الثلاثاء ١٤ نيسان (أبريل) ٢٠٢٠
بقلم أحمد بلحاج آية وارهام

ابن خاتمة الأندلسي ومؤلفه في علم الأوبئة

لا تُخامرنا نُقطة شك، أو لحظة ريب، في كون الأوبئة التي مرت على الإنسانية قد كتبت أسفارها في الأجساد والنفوس، وفي الطبيعة والسلوكات، وفي الفكر والإبداع والمًعاملات، وفي طرُق العيش والعمل.وتركتْ أوشامها على حياة الناس، وعلى أفكارهم، ونقشتْ حروفها على إِهَابِ الزمان والمكان، بل وحتى على مؤلفات العلماء والأدباء والشعراء والمفكرين والفقهاء والمحدثين والأطباء، و على منتجي الخيرات المعنوية. ومما يُقضَى منه العجَبُ أن فئة من الكتاب الذين تحدثوا في كتبهم عن الأوبئة، وبَصَّروا الناس بأخطارها،ووسائل الوقاية منها قد امتدت إليهم يد الوباء، وجرَّتهم إلى تربة الدياجي التي لن يستطيعوا العودة منها لتَذَوُّق طعم الحياة من جديد، وكأن هذه اليد تنتقم منهم بسبب ما كتبوه.

* مُبدعون في مختلف المجالات اختطفهم الوباء

وتكفي نظرة عميقة إلى مدونات التراجم العامة والخاصة، وإلى فهارس المؤلفات في الميادين العلمية والأدبية والدينية والفكرية، للدلالة على الشروخ الفظيعة التي سببتها الأوبئة لجسد الإنسانية على مدى التاريخ، إذ لا تخلو صفحات كتب أولئك من ذكرِ ما خلفتْه هذه الظواهر السوداء من دمار في البشر، وفي أموالهم وحيواتهم، وأخذتْه من أهليهم ومعارفهم وخلانهم، وكأنها منجلُ شؤمٍ في كَفِّ أعمى، يحصد زهرة الحياة الدنيا المتمثِّلة في المبدعين على اختلاف مشاربهم ومعارفهم، وحقولِ انشغالاتهم واهتماماتهم الفكرية والأدبية والفنية والعلمية والفقهية، التي تُساهم في توسيع حياة الناس بالسعادة والطمأنينة والجمال. وإن مما لا يُقضى منه العجب أن يكون هؤلاء الكتاب المبدعون؛ الذين أشاروا بإصبع الوعي والتشريح إلى الأوبئة التي عاصروها أو عايشوها؛ طعاما لتلك الأوبئة،و لا تعوزنا الأمثلة عنهم، فهم كُثرٌ،ولذا سنقتصر على الأمثلة التالية:

1 ـ الشاعر أبوذؤيب الهذلي الذي اختطف الطاعون في سنة واحدة خمسة من أنجاله

2 ـ عالم العربية،ومؤثل قواعدها أبو الأسود الدؤلي الذي أسقطه طاعون كاسح سنة 69ه في هوة الموت.

3 ـ المؤرخ ابن الوردي زين الدين عمر بن مظفر(ت:749ه) الذي ألف كتابا عن الوباء،سماه:(النبأ عن الوباء).

4 ـ المؤرخ الأديب الموسوعي صلاح الدين الصفدي(696ه ـ 764ه) الذي جمع ما قيل من أشعار قاسية في الطاعون بعد أن افترس صِحابه عام 749ه،فما كان من ذاك الوباء إلا أن جازاه على صنيعه ذاك بالفتك به،ودفعِه إلى قعر المَنية.

5 ـ العالم المحدث المشهور ابن حجر العسقلاني(773 ـ 852ه) الذي ألَّف كتاب:(بذل الماعون في فضل الطاعون)،بعد أن فجعه في بناته الثلاث وباء الطاعون.

6 ـ تاج الدين عبد الوهاب السبكي (ت:771ه) صاحب كتاب (جزء في الطاعون).

7 ـ ابن أبي حجلة التلمساني (776ه) واضع كتاب (الطب المسنون في دفع الطاعون.

8 ـ الشاعر الشاب إبراهيم بن محمد المعروف بابن الدكدكجي التركماني الدمشقي.(1104ه ـ 1132ه).

9 ـ العالم اللغوي الأديب محمد مُرتَضَى الزَّبِيدي (1145ه ـ 1205ه) واضع المعجم العربي العظيم المسَمَّى (تاج العروس من جواهر القاموس)،فقد مات في وباء الطاعون بمجرد ما أُصِيب به.

*أول من ألف في الطواعين والأوبئة

لقد أشعلتْ ظاهرة الطواعين والأوبئة العقول المفكِّرة،فانطلقت لتناولِها،وبحثِ أسبابها، وعواملِ انتشارها،وسُبلِ مقاومتها، فقد أدَّى هولها،وسرعةُ انتقالها، إلى إنتاج مؤلفات عديدة، تُبين خطورتها،وتدعو إلى الوقاية منها،وتصفُ التدابير الاحترازية للنجاة من كمَّاشتها الجائعة، والحيلولةِ دون الوقوع بين مخالبها، وذلك بالامتناعِ عن الدخول إلى المكان الذي شَملتْه،وباجتنابِ الخرُوج منه.

