة، أم أنه تمهيد وتبرير لتخصيصات آخرى ستتم فيما بعد ؟
الإعلام الرأسمالي في هذا العصر يتخابث على البسطاء من الناس أمثالنا ليُقنعنا بالسياسات التي لا تخدم إلا أصحابه. لم يعد من السهل أن نكتشف كيف أن الحق في كثير من الأحيان يُراد به باطلُ. لم يعد من السهل أن نصل إلى الحقيقة في عصر الأكاذيب تروجها مصالح إقتصادية ضخمة في سباقها الجشع من أجل المزيد، هذا السباق الذي يفرضه التطور التكنولوجي، والخصخصة، والسوق الحرة التي ليست حرة إلا للذين يسيطرون عليها. هكذا تظل الأهداف الحقيقية التي يسعى إليها الإعلام مدفونة في بطنه مختفية خلف ما يظهر على السطح. وقديماً قال العرب " إبحثوا عن المعنى في بطن الشاعر ".