الجمعة ٨ أيار (مايو) ٢٠٢٠
بقلم أحمد بلحاج آية وارهام

اُخْرُجْ إلى الحياةِ بِضَوءٍ مِن أَعْماقِكَ

فوق سَطيحةٍ بَلِيلةٍ بنسائمِ ليلةٍ صَيفيةٍ، مُبحِرةٍ في ضوء النجوم، جلستُ مع عمتي المُشعَّةِ حِكمةً، أشربُ من حديثها وحكاياتها المستفيضة،وتشربُ هي من كأسِ نَزَقي ما يَجعلُها تُكركرُ ضحكاً، وتستلقي على قفاها كَطفلةٍ في أوجِ عبَقها.

عمتي هاته امرأةٌ بدينةٌ، مُشرقةُ الملامح، بهيةُ الصورة، لا تَشْبَع العينُ من النظر إليها،حَ رَثَتْ ثمانين حَوْلاً، ولمْ يَخْبُ بصرُها، ولم تُفارقْ أسنانُها فمَها، إذا ضحكتْ خِلتَ الجوهرَ يضحك. وكنتُ حينما أشتاق إلى ابتسامتها البيضاء، أُقُوم خفيةً بدغدغتها، فينسَلُّ النورُ من فمها مَصحوباً بكلماتِ وعيدٍ،في طيِّها كنوزٌ من المحبَّة التي لا تفْنَى.

هي امرأة من زمن الحُب، وزمن المحافظة، وزمن المعرفة التي تَربِطكَ بالسماء. عَرَج زوجُها وأبناؤها إلى حيث البشَر الفانون،فبقيتْ وحيدةً تَقرأُ سِفْرَ الوجودِ بعقلٍ لا يَشيخُ، وكلما سألتُها بمكرٍ:

- ألم تقرَفي يا عمتي من الوحدة؟! ألا تُفكرين في الزواج ثانية؟!

 ومن قال لك إنني في وحدة؟! القرفُ هو تفكيرُك هذا، فالراحلون في قلبي، أُكلِّمُهُم باستمرار، وألمَسُهم بروحي، كما تلمَس أصابعي سُبحَتي وتتفاعل معها بالنبض. إننا يا بُنَيَّ حيثما يكون انتباهُنا تكون حياتنا وطاقتنا وأحبابنا. فالغيابُ لا يُزهرُ إلا في نفْسٍ فقَدَتْ انتباهَها. فالتقدم في الحياة علَّمني أن أُحِبَّها على أيِّ شكلٍ كانتْ، وإنَّ خُطوةً فيها بعكازتي هاته لأَجْدَى لي من آلاف الخطوات في الضفة الأخرى بغير عكاز.فلْتَعُدْ بانتباهك من الظواهر والمؤثرات والمغريات التي لا تنتهي إلى ما يَحْدُثُ في داخلك،وستُدرِكُ سِرَّ ما أقولُهُ لك.

 كيف أعود إلى ما يحدث في داخلي وهو غيمٌ، و أتركُ هذه الأحلام، والذكريات، وأحلامَ اليقظة، والتمنيات، التي تجري من حولي بدَلاَلٍ.؟! لا شك؛واعذُريني على القول؛ أنك في أفق التخريف!!.

 إن لم تفعل ذلك ستَفقدُ قُدرتك على معرفة طاقاتك الخفية. فبالتَّأمُّل في دواخلنا نَكتشف حقيقةَ ما يجري خارجَنا من ظواهرَ، قد يعجز عقلُنا أحيانا عن تفسيرها، ولأمْر مَا كانت الروحُ سَيدَ الجسد، وعينَه على الخارج، وميزانَ خياراته وأفعاله واستجاباته. وكلُّ تأمُّلٍ لا يَعقبُه جرَسُ الوعيِ هو تأملٌ زائف ومغشوشٌ، إذْ من الطبيعي عند نهاية تأمُّلِنا أن يَرِنَّ جرسُ وعيِنا، وأن نُحسَّ بعد سماعه أن كل ما نفعله يمضِي بسلاسة وتناغمٍ، ومَعَ تناغمِ السلوك نَسْعدُ بما يأتينا من عطاءٍ، ويختفي منا الخوفُ من أن نكون قد قصَّرنا.

وأيّاً يكنْ زمنُك،فأنت نباتُه، وقد تَعْلَقُ في الحياة بموقفٍ ما مُحَيِّرٍ، وتتساءل ما إذا كان جرَسُ وعيِك سيدقُّ من جديد، وما إذا كان ذلك الموقفُ سينتهي بك في هاويةٍ، أو سيرفعك إلى قِمَّةٍ، فلا تَقِفْ فوقَ حَبْل الحيرة مُرتبِكاً، وامْضِ حيثُ يقودُك نورُ حَدسِك، فالحدسُ هو بوصَلةُ الذات. إذ كثيرا ما نكون أحيانا عالقين إلى حدِّ أننا نشعر أن جَرَس وعينا قد صمتَ، وأصابه الخرسُ، وأننا بين فكَّيْ مِحنَةٍ ستُمزِّق عُمُرَنا كله، فيُغرِقُنا اليأسُ اللزِجُ الأسودُ، ونكاد نَهْوِي، فإذا الجرس يَدقُّ، وفي دقَّاته ضوءٌ صاعدٌ من الأعماق، يُبَصِّرُنا بالمَخْرَجِ.

كنتُ أنظرُ إليها بإعجابٍ، وهي تتحدَّثُ كنبْعٍ قُدسِيٍّ، لا يكاد بَصَري يَزيغ عن لؤلؤ فمِها، حتى حسبتُ الأمسيةَ على السّطيحَةِ فُسحةً فيما لم تصلْ إليه الحِكمَة بعدُ من أراضٍ نورانيةٍ. فعمتي هاته الصاعدةُ في الزمن بالحِكمة كانت تُجسِّدُ التأمُّلَ مَاشِياً، بمعنى أننا حين نمشي لا نمشي لنصل إلى مكان ما، بل لنكون تماما حيث نحْن، و في مَشْيِنا سيتَّضحُ لنا أن خطواتنا ليست هي بعينها،وإنما هي خطوات أخرى متجدِّدَةٌ مع كل نفَسٍ.

قد يكون التفكيرُ فيمن نُحبُّ لصّاً يَسرقُنا منه،وهذا هو ما حدث لي،حيث غفلتُ عن عمتي وهي تتكلم، وحين حوَّلتُ نظري إليها ألفيتُ ملاكا نائماً مُلتحِفاً بوقارٍ، مُفْتَرّاً عن ابتسامةٍ يَمَّحِي تحتها اكفهرارُ الليل والنهار.

كلما فتحتُ ذاكرتي فاض منه عسَلُ حديثها، ومنه هذا الذي أخذتُهُ من حكيها،حين ذهبتُ إلي منزلها،لاصطحابها إلى مَسْكَني قصد تجديدِ حياتنا فيه بأظروفاتها، وأملوحاتها وأفكوهاتها، التي يُباطِنها الجِد، ويَغلِّفُها وَلَهُ الحِكمة، وعِطرُ المحبَّة. فقد قلتُ لها ونحن نُزمع على الخروج من بيتها إلى بيتي:

 هل جمعتِ كل الملابس التي تحتاجين إليها أيتها العمة؟.