وأول كتاب تعرَّض إلى هذه الظاهرة السوداء المفترِسة بأيسرِ لفظٍ،وقلَّةِ تمحيصٍ عِلميٍّ مُؤلَّفُ الحافظ ابن أبي الدنيا(ت:281ه)الموسومُ ب (كتاب الطواعين)، ثم تتالت بعده كتب أخري، تناولت الأوبئة من مختلف الزوايا، وقاربتْها مقاربةً عِلمية وسوسيولوجية، وحتى دينية واقتصادية وجغرافية. ولعل أهم هذه الكتب وأشهرَها وأسيَرَها في التراث العربي الأندلسي كتاب(تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد) لابن خاتمة الأندلسي(توفي بعد770ه)، مُعاصرِ لسان الدين ابن الخطيب،وصديقِه المقرَّب،صنَّفه عام(749ه\1348م) بعد أن عَلم بوباء الطاعون الذي اجتاح بلاد الصين، وأغلبَ بلدان آسيا، وامتدَّ كالبرْق إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط،ثم إلى الأندلس، فوضعها داخلَ جُبَّته، حيث تغلغل في مدنها وقُراها،وبعد أن شهد الفظائع والآلام الناتجة عنه. وبما أنه طبيب،فقد جَمَع بين تدوين ما رأى،وبين النزول إلى ساحةِ محاربة العدو الطارئ، وذلك بإسعافِ المرْضَى المصابين بالوباء،ومحاولةِ علاجهم، وبمراقبةِ الكيفية التي يتفشَّى بها المرض بين الأفراد في بلده،وتسجيلِ ملاحظاته عن ذلك،وعن الأسباب المؤدية إلى سرعة انتشاره كالصوت أو كالضوء.فمن جميع ما رأى ومارَسَ تَمَكَّن من استخلاص نظريته عن الوباء، وتضمينِها كتابَه المشار إليه. والذي يُعتبَر من أهمِّ ما كُتِبَ عن الوباء عِلْميا، فقد عرَّفَ فيه الوباء،وشرَّحه، وبيَّن أعراضه،وذكر أسبابه، وطرُقَ الاحتراز منه. فعن تعريفه قال: (إنه حُمَّى خبيثة،مُعدية،تنتج عن تَغَيُّر الهواء المحيط بالإنسان والذي فيه تنفُّسُه،حيث يخرج عن حالته الطبيعية إلى الحرارة والرطوبة. فهي حُمَّى مُهلِكةٌ في الغالب، يَتبَعها كَرْبٌ وعرَقٌ، وقد يُوجَدُ لها فتورٌ في اليوم الموالي للإصابة، واضطرابٌ شديد، وبرْدٌ في الأطراف،وعَطَشٌ وثِقلٌ في الصدر، وضيقٌ في التنفس،وسعال قوي، واختناق مُمِيتٌ.) وقال إن أقوى سبَبٍ لانتقاله هو الملامسة والاحتكاك بمن مرض به، فمن لمَس مصابا بهذا الداء الوبيل، ينتقل إليه دون شك، وتظهر عليه الأعراض التي كانت في الشخص الملموس، ومن احتكَّ بالثاني حصل له نفس الأمر، وهكذا دواليك، فكلما كثر الاحتكاك بمصابٍ كثرَ عدد المصابين،وكلما ابتعد الناس عن بعضهم قلَّتِ الإصابة به وانعدمت.

ونظرا لما لهذا الكتاب من أهمية كُبرى في علم الأوبئة نوَّه به معاصرو ابن خاتمة و مُجَايِلُوه من الأدباء والمؤرخين والكُتاب،من أمثال لسان الدين ابن الخطيب في (الإحاطة في أخبار غرناطة)، وفي (الكتيبة الكامنة)، والتنبكتي في (نيل الابتهاج )، وابن الأحمر في (أعلام المغرب والأندلس في القرن الثامن)، وغيرهم من الذين كتبوا عن الطب والأطباء في الأندلس، وعن حضارة الغرب الإسلام وشموليتها. ويَظهرُ من مضامين الكتاب، ومن التعريف الذي أعطاه مؤلفه للوباء القادم على وطنه من الصين أنَّ حاضرنا الآن مع وباء كورونا أشبه بماضيهم مع وباء الطاعون، وأنَّ انطلاقةَ الوباء في أيامنا هاته كانت من الصين كما كانت في أيام الكاتب من الصين كذلك.فهل الأحداث والوقائع تتشابه تشابهَ قطرات الماء؟أم أنَّ لكل حدثٍ خلفياته وخصوصياته الخَفية التي لا تَطُولُها المدارك والعقول؟

و إذن؛لا ضير علينا ـ ونحن تحت أحذية كرونا المقيتة والمتنقلة في الجهات ـ إن استمدَدْنا الضوءَ من تراثنا الطبي خاصة، واستعنَّا ببعض توجيهاته النيرة في مقاومة هذا الطارئ المتوحش المسمى (كورونا)، كرديفٍ لمنجزات الطب المعاصر، ومن تراثنا الفكري والأدبي والثقافي عامة. فليس كل ما أنتجه الماضي سيئا، و لا كل ما أنتجه الحاضر حسنا، فالمشي على جسر الزمن يكون دائما بخطوات نِسْبية.


مشاركة منتدى

  • أهلاً بالأستاذ الناقد أحمد بلحاج .

    ما نسبته لابن خاتمة بحثت عنه فلم أجده ، وأنا لدي بحث علمي في جزء كبير منه تحدثت عن الوباء ، وأريد توثيق ما نُسِب لابن خاتمة باسم الكتاب والصفحة .

    فهل ممكن أن تفيديني بذلك ؟ .

    وشكرًا لك .

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى