الحياةُ مِعطَفُكَ..لَا تَمْنَعِ العُشْبَ مِنَ النُّمُوِّ فِيهِ
لا أحدَ منا لا يُطالِب بالحياة إلى الأبد، بدون أن يرى جمالَ الشيخوخة، ويدَ الزمن وهي تُحَوِّل الأجسادَ إلى ما يُشبه خِرقةً مَمْضوغةً، وبأنْ يُحبَّه الجميع، وبأنْ لا يَرتكبَ أيةَ أخطاء، وبأن يَبقَى جميلاً على الدوام. يَحصُل عل كل ما يَعتقد أنه حقُّه الشخصيُّ، غيرَ مُبالٍ بخيوط الأوهام التي تَجرُّه خُفيةً إلى كهفها كضَبُعٍ لا مَرئيةٍ، ولا غيرَ مُنتبهٍ كذلك إلى فحيحِ المرَض، وهسيسِ الوحدةِ اللذين يقتربان منه.فيَمضي رافضاً أوْجُهَ الأذَى والقُبحِ التى يراها، مع أنها تَختبئ في داخله، ويَتعجُب لماذا يُعاني في الحياة؟، ولِمَ لَمْ يساندْه وعيُه في الخروج من دوامة الظلام؟.
ليس الوعيُ قطعةَ رغيفٍ نُسكِتُ بها جوعَ المآسي التي تنزلُ ضيوفاً علينا، وإنما هو ماءٌ بسيطٌ،شَفافٌ للغاية، لا يَحتاج إلى شيءٍ آخر، ليُحَوِّل حاملَه منه إليه. فهو ليس شيئاً يُمكِن التأثيرُ عليه بهذا أوبذاك. وأكيدٌ أنه عندما نَحْيا انطلاقاً من وعيٍ نَقيٍّ لا نَتأثَّرُ بماضينا، ولا بحاضرنا، ولا حتى بمستقبلنا، ولو طبَّقناهُ على أسئلتنا ومَهَمَّاتِنا لَتَعلَّمْنا كيف نَتَحكَّمُ في جَوادِ الحياة الجامحِ، ولَعصَمَنا من اللجوءِ المُخادِع إلى التَّصوُّر المُعشِبِ بالخُرافة، والتخَيُّلِ المسَرْبَلِ بالسَّراب، وفَتَحَ لنا بابَ القُدرة على اختراقِ الضَّباب الذي نَعيشُ فيه. وإنَّنا عندما نُرَكِّزُه على شؤوننا اليوميةِ المُلِحَّة نَكُون قد نَحَّيْنا الذاتَ الزائفةَ من وجودنا، وجعلْنا الأنا يُخْلي الطريقَ أمام شيءٍ آخر مُبهجٍ.فأخطرُ ما في الأنا هو اعتقادُه أنه يَفهم كل ما في الوجود.
بهذا كنتُ أُفكِّر، وأنا أَخِيطُ بجسدي؛ مع صاحبي الإسكافي؛ الأزقةَ والشوارعَ صوبَ الشاطئ، وكأننا في سِباقٍ محمومٍ لا ينتهي أبداً مع أنفُسِنا، وأظنُّ أننا لن نَصِل البحرَ، أيّاً كانت سُرعتنا، وأيّاً كان المستوى الذي بَلَغُه ذكاؤنا، فالبحرُ هو السعادة، ونحن لا نعرِف أبجدية السعادة في الحياة اليومية، لكوننا لم نَبْدأ بعدُ بإدراك مَدَى ضآلةِ مَعرفتنا بكيفيةِ مُساعدةِ الآخر على النمو.
ضاقتْ نفْسُه بالمَشي إلى هدفٍ لا تصل إليه الروحُ،فَزَفرَ بحَنقٍ:
– مُضجرٌ هذا الطريقُ الذي لا يُضيئه أي كلامٍ، هل أنت مُنزعجٌ؟ وهل تبحث عن شيء ما غير البحر، وتُخْفِيه عني؟!
– أُحَاوِلُ أن أصلَ إلى لُبِّ الطريق، ولكن ردودَ أفعالك تحجُبُه، فهل بَنَيتَ حياتك كلَّها على ردود الأفعال؟ فعاقَبَني الزمنُ بصُحبتِك، وعمِلَ على إخفاءِ لُبُّ الطريق عَنِّي؟!
– عن أي طريق تتحدثُ يا هذا القادمُ من لغة النسيان؟ وما هو؟
– العقلُ العادي هو الطريق، يا مَنْ أفنيتَ عمرَك في خصْفِ ما يُساعد الأقدامَ على السَّعْيِ، ونَسِيتَ خَصفَ ما يُعِين الرؤوسَ على التفكير والتدبُّر.
– هل نُحاول السعيَ إلى البحر أم نُحاول السعي إلى العقل؟!
– لن تَبلُغ البحرَ ما لم تَسْعَ خلف العقلِ أولاً،وكلما سَعيتَ إليهما ابتعدا عنك، وتلك هي مِحنتك ومِحنتي، فالحياة هي مِعطفٌ، تَكرَهُ فئةٌ من الخَلْق أن نلبسَه، وأن نزاحمَها فيه، ولا تَدَعُ حتى لعُشبَةٍ صغيرةٍ فرصةَ النُّموِّ فيه.
– فكيف لي أن أعرف الطريق إذن ما دام يَبتعدُ؟.
- ليس الطريق بمسألةِ مَعرفةّ أو عدمِ معرفةٍ،فالمعرفةُ وَهْمٌ في ثَوب الحقيقة، وعدمُ المعرفة تَشَوُّشٌ صافٍ كالمرآة، يُريكَ ما خفيَ من ظِلِّك. ولذا فنحن في حيرةٍ غراءَ، وعندما نصل حقا إلى الطريق الحق الذي لا تُشرق فيه الظنونُ بأشباحها، سنكتشفُ أنه فسيحٌ، ولا مَحْدودٌ كما الفضاء، وأننا لن نستطيعَ الحديثَ عنه وفق مفهُومَيِ الصواب والخطإ، ووفق مفهومَيِ الحَدْس والاستبطان. بل سنُدْرك أن تصوُّرَنا عنه ما هو إلا خيالُ ماءٍ لمْ يتمَدَّدْ في الأرض بعدُ.
ومن هنا يأتي الإرباك إلى عقولنا مُتلَبِّساً بصورة الأشياء، ومُوهِماً لنا بأن أفضل أيامِ حياتنا هي تلك التي لا يَؤُودُها هاجسُ الطريق،حيث نُرانا نعمل بهِمَّةٍ مَحمومةٍ على التحكُّم في الظروف، وعلى ردْمِ مَنابعِ القلقِ،والاستحواذِ على ما نُريد، مُتَخَيِّلِين أنَّنا بذلك نتحكَّم في سَيْرِ الأشياءِ. وهل حقيقةً نستطيع التحكُّمَ في الظروفِ، وتطويعَ الأشياء لصالح رغباتنا؟!.
إن جزءاً من الجواب يكْمُن في تصَوُّرِ ما نريدُ تصوُّراً صلباً،ثم اختيارُ طريقٍ أمثلَ للحصول عليه،وتعَلُّمِ طَرِيقَةِ تَمكينِ أنفسِنا في العالَمِ، دون أن نُلْقيَ بالطفلِ؛ الذي هو مُتَملْمِلٌ ومُفعَمٌ بالحياة في أحنائنا؛ داخلَ سِجْنٍ بلا قضبانٍ، ونَخالُ
أننا نُحْكِمُ السيطرةَ على حياتنا طُولاً وعَرْضاً،وأننا نعرف جوابَ كل شيء.
– فارِقْني يا هذا،لقد صار رأسي مِرجلاً بفلسفتِك،فلا تُصاحِبْني، ولا تَتَّبعْ خُطايَ، فَلْتبْحثْ عن السبيلِ التي سكَنتْ عقلَك، ودَعْني أخْتَرِ الطريقَ التي تُناسبُ قدَمَيْ رُوحي.
بهذا عبَّر صاحبي الإسكافي عن سُخطتِهِ ومَرارتِهِ من السير معي، وانطلق مُبحِراً في هواجسه،وبقيتُ سائرا وحدي تحت نشيشِ تأمُّلاتي كوعلٍ، أَسْتَنْطقُ الصمتَ، وأحلُبُ بقرةَ النهار التي تنفُث صَهدَها في ذاتي، وأمشي نائماً، لأُراوغَ الأفكارَ السلبيةَ المضطرمَة فِيَّ، وكأنِّي أمشي على نَفْسِي المقلوبةِ،لا صُوى تَهْديني، ولا أشجارَ يأويني فَيْئُها مِن حرارةِ هذه الظلمة التي بدأتْ تتشكَّلُ كجنينٍ زَرَعُه في جَوفِي غَباءُ التشَبُّثِ بالعابرِ. أَسِيرُ كمَن سُمِلُتْ عيناه الباطنيتان اللتان لم تَخدعانه قطُّ، وتُرِكَ إلى قَدَرٍ ليس في مُكْنةِ عَينَيِ الرأسِ استجلاءَه. كلما اصطدمْتُ بشيءٍ دون قصدٍ، ودون رؤيتِه، لَعَننِي.
هل غَدَتِ اللعنةُ خُبزاً نقتاتُ به في كل خطوة نخطوها في حياتنا، لِمَ لاَ تَفسَحُ لنا اللعنةُ الطريقَ لنمرَّ وهي تعلَم عجْزَنا عن الرؤية؟! أكيدٌ أنها بِنتٌ وقِحَةٌ رضَعَتْ من أطْبَاءِ ذئبةٍ عمياءَ. وأنا لا يهمني أكان الأمر هكذا أم بالعكسِ، كل ما يهمني هو أن أَسبِق الإسكافيَّ إلى البحر، فهو مَاكِرٌ، وإني لأكادُ أجزم بأنه الآن يلهثُ تعَباً ليُنَفِّذ غير الذي أبداه لي، فنفْسُه مِخرزٌ لا تَهْدأُ إلا إذا ثَقَبَتْ جِلداً، سواء أكان جلدَ ماعز أم بقرٍ، أم جِلدَ كلبٍ أم حمارٍ أم دُبٍّ أم تمساحٍ، فالجلود كلها متساويةٌ لديه، ما دامتْ مدبوغةً، لا بقشورِ الرُّمان، وإنما بقشور الزمان. ولذا سَأَزيدُ مِن سُرعة جسدي لأصِل قَبْلَه إلى الهدف.ضَغَطْتُ على مُوَلِّدِ السرعة،فسمعتُ صوتاً مُزَمْجِراً يَسْرِي في بَدَني:
– إلى أين أنت ذاهبٌ؟
– إلى نفسي،أَصدُقُكَ القولَ
وأحسستُ بعيونٍ خَفيةٍ شتى تتفحَّصُني،وبِيَدٍ تربتُ على كتفي،وتهمسُ:
– وأنا أيضاً،فَلْنَذْهبْ سَوِيَّةً إذن.
وَاصَلتُ السيرَ صامتاً مع اليد المجهولةِ، في شارعٍ متَّسخٍ مُغْبَرٍّ، تتنفسُ على ضِفتَيه الساعاتُ بكسَلٍ، وتَجْتَرُّ ما أكلتْه من أحلامٍ قبل أن تُعَكِّرَ مِزاجَها أقدامٌ فَظَّةٌ. نَسِيرُ ولا نسمَعُ غيرَ دَندَنةٍ خَفيفةٍ آتيةٍ من غير مَا جِهَةٍ،طَعمُها لذيذٌ كطعم الهواء المالحِ في رِئَةِ فجْرٍ صَيفيٍّ، وحين اختفَتِ الدندنةُ قَرَصَتْنِي اليدُ، وقالت:
– استيقظْ أيها الماشي نائماً، ها نحن وصلْنا إلى الشاطئ دونما دليلٍ.
لمستُ كتفي، فلم أعْثُرْ على اليد التي كانت مُسْتَلقيةً عليه، وفَرَكتُ عَينيَّ لأُبْصرَ، فإذا الإسكافي فوق بساطٍ أخضَرَ يُغَنِّي، ويُلَوِّح لي بابتسامةٍ ، وحدها أمواجُ البحر المتراكضةُ على الشاطى قد تَعْرِفُ فكَّ لغزِها، أمَّا أنا فلا.فصاحبي هذا بكل مُكَوِّناتِه لُغزٌ يَخْدَعُ بالوُضُوح،فهو يَجْعل من لا شيءَ فِعلاً حيويّاً متدفقاً بِطَاقَةٍ حيويةٍ، ظاهرُها كسَلٌ، وباطنُهَا تدميرٌ.
زَرَعتُ نفسي بقُرْبه، ودخلْتُ في حالةٍ من التأمُّلِ مُزْمِنةٍ، فقَدْتُ معها كل اشتهاءاتي، ومنها الرغبةُ في أن تَكُون الأشياءُ مختلفةً عمَّا هيِ عليه، وفي قضاءِ وقتٍ هادئ بمفردي مع الأنغام التي تعزفها الأمواجُ برحابةِ صدرٍ، لا يَمْلك منها الكائنُ البشريُّ شِبْهَ ذرَّةٍ واحدةٍ. ولقد أدركتُ للتوِّ أن أيَّ شيءٍ يأتي إلى حياتنا ليس شيئا آخرَ غيرَ ذاته هو، وأنَّ(الأنا) إذا فكَّرتْ في أغوارها لن تُفَكِّر إلا هكذا.
فلِمَ نُوجِعُ أنفسَنا بمحاولة إصلاحِ الأشياءِ،وإصلاحِ الناس، فالطبيعةُ كفيلةٌ بالقيام بذلك. ومِن هنا لمعتْ نجمةٌ غريبةُ اللونِ في ذِهْني، ووشْوَشتْ بأنَّ صاحبي الإسكافي ما هو إلا انعكاسٌ لي، وأنَّ كلَّ شيءٍ يَحْدُث في حياتنا هو كذلك انعكاسٌ لأنفُسِنا، وخصوصاً الأشياءَ التي نُحاول الابتعادَ عنها،والأشخاصَ الذين نحاول كذلك خَلْقَ مَسافةٍ بيننا وبينهم.
هل أَكُون ساذَجاً إنْ فكَّرْتُ بصوتٍ عالٍ في أنَّ الإسكافيَّ هو أنا، أُزعِجُ الناسَ، وأثْقبُ الجلودَ، وأتخبَّطُ في ماءٍ بين شعورَين: الابتعادِ عنهم،أو الاقترابِ منهم جِدا؟! لَمْ أتردَّد في الاقتراب، فمَسَحتُ الأُفقَ بعَينَيْ عُقابٍ، وقُمتُ إلى صاحبي حيث هو، فَعانَقتُه مُدَنْدِناً في أذنه اليسرى التي بقيَتْ مُستَيقِظةً في رأسه:
(كأنما لم أكن عائدا
من أسفار سحيقةٍ
حين ارتميتُ في ظلالكَ الثكلى
هدأتْ جوارحي
في اتساعِ المكان،
كانت الأرض الضيقةُ
وكان نحيبُ الراحلين.
هكذا يُغدِق الغيم على بنيه
وقد رحلتُ بعيدا في نزواتك
فأدركتْني الظهيرةُ
في الربع الخالي،
فيممتُ شطرَ وجهك الأنقى
مَوْئلِ القسوةِ
وتاجِ طفولتها،
ووجدْتُك.)*
فصِرْنا نُغَنِّي ونرقصُ فوق الرمالِ كموجتَين مَشبوبتَين بالفرح، لا يَشغلهما التفكيرُ في الطريق، فنحن الطريقُ والغايةُ، والحياةُ مِعطَفنا، لن نتركَه يَسْقُطُ مِنَّا في العدم، ولن نمنَعَ العُشْبَ من النُّمُوِّ فيه، وإذا أمطرتْ نترُكُها تُمطِرُ، وإذا عصَفَتْ نتركُها تعصفُ.
وإذا وجدْتَ نفْسَكَ فلا تَهْتَمَّ بأيِّ شيءٍ، فأنتَ مَحَجُّ الأشياءِ كلها.
*سيف الرحبي: حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماءٍ مستعارة، ط1، سلسلة (كتاب دبي الثقافية)، الإصدار 30 منشورات دار الصدى للصحافة والنشر والتوزيع، دبي، نوفمبر 2009م،ص ص:79،78.