 أتسخَرُ مني أيها المعتوه؟! نحن في الحياة يا ولدي لا نحتاج إلى كثير من الأشياء،بل نحتاج إلى جَمْعِ كل أجزاء نَفْسِنا مع بعضها البعض،إذ بهذا الجَمْع نُوَّحِّدُ عالَمَ الأضداد.. ذلك العالم الذي نلتفتُ إليه دون أن نُبصِره، ولو أبصرناه لغاب عنَّا طَعْمُ الوجود، ولَنَشفَ عَرَقُ مُعاناتنا الذي يُحسِّسُنا بذواتنا. والأهَمُّ من هذا كله هو التعبيرُ عن شُكرِنا وامتناننا لكل شيءٍ يُشارِكُنا الوجودَ، ويُدْفِئُنا فيه حتى ولو لم نَرَهُ، وإنَّ لحظةَ التقديرِ هاته هي التي تَزيدُنا عُمُراً مَعْرِفِيّاً، وتملأنا طِيبةً ووعياً، فنَنْسَرُّ بكل ما في الحياة من أشكالٍ، حيث تَبْدو لنا مُختلفةً إلى درجة الإدهاش.ولا تَحسِبَنَّ مَجيئَك عندي، أو ذهابي عندك، مُجردَ طقسٍ حياتيٍّ عابرٍ، بل هو تَحَوُّلُ أفكارٍ، نُمْعنُ في صياغتِها باستمرارٍ، ونُمُوُّ مُعتَقَدٍ يَرسُم أحلامَنا، بهدفِ مَنْحِ مُستقْبَلنا لمسةً من الأمان والاستقرار. فلا تَتَعَجَّلْ الذهابَ، فعندما يَحينُ وقتُه، فنحْن بكل بساطةٍ سنذهبُ، ولْتُرَكِّزْ بالكامل على اللحظةِ التي نَحْن فيها الآن، إذ فيها تستقرُّ قلوبُنا وعقولُنا، فلا تَمنَحْ لمخاوفِ المُستقبَل، أو لأشباحِ الماضي أيةَ فرصةٍ للتَّسَلُّل إلى داخلك. فما يجب أن نعيَه حقا هو أن كل بُرهةٍ في حياتنا ما هي إلا شكلٌ مُصغَّرٌ للحياة الطويلة على الأرض، لذا ينبغي أن نتَعَلَّم كيف نتعاملُ معها بصِدقٍ وحُبٍّ، وأن لا نكون كأولئك الذين يَسِيرون تَحْتَ وَهْمِ أنهُمْ هُمُ الذين يَفْعلُون كلَّ شيء في الحياة، وأنهم هم الذين يُدِيرُون الأشياءَ فيها وَفقاً لرغباتهم. إن الإنسان أضعفُ من أن يَتَحكَّم في الحياة، وأضعفُ من أن يَزعم أنه قادرٌ على إصلاحها، فالإصلاح يَنْصبُ على ما هو ثابتٌ ومُنذرٌ بالعُقمِ، والحياةُ متغيرةٌ ومتجددة، بل هي كل يوم في شأنٍ. وهذا الزعم لا يأتي إلا من الذين يَفْصِلُون التأمُّلَ عن الحياة، ويعتقدون أن كل طائر يستطيعُ أن يَعبُرَ السماءَ بجناحٍ واحدٍ.

تَفَرَّستُ فيها ونحن نَطْوِي الطريقَ إلى دارِي، وكأنها كائنٌ سماويٌّ يُحَدِّق في كائنٍ أرضىٍّ يَرْشَحُ غباءً. وقلتُ في نفسي: ما أسعدني بهذا الكائن الذي سيزرعُ البِشْر بين أهلي، أثناء سفري في رمضان.

فهل اكتملتْ حقا سعادتي؟! لقد أتاها النداءُ من الملإ الأعلى، فأجابتْه وهي صائمةٌ، وأتاني نعيُها وأنا بين يَدَيِ المَباضِعِ التي تَشرَبُ من دَمِي في مصحَّةّ الغُربة. هل أسْحبُ انتباهي من سَكْرةِ الآلام، وصحوةِ الموتِ اللتين أنا فيهما؟! وكيف؟ وأنا المريضُ العاجز الذي لم يَكُن يَجِدُ الشفاءَ إلا في حضنها؟ أم هل أَسْحَبُ انتباهي من العالَم الخارجي، وأُوَّجِّهُهُ نحو نفْسِي كما كانت تطلبُ منِّي؟! ذاهلٌ..ذاهلٌ أنا، وكلما وعيتُ ذُهولي سَقَطتُ أسيرَ ذهولٍ عاصفٍ جديدٍ

(أمتَدُّ بين الموتِ
والجدوى
ولا جَدوَى الحُضورِ
فكل ذاك مكرَّرُ
مُتشعِّبَ الأزماتِ
غابٌ من أسًى ملءَ العيونِ
كأَنَّ قلبيِ مِسْعَرُ
حُزني يَعاسِيبُ
تُلسِّعُ بعضَها
وأنا بمفتَرَق الغياب أُبرِّرُ.)*

*عمر عنَّاز: خجلا يتعرَّق البرتقال، ط1،كتاب (دبي الثقافية)، منشورات دار الصدى للصحافة والنشر والتوزيع، دبي، أكتوبر 2009م،صص:79،78.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى